في
المباريات الرياضية، وربما خصوصاً في كرة القدم، هناك ما يسمى «التعادل
سلباً» ويقصد بها أن أياً من المتبارين لم يحرز نقطة تفوّق على خصمه. هذا
التعادل السلبي كان – الى حد كبير – النتيجة التي انتهى اليها تنافس الكبار
والمخضرمين على الفوز بالجوائز الأساس في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان»
السينمائي. والحال أن هذه النتيجة لم تفاجئ أحداً، كما أنها – وهذا أهم –
لم تزعج أحداً، حتى وإن كان واضحاً أنها لم ترض تماماً كل أولئك المخضرمين
الذين حمل كل واحد منهم فيلمه الجديد وقصد «كان» آملاً أن يحقق فيها فوزاً
اضافياً يضاف الى أرصدة فوز سابق له. ذلك أن كل الأسماء الكبيرة والمعروفة
التي شاركت في الدورة الستين لـ «كان» أسماء مبدعين سبق لكل واحد منهم أن
فاز إما بالسعفة الذهبية (وربما مرات عدة) وإما بجائزة لجنة التحكيم الكبرى
(ثانية أهم الجوائز التي تمنح في «كان» بعد «السعفة الذهبية»). واذ نقول
هذا تحضرنا بالطبع أسماء أمير كوستوريتسا والأخوين جويل وايتان كون،
وكوينتن تارانتينو وغاس فان سانت والكسندر سوكوروف وديني آركان وخصوصاً
وونغ كارواي... واذا استثنينا دافيد فنشر الذي عرض هنا، متبارياً، جديده «زودياك»
على اعتبار أنه يدخل عالم «كان» للمرة الأولى هو المعروف بقوة من دون أن
يكون مديناً لـ «كان» بشهرته، يمكننا أن نلاحظ بسهولة أن كل «الكبار»
المشاركين كانوا من الذين اصطلح على تسميتهم «أبناء كان» أو أبناء
المهرجانات الأوروبية في شكل عام. وفي مقابل هؤلاء المخضرمين، كان هناك
الآخرون: الجدد من الذين أتوا من شتى أنحاء عالم السينما، إما للمرة الأولى
وإما لمرة ثانية، الى «كان» من دون أن يكون قد أتيح لكثر منهم أن يتسابقوا
فيه من قبل.
من هنا
كانت الصورة، تقريباً، على هذه الشاكلة: مخضرمون ضد جدد. وسينما راسخة –
مهرجانياً وجماهيرياً – ضد أخرى تحاول شق طريقها. ثم أخيراً: سينما أميركية
طليعية في شكل أو في آخر، مقابل سينما العالم الآخر. فما الذي أتت النتيجة
عليه؟ كما بتنا نعرف الآن، فاز الجديد على القديم، فاز الشبان على
المخضرمين... والى حد كبير فازت سينمات العالم على السينما الأميركية. غير
أن هذا لم يمنع طبعاً من أن يكون الاقبال الكبير، ومنذ البداية، طاول
السينما الأميركية. بل اننا، اذا استثنينا الإجماع منذ البداية على امكان
فوز الفيلم الروماني «4 أشهر 3 أسابيع ويومان» بالسعفة الذهبية، سنلاحظ ان
الترشيحات والتكهنات كادت تنحصر ببضعة أفلام أميركية ولا سيما بـ «لا وطن
للرجل العجوز» تحفة الأخوين كون الجديدة، و «عصية على الموت» فيلم كوينتن
تارانتينو المدهش الجديد / القديم.
