عرض
مهرجان كان الستون فيلما صغيرا عذبا في الصباح بعنوان 'أول قبلة '، للمخرج
الأميركي
جوس فان سانت/ قبل أن يعرض فيلمه 'بارنويد بارك' في المسابقة
الرسمية، ويصور 'أول
قبلة' الذي عرض أيضا في فيلم 'لكل سينماه'، بمناسبة احتفال المهرجان بعيد
ميلاده
الستيني، بمشاركة يوسف شاهين وايليا سليمان وآخرين من ألمع نجوم الإخراج في
السينما
العالمية ـ يصور السينما كما يتمثلها المخرج الأميركي جوس فان
سانت 'فيل'، ويحكي عن
علاقتنا بعالم السينما الساحر، كمدرسة للحياة والحب، اذ يصور الفيلم الذي
يستغرق
عرضه ثلاث دقائق، يصور شابا صغيرا من المراهقين داخل كابينة العرض، وبعد
إعداد
الشريط وفحصه على المافيولا، يقوم بوضع الفيلم في ماكينة
العرض، ويشاهد في تجربة
العرض على الشاشة الكبيرة أول مشهد في الفيلم، وهو لقطة بانورامية للبحر
الأزرق
اللازوردي الذي يستولي على روحك بجمال مياهه الزرقاء الصافية، التي تلمع
تحت سطوة
الضوء، تلمع مثل حبات الماس النادرة، ونستمع ونحن نتأمل في ذلك
المنظر الطبيعي
الساحر إلى صوت الأمواج، وعصفور عذب يشدو، مع جوقة من العصافير عصفور يصوصو،
وكأنه
يدعونا فورا إلى الدخول إلى حضن المياه، والتواصل الحسي الجسماني مع
الطبيعة، وأصل
الحياة، فيخرج الشاب المراهق الشاطر حسن من كابينة العرض إلى
الصالة الفارغة، ويصعد
على خشبة المسرح، ثم يقترب من الشاشة، حين تظهر فجأة شابة شقراء، تصعد من
قلب
المياه وكأنها حورية من حوريات البحر الغميق، وهي ترتدي لباس بحر يكشف عن
مفاتنها
وتدعو الشاب أن تعال، فيخلع ملابسه، ويدلف إلى شاشة العرض،
ويحتضن تلك الحورية
الشقراء وكأنها بجمالها إلهة من آلهة الأوليمب، وقد هبطت في التو من الجنة،
ويطبع
على شفتيها قبلة طويلة وهكذا ينتهي فيلم جوس فان سانت الصغير، قبل أن يبدأ
عرض
فيمله الثاني الكبير'بارنويد بارك' المشارك في مسابقة
المهرجان، الذي نرشحه هنا،
وبعد انقضاء خمسة أيام على بداية المهرجان، للحصول على جائزة السعفة
الذهبية،
وسنشرح هنا بعد أن شاهدنا أفلام المسابقة لماذا؟
سينما
خالصة
اعتبر أن
فيلم
'بارنويد بارك' هو أفضل أفلام المسابقة قاطبة، وأقربها إلى السينما الخالصة
التي
يصنعها
جوس فان سانت، فهو امتداد من ناحيتي الشكل والموضوع لفيلمه العذب الأثير
'فيل'
الذي حصل به على 'سعفة كان الذهبية' حيث يبدأ 'بارانويد بارك' من حيث انتهى
'فيل'،
ويعود فيه جوس فان سانت إلى جيل المراهقين في أميركا من جديد، ليحكي عن
مشكلتهم وغربتهم وتعاستهم، لا في قلب الكلية والمعهد كما فعل من خلال مذبحة
كولومباين الشهيرة التي حكى عنها في فيلمه 'فيل' بل في قلب
الحياة الأسرية
الأميركية المفككة ذاتها الآن، كصورة مصغرة للمجتمع الأميركي الكبير، التي
يعاني
هؤلاء المراهقين بؤسها وانحطاطها على جميع المستويات.
