لا شكّ في أن زمناً
سينمائياً متكاملاً بدأ يتهاوى. ذلك أن موت الكبار ـ الذين تحوّلوا إلى ما يشبه
الأساطير الحيّة في الوجدان الفردي والجماعي، والذين جعلوا
الكاميرا مرايا حقيقية
تُشرّح
المبطّن والمخفيّ كي تفضح الظاهر، جاعلةً منه مدخلاً إلى فهم الحياة والموت،
أو
بالأحرى إلى محاولة فهمهما ـ في زمن الانهيارات الحضارية والتحوّلات الثقافية
التي يعانيها العالم الحديث، يعني أن فصلاً مستقلاً بحدّ ذاته
بدأ مرحلة الأفول.
فبعد ساعات
قليلة على رحيل السينمائي السويدي إنغمار برغمان، توفيّ الإيطالي
مايكلأنجلو أنتونيوني ملتحقاً به إلى العالم الآخر. ساعات قليلة فصلت بينهما،
ومعهما الممثل الفرنسي ميشال سيرو. كأنهم جميعهم على موعد
ملحّ، أو كأنهم، لثقل
الأيام
واتّساع لغتها الإبداعية التي صاغوها بأعمالهم وهواجسهم وجنونهم الفني
البديع، أرادوا راحةً أو شيئاً من الانعتاق النهائي من قيد العيش وحصار الحياة.
وإذا بدا برغمان عنيفاً في تشريحه معالم الحياة والعيش على التخوم الضائعة
بين
القسوة
والغضب؛ وإذا جعل سيرو حضوره التمثيلي مرآة للسينمائي وأحوال تفكيره، عاملاً
على
اجتهاد ذهني وانفعالي كي تلتقي الشخصيةُ الصورةَ الموضوعة لها في عقل
السينمائي؛ فإن أنتونيوني، الذي أعلنت وفاته أمس الثلاثاء عن
أربعة وتسعين عاماً،
شكّل
اللحظة الإنسانية المفتوحة على أفق التأمل في شجون الدنيا وأحوال الناس، بلغة
هادئة
وإيقاع بطيء تتيح للمُشاهد أن يغلق أبواب العالم الخارجي على نفسه، كي يتمتّع
بدفق الصُّوَر العاكسة مأساة الحياة وفجيعة العيش: «مثّل
أنتونيوني وبرغمان معاً
القلق
الإنساني والوجودي المعاصر، والمتاهات العاطفية لعالم ما بعد الحرب»، كما قال
أحد
المتخصّصين بالسينما الإيطالية آلدو تاسّوني، إثر شيوع نبأ رحيل مخرج «بلو آب».
لم يقف أنتونيوني مكتوف اليدين أمام ما حلّ بجسده، إثر تعرّضه
لأزمة صحيّة خطرة
قبل
اثنين وعشرين عاماً. ففي العام ,1985 أصيب بشلل نصفي أقعده عن الحركة، ودفعه
إلى
مزيد من التأمل والصمت والتحليل السوي، من دون أن يُبعده عن الكاميرا التي
جعلها تلتقط له أدقّ التفاصيل الإنسانية المستلّة من يوميات
الفرد ومأساته وآلامه
وخيباته وعزلته وانكساراته. لم يستطع الشلل النصفي أن يقف حائلاً دون استكماله
مشروعه السينمائي، الذي وصفه نقّاد بأنه ارتكز على الدعوة إلى
التأمّل الهادئ (أو
بالأحرى إلى العيش بهدوء، لأن قعر الدنيا والتفاصيل المخفية تكشف قذارة المآسي
وقسوتها)، وإلى تفتيت أسس العيش لإعادة صوغ المشهد الحياتي من خلال البحث في
أعمق
أعماق المرء وروحه. ولعلّ إصابته بالشلل النصفي ساهمت في توطيد
علاقته الحميمة
بالكاميرا وبمواضيعه الأقرب إلى روحه، إذ إنه تعالى على «بُطء» حركته الجسدية،
مستعيناً بخبرته الطويلة في مماحكة الدنيا،
كي يقف
على قدميه خلف الكاميرا
بمساعدة
سينمائيين ينتمون إلى أجيال أصغر سنّاً وإلى مدارس مختلفة، كي يقول معنى أن
يواجه
المرء قدره. وعلى الرغم من أن الشلل النصفي أفقده القدرة على الكلام، إلاّ أن
براعته في التعبير الصامت عن رغباته وحاجاته السينمائية قرّبت
سينمائيين إليه،
أدركوا
ما يريد، فعاونوه على إنجاز تحف سينمائية لا تقلّ جمالاً عن أفلامه السابقة.
فبمساعدة فيم فاندرز، أنجز في العام 1995 (أي بعد عشرة أعوام على إصابته هذه)
«ما
وراء
الغيوم»؛ وفي العام ,2005 وجد أنتونيوني نفسه محاطاً بسينمائيَّين آخرَين هما
ستيفن سودربيرغ وونغ كار ـ واي، أخرجا معه فيلماً متوسط الطول
بعنوان «إيروس».
السفير اللبنانية في 01
أغسطس 2007
|