كتبوا في السينما

سينماتك

من عروض الدورة الستين لمهرجان كان السينمائي:

مخرج روماني يقارب الاجهاض بدلالات السياسة والنفي الروسي يمتحن الظنون الشخصية و لا موطن للرجال العجائز يدفع بالوحشية الامريكية الي منتهاها

زياد الخزاعي

مهرجان كان الـ 60

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

في دورة ماضية، رفضت ادارة مهرجان كان السينمائي بقيادة رئيسه النافذ جيل جاكوب فيلماً للمخرج البريطاني المعروف مايك لي صاحب اسرار واكاذيب و عاري مبررة الامر بان موضوعه ثقيل الدلالات علي احتفالية تهتم بالحياة وبشرها وعطائهم، متهمة احد اهم صناع الفيلم في بريطانيا انه قارب حكاية تروج لفعل غير محبذ يتمثل في تجارة بطلته الام في اجهاض النساء اللواتي ارتكبن آثامهن في غياب ازواجهن او اصدقائهن الذين توجهوا الي جبهات القتال خلال الحرب العالمية الثانية في شريطه فيرا ديريك مسقطة اياه من قائمة الانضمام الي تنافسات السعفة الذهبية. لاحقاً انتقم (مايك لي) من عصبة (كان) حينما وقف علي منصة احتفال مهرجان البندقية الايطالي شاكراً اياهم علي ذلك الرفض وهو يرفع اسداً ذهبياً ليكون فيلمه المتوج الاكبر في جزيرة الليدو.

في الدورة الستين، بدا ان قيادة مهرجان كان تداركت حكاية المخرج لي، وفاجأت النقاد والصحافيين بشريط قوي بحكايته قادم من رومانيا لمخرج شاب يدعي كريستيان مونجيو (ولد عام 1968، وحقق اول اعماله عام 2002) اربعة اشهر وثلاثة اسابيع ويومان قارب فيه موضوعة الاجهاض بشكل مباشر وحملت مشاهده تفاصيل صادمة. للوهلة الاولي تبدو حكاية الصديقتين الطالبتين اوتيليا (اداء ساطع من اناماريا مارينشا) وغابيتا (الممثلة لورا فاسيليو) وكأنها صراع شخصي ضد الفضيحة وملابساتها، بيد ان المشاهد الحصيف سيجد تأويلاً مسيساً لحالة البلاد التي كانت تُحكم من قبل سلطة توتاليتارية مستبدة، عملت علي مدي طويل علي اقصاء الفرد واجتهاداته لصالح الحزب ومصالحه. ان اجهاض غابيتا هو في رؤية المخرج مونجو ضرورة تاريخية لانهاء حكم ولّده قدر سياسي مفروض من قوة قاهرة (في حالة بطلته جسدها ونظامه البايولوجي). وما دلالة انضمامهن الي القوة الطالبية في احد معاهد بوخارست سوي الاستكمال الطبيعي الذي سيبرر السرعة التي اتخذن فيها قرار اسقاط الطفل غير الشرعي. ان وعيهن وثقافتهن تجعلهن في موقع قيادي لاقرار شطب الخطأ، اما كيفية تحقيقه فسيضعه مونجيو في شرطه القاسي علي اعتبار ان اي تغيير سيتطلب تضحية مؤلمة، لن تواجهها الفتاة المخطئة بل اوتيليا كونها الشخصية العقلانية التي سيكون عليها ترتيب خلية سرية تجري فيها عملية التغيير(او الاسقاط). واذا كانت بطلة البريطاني مايك لي تقوم بعملياتها غير القانونية في المنازل والغرف الخلفية خوفاً من الوقوع في قبضة العقاب مقابل عطايا عينية (معلبات، خبز وغيرها)، فان الطبيب المكلف سينتظر ضحيتيه في سيارة وسط حي فقير خال تقريبا من البشر(وهي لمحات ذكية سنقابلها لاحقاً كمؤشر علي الغربة الاجتماعية والغل الاقتصادي الذي تمارسه سلطات تشاوشيسكو علي رعاياها) وينتهي مع عميلته في غرفة متقشفة في فندق متواضع.

