صفحات ذات صلة

كتبوا في السينما

 

 

ملف أحمد زكي

أحمد زكي يعود إلى القاهرة لاستكمال علاجه فيها

أحمد زكي أستاذ يحلم النجوم بالوقوف أمامه

حكاية صراع الامبراطور مع الالام في الغربة

الفنانون العرب والمصريون يلتفون حول أحمد زكي

محمد هنيدي:أحمد زكي مقاتل مملوء بالإيمان والتفاؤل

تصوير الضربة الجوية بعد الشفاء مباشرة

مديرة منزل احمد زكي تبحث له عن زوجة

ملف أحمد زكي

مات مبكراً ككل أحلامنا.. أحمد زكي كما يراه نقاد وفنانون سوريون:

رجل من لوننا.. أعاد للتمثيل بهجة اللعب والتجريب والخيال

(دمشق) راشد عيسى

صور لأحمد زكي

كل شيء عن أحمد زكي

شعار الموقع (Our Logo)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هل هناك معادل سوري لأحمد زكي؟ نلقي بالسؤال كنوع من المجازفة إلى مثقفين وفنانين سوريين، أو كنوع من إثارة حوار حول الرجل، وسرعان ما تأتي إجابات متأثرة ومحبِّة: بل ليس هنالك من يعادل أحمد زكي حتى في مصر نفسها. هكذا أجابني نجيب نصير الناقد وكاتب السيناريو التلفزيوني. فيعلق عبد اللطيف عبد الحميد (كنت قد التقيتهم في موعد <<السابعة مساء من كل ثلاثاء>> في مقهى الهافانا، لمن يريد موعداً سورياً سينمائياً ثابتاً) يقول: لا يخلو الأمر، ولكن هذا يحتاج إلى تراكم في السينما والمسرح يمكن أن ينتج ما له نكهة خاصة. ويتذكر عبد الحميد لقاء وحيداً، وهو لم يكن لقاءً على وجه الدقة، قال بعد أحد أفلامي التي عرضت في مهرجان دمشق السينمائي جاءني معانقاً، قال كلمة واحدة: <<جدع>>. ومضى. ويضيف عبد الحميد: <<لم أر ممثلاً عربياً أمسك بناصية الشخصيات بهذا العمق وهذه الحساسية، في حضوره تشعر وكأنه معك، إلى جانبك، حتى لو كان يؤدي واحداً من أدوار الشر. كان أقل نجوم مصر كلاماً. أمس، سمعت من يقول إن لونه كان عائقاً له في بداياته، مثله لديه من الغنى الداخلي ما يجعله يتجاوز ذلك>>.

ويحكي حسن سامي يوسف، كاتب السيناريو الأكاديمي الوحيد في سوريا، عن لقاءاته مع أحمد زكي: <<التقيته أول مرة قبل أكثر من خمسة عشر عاماً. جمعتنا مناسبة واحدة: دورة مهرجان دمشق السينمائي السادسة. كلانا كان عضواً في لجنة التحكيم. حدث هذا في تشرين الثاني (نوفمبر) 1989. عملنا في اللجنة سوية عشرة أيام، أو نحو ذلك. كانت اللجنة حسب ما أتذكر الآن تتألف من تسعة سينمائيين ينتمون إلى بلدان مختلفة، وبالتالي إلى ثقافات مختلفة، أو حتى حضارات مختلفة. كان فيها الياباني والروسي والألماني والفرنسي والبرازيلي والتركي والعربي. وكان المنطق يقول إننا (أحمد زكي وأنا) ننتمي إلى ثقافة واحدة، أو تقريباَ واحدة. والذي جرى هو أننا -رغم ثقافتنا الواحدة لم نكن على وفاق في نقطة جوهرية عند أي لجنة تحكيم: الجوائز. كانت تلك الدورة من المهرجان حبلى بالأفلام الجيدة، بل وحتى الممتازة، وكان عددها سبعة عشر، وبعد التصفيات، التي ربما كانت قاسية، بقي لدينا خمسة أفلام تتنافس على الجوائز الرئيسة الثلاث. وكان الخلاف في اللجنة حاداً، على وجه الخصوص حول الجائزة الكبرى. كنت في حواراتنا أحاول أن أقنع الرجل الذي أشاركه الثقافة ذاتها بأن نمنح هذه الجائزة لفيلم (من الخمسة المتبقية طبعاً) ينتمي إلى سينما فقيرة. كان متعصباً للسينما فقط، كان متعصباً للفن فقط. وكان تعصبه غير محدود، فكان بالتالي منسجماً مع نفسه بلا حدود، فهو رجل شديد الانتماء للفن، وشديد الإخلاص له. ولو لم يكن كذلك لما نجح في تجسيد كل تلك الشخصيات التي تذكرني ولست أدري لماذا بالضبط بالكوميديا الإنسانية؛ شخصيات يعجز عن نظمها أي عقد اجتماعي، أو سواه؛ من بواب العمارة إلى رئيس الجمهورية، مروراً بالطبيب والجندي والمهندس والراعي والفتوة والكوافير وسائق التاكسي ورجل البوليس المهم والمتشرد ورب الأسرة الفقير والمهرج والخارج على القانون والطبال والفلاح والمكنسيان، إلى آخر القائمة الذي هو <<حليم>> أو العندليب الأسمر كما نحب جميعاً أن نسميه. ألا يذكرنا هذا كله ببلزاك أو الكوميديا الإنسانية؟ إن إنجازاً بهذه الجسامة وهذا التأثير لا يمكن أن يقف وراءه إلا رجل عبقري، ولو لم يكن أحمد زكي كذلك لما أمكنه أن يلعب شخصيتين تبدوان لكثيرين منا شديدتي التناقض (من وجهة النظر الأيديولجية على الأقل): جمال عبد الناصر في <<ناصر 56>> وأنور السادات في <<أيام السادات>>. ألا تنظر غالبيتنا إلى هاتين الشخصيتين بوصفهما من الأضداد؟ أظن أن الأمر كذلك. وإن كان ما أظنه جائزاً يكون أحمد زكي قد جسد الأضداد أمام الكاميرا بالإخلاص نفسه، وبالحب نفسه، الإخلاص للسينما، والحب للسينما، وكلاهما بحماسة غير محدودة. أتذكر اليوم ذلك الخريف الذي صار بعيداً. وأتذكر أنه كان خريفاً بارداً بخلاف حواراتنا (أحمد زكي وأنا)، صحيح أننا كنا مختلفين إلى النهاية في نقطة مهنية ما، ولكن الصحيح كذلك أننا كنا متفقين في كل شيء آخر، تقريباً، حتى إن درجة من الصداقة قامت بيننا، رغم قلة الأيام التي ترافقنا بها معاً. أذكر تسكعنا في شوارع دمشق وحواريها العتيقة، وأتذكر أننا اتفقنا على أن نلتقي مستقبلاً في مدينة ما، وأتذكر أنه كان بيننا، فيما بعد، بعض التحيات والرسائل الشفوية عبر هذا الصديق المشترك أو ذاك، في هذه المدينة أو تلك>>.

