جريمتان
وغفران واحد. تبدو المعادلة غير منصفة لإثم مركّب ومتداخل.
فكيف يمكن إغفال دم مسفوك وتبرئة مرتكبه؟ السينما وحدها، كما يبدو، قادرة
على مثل
هذه العطايا. في مسابقة مهرجان «كان» الستيني اجتمعت خطيئتان على جثث
مغدورين،
أولاهما قضي بقدر محتوم، والثانية بخطأ أرعن، فيما تجلّت
المغفرة بصدفتها في الفيلم
الثالث. مخرجو هذه الأفلام ليسوا قضاة أو محاسبي ضمائر، بل وسطاء يكمن
إثمهم الفني
في أنهم جمّلوا وقائعها وبرعوا في رسم تفاصيل صُوَرها وتحريك
أقدار أبطالها. هم
جناة، كونهم محترفي إقناع وإمتاع. بل هناك من يعتبرهم متواطئين في تعميم
التبرير
لها (الجرائم). بيد أن المشاهد الحصيف يجد مفاتيح درامية ذات تأويلات
مفاجئة يصل
بعضها الى حدود اللامألوف.
لعن
الوحشية الأميركية
في حالة
الأخوين
الأميركيين جويل وإيثان كوين، يبدو اختيارهما رواية صاحب «بوليتزر»
كروماك مكارثي
«لا
موطن للرجال العجائز» (عُرض في «المسابقة الرسمية») استمراء مقصوداً للعن
الوحشية الأميركية التي تجلّت في عملهما السابق «فارغو» (1996)، الذي تابعا
فيه
اجتهاد شرطية تسعى الى كشف هوية ودوافع قاتل يطحن ضحاياه في
ماكنة زراعية، لتتشابك
خيوط التحقيق مع قاتل آخر يطارد الأول في ما يشبه سلسلة لا نهاية لها. تلك
الوحشية
صنعة بشر تدفعهم نوازع غريبة إلى ارتكاب فواحش دموية، في حين تعاني سلطة
القانون
ثقل مناوراتها، إذ إن الشرطية حامل بوليدها، وتجالد مع بطنها
المنتفخة ذات التكوّر
الكبير المبالغ فيه، وتحرّقها الى إجازة الأمومة. في جديدهما، يكون كبير
الشرطة
بِلْ (تومي لي جونز) بديلاً جنسياً من زميلته، يعاني الكبر وعده أيام
تقاعده
القريب. ما يحرّك رتابة مهنته في المدينة الصغيرة الواقعة على
تخوم فيافي تكساس،
جريمة قتل جماعية يكتشفها قبله البطل ليولن موس (جوش بورلين) إثر مطاردته
قطعان
ظباء. وهي (المطاردة) تأخذ شكلاً عنفياً آخر، عندما يُكلّف القاتل أنطوان
تشوكرا
(أداء باهر للإسباني خافيير بورديم) حلّ عقدة الشاهد الغامض الذي فرّ
بمليوني دولار
غنيمة سهلة.
كما أن
الخطأ يولّد مثيله في لعبة الكر والفر الشهيرة، فإن بل يقع
في
زلّة تريثه وإصراره على عقلنة الدوافع والمتورطين بها (هو هنا شبيه زميلته
في «فارغو»)، الأمر الذي يسمح للوحش المأجور أن يضاعف أعداد ضحاياه، وهو في
طريق تضيق
الخناق
حول ليولن. جريمة هذا الأخير أنه وقع في مطب جشعه للاحتفاظ بالثروة من دون
إدراكه الثمن الفادح الذي ينتظره. بيد أن الحكاية ليست مطاردة عادية
التفاصيل،
فعنفها يتوالد بين مقاتل سابق في فيتنام (حالة ليولن) وغول
بشري لا يرحم أياً كان
في
طريقه (حالة أنطوان). كلاهما يستخدم أقصى حرفيته: الأول في قدرته على
الإفلات من
الأفخاخ التي تنصب له (تحديداً جهاز الإنذار الذي زُرع في الحقيبة وتصل
ذبذباته الى
جهاز استقبال يدل أنطوان على أمكنة تخفيه)، والثاني في
اكتساحاته الجبارة للموانع،
زارعاً الدم وضحاياه في كل مكان. وفيما نتابع خيط المناكفات العنيفة، نشاهد
الشرطي
بِلْ يراوح بين مواقع الجرائم والمعارك، قبل أن تسعفه زوجة ليولن الشابة
بمكان
التحصن الأخير الذي يشهد تصفية الجشِع. وعند وصوله، يكتشف أن
دربته العسكرية أصبحت
بالية ومتأخرة لدرء رصاصات الموت.
