يوجد
المخرج الصيني المميز وونغ كار ـ واي لأبطال حكايته «ليالي
العِنَبية» (افتتح الدورة الستين لمهرجان «كان») أعذارهم في الوقوع بلعب
الحب والصد
والفرقة، ولاحقاً في تجدّد اللقاء والغفران والانتماء الى
الحيز الذي يُحصّنها من
الخيانات والغيرة والحيل. إنهم كائنات تنوس أرواحها بين استعارات الروايات
الكبيرة
وانقلاباتها الأثيرة ودرامية الشخوص الممسرحة. لا يعني هذا أنها مصطنعة، بل
هي
خزائن مزدحمة بهموم الوله والثقة الذاتية التي تحتاج الى كثرة
مفاتيح يملكها آخرون.
إليزابيث (المغنية نورا جونز في أول أدوارها) هي الكينونة الشابة التي
تزوّدنا
بالمرارات
الذاتية، بيد أنها تحتاج الى فعل قاس كي تفجّر ألوان خيباتها، قبل أن
تُعلن طهارتها حين تحاصرها الوحدة والإقصاء. نراها تدلف مقهى في سوهو
نيويورك يديره
شاب إنكليزي يدعى جيرمي (جود لو) هاجر الى أرض الممكنات ليجد
نفسه محتجزاً بين
ساعات عمل مضنية وزبائن يأتون ويذهبون من دون أن يتركوا نفحة إنسانية على
مكانه، ما
عدا مفاتيح شققهم وأماكن سكناهم للأحبّة الذين قرروا التخلّي عنهم. جيرمي
هو نموذج
الهجرات الجماعية التي تغلف تاريخ المدينة المتضخمة، والذي تتقاطع إرادته
المنفية
مع
الشابة التي هجرها الحبيب وخانها مع امرأة أخرى: نشاهدها تقف مقهورة تحت
شباك
شقته المنيرة ممارساً إثمه، كما فعلتها شخصية الغريب (مارتن
سكورسيزي) وهو قابع في
المقعد الخلفي في سيارة أجرة السائق الليلي ترايفس (روبرت دي نيرو) في
«سائق
التاكسي». وكما هو قدر الملتاعين، تترك الشابة مفاتيحها لدى النادل كإشارة
قطيعة
أولية مع حبها الموءود.
تلوّث
الملاك
في هذا
المقطع الافتتاحي، يُمهّد كار
ـ
واي ارتحالات معرفية للبطلة: أولها معاني قيدها الذي فُكت عنه بالصدفة،
وثانيها
افتراضها لحرية غائمة الأفق، وثالثها انتصارها لفرديتها التي ضاعت بين حب
(ظنّته
خالداً في لحظة ضعف) لم يتكلّل بالنهاية السعيدة التقليدية
(ننتظر مئة وإحدى عشرة
دقيقة، مدّة الفيلم، كي تتحقّق ثانية)، وإخلاص شخصي لرجل ظنته مؤتمناً على
مشاعرها
وكرامتها. إليزابيث ملاك تلوثت أردان عاطفته بقسوة الخيانة وسذاجتها في آن.
وما
حاجتها الحقيقية في الوصول الى القرار القطعي سوى الشاب
الإنكليزي الذي يُفجّر
ظنونها عن الحب المخفي في داخلها، ويشحذ شجاعتها في عبور برازخ تردّدها نحو
حرية
موجبة تقودها إلى هجرات أميركية الطابع (أو «ليال»، كما عنوان الفيلم) تجدد
رومانسياتها الأثيرة.
هل
الفقدان المشترك للحب الذي يجمع الشابين في مقهى هو
الكفيل الوحيد لامتحان نوازعهما تجاه بعضيهما؟ لا يريد كار ـ واي أن يتم
الأمر بهذه
البساطة، فهو أستاذ محترف في أسلوبية الممكنات الدرامية التي فجّرها بألق
سينمائي
في عمله الأخّاذ «في مزاج الحب» (2000)، الذي داور على ثيمة
العشق المنتظر عند
عتبات المبادرة الأولى بين شخصيتيه الرئيستين؛ وفي «عِنبيته»، يضع الاثنين
الجديدين
أمامها (المبادرة) مرة أخرى. ولئن كان العامل الدرامي في العمل الأول يتشخص
بالجيرة
التي تجمع رجلاً بامرأة غامضيّ الماضي، فإنه يتكرّس في جديده
بفطيرة ثمار العِنَبية
السُكرية التي يقدمها جيرمي للبطلة، وكأنها إغواء فطري ستُدمن عليه، خاضع
للشهوة
المضمرة في وجدانيهما (يكشفان عن ماضيهما بحوارية تسبيقية شفيفة عمادها سلة
مفاتيح
الأحبة المنفصلين).
