منذ فيلم
الافتتاح، "ليالي العنبيّة" (مسابقة رسمية) بدا المهرجان
فاقداً كل طموح للاتيان
بأفلام تستقطب اجماعاً نقدياً حقيقياً، تجسيداً لرسالته المهرجانية السامية
"فرّق
تسد". فمعظم ما رأيناه الى الآن تثار في صدده ردود فعل
متباينة، سلباً أو ايجاباً،
وهذا ما يمنعنا من أن نرى على نحو أوضح الافلام التي ستكون "مدللة" في هذه
الدورة
لتشق طريقها الى "السعفة" خطوة خلف خطوة. فالبعض اعتبر، مثلاً،
ان وانغ كار ــ واي
ضيّع فرصة انجاز فيلم في الولايات المتحدة، لأن الرغبة، اي رغبته، لم تبن
على أرضية
جامدة وثابتة ومتينة، والبعض الآخر وجد فيه امتداداً لاسلوبية تكرست مع "في
مزاج
الحب"، عبر لمسة اخراجية يتعذر تقليدها. ومهما يكن، فما لا
نستطيع انكاره هو ان كار
ــ
واي أراد أن يكون توزيع الادوار لفيلمه خارجا عن المألوف ومثيرا للحيرة،
وها هو
يسلّم رأسه الى شخصيته الاساسية التي ما هي إلا نورا جونز،
التي تخطو خطواتها
الأولى في التمثيل، ومن أجلها وحدها يستحق الفيلم عناء المشاهدة.
هذه
الممثلة
الناشئة التي وصلت الى هنا بالصدفة، كانت مصدر اعجاب العديد من
المراقبين. كانت
جونز، بأدائها المتميز، ملهمة الفيلم، ولولاها لما كان أبصر النور. اقتفى
كار ــ
واي خطى لارس فون ترير (تذكروا بيورك في "راقص في الظلام") في تحويل مغنيّة
نجمة
شاشة. وفي مؤتمرها الصحافي روت جونز كيف أتى كار ـــ واي للبحث
عنها من دون
إعلامها، وعندما التقيا وباح لها برغبته أجابته بأنها في جولة وأنها ليست
ممثلة.
وتابعت القول: "لربما كان يرغب في أن أضيف الى فيلمه الموسيقى؟ سألني إن
كنت أريد
التمثيل. وطرح عليّ بعض الأسئلة، ولكن في تلك المرحلة، لم يكن لديه الا
القليل من
المعلومات. انطلقت إذاً ووثقت به تماماً".
تؤدي جونز
في الفيلم دور شابة جذّابة
تتأهب للذهاب في رحلة استكشاف لن تنساها طوال حياتها بحثاً عن الحبّ
الحقيقي،
وتلتقي هذه البطلة الساحرة العديد من الأشخاص الغريبي الطباع الذين
يساعدونها في
البحث عن مرادها. هذا كله، يصورّه كار ـــ واي بذهنية سينمائية
تجعل منه السينمائي
الآسيوي ما بعد الحداثة الذي لا منازع له. وروى كار ــ واي في كانّ ان
التحدي
الاكبر بالنسبة اليه كمن في التصوير باللغة الانكليزية، وهي ليست لغته
الأم. "على
مرّ السنين، شاهدت أفلاماً عدة عن الصين، لمخرجين أجانب. يثير
ذلك فضولنا دائماً،
لأن الأشياء مطروحة بطريقة غريبة. لذا أردت أن أنجز فيلماً بلغة أخرى،
متجنباً
العقبة التي تحدّثت عنها للتو. عندما كنت أعد الفيلم، كنت دائماً أسأل نورا
وجود
[لو] وجميع الذين يحيطون بي عن آرائهم بما أفعله. أحياناً، كانت أسئلتي غبية
قليلاً،
ولكني كنت بحاجة الى مرجع. على سبيل المثال، القبلة تعني أمراً آخر في
الحضارة الصينية. هناك دلالات دقيقة، وأردت أن أرسل تحية للأميركيين
متجنباً
الأخطاء الذي يرتكبها الآخرون في أفلامهم عن الصين. أظن أن
كلنا نملك ما نتشارك به
مع
الآخرين، بغض النظر عن اعراقنا وثقافاتنا المختلفة. يمكننا مشاركة العواطف،
برغم
اختلاف اللغة". وكشف المخرج الصيني الاشهر في العالم اليوم ان "ليالي
العنبيّة"
مستمد من أفلام قصيرة صورها قبل مدة، وكان قد استخدم سابقاً
فيلماً قصيراً مدته 6
دقائق لينجز "في مزاج الحبّ".
