هناك أكثر
من «كان» في مهرجان «كان» السينمائي. نخبة نافذة تقود المصالح وتؤمّن منافذ
التوزيع
وتسليع
النجوم قبل الأفلام وأفكارها وخلاصاتها؛ وهذه تتحصّن في أروقة الفنادق
الفخمة المتناثرة على الـ«كروازيت»، وتجتهد الى حدّ اللؤم في اكتساح
متنافسين على
أسواق وجمهور وأرباح. على الطرف الآخر، يكمن خلف الواجهات
الملوّنة جيش من
المنتفعين، صيادي الفرص؛ وهؤلاء كما جراد الصيف لا موانع تقف في وجه زحفهم
المظفّر.
هم
عماد الصناعة العالمية وشركاؤها الكبرى. مخبرون محترفون، مدفوعون بعزوم
خفية
يرفعون من يشاؤون ويحطّون من قدر مَن يجدون فيه اعتراضات السياسي قبل
التاجر. هؤلاء
وسطاء بين سينمات متعدّدة المنابت. تكليفاتهم الأساسية تركّز
على خطف المواهب في
المجالات كافة. وفي «كان» تجدهم خارج الدوائر التقليدية (سوق الفيلم، عروض
التظاهرات الموازية، وغيرها)، قريبين من حمّالي الأفكار الجديدة، والخائبين
في
اختراق دكاكين الصفقات الكبيرة في «القصر» المهيب للسينما. إنه
لعب أدواراً يخالف
إشارات السير: «لا تأتي إلينا، نحن من يصل إليك!». وعليه، تكون أغلب
المقاهي
والمطاعم ومقاصف المدينة مليئة بمَن يسمّونهم «المزوّدون». تارة يتلبّسون
رداء
موزّعي أفلام، وأخرى مهووسي سينما أو باحثي شهرة أو مستعطي
تذاكر حفلات الاستقبال
التي تقيمها الشركات الكبرى على شاطئ «كان». هؤلاء صرعة أميركية في المقام
الأول،
اشتدّ عودها في سنوات أخيرة. لم تلفت انتباه الكثيرين المنشغلين بمواقيت
العروض الى
قوتها المتنامية وحجم علاقاتها التي حوّلت، بجهد ديناميكي، وجه
الإنتاج السينمائي
الدولي.
صفقات
عبرهم،
اختلطت المهنية وبات أمراً لا يدفع الى الدهشة مشاهدة
فيلم من «سلسلة هاري بوتر» حمل توقيع مخرج أميركي لاتيني، أو فيلم سويسري
من توقيع
جزائري، ومثله هوليوودي كتبه هندي. إنها حاجة السينما كصناعة
عالمية إلى الجميع،
وليس أكثر من موقع ومدينة وحاضنة مثل «كان» تتحمّل ثقل التجديد ورنات
الأسماء
الشابة التي يعلو مجدها لاحقاً. لا ريب في أن عمل الطرفين المذكورين لا
يتضارب
بحدة، كما أنه لا يكمل بعضه خلال الأيام الاثني عشر من عمر
المهرجان، إذ إن
انعكاسات الصفقات، التي تجد سبيلها اليوم بقرار خفي الى صحافة متخصّصة
بالسوق وتطبع
أيام المهرجان، تصل الى أقصى بقعة سينمائية نائية، تُغري بالقدوم. وهي
عوامل مساعدة
شجّعت، من باب آخر، مغامرين جدد في تسريب أخبار إنتاجاتهم أو
مهرجاناتهم الوليدة (كما
حدث في ما يتعلّق بمهرجان أبو ظبي عربياً). هناك ثقة لدى فريق جيل جاكوب
(رئيس
المهرجان) أن لا مهرجان في العالم يستطيع منافسة «كان». وبقدر ما ان الأمر
حقيقي
ثابت، فإن المؤكد أن عشرات من أمثاله تنتهي وهي تتسلّع أفلامها
من عروضه. ولهؤلاء
«مزوّدون»
من طينة أخرى، مثلما هو الإعلام الذي يتجنّد دولياً للبحث عن الخبر
المثير والطلّة الساحرة.
انكشف
الأمر هذا مع الخيبة الأخيرة للدولار وهبوط
معنوياته التي أصابت منتجين كثيرين لحساب موزّعين غنموا الأفلام بأسعار
تفضيلية لم
يحلموا بها. وعلى الرغم من البهرجة الطافية لدكاكين الشركات،
دارت الأحاديث حول
الصفقة الأكبر حجماً والحظوظ التي أصابت البعض وخانت آخرين لملموا أوراقهم
على عجل
في انتظار صحوة العملة الخضراء.
