في حين
يؤدي الفيلم التسجيلي “الساعة الحادية عشرة” الى غضب شديد جرّاء ما تسبب به
العلم من خسائر إنسانية يتسبب فيلم “سيكو” لمايكل مور في حالة من الحزن
الشديد على أبرياء سحقت الحرب براءتهم وأعادتهم الى ذويهم مرضى او مشوّهين
نفسياً او جسدياً. المشهد الأخير الذي نرى فيه هؤلاء يُستقبلون من قبل
الكوبيين الذين تصفهم الحكومة الامريكية بأعداء الولايات المتّحدة
لمعالجتهم مجاناً (حتى ولو من أجل البروباجاندا اسأل المُصاب سيقول لك إنه
لا يُمانع) يجعل المرء يشعر بحزن عميق لحال أناس زجّت بهم السياسة بعيداً
عن أوطانهم ثم أعادتهم أشلاء من رحى معارك لا يدركون لم تُحارب ولمَ على
الطرفين أن يخسرا العديد من القتلى والمصابين.
لكن
الفيلم اللبناني، “سكّر نبات”، الذي عرض في اليوم الخامس من المهرجان
(الأحد) بث شعوراً مختلفاً نحن بحاجة إليه أيضاً هو البهجة.
“سكّر
نبات” لنادين لبكي كوميديا اجتماعية منسوجة بحب شديد لشخصياتها (على عكس
“الرجل الضائع” تماماً) وبعيداً عن أن يحكم لها او عليها. كل ما يبغيه
تقديم شرائحه من الشخصيات من دون أن يحمّلها أعباء ستدفع بها الى التميّز
وتوفير العالم الصغير الكبير لهذه الشخصيات ولألفتها والاحتفاء بضرورة
الحب وانتصاره إذا ما استطاع أن ينفذ من الشباك والأقفاص التي عادة ما يجد
نفسه محاطاً بها.
هناك مشهد
في نهاية الفيلم يكثّف شعور البهجة الى آفاق لم يبلغها فيلم لبناني آخر من
قبل: الفتاة المسلمة بين أربع فتيات، ثلاث منهن مسيحيات، يعملن في صالون
حلاقة نسائي، تُزف الى من تحب. وفي الفرح يرقص لها الجميع. وتلتقط الكاميرا
مشهداً لحمامة بيضاء ترتفع عالياً في السماء وتطير.
ليست
الحبكة نوعاً من مشاكل بين الفتيات تنتهي بتحوّلهن الى صداقة بعد عداوة.
الممتاز في الفيلم أن الفتيات بطلات الفيلم كن طوال الوقت صديقات وزميلات
كل منهن تكترث للأخرى. التركيز إنما على المشاغل العاطفية لكل واحدة:
الفتاة التي تخاف أن تكتشف أسرتها إنها وقعت في الخطيئة. الفتاة التي تكتشف
أن الرجل الذي تحب يفضّل عليها فجأة زوجته فتحاول أن تنتقم أولاً ثم تنجح
في تجاهله، والفتاة التي تخاف من التقدّم في السن فتعمد الى محاربته بكل
وسيلة ممكنة، ثم الفتاة التي تشعر أنها مختلفة من حيث الميول العاطفية. ليس
هناك حكم مع أو ضد أي منهن، بل وكما في الحياة ذاتها تتوالى المفارقات
مثل جدول ماء لا يتوقّف ليبرهن عن شيء. إنه الحياة.
تحمّل
عما قريب
ينتقل المذيع الليبرالي المتحرر بِل مار من الشاشة الصغيرة الى الكبيرة
حالما ينتهي العمل على فيلمه الجديد (لا يزال بلا عنوان) الذي يدور حول
ظاهرة التطرّف الديني بين بعض الفئات الأمريكية. لكن إذا ما كان هذا الفيلم
في عداد الخطط المستقبلية فإن الكثير من الأفلام المشتركة في المسابقة او
خارجها سبقت الجهد ليس عبر التحدّث عن التطرّف الديني كمشكلة بل عبر
الاحتفال بالفن السابع من خلال تقديم أعمال مدروسة وجيّدة ولا يمكن نكران
تأثيرها الانفتاحي على الثقافات المتعددة.
التجاوب
الذي حققه “سكّر نبات” واحد من هذه الأفلام، لكن هذا ليس حكراً عليه وحده
بل تتمخّض أفلام المسابقة عن الرغبة في أن يتعامل الفيلم الواحد مع الناس
جميعاً بصرف النظر عن اختلافاتهم. هذا ما يحدث حين نطالع فيلم “تنفّس” الذي
ربما بدا بعيداً عن هذا الموضوع، الا أنه في صميمه منتم إليه جيّداً.