الكاتب
مكارثي الذي بقي على إصراره
الإيديولوجي في تحامله، بلا كلل، على الوحشية الأميركية في غالبية نصوصه،
يجعل
نهاية عمله الفاجع معقودة بالمشية الشيطانية لأنطوان إثر إفلاته من موت
محقّق.
فالوحش لن يموت، وهو يتوالد من الشارع ويظل متحصناً فيه، باحثاً عن ضحايا
جدد وورثة
محتملين.
إن تطرّف العنف وجرائمه في عمل الأخوين كوين لن يصل الى منتهاه الطبيعي،
أي
إلى القانون وعقوباته. وظلاّ في اقتباسهما الدقيق والفذّ لعمل مكارثي
يسايرونه
فيما يخصّ نظرته السوداوية لحالات التشبع الأميركي بالسطوة. من
هنا، يُفهم تدقيقهما
في
تصوير (جهد أخّاذ لمدير التصوير روجر دينكنز) رعب القتل الذي يمارسه أنطوان
وكيانه الحيواني.
مواربة
دينية للجريمة
ولئن أظهر
«لا موطن للرجال
العجائز»،
في أسلوبية صادمة، مفاهيم نزعة الشراسة، فإن مواطنهما غاس فان سانت يقارب
جريمة بطله في جديده «منتزه الجنون» (المسابقة الرسمية) من باب درامي ذي
مواربة
دينية حداثية. ذلك أن الطالب الشاب ألكس (يُذكّر كثيراً بنظيره
الذي يحمل الإسم
نفسه في «البرتقالة الآلية» للأميركي ستانلي كوبريك) يمارس يومياته بأكبر
قدر من
العزلة الشخصية، على الرغم من محيطه المكتظ بالشخصيات التي تدور في فلكه.
فهو يحمل
في داخله مشروع قاتل مؤجّل، تدفعه رعونة خوفه الى تحقيق جريمته
في حق حارس محطة
قطارات، يكون سلاحها لوح تزحلقه (أو شغف هوايته الرياضية) الذي يشبه عصا
ألكس
كوبريك (ضمن أدوات أخرى) التي ينهال بها على أجساد ضحاياه. وإذا كانت هذه
الشخصية
متلبسة العزم بالقتل، فإن بطل فان سانت يولّد عنفه اللاحق
بغماط حُسن طلته التي
تجعله شبيهاً بمحيا قديس معاصر. في المشهد الافتتاحي، نراه يخط على ورق
دفاتره
المدرسية ما يشبه المذكرات، لنكتشف لاحقاً أنها اعترافات جريمته التي لم
يجرؤ البوح
بها لأقرب الناس اليه: والده الذي تخلى عنه وهو يافع. وفي
نهاية الفيلم، يعمد الى
حرقها وسط نيران جبنه، لنفهم أن القانون لن يأخذ مسراه الطبيعي، ولن يتمكّن
البطل
الشاب من تبرئة ذمّة الدم الذي «لوّث» لوح هوايته الأثيرة.
كما كان
قتلة الفيلم
السابق لفان سانت «فيل» (حول مجزرة مدرسة كولمباين) من الطلبة،
فإن ألكس يأتي من
الوسط نفسه. لكن الفرق الوحيد كامنٌ في أن القاتلَين في العمل الأول عزما
على
الجريمة بإرادة وعن قصد، فيما تدفع شخصية شابة وسيطة تشبّه يهوذا (تلبس
رداء
الزعران) بالبطل، الى تحقيق القتل عبر نزوة لا معنى لها سوى
مناكفة القانون الذي
يمنع صعود مقطورة أراداها وسيلة تنقل مجانية توصلهما الى منطقة تزحلق
بعيدة! وهي
زلّة يتخذها المخرج فان سانت (الذي يستلف مرة أخرى أسلوبيته المميزة في
عمليه «فيلش
و«الأيام الأخيرة» تحديداً بتكرار تصوير وقوع الأحداث نفسها من
زوايا سردية وبصرية
مختلفة، تُقفَل بالخاتمة المعروفة مسبقاً) دليلاً على رعونة وسذاجة بطل
أميركي
معاصر يستسهل المغامرة، مثلما يستسهل لاحقاً إخفاء مصيبته الدموية (يقطع
قطار مار
جسد الضحية الى نصفين).
