برحيل المخرج ميكلانجلو أنطونيوني بعد اعتكاف طويل في الصمت،
ينطوي فصل كامل في تاريخ الفن السابع الذي كان من آخر علامات عصره الذهبي.
اخترع الراحل لغة سينمائيّة خاصة، قائمة على البطء والموضوعية، وخرج من عباءته
جيل من المبدعين في أميركا وأوروبا
يوم واحد غيّب المعلمين. الأول، برغمان، انطفأ صباح الاثنين في
خلوة جزيرته السويدية، والثاني ميكلانجلو أنطونيوني، رحل بهدوء في مقعده
المعتاد، مساء الاثنين، وإلى جانبه زوجته إنريكا فيكو التي تصغره بـ41 عاماً،
وسط سكينة منزلهما في روما. كأن فصلاً كاملاً من تاريخ الفنّ السابع ينطوي.
إنّها النهاية الرسمية (فالنهاية الفعلية بدأت منذ ثمانينات القرن الماضي)،
لعصر ذهبي في تاريخ الفن السابع، صنعه سينمائيّون كبار، جدّدوا في القوالب:
اللغة والشكل والأدوات، كما جددوا في المضمون، في النظرة إلى العالم، لأنّهم
كانوا ـــــ قبل كلّ شيء ـــــ «فلاسفة» مشغولين بحل ألغاز الوجود الانساني،
كنهه وحدوده وتناقضاته وأسراره. والمخرج الايطالي الذي قضى أول من أمس في
الرابعة والتسعين، بعد معاناة طويلة مع المرض، غيّر طريقتنا في النظر إلى
الواقع، إلى الأجساد والوجوه والغيوم، وأخرج من عباءته جيلاً من السينمائيين
المجددين في أميركا وأوروبا على السواء.
أنطونيوني الذي كان أقل عزارة من قرينه السويدي (16 عملاً
طويلاً بينها واحد وثائقي عن صين العمّ ماو، مقابل 47 لبرغمان، على امتداد
الحقبة نفسها: قرابة ستين عاماً، يضاف إليها القدر نفسه من الأفلام الوثائقية
القصيرة)، ينتمي إلى سلالة عريقة في تاريخ الفن السابع. إنّه ابن السينما
الايطالية التي أنجبت فيسكونتي وبازوليني، روسيليني وفلليني، وبين آخر مكملي
تقاليدها العريقة اليوم إيتوري سكولا، وبرناردو برتولوتشي و... ناني موريتي.
لقد نقل السينما إلى مكان غير متوقع، إذ جعلها تتخلص من قيود وعادات مستنفدة،
لتكتشف بعداً جديداً، هو في جوهره تأملي وموضوعي وبارد، يقحمها في التباسات
الحداثة القلقة... في رحلة البحث عن المعنى.
أنطونيوني يدير جان مورو خلال تصوير مشهد من “الليل”إنه
سينمائي مسكون بالرغبة إلى درجة الهوس. تحركه حاجة ماسة إلى البحث عن تلك
الرغبة، ورصدها، والتقاطها في أقرب نقطة ممكنة من الأجساد. كان يحاول باستمرار
أن يحيط بالبعد المستعصي من الواقع، أن يفهم مثلاً هذا الحدث الغامض الذي يجعل
امرأة ورجلاً يلتقيان أو يفترقان... كما في فيلم «تعرّف إلى امرأة» (1982).
واعتبر الباحثون أنه أحد أكثر السينمائيين قدرة على التعبير عن المشاعر
الأنثويّة. وقد ختم مسيرته السينمائية بهذا الهاجس نفسه، من خلال مساهمته في
أحد الأجزاء الثلاثة لفيلم
Eros (2004) مع ونغ كار واي وستيفن سودربرغ.
عاصر صاحب «لافنتورا»، ولادة «الواقعيّة الجديدة» التي أعلنت
القطيعة مع إيطاليا الفاشيّة وموروثاتها الجمالية والأخلاقيّة. لكنّه سرعان ما
استقل بأسلوبه وعوالمه ومواضيعه، محوّلاً تعاليم تلك المدرسة الراديكاليّة
والنقديّة، إلى وقود ذاتي، داخلي، لفنّه. لقد استبطن بعض مبادئها المتعلّقة
بالسرد غير الخطي للحكاية، وبطريقة تصوير الواقع من زوايا نظر مغايرة للسائد.
