صفحات ذات صلة

كتبوا في السينما

 

 

ملف أحمد زكي

أحمد زكي يعود إلى القاهرة لاستكمال علاجه فيها

أحمد زكي أستاذ يحلم النجوم بالوقوف أمامه

حكاية صراع الامبراطور مع الالام في الغربة

الفنانون العرب والمصريون يلتفون حول أحمد زكي

محمد هنيدي:أحمد زكي مقاتل مملوء بالإيمان والتفاؤل

تصوير الضربة الجوية بعد الشفاء مباشرة

مديرة منزل احمد زكي تبحث له عن زوجة

ملف أحمد زكي

نجم الموجة الجديدة ومأزق الذروة

فاضل الكواكبي

صور لأحمد زكي

كل شيء عن أحمد زكي

شعار الموقع (Our Logo)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بين بداياته الخجولة أوائل السبعينيات وتكريسه نجماً في الثمانينيات ونهايته التراجيدية منذ تفشّى السرطان في جسده ... بين تحوّله من الهامش السبعيني إلى المتن الثمانيني الذي صنعه المخرجون المؤلفون أصحاب <<الموجة الجديدة المصرية>> ثم إلى صانع لهذا المتن وفارض سلطته المطلقة عليه في عقد التسعينيات، قدّم أحمد زكي مساراً شديد النموذجية والخصوصية في آن وعلى مستويات عدة: مستوى صيرورة السينما في الدول التي يعتبر فيها هذا الفن <<صناعة>> و<<صانعاً للأحلام والنجوم>> ومستوى صيرورة جيل صنعته الستينيات لتستبعده السبعينيات وتستعيده الثمانينيات.

لقد تأخر ظهور وتكريس أحمد زكي كممثل أول وهذه حالة عامة حصلت مع زملاء عديدين له خرّجتهم جامعات مصر ومعاهدها الفنية العليا أواخر الستينيات، فلقد تبنت تلك المؤسسات مفهوماً آخر للثقافة أعاد النظر بالتقليد المكرّس منذ الثلاثينيات (والذي أخذ أشكالاً تنويرية إلى حين ثم تجمد وتحول إلى حالة من المحافظة الشديدة). لقد كان زكي ابناً لتلك التحولات الستينية التي يبتذلها البعض حين يدافع عنها أو ينتقدها بعنف قاصراً إياها على جوانب سياسية واقتصادية مبتعدين عن جوهرها الكامن في تبنّي الحداثة كمفهوم يومي يطرح أسئلة عميقة على التقليدية/الفكتورية التي مارست نفوذاً عاتياً على عقل النخبة المصرية المأوربة والنصف مأوربة المحافظة في جوهرها.

تمرّد الستينيون إذاً على كل ذلك وبحثوا عن نماذج جديدة ، عن أشكال وحساسيات مغايرة ولكن إرهاصات هذا البحث الذي أغرقته الإيديولوجيا إلى حدّ ما أُجّل نضوجها.. أُجّل بشكل مصطنع.. أجّلته فئات وطبقات صعدت أيضاً مع ثورة يوليو كما الحداثيين العلمانيين ولكن فرائصها ارتعدت من التحول الراديكالي الذي كان يتخمر بشدة أواخر الستينيات، من هنا اصطنعت تلك الفئات حالة اجترار باحثة بشكل محموم عن بدائل وجدتها في كثير من الأحيان في العودة إلى الماضي <<الفكتوري>> ذاك خالطةً إياه ببُعد << نوفوريشي>> مبتذل يشي بجذورها المتواضعة.

لقد كان يوسف السباعي كأحد أهم صانعي هذه العودة الردة في المجال الثقافي وأكثرهم نبلاً وذكاء يفعل المستحيل لكي يختلق بديلاً عن ثقافة الستينيات تلك ولكنه لم يجد هو وصانعوا سياسات تلك الفترة بداً من العودة إلى ترسيمة ما سميناه الفكتورية الوطنية وهي خليط ملتبس وانتقائي من شعارات ومفاهيم الوطنية المصرية والمحافظة الدينية والإعجاب المرضي بالنموذج الأميركي، فالبديل الليبرالي الحداثي بمستوياته لم يكن وارداً في ذهن تلك الفئات الصاعدة وصانعي خطابها السياسي والإيديولوجي (أنور السادات، يوسف السباعي، محمد حسنين هيكل) لم يكن هناك بدّ لدى هذا الثلاثي سوى استعادة طوبى المزج المستحيل بين التديّن المحافظ والإعجاب بالنموذج الأميركي والحفاظ على بعض المكتسبات الاجتماعية لثورة يوليو وشذرات من خطابها القومي.