وحدها
حفلة الختام كانت الرهان الدائم
لـ«الكانات» الأخرى. إذ تحوز فيها وعبر نتائجها عناوين الجوائز الكبرى على
دفعة
تجارية تقلّل من خساراتها. في الدورة الستين هذه، وضع الولوعون بالتخمينات
سقوفاً
كثيرة لأفلام رضي عنها النقاد في شبه إجماع، لكنها فشلت في
إقناع لجنة تحكيم المخرج
البريطاني ستيفن فريرز (رئيساً) وزملائه الذين فضّلوا توازن النتائج على
السير
بالمفاجآت الى حدّ الفرقعة، كما وقع الأمر مع وثائقية الأميركي المشاكس
مايكل مور
و«فهرينهايته» قبل دورات عدّة مضت. هناك عنوان أراده الجميع أن
يكون شعار الدورة
الستين: السياسة، من دون أن يتحقّق. فهي في المجمل العام فرحة «كان»
بالسينما في
حدّ ذاتها. من هنا، تُفهم الكثرة المعتبَرة لأسماء الضيوف الذين قدموا
معزّزين
مكرّمين (سواء بالاشتراك في الفيلم المركزي للدورة «لكل سينماه»،
الذي ضمّ 34 قامة
سينمائية عكست مقاطعها القصيرة الهمّ الحقيقي بمستقبل أم الفنون الحداثية،
أو
بالسير على البساط الأحمر الشهير بحسب انتماءاتهم المكرّسة لأبي المهرجانات
الدولية).
بعيداً عن
السياسة
إن
الخيارات التي زخرت بها العروض هربت من
السياسة نحو قيم إنسانية ذات معان شاملة. كأنه انكفاء جماعي (وشبه إعلان عن
الخيبة
العامة من
اشتراطات سياسيي اليوم والحروب التي تعصف ببقع عدّة، تحت تبرير جزّ رأس
الإرهاب)؛ فالفيلم الصاعق للمخرج الروماني كريستيان مونجيو «أربعة أشهر،
ثلاثة
أسابيع، ويومان»، أثار تعاطف النقّاد أكثر منه حصافة
«المزوّدين». ومع خطفه «السعفة
الذهبية» عن جدارة يستحقها، تكون الفاجعة الشخصية هي نجم الدورة الستين
التي
اختُتمت ليلة الأحد في السابع والعشرين من أيار الفائت. هذا عمل ذو نبرة
مسيّسة،
لكنه ينأى عن التصنيف السياسي. يتّخذ من الحقبة الشيوعية خلفية
وتورية للحالة
التوتاليتارية التي غلّت في حكم الرومانيين، وحوّلتهم الى أفقر أمة في
أوروبا
المعاصرة. مونجيو قرّر، ضمن مشروعه الكبير المعنون «حكايات من العصر
الذهبي»، أرشفة
حالات اجتماعية قسرية مورست بعصابية حزبيين أو عبر سن قوانين
إحالة عيش أهل البلد
الى جحيم. في «أربعة أشهر، ثلاثة أسابيع ويومان»، وضع نصب حصافة نصّه
المحكم قضية
الإجهاض التي كتب عنها شارحاً تداعياتها الاجتماعية، منذ أن قرّرت حكومة
المتسلّط
تشاوشيسكو منع عمليات «إنهاء الحمل» بقانون زجري أصدره في
العام .1966 إن عدد
النساء المقضيات بعد إجهاضات سرية بلغ نصف مليون امرأة، بحسب إحصاءات
رسمية، فيما
يرتفع العدد الى أضعاف مع أخريات ضاعت بالخوف والتعمية. يقول المخرج إن
النسبة زادت
إثر سقوط النظام والتصريح بالإجهاض، لتشهد المستشفيات في خلال
العام 1998 مليون
عملية (وهو، بحسب مونجيو، الأعلى
أوروبياً)، مضيفاً أنه تحوّل اليوم الى ما يشبه «العازل
البلاستيكي» الذي تسعى إليه ثلاثمئة ألف حالة سنوياً. هذه الخلفية تعطي
الإشارة الى حجم الفاجعة الاجتماعية العامة والشخصية للنساء اللائي يمررن
بعذابات
عارهن قبل الخضوع الى المباضع. بطلتا مونجيو زميلتا دراسة،
شابتان تعيشان في قسم
داخلي: أوتيليا (أداء محكم لأناماريا مارينتشا) الأكثر دربة في اجتياز
الموانع، هي
صاحبة المبادرات السريعة الطابع. مستقرة الكيان، لكنها ذات سطوة. نراها في
المشهد
الافتتاحي توضّب حقيبة صاحبتها، مشدّدة على التفاصيل
والمقتنيات، كأنها ذاهبة الى
رحلة غامضة. ومع لقائها الشخص الغامض ببي، الذي بدت عليه ملامح الملاك
الساعي الى
تأمين السلامة، نكون قد دلفنا في نفق وحشي الطابع.