إنها
الجذوة المنتظرة التي تُشعل القبلة على شفتيهما، حين
يلثم جيرمي بقايا القشطة البيضاء المتبقية على فم الشابة التي تأخذها سنّة
نوم
مرتجلة (كتعبير عن صفائها الداخلي)، قبل أن يكتشف الشاب غيابها المفاجئ
الذي يقودها
إلى جيلان (ذي طابع غرائبي) في العمق الأميركي، وفيه تتقاطع مع
إرادات متضاربة
القيم والمصائر. يبقى جيرمي حاضنتها البعيدة (يصنف كار ـ واي رحلتها بأرقام
الأميال، وغيابها بطول الأيام، وابتعادها عن موقع تعارفهما الأول نيويورك
بمواقع
عملها الذي يُحيلها الى مراقب لعواطف الآخرين وتفجّر محنهم)،
الذي تُبقي وصلها معه
عبر رسائل لا تشي بمكانها الحقيقي سوى إشارات الى مصدر الولاية التي أُرسلت
منه
خطاباتها، وهي بادرة تمتحن فيها قبلته وقوتها على قراره اللاحق في الوقوع
بالحب
الممكن.
التجدّد
في
غرباتها الأميركية، تستلف إليزابيث عمل الحبيب البعيد
في
المقاهي والمطاعم (تورية عن هوسها الجديد بجماعية اللقاءات)، مغيّرة اسمها
مرات
كثيرة، إذ إنها كيان يتجدّد كلما صادفت وجهاً خَبِر لوعة الحب
وخيباته، وأولهم
الشرطي آرني (أداء محكم لديفيد ستراثنير، مؤدّي الشخصية المركزية في فيلم
جورج
كلوني «عمتم مساء، وبالتوفيق»)، مدمن الوحدة والخمر والرهان الفاشل بالتوبة
عنه،
وهو على الرغم من تمثيله السلطة والقانون، يظهر كائناً مكسور
الخاطر والكرامة:
زوجته سو
لي (البريطانية راشيل فايز) تخلّت عنه وارتبطت بشاب أرعن لا يني يستعرض
تحرّشه وغمزاته الجارحة، قبل أن يعاقبه الشرطي الممحون بعصيان الزوجة. ترى
إليزابيث
في آرني خسارة عمر وحـــياة، وتجتهد في مراقبته، حتى وقوع
حواريتهما الأولى عند
البار، لتكتشف أنها مارست هذا التواجد بنفســـها عند جيرمي مع فطيرة
العِنَبية
بدلاً من كأس «البربن» (نوع الويسكي الشهير الذي يفضله الأميركيون).
إنه
التحاشي المتعمد للاعتراف بالخيبة عبر الإدمان (الأكل في حالة الأولى
والشراب
للثاني، على اعتبار أنهما ليستا حاجتين بيولوجيتين آنيتين)،
والذي يقود آرني الى
ذرف الدموع (كغسول للانتقاص العاطفي)، ثم التشاحن مع الزوجة (الخائنة) وسط
المقصف
وتعاطف الحاضرين (مسرحة هذا المشهد بدت واضحة، وهي التحية التي
وجهها كار ـ واي الى
الكاتب تينيسي وليامز، بما يذكر سريعاً بأجواء نصه الأثير «عربة اسمها
الرغبة»)
كتحفيز درامي لمصرعه المقبل الذي يحدث في المكان ذاته حيث تعرّف إلى زوجة
المستقبل.
بدت إزاحته أساسية للقاء الشخصيتين النسويتين، ليس على ذكراه بل على الحكمة
التي
تنقلها سو لين الى الأخرى بخطل البقاء في الحيز ذاته (سواء كان مسقط رأس أو
رجل وعد
بحياة فاضلة لم يفها حقها في نهاية مطافها)، ما يدفع بإليزابيث سريعا الى
تغيير
وجهتها نحو نيفادا، فتلتقي ليزلي (ناتالي بورتمان) المدمنة على
المقامرة وطاولاتها
وضربات حظ الأموال السهلة التي لن تحصل عليها بيسر كم يبدو لها، مما يحولها
الى لصة
متواضعة الحيلة (تسرق سيارة والدها الفارهة وتتحايل على مدخرات إليزابيث).
عبر هذا
الكيان المتضارب النيات، تقع البطلة على خاتمة جيلاناتها
وقناعتها بأن للبشر سحرا
غامضا يشحنون به الآخرين من دون أن يستثمروه في قدح ضمائرهم وبصائرهم
وعواطفهم.
تنتظر رؤية بدن والد ليزلي وهو ميت ودموع أسى الأخيرة التي عاقته ودنست
ذكراها معه،
كي تعي أن لا مكان لها سوى طاولات وعِنَبيات جيرمي الكفيلة
بإشعال وهج القبلة
الثانية وإعلان ولادة عشق جديد في حياتها يقصي عنها شخصيات التشظّي
والنكبات.
(كان)
السفير اللبنانية
في 21 مايو 2007
|