قبل هذا، سنشاهد الفتاتين وهما في قسمهما الداخلي تضعان اللمسات الاخيرة قبل الشروع برحلة الاسقاط. المبلغ اللازم كثمن لدم الجسد الاثم الذي سيزاح، سجائر الانتظار والقلق، الملابس النظيفة من اجل تغطية الجريمة، كل هذه العناصر صغيرة التفاصيل، والتي تبدو انها غير ذات معني، هي في الواقع الدرامي ملامح مشتركة بين البطلتين المتلازمتي القدر والمحنة. مشكلة اوتيليا ان الجريمة تؤلم قلبها قبل ضميرها، اذ اخفت الامر عن خطيبها الشاب رغم شهامته في تأمين مبلغ دين لم يتقصد في معرفة مصيره (وسينتظر حتي المقاطع الاخيرة كي تفضح الشابة ،المكلومة بسرها، نفسها). هل كانت علي خطأ في قرارها القطعي بعدم ضم اخرين الي زمرة الفعل الشاذّ؟ ما سنتابعه في جهد المخرج مونجيو هو الصيرورة الثنائية بين الرفيقتين قبل وبعد التغيير: حين تقابل اوتيليا المتبتلة الاخلاق مع الطبيب المتورط بالتجارة الرابحة، سيحاصرها بشكوكه وتحصنه من الوقوع في فخ غير محسوب العواقب، وعندما يعرف بحنكة التاجر ان لوعتها اكبر من السعر الذي سيطلبه، يكون علي البطلة مواجهة الخيار الاكثر صعوبة. في تلك الغرفة البائسة سيساوم الطبيب علي الدم وعملية اجتراحه، فمالهن شحيح لا يساوي المغامرة وتهديد سمعته بالسجن، فاما زيادته او الغاء المشروع الذي اعددن له بجوارحهن. يكون الثمن بديلاً عن موت الوليد الشهيد، اغتصابها من قبله وعلي فراش العملية ـ الجريمة. وفي الحمام الذي اعتصمت فيه غابيتا سنراها وهي تقعي داخل البانيو لتغسل وسخ ارغامها علي السقطة المجبرة. وهو الاغتسال الوحيد الذي يضمنه مونجيو لمشاهده والذي سيعوض جميع الذنوب اللاحقة. تُجري عملية الاجهاض باكثر الاساليب بدائية، فالجنين لا يستحق القدر الاعم من الانتباه، ناهيك عن الاحساس بالذنب والوجل من القضاء علي حياة بشرية في طور التشكل. تبدو الشابة غابيتا في اقصي عزلتها التي ستتواصل بشبيهتها التي ستواجهها زميلتها حين تتركها في الغرفة بعد اتمام العملية، وتجالس ضيوف اهل خطيبها المجتمعين بعيد ميلاد الام (تورية ضد قتل الجنين). فالشخصيتان اجتمعتا علي اقصاء ثنائي مغطي بكم معتبر من السرية، فهما كائنان تضافر قدرهما في مواجهة اخرين يتملكهم فضول لا حد له.

وتتجلي عزلتهما في المشهد الختامي حيث نراهما جالستين في مطعم الفندق وحيدات واخر ما نسمعه علي لسان البطلة هو امر: دعينا لا نتحدث في الموضوع ابداً كإعلان عن قطيعة مع ماض شرس ومفعم بالالم.