عالم
المراهقين العنيف
وحده
الأميركي غاس فان سانت نفذ بجلده من المعمعة كما بتنا نعرف الآن، ولكن بفضل
جائزة مبهمة الهدف بعض الشيء ابتدعت له وأعطيت لفيلمه «بارانويد بارك»،
الذي كان ثمة – على أي حال – اجماع على أنه ليس في قوة أفلامه الثلاثة
السابقة التي عرضت تباعاً في «كان» ونال أحدها «الفيل» السعفة الذهبية قبل
أعوام. صحيح ان فان سانت واصل في «بارانويد بارك» رصده لحياة وآلام عالم
المراهقين الأميركيين العنيف، كما كان فعل في «جيري» و «الفيل» و «آخر
الأيام»، غير أن فيلمه بدا هذه المرة أكثر افتعالاً وأقل اقناعاً اذ تحدث
عن مراهق من هواة رياضة «الرولر» يقتل حارس البارك خطأ ويربك نفسه ويربكنا
طوال ساعتي الفيلم بالتساؤل عما اذا كان، أم لم يكن، عليه أن يعترف بما
فعل. هذا هو كل الموضوع. أما الجائزة فإنها أعطيت للفيلم وسميت «جائزة
الستينية» تيمناً برقم الدورة، علماً أن المهرجان كان اعتاد في دوراته ذات
الأرقام المدوّرة، أن يكرم فناناً لمجمل أعماله، لا أن يخص التكريم بفيلم
واحد (في اليوبيل الفضي أعطيت الجائزة الى انغمار برغمان، وفي الخمسينية
أعطيت الى يوسف شاهين).
في
المقابل كان هناك أميركي آخر خرج بجائزة... وكانت جائزة مستحقة على أي حال،
حتى ولو كان المخرج نفسه معروفاً كرسام على الصعيد العالمي، أكثر مما هو
معروف كمخرج سينمائي. بل ان جوليان شنيبل، وهو هذا الفنان، قال غير مرة
خلال أيام المهرجان، انه لولا أن قصة الفيلم فرضت عليه نفسها، لما كان أقدم
على عمل (هو السينمائي الثالث له خلال عشر سنوات). والقصة جديرة بأن تفرض
نفسها على كل من يشاهد هذا الفيلم الإنساني في قوته والمرهف في حساسيته، عن
الصحافي الفرنسي بودي، الذي كان رئيساً لتحرير مجلة «ايل» قبل أن يشله حادث
فيصبح غير قادر على التواصل مع العالم الخارجي وقد صار أشبه بسجين بدلة
الغطاسين المغلقة تماماً (ومن هنا عنوان الفيلم «بدلة الغطاس والفراشة»)،
إلا من طريق غمزة العين: غمزة واحدة تعني نعم، وغمزتان تعنيان لا. وهو
بهذين «المفتاحين اللغويين» البسيطين تمكن من تأليف كتاب كامل عن تجربته
الانسانية العميقة. اذاً، هذا الفيلم الفرنسي، الموضوع والانتاج والتمثيل،
مكن الأميركي شنيبل من الفوز. غير ان الفوز الأميركي توقف عند هذا الحد،
على رغم أن حضور السينما الأميركية (طليعية أو غير طليعية)، كان طاغياً.
أما الجوائز الأخرى، عدا جائزة الاخراج التي أعطيت لشنيبل، فتوزعت بين
فنانين آخرين وحساسيات أخرى وأفلام أخرى، لا بأس من أن نشير هنا الى انها
كانت في معظمها برزت قوية ومؤكدة منذ عرضت، وبات واضحاً أن لجنة التحكيم
التي قادها الانكليزي المميز ستيفن فريرز (صاحب «الصفقة» التلفزيوني،
و «الملكة» السينمائي)، ستنطلق منها لتحدث ثورة حقيقية في عالم «كان».
تخمينات
لكن
أحداً، في الحقيقة، لم يكن بدايةً قادراً على توقع أن تكون «الثورة» بهذا
الحجم: أن تعطى الجوائز لأسماء بالكاد سمع الجمهور العريض بها من قبل.
وتنتمي الى بلدان قلّما كان لها وجود على خريطة السينما الرائجة عالمياً.
ونبدأ هنا بـ «السعفة الذهبية» أمّ الجوائز وأهمها ومحط تطلع كل سينمائي في
العالم: هذه السعفة أعطيت للروماني كريستيان مونجيو عن فيلمه «4 أشهر...».