سوريون في فيلم <<حليم>>

كانت المشاركة السورية في فيلم <<حليم>> أمراً مفاجئاً للكثيرين، رغم أنها لم تكن المرة الأولى التي يشارك فيها سوريون في أعمال مصرية، فما من ضرورة درامية على ما يبدو لمشاركةٍ سورية، سوى أن الأمر يعكس هوى قومياً عند منتج الفيلم عماد الدين أديب وعند الفنان الراحل. والمشاركة ليست هامشية على عادة أعمال كثيرة سابقة، فالفنان جمال سليمان يلعب دور الكاتب مصطفى أمين الذي يلازم حليم جل حياته وعبره تروى سيرة العندليب. فيما تلعب سلاف فواخرجي، الوجه الأجمل في الدراما السورية، دور حبيبة مجهولة لعبد الحليم. تقول سلاف إن أجمل أغاني حليم كانت لتلك المرأة التي حال انتماؤها الطبقي من زواجها من حليم. ورغم أن حكايتها موثقة غير أنها ستأخذ في الفيلم اسماً آخر، مراعاة لعائلتها على ما يبدو. وتضيف سلاف: <<التقيت بأحمد زكي للمرة الأولى في 16 كانون ثاني الماضي، في المؤتمر الصحفي الذي أجري بمناسبة انطلاقة الفيلم، وكانت المرة الأولى التي يظهر فيها على الوسط الفني منذ عام، بدا تعباً أول الأمر، وبعد لحظات عادت روحه. أنا كان عندي فرح بلقائه، وخوف على ممثل غير عادي. كان استقباله لي مريحاً، قبّل رأسي وعبّر عن سروره بي، وكان شديد الاهتمام بي وبجمال سليمان، وقال إنه كان متابعاً لنا تلفزيونياً>>.

يتذكر الفنانون السوريون أحمد زكي بتأثر بالغ ويروون عنه لقاءات أو كلمات مهما قلّت. يتذكر الممثل زهير عبد الكريم: <<التقيت أحمد زكي في مهرجان السينما في دمشق بعد عرض فيلم <<نجوم النهار>>، كانت كلماته كالأوسكار بالنسبة لي. سألني: <<كم فيلم عامل؟>>، قلت هذا فيلمي الأول. قال: <<مش صحيح، ده انت ممثل ابن..>>. دعوته إلى قريتي <<معربة>> وكانت كلها بانتظاره ذلك اليوم، حتى عمتي عزيزة التي لم تكن تعرف ماذا يفعل أحمد زكي. حينما ذهبت إليه في الفندق، انتبهت إلى أنه لا يهتم بصحته، قال أنا عملت كل حاجة، ولا أريد شيئاً من الحياة. ما زلت أذكر انطباعات الناس في قريتي عند لقائه، من بائع السجائر المهربة الذي راحت علب السجائر تتساقط منه مرتبكاً حينما رآه، إلى نادلي الفندق الثلاثة الذين أسقطوا الصحون تباعاً لدى رؤيتهم له>>. ربما كانت الممثلة أمل عرفة تقد بالمصادفة تفسيراً لحوادث السقوط والارتباك تلك، حين تقول إن الفنان أحمد زكي من أولئك الذين <<إذا أتوا إلى مكان يختل توازن الأشياء وتميل الأرض باتجاه أقدامهم ويبقى كل المحيط دون جاذبية. وهم وحدهم أصحاب المدار، أصحاب الدارة السحرية التي لا تدخل في تركيبتها لا الكهرباء ولا الكيمياء ولا بقية العلوم بل يدخل فيها شيء لا ندركه نحن البشر لأنه سر الخالق>>.

أما حاتم علي، المخرج التلفزيوني والمسرحي، فقد اعتبر أن رحيل الفنان فاجعة شخصية له، يقول: <<في زمن لا وجود فيه للعمالقة، يبدو أحمد زكي وكأنه آخرهم، فهو أستاذ مهنة، أضاف لها الكثير، وأثبت أنها مهنة إبداعية بامتياز، أعطاها من روحه الكثير، وقدم شخصيات نادرة، حارة، وخاصة، عبر تقنيات متميزة، لا يستطيع غيره أن يفعلها. إلا أن جوهر الأمر ليس هذا وحسب، فأحمد زكي نموذج للنجاح في أبهى صوره، مسيرة حياته هي إحدى حكايات الطموح النادرة، فقد بدأ فقيراً معدماً، ولم يكن يملك مواصفات النجم بالمقاييس السائدة، ولكنه استطاع أن يتربع على عرش مهنة التمثيل، ولهذا أصبح الحافز والقدوة، والمثال الذي يبعث فينا الأمل. رحيل أحمد زكي محزن وفاجع لي شخصياً، رغم أنني لم أعرفه يوماً، ولم ألتق به أبداً، ولكنه كان الأمل، والمثال، والطموح الذي نمتلكه جميعاً. وإذا كنا قد فقدناه اليوم، فإن قصة نجاحه ستبقى. ذهب الرجل، لكن حكايته ستبقى>>.