ويصور جوس
فان سانت من
خلال مشكلة الصبي المراهق في الفيلم الذي يعيش مع عمه، ويخيل
الي أن بطل الفيلم
الشاب هو الطفل الصغير الذي كان يمرح ويلهو بدراجته، في ذلك الفندق المرعب
المسكون
بالأشباح فيلم 'شايننغ' للمخرج الأميركي الكبير ستانلي كوبريك.
عش
المحرومين
لكنه كبر
الآن، وأصبح المراهق الأميركي اليكس وعمره 16 سنة الذي يحكي
عنه الفيلم، ولا نعرف لماذا يبدو في الفيلم غائبا عن الحياة، كأنه فراشة
بريئة تحلق
بعيدا عن هموم الحاضر وكوابيسه، وعليه أن يهتم بشقيقه بعد أن
هجر الأب الأسرة،
وصارت الأم تعاني من مكالماته ومضايقاته، لمناقشة تفاصيل عملية الطلاق كل
لحظة على
التلفون، ويترك اليكس لحاله، حيث تغتصبه صديقته جنيفر في
الفيلم، و تراوده رغبة
فجأة في أن يسطو على قطار، حين يتردد ولأول مرة على ذلك، ذلك المنتزه في 'بارانويد
بارك'، وهو ملعب إسفلتي يتجمع فيه المراهقون والهامشيون
واللصوص للتزحلق على
الإسفلت بعجلاتهم، وصار بمرور الوقت مثل حي مثالي للمنبوذين، الذين يعيشون
على هامش
مجتمعات الاستهلاك الأميركية الفردية الأنانية، التي فقدت الروح في مدينة
بورتلاند،
و'عشا للدبابير' والصعاليك الفقراء الغجر، الذين لا يلاقون سوى
الإهمال واللامبالاة
والبؤس في أميركا بورتلاند.
ولم يكن
أليكس يشعر وفي أي وقت انه بحاجة إلى هذا
العالم، او انه ينتمي اليه وعلى استعداد لملاقاته، كان يسمع عن ذلك العالم
في
بارنويد بارك، لكنه لم يكن مستعدا بعد لمواجهته، غير أنه لسوء حظه، وفي أول
مواجهة
له مع ذلك العالم 'الهامشي'، يتعرف على عصابة من المراهقين
الصغار، وحين يستقل
القطار معهم، ويطاردهم احد الحراس، ويروح أثناء سير القطار ينهال ضربا على
اليكس،
فيدفعه بيده بعيدا، فإذا بالحارس يسقط على شريط القطار، ويدهسه القطار
القادم من
الاتجاه الآخر، ويشطره إلى نصفين.
وفي مشهد
من أكثر المشاهد رعبا في أفلام
المهرجان، يتقدم الحارس وهو يزحف بنصفه الأعلى بعد ان شطره القطار الى
نصفين، يتقدم
باتجاه اليكس، ويعاتبه على فعلته بنظراته، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة
ويموت وتصبح
مشكلة أليكس الآن كيف يتخلص من عقدة الذنب، بسبب الجريمة التي
ارتكبها؟ او تلك
الحادثة التي وقعت له، حين تنصحه صديقته الجديدة، أن يحكي لشخص ما أو صديقا
عن
مشكلته،
لكن أحدا لا ولن يهتم بأليكس، وحياة أليكس، ولا بمشاكل الضياع
والغربة التي
يعانيها الصغار من أمثاله في مجتمعات المدن الأميركية الحديثة، ومدن
العشوائيات
وضواحي العزلة.
