لا «زودياك»
ولا الأخوين كون، لا سيدة حرب الشيشان العجوز
(الكسندرا)
ولا سيارات كونتين تارانتينو القاتلة، لا سينما المخضرمين ولا سينما
الأسماء الكبيرة. لم تصح في الحفل الختامي لمهرجان «كان» السينمائي في
دورته
الستين، أي من التوقعات التي قامت وصخبت وضجّت بها الأقلام
والألسنة طوال نحو
دزينتين من الأيام. فالمفاجأة الكبرى الموعودة ليوم إعلان الجوائز كانت أن
ليس ثمة
أية مفاجأة على الإطلاق.
لربما يصح
هنا الحديث عن «مفاجأة سلبية» بمعنى أن
الذين طوال أيام المهرجان انتظروا أن تكون هناك في يومه الأخير مفاجأة
تدفعهم إلى
السجال والغضب، انتصاراً لهذا المخرج المخضرم ضد ذاك، أو لهذا الفيلم
الكبير في
مواجهة فيلم كبير آخر، فوجئوا بأن لا شيء من هذا حدث. أما
الخيبة الكبرى فكانت من
نصيب كل ذلك الرهط من المتحمسين الذين، إن بدا المهرجان، في أفلامه إن لم
يكن في
فعالياته الاحتفالية، عادياً ومضجراً بعد أن انقضت أيامه الأولى، راهنوا -
وكل منهم
واثق من كلامه ورهانه - على أن إميركوستوريتا، سينقذ الوضع في
يوم عروض المسابقة
الأخير، إذ جعل البرنامج الرسمي للمهرجان في فيلمه الجديد «عدني بهذا»، آخر
الأفلام
المعروضة، ما شجع على التوقع المتفائل، والنتيجة لم يخب أمل محبي كوستوريتا،
بموقف
لجنة التحكيم من الفيلم بتجاهله كلياً، بل خاب من الفيلم نفسه
فهو لم يكن أكثر من
ساعتين من التسلية والضحك المتواصلين، على طريقة صاحب «اندر غراوند»
المعروفة،
وإنما ناقص المضمون والمعنى هذه المرة.
الإعجاب
لاحق
إميركوستوريتا
لم يكن، إذاً، الاسم الكبير في عالم سينما اليوم الذي «نسيه»
المحكِّمون، بل هو
انضم في ذلك إلى كل مخضرمي «كان» من الذين آثروا أن يخصوا الدورة الستين
بأفلامهم
الجديدة، معتقدين أنهم في هذا يوفون للمهرجان ديونه الكثيرة
عليهم، ثم كانت النتيجة
أن
قلة منهم فقط تمكنت من الاقتناع ومن انتزاع التصفيق بعد انتهاء العروض، بل
كان
منهم من على غرار المجري بيلا تار قتل المتفرجين سأماً (فيلم «رجل لندن»
الذي يمكن
اعتباره أبطأ فيلم في تاريخ السينما إلى درجة أن ناقداً
مغربياً صديقاً قال،
مازحاً: لو أن هذا النوع من السينما يسود في العالم لما كان ثمة حاجة بعد
الآن إلى
إقامة جمعيات ومؤسسات لحماية الاسطوانات السينمائية المدمجة من القراصنة!).
وكان
منهم من أدهش المتفرجين في تراجعه الحاد عن مستويات عليا كانت
سينماه بلغتها في
الماضي، وكان منهم من قسم المتفرجين حقاً بين من هم شديدو الحماس لفيلمه،
ومن بينهم
كاتب هذه السطور، وآخرين اعتبروه من أردأ الأفلام (كونتين تارانتينو «عصية
على
الموت»). هنا قد يقول قائل: أليس هذا هو دأب الأعمال الفنية
الكبرى، تفرز المتفرجين
بتدريجيتها وجديدها، ثم تنال لاحقاً إعجاباً عاماً؟ حسناً قد يكون هذا
صحيحاً، ومع
هذا فإن الفرز هنا جاء أمرّ وأصعب من أي فرز مضى.
