"تحاليم" الاسرائيلي، الدخيل على
المسابقة الرسميّة، بحسب تقويمنا السينمائي له، لا السياسي أو العقائدي،
أثار سخط
النقّاد الذين كانوا تحمسوا الى الافلام الاخرى التي تتسابق
الى "السعفة". بدا
واضحاً أن الشريط المتقوقع في نسق مشهدي بليد، اختير لاعتبارات لا علاقة
لها
بالجماليات البصرية. لا نريد اتهام أحد، لكن الفرق بينه وبين أفلام
المسابقة الاخرى
كان شاسعاً، الى حدّ ان ذلك أثار شكوكاً، فجرح "تحاليم" الأفلام المشاركة
معه في
المسابقة، وجاء بمنزلة اهانة لها. يصوّر الفيلم عائلة يهودية
في القدس تعيش حياة
هانئة، ولا شيء يميّزها عن غيرها، الا ان الأب يختفي عن الأنظار جراء
تعرّضه لحادث
سيارة، ويحاول أفراد العائلة مواجهة هذه المحنة، ومحاولة تقبل فكرة غيابه.
يلجأ
البالغون إلى الصلاة أو إلى الصمت، أما الطفلان مناحيم وديفيد
فيحاولان على
طريقتهما العثور على أبيهما، وتالياً يفتحان ذراعي الفيلم أمام أنواع
التأملات
والمطوّلات غير المجدية. غنيّ عن القول ان "تحاليم" لم يجد من يصفق له!
هو
الفيلم الثاني، بعد "آفانيم"، يصوّره رافايل نادجاري في إسرائيل عن اليهود
الشرق
أوسطيين.
هذا السينمائي المرسيلي يتمتع بطابع رحّال وفضوليّ، إذ كان انجز أفلاماً
في
الولايات المتحدة، دار معظمها على عائلات يهودية من أوروبا الشرقية، ولا
سيما في
"شقة رقم 5 ج" الذي اعتمد على منفيين إسرائيليين في الولايات
المتحدة. في جديده،
يحاول نادجاري اقحام خصوصيات جماعة الاشكيناز، الأكثر انتماء إلى القارة
الأوروبية
-
اليهودية، نقطة ضعف الفيلم وقوّته في آن واحد. يدّعي نادجاري انه يحاول أن
يفهم
الطابع
المتعدد الميزة لهذه الديانة، ليس من خلال الانتماءات الإثنية، بل من خلال
كيفية ممارسة اليهود طقوس ديانتهم: شخوصه يتبعون الأرثوذكسية الحديثة
الخاصة
بإسرائيل، والتي تراوح بين التقاليد الصارمة واندراج إسرائيل
ضمن خانة الدول
المتقدمة. اليهودية بالنسبة الى نادجاري ليست الحلّ، وهي لا تفرض على
اليهود التزام
ديانتهم وممارسة طقوسها فحسب، بل عليهم أيضاً أن يتمتعوا
بالذكاء، وهذه هي المفارقة
في
ذاتها، وهذا هو جوهر الديانة اليهودية، بحسب نادجاري. لكن هذا الخطاب ينعكس
في
الفيلم على نحو يبعث على الملل واللامبالاة. فهذه "المزامير" (ترجمة كلمة
تحاليم)
عبارة عن مجموعة نصوص منسوبة الى داود الذي يرافق اليهود يومياً. اذاً،
مجمل العمل
لا
يستحق المشاهدة. مدّعٍ في طرحه، ساذج في مقاربته للواقع الاسرائيلي، ونأمل
أن
يكون سقط سهواً في الاختيار الرسمي لهذه الدورة التي تحمل في برمجتها
اعمالاً نادرة
وحقيقية، لتبرئة المدير الفني للمهرجان من كل اتهام. ما عدا
التصوير، لا شيء يلفت
في
الفيلم.