هذا
الفيلم الكوري من إخراج كيم كي دوك يتحدث عن زوجة تكتشف خيانة زوجها الذي
تحمّلت سابقاً حالات مشابهة كما تحمّلت محاولاته الدائمة فرض رأيه وموقفه
على رأيها وموقفها هي. بعد اكتشافها تلك الخيانة، تقرر القيام بشيء غريب:
سجين محكوم عليه بالإعدام حاول الانتحار (يبدأ الفيلم به فعلاً) والزوجة
تتأثر بوضعه الخاص وتقرر أن تزوره في السجن لتهديه بعض الصور وللترفيه عنه
ولعب دور إنساني. هذا الدور الإنساني إذ تتواصل الزيارات يومياً ينقلب
الى دور عاطفي إذ تقع في حبه كما يقع هو في حبّها او بالأحرى يقع في فكرة
أن هناك امرأة تحاول أن تنقذه من مأساته وتحنو عليه.
في نهاية
الفيلم ينجلي المفاد عن أن السجين أنقذ الحياة العائلية شبه المنهارة بين
الزوجين وبل دفع حياته ثمناً لذلك. هذا الإنقاذ تم عن طريق غير مباشر إذ
قرّب بين الزوجين وأدّى بالزوج للتحوّل الى جادة الصواب. من ناحيتها، فإن
انفتاحها على الآخر حتى ولو كان مجرماً يبدو الرسالة الرئيسية لهذا الفيلم
وهي تلتقي وضرورة الانفتاح على الثقافات المختلفة.
دعوات
لكن
الفيلم “الإسرائيلي” “تحيليم” لرفاييل ندجاري يمشي عكس كل هذه التيارات.
الخطير فيه أنه يومئ بالرغبة في تقديم قصّة تتبنّى وجهة نظر الأم المنفتحة
في مسألة عويصة تقع فيها ويعرضها المخرج علينا، لكنه في الحقيقة يروّج
لمفهوم التطرّف اليهودي من حيث يدري او لا يدري.
“تحيليم”
يبدأ بدرس ديني طويل وسبب طوله تأثر المخرج ندجاري بالمخرج “الإسرائيلي”
أيضاً أموس غيتاي، حيث اللقطات الطويلة والكاميرا المحمولة يتعاونان على
إثارة ضجر غير محدود. لكن سريعاً ما تسيطر القصّة التي يستعرضها الفيلم على
الاهتمام. فرب الأسرة الذي نتعرف إليه وهو يدرس التوراة، يتسبب في حادثة
سير بينما كان مع ولديه. يطلب من ابنه الأكبر أن يطلب النجدة لكن حين يعود
الابن بها نكتشف اختفاء الأب. ولن نعرف، طوال الفيلم الى أين اختفى او كيف.
ما سيعالجه الفيلم ليس غموض الاختفاء بل نتيجته على تلك الأسرة. فبعد
اختفائه يزداد تعلّق الابن بالتعاليم الدينية التي يدرّسها له جدّه. هذا
الجد يؤمن بأن الدعاء هو الذي سيعيد المختفي الى الوجود ويطلب من الزوجة أن
تفتح بيتها الى المصلين لهذه الغاية، لكن من بعد أيام تبوح الزوجة أنها
مجهدة وبحاجة الى الراحة ما يغضب الجد. هنا يلوم الصبي أمّه ويبدأ بالتعلق
بأهداب أمل أن تؤدي الصلوات الى عودة أبيه. يسرق بعض مدخرات أمه ويضعها في
كتب يوزّعها مجاناً على الطريق لينال دعوات المارّة. ثم يعود الى البيت حيث
يطلب السماح من أمّه التي تسامحه. ينتهي الفيلم بأفراد العائلة وهي تنتظر
في المحطّة.
الغاية
دعائية. كيفما قلّبت الفيلم بين يديك تجده يؤدي بك الى هذا الاستخلاص. لكن
منهجه راكد. الإثارة فيه معدومة. وأسلوب سرده القائم على تلك الكاميرا
الساردة بتطويل يدعو الى الضجر أكثر من مرّة. لكن إذا ما كان هناك سبب فني
لاستقباله كفيلم متسابق فإنه يعود الى موضوعه وسكينته تلك.
حقائق
وأوهام في عرس
الأفلام
تستطيع،
إذا ما كنت سينمائياً، أن تستغني عن حضور “كان” استغناء تامّاً.