شكّل عرض
"ليالي العنبيّة" في المهرجان حدثاً
هاماً في ذاته وبعدما أحبط شريطه الاسبق "2046" الآمال بعض الشيء، اذ غادر
من كانّ
خالي الوفاض، هل ستسمح له الرومنسية الزائدة واللجوء الى
جمالية منقحة (اضاء الفيلم
مدير التصوير الكبير داريوس خونجي) باقتناص "السعفة"، رغم اننا لا نزال في
بداية
الفعاليات والاعمال الكبيرة، من سوكوروف الى كوستوريتسا، لا
تزال في انتظارنا؟ في
كل
حال عبّر رئيس لجنة التحكيم ستيفن فريرز، الذي بدا مهموماً لاضطراره الى
مشاهدة
هذا القدر من الافلام، بأنه سيستمع للجميع، واعتبر ان مهام اللجنة اقرب الى
الامم
المتحدة، منه الى اعتلاء منصب الرئيس على طريقة طوني بلير أو
نيكولا ساركوزي.
لم يكن
حدث عرض "زودياك" (مسابقة) لديفيد فينتشر، صاحب "سبعة"، أقل أهمية من
فيلم الافتتاح، نظراً لواقعين اساسيين متصلين بالفيلم: الاول،
عودة فينتشر الى
الاخراج بعد خمسة اعوام على شريطه "غرفة الهلع"؛ والثاني، مشاركته الاولى
في كانّ
بفيلم لا يوحي، للوهلة الاولى، بانه يحمل مزايا فنية عميقة.
لكن في نهاية مشاهدتنا
لـ"زودياك"، نخرج بخلاصة فحواها: مهما تكن شوائب الفيلم، فأن غوصه على هذا
النحو في
معالم الفيلم البوليسي، يعيد الاعتبار الى سينمائي سمته
الاساسية انه يتحرش دوماً
بوكر الدبابير، ينام بالقرب من المقابر ليرى احلاماً مزعجة! لكن مما لا شك
فيه هو
انه كبير القيمة والهيبة. في سان فرانسيسكو، آواخر الستينات، يموضع فينتشر
حوادث
"زودياك" ليروي قصة رسّام يعمل في مجلة "سان فرانسيسكو كرونيكل".
يبعث قاتل مجهول
الهوية رسائل تذكر تفاصيل الجرائم الفظيعة التي يرتكبها إلى هذه المجلة،
وتحث هذه
الرسائل المفتش غرايسميث على المضي قدماً في بحوثه سعياً وراء
القاء القبض على هذا
القاتل بالتسلسل.
من كتاب
روبرت غرايسميث اقتبس فينتشر قصة قاتل شغل الكثيرين
طوال اعوام في الولايات المتحدة، وأنزلت به عقوبة صارمة في كاليفورنيا بين
العامين
1966
و1978،
رغم أن المجرم ارتكب جرائمه مكشوف الوجه، ورغم أن صوراً تحدد معالم
وجهه قد خُطّت... رغم هذا كله، لم تعثر الشرطة يوماً على مشتبهين لإثبات
التهمة
عليهم. ارتكب الرجل ما يراوح ما بين 37 و200 جريمة قتل، وهو في
دائرة لا يتجاوز
قطرها الـ200 كلم حول مدينة فرانسيسكو، وكان يثير الفوضى والبلبلة جراء
ارساله
مختلف الرسائل المشفّرة والمحتوية على الرموز اليونانية، ورموز مورس،
والأحرف
الأبجدية، والأبراج الفلكية ورموز السيمافور، والى ما هنالك من
أمور تشغل عقلك على
حساب احساسك.