الاقصاء يتجلي ايضا وبرونق بصري اخاذ في شريط المخرج الروسي المميز اندريه زيفياغونتسيف النفي الذي يستكمل فيه ما بدأه قبل اربعة اعوام في رائعته العودة الذي حصد الاسد الذهبي لمهرجان البندقية وكرسه صوتاً مميزاً في السينما الاوروبية. واذا كانت عودة الاب الغامضة الي دارته وصبييه من دون تفسير، فان الحكاية العائلة كلها ستترسم علي الشاشة بتأن درامي يُذكر كثيراً باشتغالات مواطنه اندريه تاركوفسكي (له المرأة و المقتفي وطفولة ايفان ) في اعتماده علي اللقطات الطويلة بطيئة حركة الكاميرا والمونتاج الهاديء، مثلما ضخه العديد من عناصر الطبيعة كالماء والهواء والضياء والنار والتي تستكمل كون ابطاله معدودي العدد. يعود الاب كي يفرض قانونه ويرغم الزوجة الصموتة والصبيين المأخوذين بقوة شخصيته وغموضه وقلة كلامه،علي تطبيق اشتراعاته وقوانينه، انه سلطة بطريركية لا حد لسطوتها، مرغماً ولديه علي مرافقته الي جزيرة نائية تنتهي بموت احد الصبيين. في جديده (عرض ضمن المسابقة الرسمية) سنري اباً من الطينة ذاتها سيرغم زوجته وابنه وابنته الصغيرين (لهذا التقسيم الجنسي الزوجي بعد اجتماعي معني بالموازنة العاطفية بين الاطفال وامهما تحديداً) نفي جماعي الي مسقط رأسه الريفي البعيد والاستقرار في دارة الجد. هل هي حكاية هروب من المدينة الكبيرة نحو حاضنة طبيعية رؤوم؟ للوهلة الاولي يخدعنا زيفياغونتسيف بان القضية لا تتعدي حاجة الاب الي اعتزال قصير يستهدف عودة الحرارة الي علاقة مبتورة العواطف مع الزوجة الصموتة، بيد انه يفاجئنا باعتراف الزوجة الشابة انها حامل بجنين من رجل اخر. هنا تنقلب الادوار، فالزوجة تستمريء منفاها، فيما يري الزوج انه اقصي نفسه مما جعله بعيدا عن تحقيق انتقامه لجرح كرامته، اذ تدور ظنونه حول صديق مقرب من العائلة. وبمساعدة شقيقه الذي سيتعرض الي جلطة قلبية، سيصل البطل الكس (اداء قوي من كوستانتين لافرونينكو) الي مبغاه ليكتشف خطل ظنونه، فالزوجة التي ستموت لاحقاً، انما تحمل في رحمها جنينه الذي لم ترد له القدوم الي عالم سيكون خاليا منها.

قلة عدد الشخصيات وابتسار حوارياتها مكن زيفياغونتسيف (ولد عام 1964 وحقق اول عمل له تلفزيونياً عام 2000) من التركيز علي المحيط البهي من المنفسحات الريفية التي تمثل رعوياتها ضداً درامياً لسوداوية ضغينة الاب الذي لن يحقق راحة باله مطلقاً. عليه سنشاهد كاميرة مدير التصوير الموهوب ميخائيل كريشمان وهي تجول بين عناصر طبيعية وكأنها تعيد اكتشاف كينوناتها البيئية وتدلنا علي السبيل الاسهل في الوقوع بإغراء العودة الي اصل عالمنا الذي ابتعدنا عنه ان لم نصر علي ايذائه بقصدية وحشية. يحملنا النفي مسؤولية تسرعنا في اتخاذ قراراتنا التي هي في الغالب تعسفية وغير منصفة، وحينما نلهث من اجل تصحيحها يكون الاوان قد فات، فيما الحياة ماضية في دورتها الازلية التي لا ترحم او تنتظر. ألكس ليس بشخصية غبية او بلهاء وانما تعاني من عزلة داخلية قاسية الوقع لا تجد بدا سوي التفجر نحو الخارج واصابة الاقربين بنيرانها. انها صنيعة الظن الفاسد الذي سينتظر من عناصر طبيعة الريف البكر ان تعيد تكوّن خيرها الداخلي الامر الذي سيفسر قراره السليم بالاستقرار مع صغيريه الي الابد. ان التطويل (ساعتين ونصف الساعة) الذي تغلف به ايقاع الشريط الاسر هو اختيار صائب يتماشي مع سكون المحيط ورتابته الكفيلتين بجرنا كمتفرجين الي اقصي حدود الاندماج مع مأساة ألكس وزوجته ايفا.