وهو فيلم انساني حميم، تدور أحداثه، التي تقارب العالم البؤسوي، في رومانيا
أواخر العهد الشيوعي، لترسم صورة لبلد ومجتمع من خلال حكاية تبدو في الظاهر
بسيطة: حكاية فتاتين عاملتين تقيمان معاً في شقة مشتركة، يحدث لإحداهما أن
تحمل من صديق لها. وعنوان الفيلم يحمل عدد الأسابيع التي بلغها حملها، وهو
عدد تمنع السلطات الرسمية النساء من الاجهاض فيه. لكن الحامل هنا تريد أن
تجهض في شكل غير قانوني ومن دون أن تتمكن السلطات من اعتقالها ومعاقبتها.
وهكذا على خلفية هذه الحكاية يمضي الفيلم الذي – كما قلنا – نال اجماعاً
منذ البداية حيث بات الأمر في حاجة الى فيلم كبير مفاجئ حتى لا يفوز هذا
الفيلم. ونعرف الآن أن هذا المفاجئ لم يأتِ، حتى وإن بدا لبعض الوقت أن
فيلم تارانتينو «عصية على الموت» يحقق الغاية، أو همس البعض بأن ما سيقدمه
أمير كوستوريتسا هذه المرة أيضاً، تحفة كبيرة (فيلم البوسني المدلل في عالم
السينما «عدني بهذا» أتى – في نهاية الأمر – أشبه بخلاصة للأشكال الخارجية
لسينماه المرحة التي تلعب فيها الموسيقى – كتبها ابنه هذه المرة – دوراً
أساسياً). أو قيل أن بيلاتار سيقدم في «رجل لندن» فيلم سعفة مؤكداً (وهذا
أيضاً لم يحدث حتى وإن أعلن بعض أصحاب الحنين الى سينما الستينات في أكثر
مظاهرها اثارة للسأم، ان «رجل لندن» هو الفيلم المنشود)... بل ان كل ما قيل
عن فيلم جيمس غراي الجديد «لنا الليل» من انه يتجاوز ما سبق لغراي أن فاجأ
عالم السينما به في سنوات ماضية («الياردات» و «ليتل أوديسا»)، وانه
بالتالي قد يكون الفائز بدا غير منطقي بعد عرض «لنا الليل». فهذا الفيلم
جاء أشبه بعمل وثائقي يمجد شرطة المدينة ويرسم صورة حديثة لصراع روسي –
بولندي ما، في أميركا بين اللصوص الروس ورجال الشرطة ذوي الأصل البولندي!).
بفيلمه البسيط والعميق في انسانيته «4 أشهر 3 أسابيع ويومان» تغلب مونجيو
اذاً، على كل أولئك المخضرمين.
وفي هذا
السياق نفسه لم يعد مدهشاً أن تتفوق اليابانية المميزة ناؤومي كاواسي (التي
كانت برزت في «كان» قبل سنوات بفيلمها «شيرا»)، على المخضرمين أيضاً
بفيلمها الجديد «غابة موغاري» فتنال جائزة لجنة التحكيم الكبرى. والحقيقة
أن هذا الفيلم الذي عرض قبل اختتام المهرجان بيومين، قسم الحضور بين معجب
بقوة، وبين مستنكر بقوة أيضاً، من دون أن ينكر أحد أنه فيلم كبير وانساني
بدوره. فكاواسي، على خلفية صورة رائعة البهاء تصور عالم الغابة والطبيعة،
قدمت حكاية لافتة عن رجل وامرأة وغابة. الرجل فقد زوجته قبل 33 سنة وهو
يعيش الآن في مأوى تعمل فيه المرأة الشابة مساعدة اجتماعية وتعتني بالرجل
بشكل خاص، آملة أن تخرجه من حزنه الغامض، مع انها هي الأخرى تعيش فقدان طفل
لها. واذا كان القسم الأول من الفيلم بدا عادياً غير مؤدٍّ الى نقطة واضحة،
فإنه – ومنذ تتوقف السيارة بالرجل والمرأة وهما يقومان بنزهة في الخلاء –
يتبدل تماماً اذ يصبح رحلة بدئية تعليمية نحو الموت... أو بالأحرى نحو
الحياة من جديد. رحلة يختلط فيها الحداد بالضياع، وترتسم فيها العلاقة بين
الرجل والمرأة على خطى تتالي علاقتهما بعناصر الكون الأربعة: الريح، الماء،
النار والتراب. فيلم غريب «غابة موغاري» ولم تخطئ لجنة ستيفن فريرز في
الالتفات اليه، لأنه أحد تلك الأفلام التي تبقى في الذاكرة طويلاً بعد أن
تكون قد نسيت أفلام كثيرة.