شيء غريب كانت تشير إليه شهادات الناس وذكرياتهم عن الفنان الراحل؛ أليس غريباً أن يتذكر الناس من بين ستة وخمسين فيلماً، وغيرها من أعمال تلفزيونية ومسرحية، ذلك الدور البعيد لأحمد زكي في <<مدرسة المشاغبين<<؟ ما السرّ في ذلك؟ ألأن الفتى الهادئ والجاد في مدرسةٍ للمشاغبين كان أقرب ما يمكن إلى صورة الطفل الذي كانه أحمد زكي، فتى يتيماً، وحيداً، وضائعاً؟ أم لأن تلك الصورة البائسة تصلح منطلقاً للمقارنة بين ما كانه الرجل وما صار إليه؟ أي ما يصلح باختصار ليكون تراجيديا تلخص الوضع البشري الممتلئ أملاً والمأسوي على حد سواء، كما يقول الشاعر عابد اسماعيل حين يشير إلى <<كآبة خفية ظلت ترافق الفنان في كل الأدوار التي لعبها، يستشعرها المرء في صوته الخفيض وابتسامته الهادئة، لتضفي على الأدوار، رغم تباينها وتعددها، إيقاعاً شخصياً يمكن اعتباره بصمة زكي الفنية.

ثمة حزن مستقر في ملامحه، ومسحة تأمل في عينيه، ووداعة لا مرئية تزيدها شجناً البشرة السمراء الضاربة إلى غروب مبكّر. منذ <<مدرسة المشاغبين>>، العمل الكوميدي الأكثر انتشاراً وشهرة، علقت في الذاكرة صورة هذا الممثل الموهوب، بخطواته الواثقة فوق خشبة المسرح، وتماهيه الصادق مع الشخصية، ليعلمنا درساً جميلاً في الفن آنذاك، مغزاه أن الحزن هو الوجه الآخر للفرح، والمأساة هي الوجه الآخر للملهاة. في ذاك العمل الكوميدي، ساعدت <<جدّيته>> كلاً من سعيد صالح وعادل الإمام على إبراز موهبتيهما الكوميدية، وحسّهما الهزلي العالي، ولطالما استطاع حضوره الفني، لاحقاً، وفي أفلامه الكثيرة، أن ينقذ ممثلين كثر من عثرات النمطية، ليرتقي أداء الجميع ويتناغم، ليصبح زكي المايسترو الحقيقي في أعمال كبيرة، كما في فيلمي <<ناصر 56>> و<<أيام السادات>>. في آخر عمل له لم يكتمل عن الراحل عبد الحليم حافظ تكتمل الحلقة التراجيدية في حياة هذا الفنان المبدع الذي أراد أن يجسد أكثر الأدوار رهافة، بتقمصه شخصية العندليب الأسمر. أراد أن يكمل سيرة الغائب عبد الحليم، قبل أن يغيّبه الموت، لتندمج سيرتان في سيرة واحدة، ولكن ذلك لم يتم، وكأن حياة زكي تحولت إلى تراجيديا يونانية بطلها أحمد زكي نفسه. وكان عليه أن يلعب الدور التراجيدي الأخير في ملهاة <<الحياة>>، في لحظة استرجاع قصوى للسموّ الفني، كمن يعيش سيرة الألم مرتين، قبل غيابه وتحوّله إلى سيرة. في لحظة الألم تلك، التي هي جوهر الفن أصلاً، تلتقي الشخصيتان، عبد الحليم وزكي في نص ظلّ معلقاً، وفي فيلم ليس له نهاية، كل يكلّم الآخر بلسان الرهافة>>.

وجه مثقف

فارس الحلو ينظر إلى الحادثة/ المسرحية ذاتها ولكن من زاوية نظره كممثل بذاكرة هشة كما يقول هو نفسه: <<يعيب عليّ الأهل والأصدقاء أمراً يصعب تصديقه، وبخاصة أني أحد العاملين في الشأن الفني، وهو قلة حفظي أو تمييزي بين وجه هذا الممثل أو ذاك، حتى لو كان الأمر متعلقاً بالنجوم العالميين من ممثلين أو مطربين مشهورين.

والحق أن أحداً لم ينصفني أو يفهمني لسبب قلة حفظي وعدم تركيزي وتمييزي لوجه هذا الفنان عن ذاك، اللهم إلا بعض وجوه الفنانين العالميين الذين حفلت حياتهم ببعض الدراما واهتم بها الإعلام فانطبعوا برأسي بالقوة فحفظت وجوههم. فمن طبيعتي أن أركز مشاهداتي الفنية على فكرة العمل وطريقة حبكه، ومن ثم أداء الممثل وبريق عينيه وإيماءاته وحركاته وميزانسيناته النفسية والفيزيولوجية ومقارنتها مع منطوق الشخصية المؤداة، ومن استطاع من الممثلين الطباق والتنافر الجذاب بين الداخلي والخارجي يثير فيّ الفضول والاهتمام.

ورغم كل هشاشة ذاكرتي، رأيت أن أمراً غريباً جرى معي حين شاهدت الممثل أحمد زكي في باكورة أدواره في <<مدرسة المشاغبين<<؛ حين انطبعت صورة وجهه في ذاكرتي، على غير عادتها. فدوره في هذه المسرحية كان أكثر من سيء، ومشاكله الفنية تتفاقم عبر عرض المسرحية، إضافة إلى عدم انسجامه فكرياً وفنياً مع محيطه في المسرحية، ولا مبرر مقنعاً لوجود شخصية طالب فقير في مدرسة خاصة يؤمها طلاب الطبقة الثرية. وبالإضافة إلى هذا الضعف الفاضح للدور المسند إليه، تأتي المسرحية ممتلئة بصولات وجولات الممثلين الموهوبين لتزيد دوره ضعفاً وحجباً فلا تترك له مجالاً لظهور مميز.

تعامل زكي مع فيض كوميديا زملائه بطريقة تنم فعلاً عن إدراك ووعي وثقافة فنية عالية، فاستطاع أن يحمي الشخصية الضعيفة المسندة من الانهيار، حين منع نفسه أولاً من الانخراط مع ما يمكن أن يسمى (ميوعة الشخصيات الأخرى)، فالقارىء على العموم لا يعرف حجم الغيظ وقوة الاندفاع والمغنطة والجذب الحثيث الذي يتعرض له الممثل لمشاركة أفعال زملائه حين يجد نفسه وحيداً أعزل في الصف الخلفي من المشاهدة ولا أحد يلقي إليه بالاً. ولكي يستطيع الممثل لجم هذه النرجسية فهو بحاجة فعلاً إلى وعي وإدراك متميزين وموهبة فطرية تسندها ثقافة حسية عالية. والأمثلة كثيرة على ذلك، ويمكن للقارىء أن ينتبه لها في أغلب العروض المسرحية المصرية والسورية التجارية حين يشاهد الممثل الثاني يبالغ في أداء الحركات المضحكة ويرحب بخلق حوار إضافي ليزيد من مدة ظهوره على الخشبة المسرحية.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى استطاع الفنان أن يرسم لهذه الشخصية حزناً دفيناً ملفتاً، بدون استجداء لشفقة أو عطف المشاهد وبمهارة فائقة لاتجعل المشاهد ينفر منها وسط هذا العالم الكوميدي الفاقع. ولعل كثيراً من الممثلين، لو كان محل زكي، لجعل من الشخصية دمية كاريكاتورية سمجة تحشر نفسها في مشاهد ليست معدّة لها، فقط لكي يظهر الممثل بأي طريقة كانت.

