..... الجوّ جميلٌ هذا
الصباح، وشمسُنا مختبئة، وكأنها تتحضر للقاء قادم، انطلق الرحالة، ورغم تلك
الأجواء، أبي إلاّ أن يمضي، لستُ أدري إلي أين يتجه،... كثيراً
ما أسافر بذهني
نحوه،.. أتأمل وجهه، قسماته، خطواته،..هل هو الفتي الحالم، أم المتشائم، هل
هو
الطموح الوقاد، أم الفقير الذي لم يجد مأوي، هل هو السعيد الشادي، أم
التعيس
الباكي، أم العبقري المتشرد؟.. هو الفتي، هو الطفل، وكفي.
إنه في مكان ما، في
زمان ما، وأطفال ليسوا ببعيدين عنه يلعبون، لستُ أدري لماذا يرمي الحصي، أو
ماذا
يرمي خلف الحصي، حيث كانت هناك اللعبة تتكلم، والصورة تفصح،
وتخبرنا المزيد، أحد
عشر عموداً، أحد عشر عاماً، طفلٌ بلغ في الجنون مبلغ الرجل.
مرت الأيام، استعادت
السماء رونقها الوضّاء، لقد عادت الشمس، وألوان الحياة، ولا زالت الأحد عشر
عموداً
حيّةً كمعالم شامخة نحو السماء، كدليل، وبرهان، لأن الزمان
يخبرنا بالمزيد عن طفل
مرّ من هنا، وشيّد للتاريخ ما لم يشيّده الكبار، كان ولداً منعزلاً، غريب
الأطوار،
كثيراً ما يسرح، والبسمة لا تفارقه، يضحك كثيراً، وعلي ماذا
تراه يضحك؟ علي أعمدة
قتلته، أم لقول لا نفهمه؟ لكنه في النهاية طفلٌ بني الحياة،.. ولقد وجدتُ
في
صحرائنا القشيبة من أمثاله الكثير، أراهم في كل مكان، وزاوية، يستعيرون
العقل، كما
العقال، يؤثرون الصمت لكي لا يُوصف بأنه صوتٌ متمرد...(1)
في الفندق الذي
يُقيم فيه عادةً ضيوف (مسابقة أفلام من الإمارات) التي تنعقد فعاليّاتها
بداية شهر
آذار (مارس) من كلّ عام في (أبو ظبي ـ الإمارات العربية المتحدة)، تعوّد
المخرجون
الخليجيّون علي تنظيم جلسات غير رسمية، تبدأ بعد منتصف الليل،
وتنتهي في الساعات
الأولي من الصباح، وبدوري، حرصتُ علي الانضمام إليهم، أستمع إلي مناقشات
أفلامهم
التي عُرضت في نفس اليوم، وفي إحدي جلسات الدورة السادسة 2007،
جاء دور السعوديّ
(عبد
العزيز ناصر النجيم) الذي انتفض بقامته القصيرة، يهزُّ جسده المُكتنز
يميناً،
وشمالاً، ووقف وسط الجالسين، وكأنه واعظٌ، أو خطيب جامع، وبدأ يتحدث عن
فيلمه
القصير (تمرد)، يشرحه، ويفسّره شكلاً، ومضموناً، وبعدها أصغي
بانتباه إلي ملاحظات،
وانتقادات الآخرين.
وقتذاكَ، لم أكن قد شاهدتُ الفيلم بعد، وما كان لي الدخول في
نقاش معه، ولكن وقفته الواثقة، وخطابه الذي يبدو أكبر من عمره،
ووجهه الطفوليّ
المُدوّر، ولحيته السوداء المُتداخلة مع لون بشرته السمراء القاتمة، جعلتني
أردد في
داخلي:
ـ يا ربيّ، كيف يكون هذا الصبيّ المُلتحي مخرجاً... متمرداً ؟.
ولكنني في باريس، سارعتُ لمُشاهدة فيلمه قبل تلك الأفلام التي
أعطاني إياها
زملاؤه.
يكثف الحدث الجوهريّ فيه هيامَ صبيّ، وتجواله في طرق ممتدة،
وزرع أوتاد
في
الصحراء، وهو بذلك يقترب من فيلم قصير آخر بعنوان (الهائم) لمخرجه المغربي
(محمد
مفتاح).
ولا يتضمن (تمرد) أيّ حكايةً، أو شخصيات تتطور، إنه يرتكز بشكل
أساسيّ
علي خواطر نثرية، وبدونها لن يكتمل المعني، وربما لن يتحقق الفيلم أصلاً.
وفي
(تمرد)
نعثر علي (شعرية) سينمائية نجدها في معظم الأفلام الخليجية المُتميزة، ولا
غرابة في ذلك من مخرجين يكتبون القصص القصيرة، والشعر، ولم يدرسوا السينما،
فجاءت
أفلامهم أقلّ أكاديميةً، وأكثر جرأةً.