المهم أن
حفل الختام انتهى
على خير
مساء الأحد الماضي، وأعلنت لجنة التحكيم، برئاسة ستيفن فريرز، آراءها،
ووزعت جوائزها. فبدا الأمر - بعد تفكير طويل - وكأن اللجنة حققت على الأقل،
ما كان
يبدو أن دورة مهرجان «كان» لهذا العام، تسعى إلى تحقيقه، ونعني
بذلك ترجيح كفة جيل
جديد من أبناء «كان» من الواضح أنه سيحل تدريجياً، خلال الأعوام المقبلة،
محل الجيل
المخضرم.
ذلك أن
المسألة الأساس كلها بدت هنا. فالمهرجان منذ إعلان برامجه
وأسماء
أفلامه، وضح أنه يريد من دورته أن تكون نقطة الفصل بين جيلين ومنطقين.
وتحقق
له
هذا فعلاً، إذ نعرف أن 33 فيلماً من أصل نحو سبعين تشكل مجمل عروض
التظاهرات
الرسمية الأساسية، كانت أفلاماً أولى لأصحابها، وهذا رقم قياسي في مثل هذا
النوع من
المهرجانات الكبرى. في المقابل، طبعاً، كان هناك مشاركون كبار سبق لكل واحد
منهم أن
عرض في دورات «كان» السابقة، بل فاز بالجوائز الكبرى، مرات
عدة. منهم من فاز بها
مرتين (كوستوريتا) ومنهم من فاز مرة واحدة مجيدة (الاخوان كون، وغاس فان
سانت...
بين آخرين). من هنا بدا الشرخ كبيراً بين عالمين: عالم صنعه المهرجان في
ماضيه
وانصنع به، وعالم جديد يريد المهرجان أن يرتبط باسمه من الآن وصاعداً. صراع
أجيال
أجل إلى حد كبير. واللافت أن انتصارات اليوم الأخير أتت مكرسة
للجيل الجديد، علماً
بأن غاس فان سانت، في فيلمه الأحدث (بارانويد بارك) كان الوحيد الذي نفد
بجلده،
وأعطي جائزة ابتدعت باسم «جائزة الستينية»، وتحوي تكريماً أكثر مما تحوي
تتويجاً.
أما ماعدا
هذه الجائزة، فالأسماء جميعاً بدت غريبة ولاشك أن
الصحافيين يحتاجون وقتاً طويلاً حتى يتعودوا عليها، وأن أهل الأرشيف
سيحطمون رؤوسهم
قبل العثور على صور أصحاب هذه الأسماء أو معلومات عن ماضي كل منهم
السينمائي، حتى
وإن كان سبق لبعضهم أن عرض في بعض المهرجانات أو حتى في «كان»
نفسه. وهذه، على أية
حال، حالة كريستيان مونجيو، الروماني المبدع الذي حقق الفوز الأسمى في
المهرجان إذ
نال فيلمه «4 أشهر، 3 أسابيع ويومان» جائزة «السعفة الذهبية»،
ليجابه بتصفيق حاد
ومتواصل. ذلك أن هذا الفيلم الذي يتحدث عن عملية إجهاض لامرأة تحمل خطأ
أيام حكم
تشاوشسكو الدكتاتوري في رومانيا، إذ كان الإجهاض يعتبر جريمة يعاقب عليها
المجهض
ومن عاونه عقاباً شديداً، هذا الفيلم كان قد حظي بالإجماع منذ
اليوم الثاني
للمهرجان، إذ عرض وأدهش بشجاعته ولغته السينمائية، وتمكنه من قول الحاضر
ومشكلات
الراهن، في الوقت الذي يبدو فيه أنه يقول ماضياً اندثر. كما كان متوقعاً
إذاً، كوفئ
هذا الفيلم الإنساني الجميل، مع أنه ليس سوى الفيلم الثالث
لمخرجه (41 سنة) الذي
كان شارك في «كان» مرة قبل الآن (العام 2002 عن فيلم «غرب» من دون أن يلفت
النظر).