لقد فاجأني حقاً أحمد زكي في تلك المسرحية، فهو لم يسقط في الفخ النرجسي الجذاب، كما الممثلين الآخرين، وأكبرته أكثر حين أمعنت التدقيق بأدائه المنسجم والمتوافق مع ذاته دون أن يسمح لنرجسيته المتوفزة بامتطاء الدور الضعيف لكي يبرز على حسابه.

هذه السلوك الذكي في معالجة دوره البسيط وتقديمه الشخصية بأمانة كما هي، والسيطرة على رغباته كممثل غيور للظهور كما زملائه، حمى الشخصية الفنية الضعيفة المسندة إليه من انزلاق حتمي أمام الفوضى الكوميدية العارمة التي صنعها زملاؤه وبالتالي استطاع أداؤه أن يقدم شخصية منضبطة وواضحة حتى ولو كانت ضعيفة، فاستطاع بجدارة أن يرسم وجهه المثقف في ذاكرتي الهشة للأبد>>.

بهجة اللعب

الممثل باسم ياخور، ذهب إلى القول إن هنالك مدرسة في فن التمثيل اسمها أحمد زكي؛ لم يمتلك الرجل ذلك الشكل الوسيم، لقد كرس مفهوم الممثل النجم، لا مفهوم النجم. يقول ياخور: <<إنه مدرسة في تناول الأدوات التي تعطي الممثل المصداقية، لديه الشخصية عبارة عن تفاصيل، الحركة وطبقة الصوت، وسواهما. من الواضح أنه عندما اشتغل دور السادات قام بدراسته دراسة نفسية وحركية كاملة، درس العادات البسيطة لديه؛ كيف يحك رأسه، وطريقة شربه من كأس الماء أثناء الخطابات، وغير ذلك>>. ونسأل الممثل إذا كان يصنف أحداً من الممثلين السوريين ضمن مدرسة أحمد زكي، فيجيب: <<أعتقد أن الفن السوري بشكل عام هو أقرب إلى مدرسة أحمد زكي، مدرسة الممثل الذي يقوم بلعب أدوار متعددة>>.

لكن اللعب لم يتوقف فقط على تعددٍ في الأدوار، أو تأرجح بين النقائض، كان لعباً داخل الدور نفسه، ربما هذا ما قصده الروائي والسيناريست خالد خليفة بما يسميه بهجة اللعب: <<يعتبر أحمد زكي واحداً من الممثلين القلائل الذين أعادوا لمهنة التمثيل بهجة اللعب والتجريب المنظم ضمن فوضى الفن، وأيضاً واحداً من الممثلين الذين آمنوا بأن الخيال هو عنصر أساسي في هذا الفن كما في كل الفنون الأخرى، هذا العنصر الأساسي الذي تناساه المؤدون الكثر في عملهم وادعائهم بأن التمثيل هو فقط ظهور على الشاشات بالإضافة إلى أن قطاعات كبيرة من الجماهير تماهت معه لأنه يشبهها في ظهوره الآسر، وأحست لأول مرة بأنها ليست كومبارساً في الحياة.

سيبقى الفن العربي يذكر لمعة عينيه وإحساسه الفائق في أدائه لكل الشخصيات التي لعبها وحاول مرة أخرى إعادتها إلى الشك وهو أصعب ما يستطيع أي ممثل فعله، وقد فعله أحمد زكي كما لو أنه يشرب كأس ماء على ناصية طريق مزدحم>>.

لا شك بأننا غالباً ما نرى في الخسارات المتلاحقة لآخر المبدعين الكبار، رديفاً لخسارات أخرى وهزائم، وخيبات بحجم تلك الأحلام التي عشناها منذ حوالى نصف قرن وأكثر، هكذا يفعل الناقد السينمائي بندر عبد الحميد حين يرى في الموت المبكر >>لأحمد زكي جزء من الموت المبكر الكبير للأحلام العربية المتهاوية، أحلام الفن والحرية وتحديث الحياة بالتقدم العلمي الديموقراطية غير المشروطة، وإزاحة الإرث الثقيل، هذا الكابوس الجهنمي للتعصب الديني والإيديولوجي المتخلف والمسلح بالساطور والسيارات الأنيقة المتفجرة.

أحمد زكي نجم شعبي محبوب، متجدد، متواضع، متألق، مشاغب، صقل موهبته في أعمال مسرحية وتلفزيونية، في الحركة والصوت والصورة، وهو لا يشبه غيره، في نزعته الاقتحامية الجريئة، كما نراه في فيلم <<ناصر56>>، أو في رهانه على أداء دور شخصية سياسية معقدة وغامضة في فيلم <<أيام السادات>>، وكانت له موهبة نادرة في تقليد نجوم الفن المصري، وموهبة غير معلنة في الغناء والضحك والسخرية اللاذعة. كل هذه الميزات الخاصة، وغيرها، أعطته قدرة على ألا يكون شخصية نمطية محددة، جامدة، أو مكررة، كما هي حالة بعض النجوم من أبناء جيله. وربما يكون في فيلمه الجديد <<حليم>> تحية وداع طيبة لعبد الحليم حافظ رمز أحلام الشباب العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، وتحية وداع طيبة أخرى، من أحمد زكي إلى جمهوره العربي الواسع، المنكوب بكوارث الاضطهاد والتعصب والموت المبكر والقتل العائد إلينا من كهوف طالبان>>.