ليست هذه
الرحلة الخادعة سوى
ترتيب
لإجهاض غير قانوني. ببي طبيب لا يجد ضيراً من الانتفاع بنزوات الشابات
الرعنات النوايا على شاكلة غابيتا (لورا فاسيليو)، التي يصعق من تكاذبها
على
الوسيطة الخفية بأنها في شهر حملها الثاني، ومع اعترافها بأن
هناك أشهراً أكثر مما
صرحت به من قبل، يثور ببي ويبتزهن، متحولاً الى شيطان يتحصّن بعدة العملية
الحاسمة.
إن
هاجسه وثمنه ليس المبلغ الزهيد (لا يساوي سنوات العقاب إن وقع في الفخّ،
كما صرخ
في وجه امتعاضهن من فشل الصفقة) الذي رفعت أوتيليا أوراقه
البائسة في استجداء أليم؛
إنما استكفاؤه الإضافي بجسد البطلة التي تجد نفسها خاضعة للرهان القاسي:
فرجها أو
ابن زنا زميلتها المقبل.
الإجهاض
والموت
المخرج
مونجيو (ولد في العام ,1968
ودرس الأدب الإنكليزي، وقدّم أول أفلامه الطويلة «أوكسيدينت» في العام
,2002 الذي
شارك به في تظاهرة «أسبوعا المخرجين» في ذاك العام) لن يمتحن صيغ قرار بيع
أوتيليا
جسدها. فهي محكومة بالوفاء والذود عن صديقتها في محنتها. ومع
أن هذا الثمن الباهظ
يُحيلها الى ساقطة مغلفة، فإن نصاعتها الداخلية تقودها الى أن تصبح قديسة
من نوع
فريد
(نراها تقعى في مغطس الحمام تنظّف ذاتها من دنس إجباري). لن يرينا مونجو،
بحكمة سينمائية، عملية اغتصابها، إذ يصعقنا بالعملية البدائية وقرف
تفاصيلها التي
يُجريها لغابيتا من دون أي عاطفة تظهر على محياه الشمعي.
وزيادة في الإقصاء العاطفي
للبطلتين، تتم الجريمتان في غرفة فندق وضيع، إذ إن فعلين بهذه القسوة لن
يتمّا إلا
في
حيّز يضمن سريتهما واشتراطاتها القسرية. ما إن يختفي المجرم، يتحوّل اهتمام
أوتيليا الى ذاتها، ووجوب عودتها الى عالم حقيقتها كأنثى،
لنراها تقوم بجيلان وسط
ظلمة وخوف يعكسان ألمها وتشظيها الداخلي، قبل أن تواجه استحقاق التخلّص من
جنين
الدنس الذي نراه ملقى على أرضية الحمام، وهي إشارة تعسفية للسيرة الناقصة
لخارج
مليء بالعسس وأزلام النظام وقوانين التشكيك التي تطالهن
ككيانات محكومة بالمساءلة
(وهو
أمر تتعرّض إليه أوتيليا في جلسة الاحتفال بعيد ميلاد والدة خطيبها، حين
تحاصرها أسئلة المتحلّقين حول المائدة الفقيرة).
هذا القسر
يدفع البطلة الى
العودة
ثانية الى فندق الجريمتين، إذ إن عليها ترتيب صفو القناعات الحياتية لها
ولصاحبتها. يتم اللقاء الختامي في مطعم الفندق، حيث تلقي حكمتها الأخيرة أن
«عديني
ألاّ نتحدّث في الموضوع أبدا»، وهي خاتمة اعترافية ضمنية بأن
زلاّت أخرى سيكون
ثمنها أكثر مرارة وبشاعة ونفياً، وقد تُقرّبهن من الموت.