خلافاً
لنادجاري، يصنع المخرج الفرنسي باربت شرودر حدثاً سينمائياً
بالغاً، بتقديم أحدث أفلامه "محامي الارهاب" ("نظرة ما"). هو الذي لم يتوقف
يوماً
عن
إخراج الوثائقيات، الى جانب اعماله الروائية المتنوعة، واشهرها "الجنرال
عيدي
أمين دادا"، يؤمن بالآتي: "كل فيلم عظيم هو فيلم وثائقي"، وها هو يؤكد
نظريته في
هذا
الشريط المصنوع صناعة متكاملة، ويتكلم عن جاك فيرغيس، المحامي الشهير الذي
يشبه
شخصية الروايات والمعروف بدفاعه عن كلاوس باربي والقضية الفلسطينية، وتصديه
للامبريالية واسرائيل. أسئلة كثيرة يطرحها شرودر في شأن هذا
الرجل: هل هو شخصية
تاريخية أم أنه محتال كبير؟ مذنب بريء أم بريء مذنب؟ علاقة وثيقة تربط
شرودر
بفيرغيس، إذ أمضيا معاً بعض سنوات العمر، وتشاركا الذكريات السياسية. حين
كان في
الخامسة عشرة من عمره، اتبع المسار السياسي ذاته الذي اتبعه فيرغيس. "كنت
أصغره
بـ20 عاماً، وكنت أنتمي إلى الحركة الشيوعية برغم أن الشيوعيين
لم يرغبوا في أن
ألتحق بصفوفهم، ثم تخليت عن هذا الحزب، وانتقلت إلى الجزائر موجهاً
الإنتقادات الى
الشيوعيين الذين لا يؤدون واجبهم على أكمل وجه، واتخذ فيرغيس الخطوة ذاتها،
وكنت
اتتبع خطواته وأصغي الى إرشاداته، إذ كنت معجباً به. لاحقاً،
لم أتمكن من إدراك
الدوافع وراء تصرفات فيرغيس، لكني لطالما رغبت في التعرّف الى هذا الرجل
الذي كنت
اعتبره محبّاً للفن، منحرفاً ومنحطاً أخلاقياً. خلال تصوير فيلم "قضية فون
بولو"،
أثار المحامي آلان ديرشوفيتش (ادعى أنه مستعد أيضاً للدفاع عن
هتلر) فضولي حين
أخبرني أنه كثير الاعجاب بالشخص الذي حدد "استراتيجيا الانفصال".
لا شك في
أن ما
حض شرودر على انجاز فيلم عن فيرغيس، اعتباره في البدء بطلاً من
الأبطال، لكنه سرعان
ما
تحوّل لغزاً لا يبعث على المرح في النفوس. وبما أن شرودر لا يحبّ الوحوش،
فلن
يكون صعب الارضاء! لعل أكثر ما أثار إعجابه في المشروع، تمكّنه من انتاج
فيلم يدور
موضوعه حول التاريخ المعاصر في العالم خلال الخمسين عاماً
الأخيرة، أي الأعوام التي
تلت سنواته الثلاث عشرة. لا يتغاضى الفيلم عن النضال السياسي الخاص بشرودر،
ملقياً
نظرة على التجارب التي مرّ بها. لكن نظرته إلى هذه الأمور، اختلفت في الوقت
الراهن.
فالعمليات الارهابية المنتشرة خلال الخمسين عاماً الأخيرة تسمح بحسب رأيه
في تكوين
وجهات نظر
مختلفة، ووجهة النظر هي اساس كل فيلم وثائقي.
لا يرغب
شرودر في أن
تكون العلاقة بين ما يريد قوله وما يظهر على الشاشة، وثيقة.
لذا فإن جلّ ما يتضمنه
شريطه هو تلميحات ومعان باطنية تدخل الى صميم الصورة. فحين
يتحدث شرودر عن الحبّ،
يشير ضمنياً إلى الإرهاب، وحين يتحدث عن الإرهاب، يلمّح أحياناً إلى قصة
حبّ. يهوى
شرودر هذه التلميحات، وعلى قاعدتها يبني فيلمه الجديد الذي يندرج أيضاً في
اطار
الأفلام البوليسية، إذ كان المخرج التحري الأبرز، يجري
التحريات والمقابلات مزوّداً
آلة تصوير صغيرة عالية الدقة. اليوم، كلّ ما يريده شرودر هو أن يكتسب
الفيلم شهرة
واسعة، فيُعرف كفيلم بوليسي أو جاسوسي.