رجل من لوننا

قلما تحدث السينمائيون عن لون أحمد زكي بطريقة سينمائية، فإذا كانت السينما لوناً وصورة كان لا بد للأسمر، متراوحاً بين القمحي والأسود أحياناً (وأحمد زكي نفسه كان يتراوح في السمرة)، كان لا بد أن يشكل اللون ثقلاً، مركزاً في الصورة، ولعل البعد اللوني هو واحد من مرامي حضور الأسود في السينما الأميركية مثلاً. الناقد السينمائي بشار ابراهيم، يتحدث عن <<رجل من لوننا>>، لا أدري إن كان يقصدنا نحن أبناء المخيمات، أم يقصد أبناء الطبقات الشعبية والفقيرة، ليست البطولة فقط في صعود هذا اللون القريب جداً من الأرض نحو هذه المكانة، وإنما بطولة زكي في تحرّرنا من عقدة اللون. يقول بشار: <<لم يكن موت أحمد زكي مفاجئاً، بل هو من طراز الموت الذي ضرب موعداً مع صاحبه، منذ سنة على الأقل. ومع ذلك كان موتاً فاجعاً.

فما بين لحظة إعلان الموعد، المحمول على أكفّ المرض العضال، ولحظة الانطفاء الأخيرة، كان ثمّة الكثير من الأمل في تبديل المواعيد، أو تأخيرها، أو التحايل عليها ما أمكن ذلك.

وفي تلك المسافة، كانت محاولات الفنان الكبير في مقاومة المرض، مسلَّحاً بحبّ الناس، وعواطفهم، وأكفّ الأدعية الناهضة إلى السماء.

وفي تلك المسافة، أيضاً، كانت المحاولة الإبداعية الأخيرة، من خلال العودة (متعبّداً) إلى محراب الكاميرا السينمائية، لتصوير فيلم <<حليم>>.

الآن، رحل أحمد زكي، تماماً، كأنما رتَّب أشياءه، وحزم أمتعته، ورمى تلويحة الغياب، هناك عند منعطف الموت، ومضى.

ولم يكن مفاجئاً أن نكتشف، لحظة غيابه، تماماً، أنه ترك فينا الكثير.

دائماً كان أحمد زكي <<رجلاً من لوننا>>، فيه الكثير من نبض أحلامنا، من وجعنا، والكثير من الكلام الواقف على حافة اللسان، خائفاً ومرعوباً من أن يُقال، وأكثر خوفاً ورعباً من أن يظل مسكوتاً عنه. من تراه لم ينتبه إلى نبرة الحزن العميق الساكنة في عينيه، وفي رفّة الرمش القلقة؟ من فقر وقهر وتعب جاء، ليرجّ الساكن في السينما العربية، وليعيدها من انزياحها إلى حيث يجب أن يكون. لم يغيِّر أحمد زكي من نمطية البطل في السينما العربية فقط، بل لعله ارتقى بالإنسان العادي إلى مصافّ البطولة، وهذا مجده. مجده أنه كان واحداً من هؤلاء الناس المرميين على قارعة رصيف الصمت والإهمال والتعاسة، فانتقل بهم إلى بؤرة عين العدسة، ليكشف عن إنسانيتهم الطافحة. في موت الرجل الذي من لوننا ستبهت ألوان كثيرة، وسيبقى الحزن مقيماً، حتى إشعار آخر>>.

أخيراً يشير السينمائي فجر يعقوب، بغضب إلى موجة الرثاء التي استبقت موت الرجل، ولا ندري إن كان يلمح إلى ما نشرته صحيفة <<الثورة>> المحلية، التي سبقت موت الفنان بأيام لتعلن موته إلى الناس في زاوية تقول: <<رحل أمس، الفنان أحمد زكي>> من دون أي مجاز، أو اعتذار فيما بعد. تظل <<الثورة>> تخطئ، من دون أن يعتذر أحد، ومن دون أن يحاسب أحد!

يقول يعقوب: <<قد لا يبدو رحيله مفاجئاً للذين استعجلوا الكتابة عنه بمنتهى القسوة لأن نية مبيتة من سادية إنشائية غير مفلترة تصنع باسم السبق الصحفي الذي لا يتكئ إلى وقائع، كانت تسكنهم في اللحظة التي تم فيها تداول تلف دماغه بالكامل عبر الفضائيات والأقمار المأهولة وغير المأهولة.

فما يبدو لهم غير مفاجئ في هذه اللحظة، يبدو للبعض الآخر منا نحن الذين نحتكم إلى هواية الرثاء من بعد الموت بالألم المفترس، وكأننا على غير عاداتنا الأليفة في هذا النوع من الكتابة غير المكلفة لنا جميعاً، نحيي المرض العضال الذي يجيء بنا أو يذهب مع بعض التحريف في <<أيتها النفس أجملي جزعاً.. إن الذين تحذرين قد وقعا>>.

لم يوصِ أحمد زكي بشيء، ولنا أن نقف على مبعدة من جنازته، لا أن نقيسها بالأمتار التي تفصلنا عن جنازة <<حليم>>، حيث يمكن إكمال الفيلم بها، مع التأكيد على حسن الاستعارة، مادام قد استُخدم منها تسعين بالمئة فقط.

هل تمتلك الجنازة تلك العشرة بالمئة الباقية من الفيلم كي نكمل بها مشوار عندليب أسمر أصبح ونحن في عوز إليه نمراً أسود <<ومحارباً>> لا يسمي الأشياء إلا بمجاز نادر الوقوع في مثل حالاتنا الطارئة ؟!>>.

السفير اللبنانية بتاريخ الأول من أبريل 2005

كسر الصورة

منى غندور

 

أنا قلبي مزيكة بمفاتيح

من لمسة يغني لك تفاريح

مع اني ما فطرتش وجعان

ومعذب ومتيم وجريح

باتنطط واتعفرت واترقص كدهه

كدهه كدهه كدهه

صلاح جاهين

 

كانت أيام وكان الزمن ربيعا وكنا في مطلع الشباب وحمأة الاحلام.

كنت اخطو اولى خطواتي في الصحافة في مقاربة خجولة لعالم السينما وناسها.

وكان هو على اول درجة على سلم الشهرة والمجد!

في فندق شبرد كان اللقاء، وجدتني امام شاب نحيل شديد السمرة، في عينيه حزن بعيد، يداري خجله وارتباكه بابتسامة واسعة مرحبة. على شفتيه عتب جاهز لذنب لم يقترفه بعد!

كانت اول جملة بعد السلام: سمير نصري حدثني عنك وعمنا صلاح جاهين اوصاني بك!