لعبة
الهويات
«برسبوليس»
للإيرانية مارجان ساترابي، يبقى بدوره في الذاكرة لأسباب أخرى، هي على
الأرجح أسباب سياسية. فالفيلم، الذي أثار عرضه مشاركاً في «كان» غضب
السلطات الإيرانية، يروي – بالرسوم المتحركة – حياة صبية ايرانية ولدت
وربيت قبل ثورة الخميني، في مناخ من الليبرالية والانسانية. وحين حدثت
الثورة هرب بها أهلها الى أوروبا حيث عاشت ولا تزال تعيش. هذا الفيلم حققته
مارجان انطلاقاً من سلسلة من كتب الشرائط المصورة كانت أصدرتها قبل سنوات
وأثارت ضجة كبيرة اذ اكتشف فيها القراء وصفاً للحياة الاجتماعية الايرانية
من الداخل – حتى وإن كان المسؤولون الإيرانيون سيقولون انه وصف كاذب! – «برسبوليس»
وكما كان متوقعاً، الى حد ما، فاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة مع فيلم
«النور الصامت» للمكسيكي كارلوس ريغاداس، الذي كان أثار في الدورة الفائتة
فضيحة «كانية» بفيلمه السابق «معركة في السماء».
وأخيراً
كي تكتمل صورة دورة من «كان» رجحت كفة الجديد المتنوع على القديم الذي بدأ
يبدو راسخاً، يبقى أن نتجه صوب مناطق أخرى من العالم: روسيا، حيث فاز
الممثل قسطنطين لافروننغو بجائزة أفضل تمثيل عن دوره في «العقاب». وكوريا
حين فازت جوون – دو – يوون، بجائزة أفضل تمثيل نسائي – مستحقة بقوة كما حال
جائزة أفضل تمثيل رجالي – عن دورها الرائع في فيلم «الشمس السرية» للي
تشانغ – دونغ. واذا كنا ذكرنا أعلاه فوز الإيرانية مارجان ساترابي بجائزة
لفيلمها «برسبوليس»، علينا أن نذكر هنا أنها لم تكن الشرق أوسطية الوحيدة
التي فازت في «كان»: هناك أيضاً الفيلم الإسرائيلي «السمكة الذهبية» (لاتغار
كيريت وشيرا غريفن)، ثم هناك بخاصة فاتح اتكين التركي – الذي يقيم ويعمل في
المانيا -. اتكين قدم في هذه المشاركة الثانية له في «كان» بعدما قدم
وثائقيه «عبور الجسر» عن مدينة اسطنبول وموسيقاها قبل عامين، قدم فيلماً
تدور أحداثه بين تركيا والمانيا، ويتحدث في لغة واقعية انما قوية، عن لعبة
التبادل والهجرة وفقدان الهوية بين عالمين. هذا الفيلم الذي فاز بجائزة
السيناريو، كاد يعبّر عن احدى خصوصيات هذه الدورة الجديدة لـ «كان»:
التلاقح الحضاري بوعوده وآلامه. وحلم التواصل الانساني الذي يكاد يبدو، على
ضوء راهن «الهويات القاتلة» مستحيلاً. لكنه – كما يقول اتكين – حتمي.
الحياة اللندنية
في 01 يونيو 2007
|