هذه الطبيعة تعود كرّة اخري الي الواجهة السينمائية في شريط الاخوين الامريكيين جول وايتان كوين لا موطن للرجال العجائز الذي اقتبساه عن رواية مواطنهما صاحب جائزة البولتيزر كروماك مكارثي. وهي (الطبيعة) التي ستجعل من البطل الشاب ليولين موس (اداء مفاجيء من جوش برولين) طريد قاتل يمتاز بوحشية لا مثيل في دمويتها. فهذا البطل الذي يمضي جل وقته في براري تكساس متتبعاً اثار الظباء صائداً لها، سيقف بالصدفة امام عدد من الجثث التي صُفيت خلال معركة، وبدا الامر وكأنه اعدامات مقصودة. وهذه ليست الحكاية التي ستقلب موازين حياته بل اكتشافه كمية هائلة من اكياس الكوكايين وحقيبة تحوي علي مليونين من الدولارات اضافة الي شخص في رمقه الاخير يطلب جرعة ماء. لن يلتفت ليولن الي شرطه الانساني بل يعبر انانيته نحو الغنيمة. فبعد عمر قضاه مقاتلاً في غابات فيتنام، يقرع بابه حظ لن يأتي ثانية ابداً. خطأه القاتل يتمثل في عودته الي موقع الجريمة في محاولة لانقاذ ذلك الرجل المغدور، وبدلا من تحقيق حنيته المتأخرة، سيكون في مركز اهتمام القاتل المحترف انتوان تشيكورث (اداء ساحر من الاسباني خافيير بارديم) الساعي الي اعادة الثروة بأي ثمن ولأي مقدار من الدم. من هنا تبدأ محنة ليولن الحقيقية، امانه الشخصي وحياة زوجته الشابة كارلا جين (الاسكوتلندية كيلي ماكدونالد) وحقيبة المليونين التي سيغفل عن احتوائها علي جهاز انذار يرسل ذبذباته الي مستقبل الكتروني يحمله القاتل وتسهل من رصد ضحيته. لعبة القط والفأر الشهيرة تتشكل من رحلات طويلة ستنتهي في مدينة حدودية مع المكسيك تكون مسرح المواجهة الحاسمة: المقاتل العسكري وحنكته للافلات من الموت، وقاتل يستخدم انبوب هواء مضغوط لفتح الابواب الموصدة التي ظن ليولن انه يتحصن خلفها. امام هذه الوحشية المتواصلة يقرر رجل الشرطة بيل (الممثل تومي لي جونز) مطاردة الاثنين عازماً علي حقن الدم الذي لا يني يسفح من دون توقف (سيغدر ايضا بالزوجة الشابة) لكن مهنيته ستغدر به في اللحظة الاخيرة حينما يفلح انتون باغتيال ليولن في غرفة فندق وضيع.

رواية مكارثي تساجل حول خطايا الامريكي، شأن اغلب اعماله المتحاملة علي طبيعة الشر التي يري انها متشربة في الكيان الامريكي المهووس بالسلاح والحروب والدم. ونصه هذا لن يختلف في كمية الرعب الذي يتلبس حكاياته وشخوصها. فالقدر لا يصوغ الكثير من حيوات الشخوص بقدر ما ان عزومهم علي القتل تدفعهم نحو القتل المجاني، اضافة الي الغل في موت الضمير وانسانيته. من هنا لا مفاجأة في عقاب ليولن الذي اصابته لوثة من الجشع، ليضرب صفحاً بالقانون واشتراطاته وحصانته، وحدها كارلاجونز ستدفع رجل الشرطة الي انقاذ بعلها من الموت المحقق، ولكن بعد فوات الاوان. ان الثنائي ليولن ـ انتوان ليس وحيداً في ارتكاب الجريمة، بل يرصد الكاتب مكارثي تورط مؤسسات كبري في المتاجرة وتسهيل تهريب المخدرات واشاعة الموت، عبر شخصية المدير النافذ الذي سيكلف مساعده كارسون ويلز(الممثل وودي هارلسون) بمتابعة السارق والقاتل علي حد سواء قبل ان يدير الاخير فوهة مدفعه الرشاش نحو صدريهما، فهو يظن ان مهمته سماوية الدوافع، كنسية الطابع. انه منظف رذائل واشخاص اصابتهم الخطايا. ومثلما ينجح في مهمته الالوهية، يفلت بسهولة من الموت لتراه سائراً رغم جراحه نحو مهمة اخري وضحايا اخرين.

اشتغال الاخوين كوين هنا يمثل انموذجاً ساطعاً في قوة الاقتباس السينمائي اذ حققا نصاً بصرياً (مع جهد مدير التصوير روجر ديرك) بث حيوية درامية نادرة المثال علي رواية مكارثي. ومع تضخيمهما المتوازن للكيان القاتل يصبح ليولن صنواً له في حيوانية بشرية لا تقف امام مدها توسلات الزوجة التي تقول لقاتلها قبل قليل دفنت امي، فليس قدري ان يكون بهذه الطريقة ليجيبها انتوان انه يسمع الشيء ذاته من كل قتيل قبل ان تخترق رصاصات الغدر قلبه بثوان.

ناقد سينمائي من العراق

القدس العربي في 24 مايو 2007

 

سينماتك