لكن المايسترو حلّق في سماوات أخرى، صوفيّة في جوهرها، حميمة وخاصة في مفرداتها
وجمالياتها. تاركاً لنا بعض روائع الفن السابع، من رباعيته مع مونيكا فيتي
ملهمته وبطلته وحبيبته في الستينيات، إلى «من خلال الغيوم» الفيلم الذي حققه
عام 1995 بعد سنوات المرض، بمساعدة السينمائي الألماني فيم فندرز مع صوفي مارسو
وجون مالكوفيتش وجيريمي أيرونز وإيران جاكوب وفاني أردان... مروراً طبعاً بـ«المهنة
مخبر» (1974) الذي صوّره في الولايات المتحدة مع جاك نيكلسون وماريا شنايدر،
ولم يحقق نجاحاً تجارياً بسبب لقطاته الطويلة وإيقاعه البطيء، فيما اعتبره هواة
السينما ومحترفوها مرجعهم المطلق. وقال عنه المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي:
«إنّه شاعر يحمل كاميرا».
هذا الشاعر الباحث عن الجمال المنسي تحت سطح الأشياء، وعن
ألغاز الوجود، بنظرة باردة ظاهرياً، بدأ ناقداً سينمائياً في بلدته الشمالية
فيراري التي يعود إليها جثمانه غداً الخميس، بعد دراسة جامعية في مجال العلوم
الاقتصاديّة. ثم «نزل» إلى روما، إلى «معهد السينما التجريبي» ليحقق أول شريط
وثائقي عن «سكان سهل
Po» متأثراً بمبادئ الواقعية الجديدة بلا شك. أمضى في تصوير
الفيلم أربع سنوات، وأضاع معظم المادة المصوّرة قبل أن يعرض منها عام 1947 تسع
دقائق. ثم عمل في باريس مساعداً لمارسيل كارنيه في باريس (زوار المساء)، وكتب
سيناريوهات مع روسيليني وفيلليني. من يتصوّر أن «الشيخ الأبيض» لهذا الأخير
كانت نواته سيناريو من توقيع شاب اسمه ميكلانجلو أنطونيوني؟
ثاني أفلامه الوثائقية (NU
1948)،
عن عمال التنظيفات في روما، لم يكن بدوره بعيداً عن النفَس الواقعي والاجتماعي
لجماعة الواقعية الجديدة. لكنه لن يطيل الاقامة في دائرة تأثير تلك المدرسة،
سيحتفظ منها بتلك القطيعة مع اليلودراما السائدة، منحرفاً إلى نوع من الغرائبية
والفانتازيا. من فيلمه الروائي الأوّل «يوميات حب» (1950) إلى «الصرخة» (1957)
شكل هذا الفنان فناً يعشش في صمت العالم، ويستسلم لدوامة المشاعر... واضعاً
أساسات سينما سيختزل النقد محاورها إلى التواصل الصعب، والكبت والحرمان على
أشكالهما، والعلاقات الإنسانية الشائكة، والوحدة وما الى ذلك... في الحقيقة ما
يشغل أنطونيوني هو عجز الصورة عن الإحاطة بالواقع، والتعبير عن المشاعر
المعقدة... إنّه مفتون بهذا الجانب الهارب من التجربة المعيشة الذي يفلت منا
باستمرار.
فيلمه الأول يعكس تأثيراً بالأدب الأميركي، والسينما السوداء
الآتية من الضفة الأخرى للأطلسي. الزوجة والعشيق يحاولان التخلص من الزوج. لكن
نواة أسلوب أنطونيوني موجودة هنا: المشهد المكوّن من لقطة واحدة الذي سيصنع
فرادة لغته السينمائية. بعدها يأتي فيلم «الغادة البلا كاميليا» (1953) في
الاتجاه نفسه ليحكي عن مهنة السينمائي في إيطاليا ذلك العصر. ولا بد من الاشارة
إلى مساهمته في فيلم جماعي بعنوان «الحب في المدينة» في العام نفسه، من خلال
«محاولة انتحار» يخترع فيه نوعاً من «السينما المباشرة» إذ يذهب لمحاورة نساء
حاولن الانتحار... هذه التجربة سنجد بعض ملامحها في «نساء في ما بينهن» (1955)
المأخوذ عن قصّة لمواطنه سيزاري بافيزي، فيه يعود الى المشهد ـــــ اللقطة،
مصوراً علاقات الصداقة والكره والتنافس وسط مجموعة نساء من الطبقة البورجوازية
في مدينة تورينو. وبعد أن تتركه زوجته الأولى ليتيسيا يأتي فيلم «الصرخة» ليروي
قصة عامل يهيم على وجهه في سهل بو بعد أن هجرته زوجته.