كان صلاح جاهين الساحر الجميل الذي فتح لي ابواب القاهرة وباب صداقتي لأحمد زكي!

عرّفني أحمد زكي على قاهرة المقاهي الشعبية والناس الطيبة وأكلة الفول بالبيض والشطة التي وضعها كشرط اساسي في بند صداقتنا.

كان عاشقا لمصر، فنقل لي عدوى عشقه، وعلمني قراءة ناسها بعيون قلبي!

من خلال ابخرة الشاي بالنعناع في مقهى الفيشاوي بالحسين، كان الوجه الأسمر المنحوت كوجه إلهي يتحول من حسب الحكاية الى وجوه وحالات. وكانت عافيته المتقدة تشعل في صوته المشروخ حرائق كلام لا يهدأ ولا ينطفئ.

رشف من كوب الشاي امامه وقال ضاحكا: اسأليني عن كل شيء ما عدا إزاي كانت طفولتك.

مش عايز اتكلم عن الحاجات دي!

كان شجنه يفضح حزنا حقيقيا سكنه منذ طفولته اليتيمة والفقيرة واستقر هذا الحزن في حياته كوشم.

حدثني عن رحلة التيه والحرمان من الزقازيق حتى الغابة القاهرية، كان يحب الغابة ولكنه يخشى ناسها ووحوشها! يهرب من واقعه الأليم في فترة المراهقة الى الصالات المعتمة التي تضيء في قلبه الأنوار فيتسمر امام شاشاتها ملتفا بإرهاصات لذيذة تحمل معها الدفء لكيانه!

كان يرى الحياة وشخوصها بالأبيض والاسود. يكره الحياد والنفاق، ويجنح الى الشفافية في القول والفعل، ويعمل في سره على ترويض غضب يشبه الثأر البايت.

فيلم (الكرنك) واحد من عناوين تلك البدايات الصعبة، سعاد حسني ترفض التمثيل معه، والموزع اللبناني حسين الصباح يرفضه بسبب لونه الأسمر. اسودت الدنيا في عينيه، شد على كوب الماء بيد كرامته الجريحة، كسره وترك دمه النازف وراءه ومشى!

على مدى حديثنا كانت جراحات البدايات حية وحاضرة وكأنه قصد عن عمد ان يُبقي تلك الندوب مفتوحة كي تحرضه على التحدي!

كان يبحث باستماتة عن مكانه، عن الخلل الذي يقف سدا بينه وبين احلامه التي تطاول المحال، وكان يسأل نفسه طوال الوقت هل العيب فيه ام في زمنه!

طالما وقفت سمرته الداكنة وشعره المجعد في طريق طموحاته. كان الموزع يريد فتى اول بمواصفات السوق التي تشترط الوسامة وخصلة الشعر المتدلية على الجبين والعيون الناعسة! وكان أحمد زكي من خارج مقاييس واعراف الفتى الاول، فهو لا يملك وسامة عمر الشريف ولا رجولة رشدي اباظة ولا طلة أحمد مظهر.

لكن الصبايا وقعن في شباك سحره، وتماهى شباب الشارع المصري بدفء سمرته.

فموهبة الفتى الأسمر ساطعة تصفع العيون وتأسر القلوب وتعلن عن نفسها بلا عناء كبير!

موهبته العملاقة ساعدته على كسر الصورة وعاونه على كسرها جيل من المخرجين الشباب في حينها: علي بدرخان، محمد خان، عاطف الطيب، خيري بشارة.

هذا الجيل الذي افرزته الثمانينيات شكل منظومة سينمائية جديدة اخرجت السينما المصرية من اقبية الصالونات الى الشارع، وحكت للناس البسطاء حكاياتهم ومعاناتهم!

كان أحمد زكي فارس تلك المرحلة بلا منازع. حالة سينمائية وإنسانية تختزل جيلا، ومرآة لابن الشارع المصري المكافح.

سألته عن الدور الذي يتمنى تجسيده اجابني الإنسان البني آدم بالمطلق، لان الانسان مختبر لشتى الحالات؛ الانسان عالم متشابك غريب لم يسبر غوره حتى الآن اكبر المفكرين والفلاسفة. الكل بقي على اعتاب معاناته!

لم يكن أحمد زكي ممثلا يؤدي ادواره بصدق كي يقنع من يشاهده، كان مشخصاتيا بالمعنى الدقيق للكلمة، فهو لا يقلد الشخصية بل يتقمصها، تسكنه تفاصيلها الى حد انها تلتصق بجلده. في فيلم (زوجة رجل مهم) لمحمد خان لم يكن يلعب دور الضابط المريض بالسيطرة والتملك، اصبح هو الضابط. صدق الدور وكان يتصرف في بلاتوه التصوير بدكتاتورية اتعبت الجميع!

هذا الفتى المتعِب والمتعَب، يشد خيط الروح حتى آخره في كل دور، وكأن هذا الدور هو اول وآخر ادواره! في فيلم (موعد على العشاء) كاد يموت في ثلاجة الموتى، وفي (عيون لا تنام) كادت تنفجر فيه قارورة الغاز، وفي كل فيلم يحيا ويموت ويبعث من جديد كمن ولدته أمه!

كان أحمد زكي صاحب مشروع وصاحب قضية وصاحب هم وكانت السينما ملعبه ومنبره، كان تمسكه بالسينما يفوق تمسكه بالحياة فهو لا يحيا من خارج البلاتوهات.

كان متوحدا بعمله، يأكل في طبقه، وينام في سريره يكتب صباحاته ويؤرق مناماته.

كان الجميع يتحدث عن هالته الفنية، ويعترف بعبقريته، إلا هو كان يشكك بتلك العبقرية ويخضعها لتحديات وامتحانات لانه لا يرضى عن نفسه إلا في ما ندر.

ويفعلها أحمد زكي يجسد وجدانه الناصري في فيلم (ناصر 56) ويترجم حبه للسادات في فيلم (أيام السادات).

لم استغرب حين علمت انه رهن بيته وكل ما يملك كي ينتج فيلم (أيام السادات).

كان يتباهى بالمعادلة الصعبة التي اوجدها لنفسه: أنا ناصري ولكني احب السادات.

كان حبه للسادات مثار جدل بيننا، وما زلت اذكر كلمة النهاية في هذا النقاش: حين يتوسع افقك وتخرجين من مراهقتك السياسية ستعرفين اني على حق!