غير
صحيح:
على كل
سينمائي، من أي مكان، التعرّض مرة واحدة على الأقل لتجربة هذا المهرجان.
هناك شبيه له في الحجم وفي السعة (برلين، تورنتو، فانيسيا) لكن ليس له مثيل
فعلي لناحية الزخم والنشاط والجهد المبذول الذي يلبّي الحاجات المختلفة لكل
قاصد، مهما اختلفت هذه الحاجات.
تلعب
السعفة الذهبية لمن يربحها دور المروّج التجاري لذلك المنافسة شديدة عليها.
غير
صحيح:
جائزة
السعفة الذهبية تساعد بالتأكيد، لكن كم من فيلم لم تسعفه السعفة التي
نالها. الجائزة بحد ذاتها قيمة معنوية رفيعة ومهمّة تؤدي الى احتفاء تلقائي
بالمخرج الذي فاز فيلمه بها. لكن على الرغم من شهرتها الا أنها لا تستطيع
تحقيق نقلة تجارية كبيرة لحساب الفيلم. معظم الجمهور حول العالم لا يكترث
كثيراً لها.
النقاد
ولجان التحكيم لا يلتقيان في الموقف حول الأفلام الفائزة.
هذا صحيح
وغير صحيح معاً:
بكلمات
أخرى، ليس هناك من معيار او نظام سائد مع هذا القول او ضدّه. في كثير من
الأحيان صفّق النقاد للأفلام والشخصيات الرابحة، وفي أخرى كثيرة أيضاً
صفّروا واحتجّوا. لكن الصحيح أكثر أن الجميع ينسى سريعاً.
لا يزال
المهرجان أهم تعبير عن حب فرنسا للسينما واحتفاء بها.
صحيح:
ليس هناك
دولة حققت مثل هذا القدر من الاهتمام بالسينما والسينمائيين. والمهرجان ليس
سوى واحد من النشاطات التي تبرهن ذلك. هناك الإنتاجات المشتركة والتمويل
لمخرجين مميّزين (من لبنان ومصر الى تونس والمغرب والجزائر ومن الولايات
المتحدة الى الصين).
غياب
السينما العربية نتيجة مؤامرة أوروبية.
غير
صحيح:
إذا كانت
هناك مؤامرة فهي عربية ضد حرية التعبير والتفكير. لكن المؤامرة تعني أن هذا
يتم في الخفاء، بينما تجاهل السينما من البعض ومحاربتها من البعض الآخر
وتحويلها الى تذكرة لهو عند البعض الثالث هو الذي يؤدي الى حالتها الحاضرة
حيث لا يوجد من بين خمس عشرة دولة أنتجت أفلاماً في حياتها، خمسة عشر
فيلماً جيّداً فعلاً في العام الواحد.
بعد
المشاهدة
·
“سكّر نبات”: فيلم نادين لبكي المليء شغفاً بالحياة والرائع في معالجته
الكوميدية لشخصياته.
·
The 11th Hour:
ما صنعناه بالأرض وبطبيعتها وثرواتها مخيف لكن ما نواصل فعله أكثر من مرعب.
·
The Banishment:
“الصد” هو قمّة تعبيرية شعرية جمالية بموضوع إنساني آسر عن العائلة
المتداعية.
·
Brando:
تسجيلي عن حياة الممثل مارلون براندو من خلال شهادات ممثلين آخرين ومشاهد.
·
Terror Advocate:
باربت شرودر يتعامل وتاريخ حقبة رهيبة من الأحداث عبر مقابلة مع جاك جرفِس.
·
Zodiac:
بوليس سان فرانسيسكو وصحافيين يطاردون قاتلاً بقي مجهولاً الى اليوم.
سجل
المهرجان...
1959
"الأورفيو
الأسود"
فرنسوا
تروفو نال أول جائزة له من “كان” وهي لأفضل مخرج عن فيلم “400 نفحة”
ومواطنته سيمون سينيوريه فازت بجائزة أفضل ممثلة عن دورها في الفيلم
البريطاني “غرفة علوية”. ومجموعة ممثلي “إكراه”، ومنهم أورسن وَلز، نالوا
الجائزة الرجالية في هذا المجال.
فيلم
السعفة: “الأورفيو الأسود” (مارسل كامو فرنسا)
فيلم كامو
يتناول الميثالوجيا اليونانية المعروفة حول أوفوليوس (الأسود) ويوريديس
(البيضاء) ويصنع منها عملاً وُصف بأنه راقٍ فنياً على خلفية كرنفال ريو دي
جينيرو. “ما يشغل العين هو الكاميرا. التمثيل يبقى في خانة متواضعة والقصّة
في الخلفية” حسب أحد النقاد. نال الأوسكار في العام التالي.