من هنا لجأ السباعي وفي قطّاع الثقافة إلى استبعاد الحداثيين متهماً إياهم جميعاً بالشيوعية؟!! واستعان بمن توفّر له من بقايا أركان الفهم المحافظ التقليدي للفنون (ثروت أباظة، صالح جودت، إحسان عبد القدوس.. وغيرهم).

غاب في السينما كل من قدّم إرهاصات مشروع فني حداثي (شادي عبد السلام، توفيق صالح، سيد عيسى، صبحي شفيق.. إلخ) قاوم آخرون بصعوبة (يوسف شاهين، صلاح أبو سيف) واستسلمت فئة ثالثة فأعادت إنتاج الخطاب الكلاسيكي الميلودرامي بأدوات هزيلة مقارنة بالذرى التي أنجزها هذا الخطاب في الخمسينيات، لقد ظنت هذه الفئة أنها بهذا التحول تستطيع أن تخاطب جمهوراً عريضاً نفّرته أفلامها الأولى، وتضم هذه المجموعة على وجه الخصوص: حسين كمال، علي عبد الخالق، أشرف فهمي.

عاد حسن الإمام وحسام الدين مصطفى وهنري بركات ليصبحوا في طليعة مخرجي السبعينيات ومن الطريف أن هؤلاء الثلاثة وغيرهم من التقليديين كانوا قد قدموا أهم أفلامهم في الستينيات متأثرين بزخمها الثقافي الذي دفعهم دفعاً نحو التجديد.

لم يكن إذاً من الغريب أن يصبح حسين فهمي ومحمود ياسين نجما السينما المصرية المفضلان بل والمطلقان إبّان تلك العشرية، فالأول بإمكاناته شديدة المحدودية قُدّم كنموذج فيزيكي لاستعادة النجم الوسيم الذي بدأ زواله في الستينيات، أما الثاني فبنبرته المسرحية خدم الخطاب البكائي الميلودرامي المستعاد قسراً في السبعينات.

النموذج المضاد

قد كان أحمد زكي في حضوره الفيزيكي وحساسياته الناشئة نموذجاً مضاداً لثقافة السبعينيات تلك. ولنا أن نلاحظ ذلك بقوة حتى في ظهوره البارز الأول في مسرحية <<مدرسة المشاغبين>> لعلي سالم وجلال الشرقاوي أوائل السبعينيات.. تلك المسرحية النموذجية في دلالاتها فهي شكل من أشكال الانتقام الساخر قدّمه يساريان سابقان يسخران من صرامة راديكالية ويسارية راما التخلص والتطهر منها بأكثر الصيغ خفّة وذكاء، في هذه المسرحية أدّى زكي الشخصية <<الجديّة>> الوحيدة بين الطلاب، جدية تبدو ميلودرامية في ترسيمتها الأولى ولكنها في جوهرها ساخرة ومتشفية من ذاتها أي تحديداً من النموذج / النمط الذي عبّر عنه زكي، وهذا ما حدث أيضاً بعد سنوات قليلة في مسرحية ساخرة أخرى أخرجها يساري سابق آخر هو سمير العصفوري وهي <<العيال كبرت>>. وعندما أطلق لقب يساري على مبدع أعني تماماً مثقفاً حداثياً درجت بعض الأدبيات على تسميته بالطليعي أو التجريبي.

في هذه السبعينيات لم يظهر زكي سوى في فيلم <<شفيقة ومتولي>> (1978) لعلي بدرخان، وقد كان هذا الفيلم تجربة فريدة وناشزة في السياق العام فقد تبناه في البداية المخرج الطليعي سيد عيسى مشتركاً في السيناريو مع صلاح جاهين ولكن سعاد حسني بطلة الفيلم خشيت من أسلوب عيسى <<النخبوي>> فاستبدلته بعد تصوير عدة مشاهد بعلي بدرخان الذي كان من المخرجين الشباب القلائل الذين جمعوا بمهارة بين أسلوب سردي كلاسيكي وحيوية بصرية تنتمي إلى المنجز البصري المعاصر. لقد كان <<شفيقة ومتولي>> فيلماً صنعه التصالح بين رغبات عيسى في تحقيق حضور خاص للبصر والمكان واللون والصوت والممثل وبين قدرة بدرخان أن يطعّم هذه الرغبات بعناصر من التأثير السينمائي التقليدي ليصل إلى معالجة ترضي المشاهد النمطي المفترض، في هذا الفيلم حضرت عناصر من هنا وهناك دمجها بدرخان ببراعة ولكن العين الخبيرة تستطيع تمييز لقطات عيسى التي تنحو إلى الصرامة التشكيلية والتأمل البصري الخالص في خصوصيات المكان. حضر زكي في هذا الفيلم كعنصر من عناصر حساسيات عيسى التي تبحث عن حالات تناقض الاستعراض التمثيلي المنمّط، في هذا الفيلم نرى زكي لأول مرة يقدم حضوراً خاصاً ليس في فيزيكيته المصرية/الفلاحية الخالصة التي يشوبها بعض من هزال فحسب بل نراه أيضاً يقدم إيقاعاً داخلياً يجمع بفرادة بين نبرة هي أقرب إلى الواقعية واليومية والتعبير القوي في آن.

