عندما
يبدأ مخرج فيلمه بلقطة
عامّة
لمدينة ما، فهو يؤكد بأن أحداثه تدور في هذه المدينة بالذات، وليس في
غيرها،
هذا
التحديد الجغرافي للمكان سوف يضفي علي الحكاية خصوصيات لغوية،
اجتماعية،
وثقافية،.. هي بالتأكيد مختلفة عما هي في مدينة أخري.
وقد
أدرك المخرج السوريّ
(هشام الزعوقي) هذه الخاصية السينمائيةً، عندما افتتح فيلمه القصير (الباب)
بسماء
زرقاء، تصحبها موسيقي مبحوحة، مؤثرات رياح، صدي أجراس، عواء، وصرخات
كونية، ...ومن
ثم
تهبط الكاميرا متحركةً نحو سقف منزل، وجداراً حجرياً، حتي نشاهد رجلاً
يحمل
باباً علي رأسه، ويتقدم بخطوات واثقة في طريق بمحاذاة بيوت
سكنية .
منذ
البداية
إذاً، تخلي (الزعوقي) عن جغرافية محددة لفيلمه، وحاول (ما
أُمكن) تجريد تفاصيله
المكانية/الزمانية لينفتح علي معان إنسانية شاملة.
فالسماء فضاءٌ كونيٌّ شاسعٌ
لا
يرتبط بمكان خاصّ، كما أوحت الموسيقي بأنها قادمةٌ من بعيد، وسوف نجد
لاحقاً أن
كلّ
الأماكن التي تمّ اختيارها لا ترتبط بأيّ مرجعية محددة، لقد صُورت في
مدينة ما
(أسلو) ـ مكان إقامة المخرج ـ وكان لها أن تُصور في أيّ مكان آخر، وتمنح نفس
المعاني التي يقصدها السيناريو الذي كتبه بالمُشاركة مع المخرج العراقي
(سمير
زيدان).
في
الفيلم، تنقرُ قدما الشاب أرضية الشارع المُبتلة بمياه الأمطار،
ويلتقي بآخر يعلق علي صدره مفتاحاً ( وقد تخيّر السيناريو متابعة الرجل
صاحب الباب
فقط)، ومع ذلك، يضعنا عمداً أمام رمزين مترابطين (الباب،
والمفتاح) في تأويلاتهما
المُتعددة، وكلّ واحد منهما يتابع قدره الخاصّ.
سينمائياً، تخيّر (الزعوقي)
لقطات
كبيرة لوجه الشاب، يديه، وقدميه،.... وعندما قاده إلي المدينة، بدأت
الكاميرا
تبتعد
عنه، وتُظهره في طريق مزدحم، هو يتقدم إلي عمق الصورة باتجاه المارة،
وهم
يتوجهون نحو المقدمة (الكاميرا) ـ في اتجاهين متعارضين ـ. هذه المرة، وعلي عكس
سابقاتها، تقربنا هذه اللقطة من حدث واقعي، وتُبعدنا عما يمكن
إحالته إلي حلم، أو
كابوس، حتي يصل إلي غابة، تلاحقه الموسيقي في رحلة غريبة، مشحونة
بالترقب، والتوتر،
والقلق، وتبعد الحدث مرةً أخري عن واقعيته، وتجرّه إلي مستوياته
الذهنية
.
وبتفكيك الصياغة السينمائية للفيلم، نجد بأنه يتوازي فيه خطان
متعارضان: في
الصورة، حدثٌ يجري في واقع حقيقي، بينما ينقلنا شريط الصوت إلي آفاق
تخيليّة،
وتتجلي الاستعارات الرمزية من خلال المعاني التي يمنحها تلخيصي
للفيلم:
يحمل
شابٌ في مقتبل العمر باباً علي كتفه، ويتوجه إلي مكان ما، يعبر
شوارع مدينة، وطرقات
غابة،
ويصل إلي شاطئ بحر، حيث ترسم قدماه شكل سفينة/ بيتاً/ أو تابوتاً.
يُعتبر
(الباب) واحداً من الأفلام القصيرة المُعبّرة أشدّ التعبير عن (تيمة الطريق)
في
معانيها، ومستوياتها المختلفة:
ـ
المعني الجغرافي المباشر: الطريق من بيت، إلي
شاطئ،
مروراً بمدينة، وغابة.
ـ
المعني الرمزي: ذلك الذي يقطعه الإنسان في البحث
عن
بيت، فيرسم شكلاً له علي مقربة من مياه البحر، انتظاراً لرحلة مُرتقبة
إلي بلد
ما(ويتضمّن البيت معني الوطن، أو السفينة التي سوف تُعيده إليه).