اذاً، بعد
اثني عشر عاماً على "سبعة" الذي هزّ دنيا السينما، يأتي
فينتشر بشريط مفرط في الواقعية، يستمد قوته من البناء المحكم
لسيناريو يولى الجانب
البسيكولوجي (كالعادة في افلام فينتشر) الاهمية المطلقة. لا مطاردات ولا
اطلاق رصاص
عشوائي ولا مهارات جسمانية للافلات من الخطر. كادرات غنية بتفاصيل بصرية
مدهشة،
ادارة ممثلين حظي باهتمام كبير من جانب المخرج الذي راوده
الشعور ذاته الذي راود
أبطال الرواية الثلاثة الذين لاحقوا القاتل المعروف باسم زودياك، الى حدّ
انه تميّز
في
قدرته على نقل مشاعر الاحباط التي اجتاحتهم. تورّط فينتشر في هذه القضية
بحذافيرها، فتعرّف على طباع القاتل بالتسلسل بمساندة العديد من
المحقّقين، طالباً
منهم تزويده بـ10 آلاف صفحة من التقارير والوثائق، ومجرياً المقابلات مع
الأشخاص
الذين لا يزالون على قيد الحياة، ومع أقارب الضحايا، ومع أفراد عائلة
المشتبه بهم،
ومع المعلم القديم المنحرف جنسياً المتهم بمداعبة الأطفال. عمل
اذاً على الطريقة
الاميركية، لكن النتيجة لم تكن نمطية، بل اعادت مصالحة من كان مستاء من
فيلمه
الاخير "غرفة الهلع" الذي لم يكن في مستوى التوقعات وفق من يبدي تعلقاً
خاصاً
بعوالم فينتشر.
قبل
وصولنا الى كانّ سمعنا عما اصبح يُعرف بالموجة الجديدة
الرومانية. لم يكن هذا التعريف قابلاً للتصديق نظراً لقلة الافلام التي
نشاهدها من
هناك، والعجلة البطيئة لتلك السينما. لذا صنفناه في خانة نزوات
النقّاد الذين
يبحثون عن
اثارة. لكن جاء الشريط الذي أخرجه الروماني كريستيان مونغيو
ليؤكد أن
شيئاً من
هذا القبيل صار ممكناً في رومانيا واصبح جاهزاً للانطلاق في كّل لحظة. ليس
"4
أشهر،
ثلاثة أسابيع، ويومان" (مسابقة) الا مانيفيست جديد لسينما كان يجب أن تأتي
منذ زمن طويل، لكثرة ما توجد هناك حراك فكري واجتماعي وفوران
يستحق ان يكون لها
مكان في الشاشات العالمية، لا المحلية الضيقة فحسب. أختار مونغيو مرحلة ما
قبل سقوط
الشيوعية، وتحديداً عام 1987، لترتيب حوادث الفيلم. غابيتا
حامل وتريد ان تجهض
الجنين. لكن الاجهاض، في ذلك الزمان والمكان، جريمة يعاقب عليها القانون.
لذلك تتم
الاستعانة برجل لاجراء العملية. بيد ان الفتاة وصديقتها أوتيلا التي
ستساعدها في
الخروج من أزمتها، ستواجهان جملة صدمات نفسية يلتقطها مونغيو
بواقعية شديدة
الحساسية تبعث على التذكير بأفلام الاخوين داردين، ولا سيّما فيلمهما "روزيتا"
عن
صعوبة التأقلم مع الحال الاجتماعية الضاغطة.
يحفل
الفيلم باللقطات الطويلة
المتروكة
لمصيرها، ليسرح فيها الممثلون على هواهم، وتنتج من هذه الحال حوارات شائقة
وتمثيل يقارب المسرح لكن يتجاوزه بسرعة عبر الاهتمام الذي يوليه مونغيو
للموارد
السينمائية. سواء عندما يحرّك مخرجنا الموهوب آلة التصوير أو
يثبتها، فهناك دائماً
ما
هو مستجدّ ومثير في كادره. لقطة واحدة لدى مونغيو تعبرّ دائماً عن وضع بلاد
بأكمله وهي مأخوذة باستمرارية زمنية من دون قطع ووصل، والاكثر تعبيراً هو
المشهد
الآتي: تصل صديقة الفتاة الحامل الى فندق حيث تظن انها حجزت
غرفة ستجري فيها
ترتيبات عملية الكورتاج. بعد سجال طويل مع السيدة التي تستقبل الزبائن
يتبين ان
الحجز لم يحصل. في غضون ذلك توضع أمام أعيننا بفضل رد الفعل البغيض للسيدة،
واسلوب
تعاملها البيروقراطي مع الفتاة، وحديثها عن موعد قبض راتبها مع
زميلة لها، (وتفاصيل
أخرى كثيرة) لوحة اجتماعية قاتمة الالوان، ليس فيها الجنين الذي يُرمى في
احد
الامكنة حيث ينبح الكلاب، ضحية كبيرة مقارنة بضحايا الشيوعية.
النهار اللبنانية
في 21 مايو 2007
|