تواصل
ووساطة
منتزه
بارنويد فيلم روائي بسيط، او هكذا يبدو في
الظاهر، ويحكي عن مشكلة مراهق في أميركا ومشكلة انعدام أو غياب التواصل بين
الأجيال، بل ويحكي أيضا عن مشكلة التواصل حتى داخل الجيل الواحد أي مابين
الصغار
أنفسهم داخل الجيل الواحد، ويكشف من خلال حالة اليكس عن أن
هؤلاء الصغار قد تركوا
لحالهم، ولن يهتم أحد بأمرهم، وعليهم أن يكبروا بمعرفتهم في عالم من
الجريمة
والطلاق والنرجسية والعنف لا يرحم، كما يحكي عن أشياء أخرى كثيرة وممارسات،
لكن من
دون خطابة او استعراض عضلات إخراجية مبهرة، إذ يبدو كل شيء
بسيطا وجميلا كأنه لا
يوجد 'ميزانسين' في الفيلم بالمرة، لكن 'بارانويد بارك' في رأينا هو 'قمة'
في
الميزانسين والإخراج، اذ يخلص مخرجنا الأميركي فيلمه مثل 'اللوز المقشر' من
كل ما
هو غير ضروري وغير عضوي لتطور 'الحدث' بشكل مقنع وطبيعي ،
ويحول كل مشهد وكل لقطة
الى عواطف ومشاعر وأحاسيس تسكننا، فتجعلنا نعيش مع أليكس محنته، ونتعاطف
معه، ونرأف
بحاله، كما لو كان ابننا ونتأسى لضياعه، بل إن مخرجنا جوس فان سانت يعود
ليحكي عن
الحدث الواحد من عدة زوايا, حيث نرى في احد المشاهد أليكس يزحف
في غرفة الصالون،
وهو يريد أن يخفي شيئا بعد ان شاهده احدهم في الخارج، ولا نعرف ماذا يخفي،
ثم نعود
إلى اللقطة نفسها في وقت لاحق، لندرك انه كان يريد أن يخفي ويتخلص من
الملابس التي
كان يرتديها وقت الحادث، وهكذا يجري تجميع مشاهد الفيلم كما
عودنا جوس فان سانت
بطريقة 'الموزاييك'، فنحن نشاهد اليكس في حديقة وهو يكتب رسالة، لكننا لا
نعرف فحوى
تلك الرسالة ومضمونها إلا في نهاية الفيلم، حيث يخط اليكس ويكتب فيها ـ
عملا بنصيحة
صديقته ـ المشكلة التي تؤرق ضميره ـ عقدة الذنب ـ ثم يقوم
بإحراقها، فعالم أليكس
بلا صديق ولا حبيب.
روائي
وتسجيلي
ويقدم لنا
جو فان سانت فيلمه بأسلوب يعتمد
على الصورة وزاوية التصوير ودلالتها، أكثر من اعتماده على الحوار والكلام
في ماعدا
ما هو ضروري، فيقترب هكذا بفيلمه من أسلوب أفلام المخرج
الدانمركي الكبير كارل
دراير، ويذكرك بأسلوب الفرنسي روبير بريسون التقشفي في افلام بلا نجوم،
وتعتمد على
ممثلين من غير المحترفين، ويطبع ذلك الفيلم ببصمته في الإخراج، ويرفق
الصورة بشريط
صوت رائع بديع ساحر ومخيف، يصل إلى قمته ويتوهج بالفيلم في
المشهد الذي يغتسل فيه
أليكس في الحمام لكي يتطهر من فعلته، بعد ان كان السبب في موت الحارس الذي
شطره
القطار الى نصفين في فيلم يقترب كثيرا من روح فلسفة الزن وروحانيات الطوائف
الصوفية، حيث لا تصبح السينما سوى هما للتواصل مع المطلق،
والتوحد بكل العناصر، من
دون تحليات في العمل الفني او شخاليل كما في جل أفلامنا العربية التجارية
لزوم
التجميل والماكياج والبهرجة، كما يمزج جوس فان سانت في فيلمه بين 'الروائي'
عبر
حكاية أليكس و'التسجيلي' في مشاهد بارانويد بارك 'عش
المحرومين' فيصبغ الفيلم بصبغة
تسجيلية أثيرة تقربه من أعمال سينما الواقع التي تقترب من نبض عصرنا، ولكل
الأسباب
التي ذكرنا نرشح فيلم 'بارنويد بارك' للحصول على سعفة كان الذهبية، ونعتبره
'تحفة'
سينمائية ببساطته وجماله وأسلوبه، وجدير بالمشاهدة والاقتناء عن جدارة وسوف
نتوقف
عند أبرز أفلام المهرجان قريبا على صفحات 'القبس'.
القبس الكويتية
في 24 مايو 2007
|