أفلام
كثيرة لا تزال تعرض على وتيرة
متسارعة
في كانّ، رغم ان ثمة ألواناً باهتة تخيّم في سماء المهرجان، في انتظار طقس
أكثر حرارة ودفئاً في الصالات المظلمة. الاختيار الرسمي ليس السبب، انما
عدم قدرة
الافلام على توليد الصخب الذي كان يولده المهرجان في الدورات
السابقة. حتى فيلم مثل
"سيكو"
لمايكل مور (خارج المسابقة) الذي يذهب ابعد مما ذهب اليه "فهرنهايت 11/9"،
لم يعد له مكان في المهرجان الذي يبدو انه ملّ الفضائح
السياسية، فصار يتجه الى
الفرد وصراعاته الصغيرة. في المقابل، لاقى الفيلمان اللبنانيان المعروضان
في اطار
"اسبوعَي
المخرجين" استحساناً كبيراً من الجمهور. فلم يتوقف التصفيق لـ"سكّر بنات"
لنادين لبكي الا بعدما استمرّ نحو خمس دقائق، أما "الرجل
الضائع" لدانيال عربيد،
فحظي باستقبال مماثل، رغم ان العملين يختلفان أحدهما عن الآخر، أخراجاً،
وروحاً،
ونبرة. ويكمن الاختلاف في ان الاولّ يحمل كل مقوّمات الفيلم الشعبي، من دون
أن تلحق
هذه الصفة الاذى به، في حين أن من الصعب أن يحظى الثاني بجمهور
له في بيروت، علماً
انه في حال عرضه، فستطير منه مشاهد ايروتيكية كثيرة. ولنا عودة مفصلة الى
هذين
الفيلمين.
ضمن قسم
"نظرة ما"، شاهدنا كذلك آخر أفلام السينمائي التايواني
الكبير هو - سياو سيين، "رحلة الطابة الحمراء"، المنطلق من حجة اسمها سيمون.
طفل في
السابعة، أمّه سوزان ملأى بالمشاغل، كونها تعرض مسرحيات دمى
متحرّكة، وتعطي دروساً
في
الجامعة، وتربي ولديها الإثنين بمفردها، فلا يتسنى لها وقت للراحة. حاضنة
سيمون
من
أصل تايواني، تأخذ دروساً في السينما في باريس. يمضي سيمون أوقاتاً طويلة
برفقة
سونغ فونغ، لدى عودته من المدرسة، وينزهه عبر الطرق والمقاهي
في الجوار، ويعلّمه
كيف يلعب "الفليبرز". يرافق سيمون أيضاً صديق غريب الأطوار، يتبعه أينما
حلّ ولا
يرى سواه. "صديق" هو بالون أحمر يطير فوق سطوح مدينة باريس.
غرابة هذا الفيلم
تتجاوز كلّ حدّ. أما "حلم الليلة السابقة" لفاليريا - بروني تيديسكي، فمن
نوع
الكوميديا الغارقة في المسلّمات. تؤدي نتالي بيتروفونا دوراً
فيه، وهي أدّت سابقاً
دوراً في مسرحية "شهر في المزرعة" للروائي تورغينياف. تسعى مارسيلين إلى
القضاء على
همومها وهي تستحم في حوض للسباحة، مصغية إلى أغان من تأليف
غلين ميلير، لكن ذلك لا
يجدي نفعاً، فهي في الأربعين من عمرها لا محالة، وليس في إمكانها انجاب
الأولاد.
المهرجان،
في الاقسام المحاذية للمسابقة الرسمية، هو ايضاً مكان لاكتشاف مواهب
فتية ستلمع منها اسماء المستقبل، واعمال تندر مشاهدتها في كل مكان وزمان.
من هذه
الاكتشافات "سارق الاحصنة" لميشا والد ("اسبوع النقاد") الذي
أخرج أفلاماً قصيرة
منها "آليس وأنا" الذي حاز جائزة "خط السكة الذهب" خلال الأسبوع الدولي
الثالث
والأربعين للنقد السينمائي (كما حصل على 40 جائزة أخرى من أنحاء العالم).
تدور
حوادث "سارق الاحصنة" عام 1856. أربعة شبان يكافحون للبقاء على
قيد الحياة، ويلجأ
جاكوب إلى القوقاز برفقة أخيه فلاديمير، لكن رومان وإلياس يسرقان الأحصنة،
ومن
بينها حصان جاكوب. خلال عملية السرقة، يقتَل فلاديمير، فيرى جاكوب أن لا
بدّ أن
يأخذ بثأره، فتبدأ عملية المطاردة العنيفة. "فونوك"، هو الفيلم
الآخر المعروض في
"اسبوع
النقّاد"، الذي يستحق أن نلقي عليه نظرة. يصوّر دايهاشي يوشيدا تغيرات في
نمط حياة عائلة مفككة الأواصر خلال فصل الصيف، حيث يتعرض
أفرادها لحوادث مسببة
للأذى، ويدخلون في صراعات داخلية، ويمرّون بتجارب مرعبة، وتنشب بينهم
خلافات تؤدي
إلى اهراق الدماء.
النهار اللبنانية
في 25 مايو 2007
|