هذا
الأخير هو الفيصل
الدرامي لرائعة اليابانية ناومي كاواسي «غابة الحداد» (مُنح
«الجائزة الكبرى»)،
الذي يتمظهر بروحانية خلاصية الطابع، تقود بطلها العجوز شيجيكي
(أدى الدور الهاوي
شيجيكي أودا) الى تنفيذ مهمة ظلّت في عهدته أعواماً طويلة: إنهاء حداده على
طريقته.
هذا الصبر غريب الطابع يجعل منه كائناً ذا صفو خاص، ينتظر دليله المتشخصن
بالشابة
ماشيكو (ماشيكو أنو، وقد عملت مع كاواسي في فيلمها «سوساكو»، الذي فاز
بجائزة
«الكاميرا الذهبية» في العام 1997) التي تحلّ متطوعة في دار العجزة التي
يكون فيها
البطل
محور الألفة والغرابة في آن، بسبب حقيبته الثقيلة التي لن يتخلّى عنها في
أي
ظرف. ومع تشكّل عناصر اهتمام الشابة (التي نذرت نفسها للخدمة الاجتماعية
بعد
مصيبتها بفقدان جنينها) بهذا الكائن المدهش، تحدث الخطوة
الحاسمة والقدرية الطابع
التي تقودهما نحو رحلة تطهّر ثنائية في عمق طبيعي، يقرّبهما الى كون أرضي
يشبه
فردوساً بكراً. إنه نهايات الموت الذي غيّب حبيبيهما: الزوجة التي تظهر
للعجوز وهي
في أقصى درجات حزنها، والغائب الذي يضرب في ضمير الأم الشابة
المكلومة بالحسرة.
وضمن هذه
العزلة، لن يكون للكلام معنى، ولا للحديث وزن، ولا للشفقة مكان. إنهما في
مواجهة غسول ضميرهما وكيانيهما بعد تأخّر. فالفاجعتان تلتقيان كي تنهيا
الوجع
والذنب. وبعد جيلان طويل أشبه بالمتاهة للبطلة، يبلغ العجوز
الهادئ الموقع الغريب:
قبر
زوجته. عنده، يكشف عن سرّه الذي حمله ثلاثة وثلاثين عاماً بحنو لا مثيل له
في
إخلاصه وتفانيه. وأمام دهشة الشابة، يفرد شيجيكي رسائل الحب التي ظلّ
يكتبها بإصرار
عنيد، حتى تحقّق اللقاء الذي طال. ينهي العجوز حداده وهو يحفر
بيدين عاريتين الطين
في
نزاع مع طبيعة تحتضن رفات الحبيبة، آملا في دثار قريب منها لم يزف أمره بعد.
مثلما
احتكم المخرج الروماني كريستيان مونجيو الى سردية تقليدية، انتصرت ناومي
كواسي (ولدت في العام ,1969 وحصدت مديحاً نقدياً بفضل فيلمها «احتضان» في
العام
,1993
الذي امتاز بأسلوبيته الحادّة الطابع حول بحثها عن والدها الذي
تخلّى عنها
وهي يافعة) إلى تلك السردية كأسلوب يضع أولوية الحكاية ودلالاتها الدينية
قبل
الاستعراضية التقنية المغرية، نظراً إلى المحيط البهي والخاطف الذي اختارته
بحكمة
بصرية نادرة (تصوير ساحر لهيديو ناكانو). يُلاحَظ أن كواسي
اعتمدت في المقطع الأول
(داخل
دار العجزة) على كاميرا ساكنة الحركة، لكنها (بعد حادث السيارة التي
أقلتهما
لنزهتهما الموعودة) اختارت الكاميرا المحمولة التي أدّت غرض المرافقة
البصرية،
وكأنها عين مشاهد يجب ألاّ ينتظر تنميقاً غير مبرّر لرحلة
اكتشاف ماشيكو ذاتها على
يدي العجوز الطاهر.