كما يتجسّد (التجريب) في(تمرد) بهروبه من
التصنيفات المُتعارف عليها، روائية، أو تسجيلية، ما يمنحه
خصوصيةً لم نجدها في
دزينة الأفلام السعودية المُنتجة خلال عاميّ 2006/2007، ومكانةً متميزةً في
عموم
الأعمال القصيرة المُنتجة في الخليج خلال السنوات الست الماضية (هي العمر
الحالي
لمُسابقة أفلام من الإمارات).
ما هو مفاجئٌ حقاً، أن يأتي هذا التجريب من
السعودية، وبالتحديد من شابّ صغير، ربما لم يقرأ بعد أيّ كلمة
عن (السينما
التجريبية)، ولم يشاهد أيّ فيلم تجريبيّ، فجاء (تمردّ) من وحي موهبته
الفطرية.
وقد لاحظ المُتابع لمُسابقة أفلام من الإمارات، بأنّ معظم
الأفلام التي
أنجزها الشباب الخليجيون العاشقون للسينما، كانت تقلدُ مخرجاً، أو فيلماً
ما.
بينما لم يقلد (تمرد) أحداً، ولا أتوقع بأنّ مخرجه قد شاهد
فيلم (في هذا
البيت)/2005 لمخرجه اللبناني (أكرم زعتري) كي يستوحي منه بعض شكله
السينمائي:
صورةٌ/لقطةٌُ مركونةٌ في يمين، وأعلي الكادر، تحتل ثلثيّ شاشة سوداء، وفي
اليسار
نقرأ تباعاً نصّاً نثرياً، هو بمثابة مونولوغ داخلي، بينما
تتناوب اللقطات بين
الألوان، والأبيض، والأسود، وفي مرة واحدة فقط صغر حجم الصورة/اللقطة في
المساحة
السوداء(الشاشة)، وظهرت 9 صور/لقطات أخري.
وبالتوازي مع الجوانب الإيجابية
للفيلم، من المفيد الإشارة إلي فهم مغلوط في توظيف الموسيقي التصويرية، إذ
يبدو أنّ
(تمرد) ينقسم إلي أجزاء بعدد المقطوعات الموسيقية العالمية المُرافقة له،
وقد
افتقدت
الوحدة فيما بينها، فمع كل جزء نسمع مقطوعةً مختلفة، وكأنها اصطفت الواحدة
خلف الأخري، مما أفقد الفيلم بعض تماسك بنائه السينمائي.
كما يعاني أحد الأجزاء
من
خطأ تقنيّ هامّ(عدم وضوح الصورة)، وكان بالإمكان حذفه، خاصةً، وأن الفيلم
يتضمّن
لقطات لم يصحبها النصّ المكتوب، فكان هذا الجزء غريباً عما
سبقه، ولحقه. وجاءت كلمة
(تمرد)
المكتوبةً علي إسفلت شارع طويل ممتد نحو الأفق كي تعلن بطريقة مدرسية
مُباشرة، وفاقعة عما تمّ التعبير عنه سابقاً.
ولكن،.... بالتغاضي عن تلك
الأخطاء التقنية المُرافقة لبدايات مخرج لا يمتلك خبرةً سابقة، يُعتبر
(تمرد)
مفاجأةً حقيقية، إنه باختصار فيلمٌ شعريّ، وتجريبيّ يتماهي مع
عنوانه.
وبافتراض
استمرارية جرأة أعماله القادمة، وخروجها عن المألوف، النمطي، والاعتيادي،
يمكن أن
ينضم (عبد العزيز ناصر النجيم) إلي قائمة مخرجين ساروا قبله علي نفس درب
(التمرد)
السينمائي/التجريب.
تمرد
فكرة، سيناريو، تصوير، وإخراج: عبد العزيز ناصر
النجيم
موسيقي: طلال بن عايّ
مونتاج، صوت: طلال الحربي
جهة الإنتاج:
مجموعة الحلم السابع، 20 دقيقة، 2007، ملون، وأبيض، وأسود، ميني د.ف
تمثيل: محمد
القاسم، فيصل العسيري، عبدالمجيد النجيم، عبد الرحمن العسيري
عبد العزيز ناصر
النجيم: مواليد الرياض، 5 حزيران (يونيو) 1986، كتب، وأخرج بعض المسرحيات،
والعديد
من الأفلام القصيرة، عمل لمدة عامين مساعداً للإنتاج في مؤسسة
همم الإعلاميّة، شارك
في العديد من الأعمال (الصوتية، والمرئية) شاعراً، ومُعداً،
وكاتباً للسيناريو،
يدرس حالياً في جامعة الإمام محمد بن سعود.
(1)
مقتطفات
من النصّ النثري لفيلم (تمرد)
القدس العربي
في 19 أبريل 2007