فهمت في ما بعد لماذا يحب السادات. السادات صالحه مع العزة والكرامة بعد انتصار اكتوبر، فهو ينتمي لجيل سقط من علوّ احلامه على واقع أليم اسمه النكسة وعار اسمه سينا! قال لي في حينها لن اتزوج من فنانة، اريد امرأة لي وحدي لا يشاركني فيها احد، اريد أما لا يشغلها عن حبي شيء. قلت له كيف تكون مثقفا وثوريا وتحلل لنفسك ما تحرمه على الآخر!

أجابني: أنا فلاح وعندنا في الفلاحين الستات ستات والرجالة رجالة!

لم استغرب حين انفصل عن الفنانة هالة فؤاد لانها ارادت العودة الى الفن.

لم يستطع الفتى الأسمر تجاوز حرمانه من أمه في الطفولة، عاش عمره يبحث عن حضنها بين كل النساء اللواتي احببنه وأحبهن.

كان <<سي السيد>> أحمد زكي يتحول الى طفل صغير حين يلامسه الحنان.

قلت له وأنا اودعه: ستنساني حين تصبح نجما كبيرا ملء السمع والعين! فالنجوم لا يحبون رؤية اصدقاء البدايات! ابتسم ابتسامة الواثق: عيب إحنا بنّا عيش وملح! باعدت ما بيننا الايام وكنت ارصد اعماله من باريس كمن يرصد نجما بعيداً!

ولن انسى ما حييت كيف قدمني الى اصدقائه خلال اقامتي في القاهرة، وقف ملوحا بيديه: صديقتي الجميلة التي آمنت بي وصدّقت أحلامي!

لم يخن العيش والملح كما وعد.

كانت احلام أحمد زكي اكبر من هذا الجسد الذي انهكه طموحه الجامح. كان من الصعب على هذا الجسد احتواء كل هذه الأرواح التي غزته وشكلته واحتلته! لذا حاول الجسد الهروب من قبضة أحمد زكي الحديدية. اخترع مرضا شرسا في حربه معه، ولكن الفتى الأسمر لا يستسلم يصارعه ويتحداه ويأخذه من يده في غفلة عن الموت الى البلاتوهات.

يوشوشه في ساعات الصفاء: هي المرة الاخيرة، الحلم الاخير كان يشد حبل الروح الى آخرها!

لم يكن يريد من الزمن زمنا له. كان يريد أياما يعيرها لعبد الحليم كي يكتمل البدر الذي رسمه من خلال الرموز التي قدمها وكانت بدايتها طه حسين!

فعلها أحمد زكي. وعد نفسه بالخلود وكان له ما أراد!

كانت أيام...


(
) كاتبة لبنانية

السفير اللبنانية

الأول من أبريل 2005

 

يشبهنا جميعاً

عزة عزت  

ليس مصادفة أن يُطلق الفنانون على أحمد زكي وعن طيب خاطر و بالتزكية دون منافس لقب <<رئيس جمهورية التمثيل>>، كما أنه ليس من قبيل المصادفة أيضاً أن تصفه بعض الصحف المصرية بأنه <<رئيس جمهورية القلوب العربية المتحدة>>، وليس مصادفة أيضاَ أن يكون أحمد زكي هو الفنان الذي لم يختلف على موهبته وتفرده اثنان على امتداد الوطن العربي... لا بل ونرى إجماعا عاما على أنه ممثل قدير منذ بداياته، وأنه خير من مثل الإنسان المصري البسيط، بنفس المقدرة التي تقمص بها شخصية الزعامتين المصريتين عبد الناصر والسادات، إلى جانب تجسيده لشخصية عميد الأدب العربي طه حسين، ثم أخيراً اضطلاعه بتمثيل شخصية العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، الذي امتلك القلوب بغنائه وفجعها بمرضه ورحيله المبكر، فجاء أحمد زكي ليجسد شخصيته؛ وليختم بها حياته الفنية الحافلة فيكون في ذلك صادقاً وواقعياً في آن معاً؛ ولذا كانت فجيعة الجميع في مرضه العضال ثم وفاته في نفس الشهر، قبل أيام من ذكرى عندليب الغناء ليتشابه الفتيان الأسمران في الفن وفي الحياة، ومن هنا كان اهتمام الشارع العربي وبعض القيادات العربية بمتابعة أخباره الصحية، ومحاولة تقديم كل عون لإنقاذه، والتوصية برعايته على أعلى مستوى في مصر وفي الخارج، وأستمر الدعاء له من أعماق كل القلوب المحبة لفنه بالشفاء، وما زال الدعاء متواصلا له بالرحمة والمغفرة.

هذا وقد تتبادر للذهن أسئلة كثيرة حول كيفية صنع الفنان لمجده لبنة لبنة؟ وكيفية البقاء متربعاً على عرش القلوب وعلى قمة الأداء كما فعل أحمد زكي؟؟ وما هي أدواته وقدراته التي مكنته من تحقيق ذلك؟ فنجد أن أول ما يتبادر للذهن على الفور من أسباب لا خلاف عليها بالنسبة لأحمد زكي أو لغيره من الكاريزمات الفنية التي حققت من قبله هذه المكانة (عبد الحليم، أم كلثوم وفيروز)، لتكون أول الأسباب: الموهبة والصدق والقبول أو الكاريزما، فأحمد زكي كان موهوباً لا جدال، وصادقاً مع نفسه، ومُصدِّقاً لكل ما يُقدم؛ ولذلك صدقته جماهيره، وكانوا يشعرون بصدق كل ما قدم من شخصيات... حتى منذ بداياته الأولى حينما كان لا يُحرز البطولة السينمائية المطلقة... ولكن يشارك في بطولات جماعية، أو يقدم أدواراً ثانية وثالثة، فنجده يؤديها بنفس الصدق وبنفس الحماس.