غابة
الحداد
ولئن بدا
فوز «4 أشهر، 3 أسابيع ويومان» متوقعاً
ومرغوباً في شكل عام، فإن فوز الفيلم الياباني «غابة موغاري» بجائزة لجنة
التحكيم
الكبرى (وهي ثاني جوائز المهرجان من حيث الأهمية، (لكنها تعتبر الأولى من
ناحية
القيمة الفنية، عادة)، لم يكن بدهياً. فالفيلم قسم المتفرجين،
عند عرضه قبل يومين
من
ختام المهرجان، بين من رأوا فيه تحفة فنية، إنسانية وفلسفية ناهيك لقيمه
الجمالية المطلقة (وهذا كان رأي كاتب هذه السطور الذي اضطر إلى أن يدافع عن
الفيلم
ضد آراء سلبية عدة قامت ضده)، وبين من عجزوا عن فهمه وكذلك عن
الاستمتاع بعمل يحكي
عن
علاقة إنسانية غريبة، وسط غابات الحداد الكثيفة، بين عجوز فقد زوجته قبل 33
عاماً ولا يريد أن ينهي حزنه عليها بعد، وبين مساعدة اجتماعية في نادٍ
للعجزة، كانت
هي
الأخرى فقدت طفلها. لجنة التحكيم حسمت الأمر في النهاية وأعطت جائزتها
الكبرى
لهذا العمل الجديد للمخرجة اليابانية ناؤومي كاواس التي كان «الكانيّون»
قد تعرفوا
قبل سنوات إلى تحفة أخرى لها هي «شارا».
بتنا نعرف
إذاً أن اسمي كريستيان
مونجيو
وناؤومي كاواس، معروفان في «كان» ولكن لابد أن نسارع إلى القول إنهما في
الماضي، عرفا فقط في الحلقات العنيفة لمرتادي التظاهرات الثانوية. ومن هنا
حين أعلن
فوز كل منهما، بدا واضحاً أن الجمهور العريض لا يعرفهما على
الإطلاق. وهذه نفسها
حال بقية الفائزين: فمن ذا الذي، يا ترى، يمكنه أن يحفظ اسم الممثل الروسي
قسطنطين
لافرنتغو، الذي فاز بجائزة أفضل ممثل عن دوره الرائع في فيلم «العقاب»
للمخرج
اندريه زفياغنتسيف؟ ومع هذا يعرف كثر أن لافرنتغو كان ظهر،
عالمياً، للمرة الأولى
خلال فيلم سابق للمخرج نفسه كان فاز بالجائزة الكبرى في مهرجان «البندقية»
قبل
عامين وهو فيلم «العودة». وفي المقابل، من ذا الذي يمكنه أن يحفظ اسم
الممثلة
الصينية «جوان دويوان»، بطلة فيلم «شمس سرية» لتشانغ دونغ التي
فازت بجائزة أفضل
ممثلة، فكاد يغمى عليها وهي تعلو المنصة لتتلقى جائزتها، ثم كاد يغمى على
الجمهور
وقد أطالت في كلامها لتشكر الجميع؟
جسور
اللقاء
أسماء
جديدة، وأفلام
لأجيال جديدة. بالتأكيد، لكن اللائحة لا تنتهي هنا، ولئن كان
المخرج الأميركي
جوليان شنيبل الذي فاز بجائزة أفضل إخراج، معروفاً على نطاق واسع في عالم
الثقافة
والفن، فإن شهرته لا تعود إلى عمله السينمائي (فهو هنا يقدم فيلمه الثالث
كمخرج) بل
إلى كونه فناناً تشكيلياً ذا سمعة عالمية، ومكانة في فن الرسم
التحريضي في زمننا
هذا. صحيح أن كثراً أعجبوا بفيلمه المشارك «ثياب الغوص والفراشة» وبموضوعه
الإنساني
العميق (عن مقعد يتمكن من التفاهم والمصالحة مع العالم على رغم
فقدانه حواسه كلها