ـ
المعني
الميتافيزيقي: لنتذكر بأن (الزعوقي) قد افتتح فيلمه بسماء
زرقاء صافية تماماً،
وهبطت
الكاميرا نحو سقف بيت، ومن ثم جداراً حجرياً، ووصلت إلي الشاب يبدأ
رحلته،
حتي
يصل إلي الشاطئ، فيرسم قبره، ويضع الباب شاهداً عليه،...
والفيلم في
مستوياته التعبيرية المُتعددة، وبالاستفادة من البلاغة،
والاستعارات الرمزية يصل
إلي
حدّ كبير من الشعرية، فيتنحي المستوي الواقعي جانباً، ويتحول إلي
مفردات شعرية/
بصرية(سماء، جدار، طريق، مدينة، مفتاح، باب، غابة، شاطئ،..)، يدعمها
بناءٌ صوتيّ في
اختياراته المُركزة لمؤثرات تتمازج مع موسيقي مركبة.
ويستمدّ الفيلم شعريته من
ابتعاده ما أُمكن عن الحكاية، وتقنيات السردّ النمطية، وانفتاح
الفعل المرئي علي
معاني
ذهنية، إنسانية، تتخطي حدود الزمان، والمكان.
والفيلم ـ أيضاً ـ نموذجٌ
مبهرٌ لما يمكن تسميته (هايكو سينما)، ليس لأنه قصيرٌ جداً
(6.35 دقيقة)، ولكن،
لاقتراب صياغته السينمائية من تقنيات فنّ الشعر الياباني القديم (الهايكو)،
حيث
تتكون القصيدة من ثلاثة أسطر فقط، ويقدم فيها الشاعر من خلال
ألفاظ بسيطة صورةً
شعريةً تعتمد علي استلهام مظاهر الطبيعة، وربطها بأحاسيس، وروح، وآلام
الإنسان،
وتتألف أشعار (الهايكو) من بيت واحد فقط، مكون من سبعة عشر مقطعا صوتيا
(باليابانية)، وتكتب عادةً في ثلاثة أسطر
.
ولو
أحصينا عدد مشاهد (الباب)، سوف
نجدها
قليلةٌ جداً:
ـ
طريقٌ بجانب بيوت سكنية.
ـ
شارعٌ في وسط مدينة.
ـ
غابة
.
ـ
شاطئ بحر.
ويتكون كلّ مشهد من لقطات قصيرة، هي بمثابة مفردات بصرية
/شعرية
جمعها مونتاجٌ دقيقٌ منح الفيلم /القصيدة إيقاعاً مركزاً.
وفي
الوقت الذي
يعتمد فيه الفيلم علي الصورة ركيزةً أساسية له، فإنه من المفيد
الاحتفاء بلقطة هي
الأكثر بلاغةً، وتعبيراً:
اللقطة الأخيرة، والتي لا يمكن لمُفردة لغوية واحدة
التعبير عنها، وهي وحدها تكشف عن الاختلافات الجوهرية ما بين القصيدة
الشعرية
المكتوبة، وتلك المُتجسّدة علي الشاشة صورةً، وصوتاً:
ترتفع
الكاميرا (في حركة
كرين) إلي السماء، فنشاهد رسما لواجهة بيت، وفوقه باب وشباكان،
تبتعد الكاميرا أكثر
فأكثر
حتي لقطة بعيدة، شجرةٌ تغطي شمساً غاربة، وموجات البحر تتهادي علي
الشاطئ،
وتمسح
قليلاً من سقف البيت المرسوم، تثبت الصورة، وتستمر الموسيقي.
الباب:
سيناريو هشام الزعوقي، وسمير زيدان، إخراج: هشام الزعوقي، 6.35 دقيقة،
35 مللي،
ملون،
إنتاج النرويج 1999.
تمثيل: ماجد الشيماري، موسيقي: عابد عازرية.
*ولد
(هشام
الزعوقي) في دمشق بسورية، أكمل دراسته السينمائية في أكاديمية السينما،
والتلفزيون في أوسلو/النرويج.
أنجز
عدداً من الأفلام القصيرة:
ـ
حنين
(
تسجيلي) 1998.
ـ
الباب (روائي) 1999.
ـ
غيتو (روائي) 2000.
ـ
غرباء دوماً
(تسجيلي)
2003.
ـ
مجرد مدينة (تسجيلي) 2003.
ـ
الغسالة (روائي) 2006.
ـ
أغاني
من الطابق السري (تسجيلي) 2006
القدس العربي
في 28 فبراير 2007