نماذج لا تنسى

فمن منا ينسى دوره في فيلم البريء؟ الذي قام فيه بدور مجند في أمن الدولة، يصدق ببراءة شديدة يعكسها أداؤه البسيط من خلال نظرات عينيه يصدق كل ما تقوله القيادات من أن المسجونين السياسيين هم أعداء الوطن، ويؤدي المطلوب منه في تعذيبهم بحماس أبله... إلى أن يدرك الحقيقة المفجعة بالنسبة له، فيدرك فُحش ما شارك فيه، وكلنا يذكر كيف أدى أحمد زكي كل هذه المشاعر والأحاسيس، فقط بنظرات عينية التي تراوحت بين البراءة الشديدة، وبداية الإدراك، ثم اكتمال الوعي... كل ذلك دون أن ينطق كلاماً يفيد تدرج وصول الحقيقة إليه!!

ومن منا ينسى أو يستطيع أن ينسى كم هي الشخصيات المتباينة التي أداها أحمد زكي في المسلسل التليفزيوني الاجتماعي <<هو وهي>>!؟ وكان أداؤه فيها أقرب إلى كوميديا الموقف أحيانا، وقمة المأساة أحياناً، فصدقناه جميعاً حينما كان ذلك الموظف الريفي المتطلع، وحينما كان عامل التليفون المحب الوله المصدوم، وحينما كان الموظف الكبير الذي تنكر لأهله وأصله في طريقه للوصول ومصاهرة الثروة... إلى آخر الشخصيات المتباينة التي أداها جميعاً ببراعة وبساطة لا نستطيع أمام إمكاناته في الجمع بين مفرداتها إلا وصفه بأنه السهل الممتنع.

ومن منا يستطيع أن يتجاهل إجراء مقارنة بين دوريه العظيمين عبد الناصر والسادات... رغم ما بين الشخصيتين من تباين... ومع ذلك صدقناه وهو عبد الناصر، ثم ما لبثنا أن صدقناه وهو السادات... ليس من حيث الشكل الخارجي والملابس والحركة الظاهرة للشخصيتين وحسب... ولكن من حيث العمق في الأداء، والصدق في عرض وجهتي نظر متباينتين بنفس الحماس والقدرة على الإقناع، والأكثر من ذلك تفانيه في تحقيق أمنيته بتمثيل شخصية السادات، ورغبته في خروج الفيلم إلى النور على أكمل وجه، الأمر الذي اضطره لبيع كل ما يملك بما في ذلك شقته التي يسكن فيها ليساهم في إنتاج الفيلم بميزانية ضخمة فكان مثالا للفنان الصادق المضحي من أجل فنه.

ومن يستطيع أن ينسى دوره في فيلم <<شفيقة ومتولي>> مع سعاد حسني، وكيف أدى المشاهد المشتركة بينه وبينها دون حوار... ولكن من خلال نظرات متبادلة بينهما، تعكس ما يمكن أن يعتمل في صدر شقيق يتمزق بين الإحساس بالعار، والرغبة في غسله بجريمة شرف، والصراع بين الرغبة في قتل شقيقته التي يحبها وإشفاقه عليها، وصراعه بين المشاعر والموروث، واختزال أحمد زكي لتضارب كل هذه الانفعالات والعواطف المتباينة، والتعبير عنها فقط بنظرات عينيه وخلجات وجهه، فنصدقه ونتعاطف مع أزمته الإنسانية، ويتأثر بها الملايين من المشاهدين!!

قبل الختام

هذا ولو أردنا الاسترسال في التذكير بأعمال أحمد زكي أو في تذكر أدواره المتعددة وأهميتها في طرح قضايا مهمة في المجتمع المصري والعربي، فسنجد الكثير والكثير، فأفلام أحمد زكي لا يوجد بينها ما يمكن أن ندرجه في خانة الأفلام المتواضعة المستوى أو أفلام المقاولات، فقد كان كل فيلم يطرح قضية هامة، فعلى سبيل المثال لا الحصر: قضية مافية التعويضات في فيلم <<ضد الحكومة>>، وقضية الغربة وإثبات الذات بعيداً عن الوطن والتحدي للنفس وللمجتمع الغربي والنجاح فيه في فيلمه <<النمر الأسود>>، و تعرضه لقضية السحر والشعوذة ومحاربتهما بوصفهما وهم ولعب بأحلام البسطاء ومعاناتهم في فيلم <<البيضة والحجر>>، وتعرضه لحياة المهمشين وأحلامهم، ورفضهم أن يدوسهم الآخرون في أفلام كثيرة مثل: <<مستر كارتيه>> و <<حسن اللول>> و<<طائر على الطريق>>، ورصده للتحول الاجتماعي وصعود بعض الطبقات في <<البيه البواب>>، وقضية الثأر للشرف في <<شفيقة و متولي>>، وتجسيده لمعاناة من تفسدهم السلطة ويستغلون نفوذهم في <<زوجة رجل مهم>>، ثم رصده لمعاناة ذوي النفوذ وكيف تفسد السلطة حياتهم فلا يعودوا يستمتعون بها في فيلمه <<معالي الوزير>>... والكثير الكثير مما يضيق المجال عن حصره.

وبعيداً عن الفن من يستطيع أن ينسى أحمد زكي الإنسان عاشق البسطاء، الذي كان منهم، وصعد إلى طبقة أعلى حينما صعد نجمه في سماء الفن... لكنه ظل لصيقاً بقضايا البسطاء معايشاً لمعانتهم ومجسداً لها على شاشة السينما وفي مسلسلات التليفزيون، وعلى خشبه المسرح، فمن يستطيع أن ينسى أحمد زكي الشاعر الفقير الرقيق في <<مدرسة المشاغبين>>، أو الابن العاقل في <<العيال كبرت>>، أو حتى دوره الصغير القصير في مسرحية <<هالو شلبي>> الذي لم يتجاوز دقائق... لكنه كصاحبه ظل وسيظل في ذاكرة الجماهير لسنوات نموذجاً للحالمين بالغد الذي قد يأتي أو لا يأتي.

ولكن وللأسف مات أحمد زكي، وأنا أكتب هذه السطور فسقط القلم من يدي، ولم أعد أستطيع أن أتابع الكتابة عن الفنان الذي رحل بجسده، وسيظل خالداً في ذاكرة كل من أحبوه وعرفوه فناناً وإنساناً خاض رحلة حياة صعبة تراوحت بين النجاح و الحب والشقاء والمرض، وشعرنا أنه يشبهنا جميعاً!! أو على الأقل شعر كل منا منفرداً أن أحمد زكي فيه منه، شيء ما... شكلا أو موضوعاً!!

() ناقدة مصرية

السفير اللبنانية

الأول من أبريل 2005