ينحو المخرجون المجددون في كل سينمات العالم الناضجة في بداياتهم إلى عرض مفهومهم الخاص عن السينما، من هنا يعامل الممثل في أفلامهم الأولى هذه كنمط/نموذج وكمكون لحالة بصرية خاصة. هكذا كانت بدايات مخرجي ما سًمي <<بالواقعية المصرية الجديدة>> وعلى رأسهم محمد خان، خيري بشارة، عاطف الطيب، وتلاهم داوود عبد السيد ورضوان الكاشف ولكن هذه المجموعة لم تجتمع على مبادئ جمالية بعينها سوى في العموميات بل لم تقدم نفسها كمجموعة إلا في إشارات وجلة، كان بشارة هو الأكثر راديكالية أسلوبياً بينهم من هنا فقد ظهر زكي في فيلمه الروائي الأول <<العوامة70>> (1982) أقرب إلى النموذج/النمط الذي أشرنا إليه، أما خان فقد جاء من تأثيرات هوليودية حاول أن يوظفّها في شغل بصري واقعي تدرج في نضجه حتى وصل إلى ذراه أواخر الثمانينيات، أما الطيب فقد كان أقلهم اهتماماً بالصورة وأكثرهم تمسكاً بالسرد.. كان واقعياً على طريقة صلاح أبو سيف مضفياً عليها قدراً أكبر من الاهتمام بالتفاصيل وبالمكان النابض بيوميته واستثنائيته في آن وهو ما التقطه الطيب بمهارة خاصة.

هؤلاء الثلاثة هم من أدخل أحمد زكي متن السينما المصرية... حولوه من نمط يشي بالموهبة إلى ممثل رفيع المستوى يندغم عضوياً في خطابهم.

لم يعمل زكي مع بشارة بعد <<العوامة 70>> سوى في فيلم <<كابوريا>> (1990) الذي قدمه بشارة في مرحلة انحطاط أدواته السينمائية وزكي في رحلة تحوله إلى نجم تُصنع له الأفلام.

أما مع خان فقد خاض زكي تجربته الأساسية في التحول الثلاثي من نمط إلى محترف إلى نجم. في البداية اختاره خان لفيلم <<موعد على العشاء>> (1981) مع حسين فهمي وسعاد حسني، كان اختيار خان لهذا الثلاثي معبراً بشدة عن بنية فيلمه الدرامية والدلالية، ففي هذا الفيلم كان مطلوباً من فهمي وزكي أن يؤديا نمطين متضادين متصارعين حتى الموت حيث لا إمكانية للتلاقي والتقاطع فيما كانت سعاد حسني في دور الزوجة هي موضوع الصراع وهي الباحثة عن خيار وأفق لذا فقد كان التمثيل كفعل إبداعي من نصيبها أما زكي وفهمي الممثلان والشخصيتان فقد تمترسا في مكانهما مجسدين ما أراده خان من صراع سرمدي بين قوة المال الغاشمة وقوة الروح .

الذروة

التراكم في الفن هو سبيل جوهري لنضوج الأدوات... لجعلها تتخلى عن أنانيتها ونقائيتها ، وهذا ما حدث مع خان وزكي في الثمانينات، مما جعل الأول يقدم الثاني في اثنين من أهم أدواره على الإطلاق في فيلميه <<زوجة رجل مهم>> (1988) و<<أحلام هند وكاميليا>> (1988)، في هذين الفيلمين وعلى اختلاف الشخصيات التي يؤديها يصل زكي إلى ذروة نبرته السينمائية يتقمصها حتى النهاية، يصيغ أدواته الحرفية التي أسست لتحوله إلى نجم بالمعنى المتداول، المفارقة تكمن في أن هذين الفيلمين أعلنا عن إرهاصات أزمة حتمية قد يصاب بها الممثل عندما يصل إلى ذروته الأدائية ولا يستطيع فيما بعد أن يتخفف من منجزه ومن الصورة التي رسمها لنفسه.