1960
“الحياة حلوة”
هذا العام
تنافس اثنان من قمم السينما الإيطالية: فديريكو فيلليني ومايكل أنجلو
أنطونيوني. الكاتب البوليسي جورج سيمنون ترأس لجنة التحكيم التي كان من
ضمنها المخرج الروسي غريغوري كوزنتسف.
فيلم
السعفة: “الحياة الحلوة” (فديريكو فيلليني إيطاليا)
فيلم
العبقري فيلليني يقوم على رحلتين: الأولى للفيلم في حياة بطله مارشيلو (مارشيللو
ماستروياني) والثاني رحلة الإنتهازي مارشيللو نفسه بين شخصيات المجتمع
بحثاً عن الحب والثروة، هذا قبل أن يكتشف أن ليس كل ما يلمع ذهباً. النقاد
أحبّوا مشهد تمثال للسيد المسيح وهو يطير فوق روما محمولاً بطائرة، وما رمز
إليه ذلك، لكن الفيلم هو بصرياً من تلك الأعمال الأخاذة الأولى للمخرج.
أوراق ناقد ... لبنان
وفرنسا
سألت نفسي
وأنا أنظر الى الصفوف الطويلة من الناس الذين تجمّعوا لمشاهدة الفيلم
اللبناني “سكر نبات” لماذا؟ لم يتألّف هذا الجمهور من غالبية من الصحافيين
والنقاد، بل من الجمهور الفرنسي العادي المقبل دوماً في “كان”، على السينما
التي تخاطب الوجدان والعقل وتنقل الى المشاهدين مادة للتفكير وللتفاعل
الثقافي. الجمهور المصطف الذي سريعاً ما ملأ الصالة حين فتحت الأبواب يعلم
أن أفلام قسم “نصف شهر المخرجين” ليست لهوا وتسلية. يعرف أنها للفن
وللثقافة ويقبل عليها. وتساؤلي ليس عن ذلك، بل عن لماذا يحتشد لمشاهدة فيلم
لبناني؟
بعض
الجواب جاء في نهاية الفيلم: عشر دقائق من التصفيق الحاد لمخرجة الفيلم
ولممثلاته. لكن ما لم يجب عليه هذا التصفيق هو حقيقة أن الجمهور أقبل
بغزارة أيضاَ على الفيلم اللبناني الذي سبقه “الرجل الضائع”. صحيح أنه لم
يجد بينه هذا الترحيب، لكن الإقبال كان متساوياً.
هناك
علاقة خاصّة “لبنانية فرنسية” عززتها الثقافة والسياسة: لبنان الذي منح
إستقلاله من فرنسا كثيراً ما استفاد من هذه العلاقة على المستويين
المذكورين، أي ثقافياً وسياسياً.
لا ننسى
أن الإنتاجات اللبنانية في معظمها الغالب، ومنذ بدء الحرب الأهلية والى
اليوم، استندت الى التمويل الفرنسي. وفيلما دانييل عربيد ونادين لبكي
(“الرجل الضائع” و”سكّر نبات” على التوالي) استمرار لما سبق. أفلام سمير
حبشي وبهيج حجيج وبرهان علوية ومارون بغدادي وسواهم الكثيرين اعتمدت على
هذه العلاقة الخاصة حين توجهت الى فرنسا بحثاً عن التمويل. وفرنسا ربما
أكثر بلاد العالم رعاية للثقافة واهتماماً بها. وكلنا نعلم كيف أن الفنانين
السينمائيين حين يغادرون بلادهم هرباً من الدكتاتورية (كما حدث في تشيلي
والأرجنتين) او حين يطلبونها للمساعدة على بلورة مشاريع فنية او ثقافية.
اللبناني
من بين المرضي عنهم وللسبب الذي ذكرناه أعلاه. وكون التمويل فرنسي يجعل
المهرجان الفرنسي “كان” أول المهرجانات التي يتم فيها عرض تلك الأفلام. لا
ننسى أن “كان” وليس أي مهرجان آخر بما فيها المهرجانات العربية، هو الذي
اكتشف الراحل مارون بغدادي وزياد الدويري وسواهما.
حين يحتشد
الفرنسيون ساعة قبل فتح باب الدخول. وحين يملأون المقاعد بأسرع من
مغادرتها، وحين يصفّقون لموهبة لبنانية إنما يقولون: نحن معكم. تحيّة
مشكورة كم كنا نتمنّى لو كانت عربية متبادلة.
الخليج الإماراتية
في 22 مايو 2007
|