هنا يأتي لقاء السينمائي الصاعد بملهمته مونيكا فيتي، ليمهد
لمرحلة جديدة، تدور حول تلك الممثلة، وتحكي عن «فقدان التواصل»، وضياع الإنسان
الذي تصطدم مشاعره ورغباته بحواجز أخلاقية تجاوزتها حركة تطور العالم: «لافنتورا»
(المغامرة ـــــ 1959) الذي سيثير فضيحة في «مهرجان كان»، لا نوتي» (الليل
ـــــ 1960)، «الكسوف» (1962)، و»الصحراء الحمراء» (1964). عالم سينمائي تربطه
أواصر قربى بالأدب والفكر، من خلال بافيزي أولاً، لكن أيضاً فيتزجيرالد وموتزيل
و... أدورنو. والمراجع الجمالية عديدة، ليس آخرها الإحالة إلى عالم شيروكو
الفني في المشهد الاخير من «الكسوف».
مع «بلو جوب» (اللقطة المبكرة ـــــ 1966، صور بالانكليزية في
بريطانيا)، سينتقل أنطونيوني إلى مرحلة جديدة مختلفة، من خلال حكاية مصوّر
الموضة الذي يلتقط من دون علمه مشهد جريمة قتل، في لندن الستينيات الراقصة.
نجاح الفيلم تجارياً كان جديداً على السينمائي الايطالي (عشرة أضعاف موازنة
إنتاجه)... ما فتح له أبواب الولايات المتحدة حيث صوّر «زابريسكي بوينت»
(1970)، ثم «بروفيشن ريبورتر» (المهنة مخبر ـــــ 1975) لكن أياً من العملين لم
يحقق الإقبال المتوقع. والكلام نفسه ينطبق على قصة الحب التي صورها مع مونيكا
فيتي بتقنية الفيديو المنقولة إلى السينما «سر أوبروالد» (عن نص لجان كوكتو
ـــــ 1980).
الصمت الذي طالما اشتغل عليه أنطونيوني في أفلامه، حتى لقّب بـ«سينمائي
الضجر»، هو الملاذ الذي تقوقع فيه منذ إصابته بجلطة في الدماغ العام 1985.
المعلم الذي رسم عالماً داخلياً من الأحاسيس المنسية والذكريات الضائعة، لم يعد
ينبس ببنت شفة، لكنّه استعاض عن الكلمات بالألوان، هو الذي عرف كفنان تلويني في
السينما، والذي قال يوماً إنّه لو لم يكن سينمائياً لكان معمارياً أو رساماً.
راح يرسم ويرسم في محترفه، وعرضت أعماله العام الماضي في روما تحت عنوان «صمت
الألوان». كما حقق عام 2004 فيلماً تسجيلياً بعنوان «نظرة ميكلانجلو» عن النحات
الايطالي الكبير.
تتميّز سينما أنطونيوني بالشغل على الزمن الميت، ذلك الوقت
الكافي للتأمل الذي يتميز بإيقاع بطيء يجنح إلى الصمت... لكن سينما أنطونيوني
التي تلاحقها مصطلحات اختزالية من نوع «العزلة» «استحالة التواصل» و«استحالة
الحب»، كمميزات تقول بؤس العالم الحديث، هي في الحقيقة كما يلاحظ الفيلسوف
الفرنسي جيل دولوز، تعبير عن صراع آخر أكثر تعقيداً. عن حالة «التمزق بين عقل
يستوعب التطور ويعيش التحولات الكبرى، وجسد خائف بقي أسير الماضي وقيمه، يختزن
الأساطير التي لم يعد أحد يصدقها، ولا يجد للتحرر منها سوى الايروسية والعصاب».
إنها سينما تقول، باختصار، عجزنا عن الالتحاق بالأزمنة الحديثة.
الأخبار اللبنانية
في 01 أغسطس 2007
|