بالتوازي مع أفلام خان وجد عاطف الطيب في زكي تجسيداً مثالياً لتلك الروح التي أحب دوماً الشغل عليها ألا وهي روح الشعب، روح التحولات الكبرى وقسوتها على الفرد الباحث عن خلاصه الداخلي في مجتمع مليء بالاستهلاك والتخلف، ويبدو هذا واضحاً إلى درجة الفجاجة في فيلم <<ضد الحكومة>> (1989) الذي يقدم فيه زكي مشهداً في نهاية الفيلم هو أقرب إلى الخطبة النموذجية في رثاء كل أحلام الستينيات الناصرية التي كان الطيب يعيشها ويعبر عن الحنين إليها بوضوح شديد في معظم أفلامه. أما في <<الهروب>> (1991) وهو أحد أهم أفلام الطيب فقد جسد زكي بقوة وحيوية فائقة تلك الروح الشعبية المتمردة في بعدها الريفي الأصالي على تكريس نجومية زكي، فالسينما المتوسطة/السائدة تقوم دوماً بتلقي وهضم منجزات السينما الفنية لتقيم سردها على أسس حرفية متجددة، وقد كان زكي بحضوره النضر والمغاير قد تحول إلى صورة مكرسة أصبحت مطلوبة من الجمهور. من هنا جاءت التسعينيات لتضعه أمام مأزق التجديد ، فالمخرجون الذين قدموه في ذراه الأدائية لم يعودوا قادرين على إضافة الجديد إلى منجزه، لقد توقف خان ورحل الطيب واستسلم بشارة إلى السائد. لذا لم يجد زكي بداً من التحول إلى نجم تُفصّل له الأفلام فلا يقدم جديدأً ويجترّ صورته المكرسة <<كابوريا>> لخيري بشارة (1990)، <<البيضة والحجر>> لعلي عبد الخالق (1990)، <<الباشا>> لطارق العريان (1993)، <<الرجل الثالث>> لعلي بدرخان (1995)، <<استاكوزا>> لإيناس الدغيدي (1996). الاستثناءان الوحيدان في أفلامه الأخيرة كانا فيلم <<الراعي والنساء>> لعلي بدرخان (1991) و<<هستيريا>> لعادل أديب (2000). فقد سيطر بدرخان في فيلمه النيوكلاسيكي بامتياز على زكي سيطرة كاملة واستطاع أن يدفعه لكي يتحرر من كليشيهاته وكسر ممانعته، منحه روح الخفة وأعاد تشكيل أدواته ليجعله يخوض مباراة ممتعة في التمثيل مع سعاد حسني ويسرا، كذلك فعل وإن بأسلوب آخر أديب الذي قدم فهماً سينمائياً طازجاً وخاصاً للشخصية التي جسدها زكي كثيراً وبلغ الذروة في أدائها في فيلم خان <<أحلام هند وكاميليا>> ألا وهي شخصية الهامشي الآتي من القاع والباحث عن خلاص يومي من كوابيس العيش، عن سعادة في التفاصيل والحسيات المتاحة. استطاع أديب في <<هستيريا>> أن يعيد توظيف منجز زكي الأدائي ويجدده لأنه قدم فهماً مغايراً عن خان للمكان والتفاصيل ومعنى الصورة مضيفاً مزاجاً أكثر غنائية وسوداوية وسخرية في آن على عوالم القاع القاهري. ولكن هذان الاستثناءان لم يفتحا أمام زكي آفاقاً جديدة. ففي عام 1996 أقدم التلفزيون المصري على إنجاز فيلم <<ناصر 56>> لمحمد فاضل وكان من الطبيعي أن يختار فاضل أحمد زكي لداء دور الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ولكن هذا الفيلم متوسط القيمة الفنية أدخل زكي في وهم تملكه حتى وفاته، وهم تجسيد الشخصيات الهامة معتبراً أنها الأجدر بتخليد اسمه كممثل متفرد فأنجز بمبادرة منه فيلم <<أيام السادات>> لمحمد خان (2002) وحلم طويلاً بأداء دور عبد الحليم حافظ حتى تحقق له ذلك على يد المنتج عماد الدين أديب ولكنه رحل قبل أن يتم الفيلم (أخرجه شريف عرفة).

أفلام الشخصيات

الإشكالية في أفلام السيرة التي تتناول شخصيات بارزة (خاصة في عالمنا الشرقي المحافظ) أنها أفلام معقمة درامياً وسينمائياً... أفلام يُطلب منها إعادة إنتاج البدهي والسائد والمعروف ولا مكان فيها للسؤال وللإشكالي، أما الممثل البطل في هذه الحالة فالمطلوب منه أن يصل إلى أقصى حد من الإتقان البرّاني والشبه الخارجي ظاناً أنه يقدم فتحاً في عالم التمثيل!.