تقريباً)، لكن الإعجاب لم يشمل الإخراج. وهنا كانت المفاجأة كبيرة. وفي
إزاء هذا لم
يفاجأ أحد حين فازت فنانة أخرى آتية إلى عالم السينما من الشرائط المصورة،
في أول
تجربة سينمائية لها، بجائزة لجنة التحكيم الخاصة. هذه الفنانة
هي الإيرانية الأصل،
مرجان ساترابي، عن فيلم «رسوليا»، التي كانت عرفت على نطاق عالمي واسع
بسلسلة كتب
شرائط مصورة أصدرتها تروي فيها بالرسوم حكايتها منذ كانت طفلة هاجر بها
أهلها هرباً
من الثورة الإيرانية. سلطات إيران التي كانت احتجت في الماضي
على نشر الكتب في
أوروبا وأميركا، احتجت خلال أيام المهرجان على مشاركة الفيلم. ولاشك أنه
سيضمنها
أيضاً أن تعطى له هذه الجائزة... ولكن بالتأكيد لن يجاريها أحد في عالم
السينما في
احتجاجها، كذلك لن يوافق أحد تلك السلطات حين تقول إن الجائزة
«أعطيت لأسباب سياسية
ولخلق جو عالمي ضد إيران...».
كذلك
الأمر، سيكون من الصعب على أحد إقناع أحد
بأن الجائزة - جائزة «الكاميرا الذهبية» - التي أعطيت إلى الفيلم
الإسرائيلي
«السمكة
الذهبية» أعطيت لأسباب سياسية ولخدمة الايديولوجية الصهيونية. فالفيلم الذي
يحكي شرائح من الحياة في تل أبيب، بعيد عن الايديولوجيا، ولربما كانت
الغاية من
منحه هذه الجائزة تشجيع هذا النوع من السينما ليهتم بالحياة
ومناضليها في مناطق
وبلدان أتخمت بالصراعات وبالايديولوجيا.
وهنا،
أخيراً، إذ نضرب صفحاً على
بعض
الجوائز التقنية والثانوية، نشير إلى واحدة أخيرة تبقى، إضافة إلى مشاركة
الفيلم المكسيكي «الضوء الصامت» لكارلوس ريغارداس، جائزة لجنة التحكيم
الخاصة، مع
«بيرسبوليس» والجائزة هي جائزة السيناريو التي نالها الألماني - من أصل تركي -
هوفانج
أكين، الذي كان حظي بشهرة عالمية قبل سنوات عبر فوز فيلمه «العناد» بجوائز
في
مهرجانات عدة، ثم عبر مشاركته مرة واحدة قبل الآن في مهرجان «كان» بفيلمه
التسجيلي «عبور الجسر». فيلم أكين الأول ذاك، كان ألمانياً
خالصاً، وفيلمه التسجيلي
كان أقرب إلى أن يكون تركياً. أما فيلمه الجديد وهو «حافة الفردوس»، فتدور
مجرياته
بين ألمانيا وتركيا وتتناول حياة المهاجرين الأتراك في ألمانيا. وهو فيلم
شكل في
الحقيقة صورة الجسر، التي طويلاً ما أراد أكين من سينماه أن
تمثلها. فكان له هنا ما
أراد، وكان التجاوب كبيراً. ويمكننا أن نقول إن هذا الفيلم شكل ذلك اللقاء
- بحلوه
ومره - بين الشرق والغرب، على مثال مهرجان «كان» الذي شكل في
دورته الجديدة هذه،
صورة اللقاء نفسه، ولكن إلى جانبها صورة اللقاء بين الأجيال، وبين شتى
الحساسيات
السينمائية. ولئن خلت النتائج من أي سبب للاحتجاج فواضح أن مرد هذا، أن ما
من أحد
يمكنه أن يدين لقاءً بين الشعوب والأجيال. أليس كذلك؟
الوسط البحرينية
في 31 مايو 2007
|