قوّة
العيش
الاشتغال
البصري هو، كذلك، البطل الفني
الباهر في فيلم الفنان التشكيلي والنحات والمخرج السينمائي جوليان شنابيل
«الغطّاس
والفراشة»، الذي امتاز بجدّة خلاصاته التقنية لبطل أصيب بالشلل إثر جلطة
قلبية لم
تمنعه من إنجاز كتابة سيرته الذاتية عن طريق طرفات عينه اليسرى،
الجزء الوحيد الذي
ظلّ سالماً في جسده المعطوب كأداة اتصال بالعالم. صاحب «باسكويه» (1996)
و«قبل حلول
الليل» (2000)، المعروف بتقليعاته الغريبة (إصراره على ارتداء
بيجامة نومه والمعطف
المنزلي بألوانهما الصارخة في أية مناسبة)، لم يفوّت الفرصة عندما صعد إلى
خشبة
مسرح «قصر السينما» ليستلم جائزة الإخراج عن استحقاق (مع أحقيته بـ«السعفة
الذهبية»)، ليعتصم مرتدياً بدلة سهرة الختام السوداء أمام
الميكروفون شاكراً
ومستفزاً الأعراف الرسمية لـ«كان»، كأنه يذكّر مَن لم يشاهد فيلمه من
الضيوف بضيقه
من
إغفال جهادية بطله جان دومينيك باوبو، رئيس تحرير مجلة «آل»، وإصراره على
التشبّث بالحياة على الرغم من عاهته، حتى إنجازه مذكراته بدأب
يحسد عليه قبل موته
التراجيدي.
هذا
الفيلم معقود بتمايزه الفني الى مدير التصوير يانوش كايمنيسكي،
ومدراء الصوت جان بول موغيل وفرانسيس ورينغير ودومينيك غابيريو، الذين
صاغوا خطاباً
معقّداً لحكاية تتمّ في العطب الجسدي الذي أصاب باوبو. اجتهدوا
في مقاربة عالم غامض
حسّي الطابع، قائم على الضوء المبتسر الذي يصل الى بؤبؤ الرجل المعطل،
والصوت
الواهن الناقل اتصالات الآخرين (الزوجة والأطفال والعشيقة والأطباء
ومساعديهم
والريح والضوضاء والصمت، من بين عناصر كثيرة أخرى) بكيانه
المحكوم بأدوات الإعانة
الطبية. باوبو (أداء معتبر للفرنسي ماثيو أمالريك) الذي عاش حياة لاهية
مليئة
بالعبث والسطوة والغنى، ينتهي بحكم الجلطة الى رهين سرير القعود والكرسي
المتحرك.
بيد أن شجاعته وعناده يقودانه الى صيغة مخاتلة نادرة ضد عجزه. من هنا،
اختار هؤلاء
الحرفيون مواربة تقنية جعلت مشاهد «الغطّاس والفراشة» شريكاً على الرغم من
أنفه في
اكتشاف المحنة. كايمنيسكي بث روحاً لا مثيل لها بطلقها لثنائيات الضوء
وظلماته،
الظلّ وخيالاته، اللون وتماهياته، الصورة وارتجاعاتها، والخطوط
وترسماتها. إنها
عملية مضنية، افتراضية لعقل ما زال حياً نابضاً بالذاكرة التي لم تستطع
الجلطة
الغادرة شطبها. وفي حالة ارتجاعات الصوت، داخل الثلاثي التقني بين حواراته
الداخلية
التي تمثّل صوته الحي ضمن مخاطباته الكتومة (وهي مفتاح في ردود
فعله ذات الطابع
التهكمي)، والتقابلات الكلامية للآخرين، خصوصاً معاونته (التي لن تفلت من
تهويمات
فحولته المغيبة)، حاملة القسط الحقيقي في مساعدته بصوغ جمل رمشات عينه التي
تشي
بعنفوان الروح فيه (تُسمعه الحروف وتجمعها بحسب غمزاته). ما
تبقى لشنبايل هو الصوغ
الأمثل في تعقيده السردي لماضي باوبو الغني بالأحداث والشخوص والعلاقات
العائلية
الحميمة
(في نأي نادر عن الميلودراما)؛ وبدا واضحاً أن هدفه ليس العاهة بحدّ ذاتها،
بل
المعاني ثقيلة الوقع على ضمائرنا لكائن خسر جسده، ولم يتخلّ عن إيمانه
بالحياة،
كاستعادته علاقاته مع والده (ماكس فون سيدو) وخليلاته ورحلاته
الضميرية التي تترمز
بغطسه في البدلة الثقيلة وغيابه وسط اليمّ، والفراشة العملاقة
كإيحاء لطلق حيويته
المقبورة. يموت بابو، كما هو قدر الفنان التشكيلي باسكويه في الفيلم
السابق، تاركاً
إرثه في نصّه المنشور في العام ,1997 وكأنه ينتظر موهبة شنابيل التي بثّت
الروح
مجدّداً في صراع كائن حيّ رفض الارتهان لقدر أعمى.
(كان)
السفير اللبنانية
في 01 يونيو 2007
|