إن الاثم،
في حالة بطل فان سانت، يُدفن
نتيجة انتفاء
وجود الشهود. أما نظيره في عمل الأخوين كوين، فيُحوِّل ليولن
من شاهد جريمة (أو
مكتشف لها) الى ضحية وطريدة، عليه أن يدفع ثمن الصدفة التي قادته إلى
التوّرط بمال
حرام، وهي الحالة الملتبسة نفسها التي تقود بطل فيلم المخرج
الطليعي الهنغاري بيلا
تار «اللندني» (ضمن المسابقة الرسمية) نحو مصادفته الشخصية التي تجعله
شاهداً على
جريمة قتل و«اصطياده» المبلغ المسروق الكبير بعد هروب القاتل
الجبان. ماليون مراقب
خطوط سكك حديدية تربط ميناءً مجدباً بوسط مدينة تعيش فيها أشباح كائنات
تعاني
اقصاءات لا تُفهم أصولها. يصرف جُل وقته في برج مراقبة يطل على حواف
المدينة
الساحلية. ذات ليلة، يشاهد رجلين يتقابضان على حقيبة. يغرق
أحدهما، وهو اللندني
الذي كان مكلّفاً بنقل المال الى عميل يهرب بعد محاولته الفاشلة في السرقة.
وتحت
جنح الظلام، يفلح الرجل المعزول بالحصول على الحقيبة، لتخطفه أوراق
الجنيهات
الإسترلينية الدسمة العدد.
المال
هل هذه
الغنيمة مفتاح غناه وعائلته، أم
بادرة شر؟ ماليون ليس في أفضل حالاته، إذ تشهد أيامه الكئيبة خصومات مذلّة
بينه
وزوجته (الممثلة البريطانية تيلدا سونتون) ومحاصراته العنيفة لإبنته التي
تعمل
مساعدة في محل بقالة، فارضاً عليها ترك وظيفتها. فظنّه أن
المال الذي أخفاه كفيل
بعزّة نفس متأخرة (يُرضيها بشراء معطف من الفرو). هذا الجانب المغلق في
حياته يدفعه
الى انكفاء سادي يراد منه الحصانة من شكوك الآخرين الذين
استنفروا لمعرفة مصير
المال المفقود. ومثلما هي الصدفة التي دفعته إلى قطف الثمرة المحرمة، فإنها
توقع به
في
خطأ الشاطر الذي يقود المحقّق موريسون الى الاشتباه فيه. وحده اعتصام
القاتل
الحقيقي في كوخ مولين وموته الغامض يُطهّره من ورطته، ويعيد
المال الى رجل القانون.
لاحقاً، يكافئه الأخير بعطية مالية وغفران زوجة القاتل.
«اللندني»، كاقتباس
سينمائي، لا يمت بصلة إلى أجواء رواية الكاتب جورج سيمنون، بقدر ما هو
اشتغال صرف
لبيلا تار. فالأجواء القاتمة وظلالية الشخصيات تُفَخّم بالتطويل الزمني
للمشهديات
(135
دقيقة)، وهي صنعة المخرج التي ميزت أعماله السابقة «عش عائلي»
(1977) و«تانغو
الشيطان» (1994) وعمله الأخّاذ «إيقاعات فركمايستر» (2000). ينأى تار بعمله
عن
تقليدية الصبغة البوليسية، وبدلا منها يصوغه بمزاج نادر الإيقاع وفرادة
تصوير
(إنجاز مدير التصوير الألماني فرد كليمن)، ما يجعل منه مخرجاً نخبوياً
بامتياز.
(كان)
السفير اللبنانية
في 28 مايو 2007
|