حدث هذا جزئياً في فيلم <<ناصر 56>>، وأقول جزئياً لأن الفيلم بني درامياً بناءً ذكياً باختياره حدثاً واحداً يمثل أحد ذرى حياة الزعيم الراحل كما احتوى على جرعة عالية من المشاعر خاطبت حنين المشاهد إلى زمن فقده إلى الأبد (كتب الفيلم السيناريست والمسرحي البارز محفوظ عبد الرحمن).

أما <<أيام السادات>> فقد خرج فيلماً شديد البرود والتصنع رغم محاولات خان تجميله برّانياً إنه فيلم توضيحي مدرسي بامتياز لايقدم أي اكتشاف على أي من المستويات الدرامية والجمالية (كتبه صحفي محافظ من الصف الثاني هو أحمد بهجت). أما تجربة حليم التي لم تكتمل فقد اشتغل عليها زكي مع محفوظ عبد الرحمن وشريف عرفة، والمعروف أن عرفة الذي قدم في بداياته تجارب طريفة على المستوى البصري قد تحول في النصف الثاني من التسعينيات إلى منفذ ذو تقنية معقولة لطلبات <<النجوم الشباب>> من كوميديين (محمد هنيدي، علاء ولي الدين) وآخرين يطمحون لأن يصبحوا أبطال <<أكشن>> على الطريقة الهوليودية ( أحمد السقا ) من هنا كان واضحاً أن اختيار عرفة لإخراج فيلم حليم هو اختيار نجم يريد أن يوصل تصوراته الشخصية فحسب عن بطله المحبوب عبد الحليم حافظ... يريد أن يقدم لنا تماهيه مع تلك الشخصية العظيمة التي شكّلت أحلامه وأحلام أجيال بكاملها... أحلام حداثة رومانسية وأصيلة لم يتح لها الزمن أن تعيش.  

() ناقد سوري

هناك ثلاثة أدوار هامة أخرى أداها: هي في أفلام <<اسكندرية ليه>> ليوسف شاهين (1979) وفيه يقدمه شاهين كنمط. و<<البداية>> لصلاح أبو سيف (1986) وفيه يقدم زكي دوراً كوميدياً خاصاً بخفة استثنائية، و<<البريء>> لعاطف الطيب (1983).

السفير اللبنانية بتاريخ الأول من أبريل 2005

هوامش

أحمد زكي: انطفاء حلم

طلال سلمان

انطفأ احمد زكي في لحظة مثقلة بالرمزيات: لكأنه انطفاء للسينما المصرية بما هي <<فن عربي>>، وبما هي صلة وصل عربية عربية.

من قبلُ، سقط التواصل الفني، الموسيقي، الغنائي، المسرحي، والى حد ما الادبي، بمعناه <<القومي>>. وبدلا من ان تكون المغاربية والخليجية واللبنانية والسورية، في الفنون عموما، ادوات تواصل وتكامل، وتعبيرا عن غنى المخزون الثقافي وعن وحدة الوجدان العربي، وعن السعي إلى إغنائه بالابداع الجديد، صار <<فن>> كل قطر يسعى إلى دحر <<الفن>> الآخر، الوافد، والانتصار عليه ولو بتدميره.

كان الفن اداة جمع، فصار الى حد كبير سلاحاً للقطع. صار فرصة لتأكيد وجود الاقليم وتقدمه بأفكار الصلة والقطع مع الاقاليم الاخرى.

لحق الفن بالسياسة. السياسات انفصالية تقوم على الكراهية والضدية. صار لكل <<دولة>> سياسة كيانية لها عدتها الثقافية والفنية المستقلة. قد تقبل الآخر، غير العربي، وقد تقدمه على فنون ابنائها، اما فنون القطر العربي الآخر فممنوعة ومحظورة... اللهم الا <<الهابط>> منها، اذ تفتح له الابواب جميعا، ابواب القصور وابواب التلفزيون والاذاعة وابواب الكباريهات والمهرجانات الثقافية.

متى آخر مرة سمعت فيها مطربا مصريا في وسائل الاعلام اللبنانية والسورية والسعودية والمغربية والجزائرية، والعكس بالعكس! اما المهرجانات فلها حساب آخر يتصل بالترويج واستقدام الجمهور بالاكثر اثارة وليس بالاكثر اصالة.

ايام الرجعيات والدكتاتورية كانت اسعد حالا. لقد انجبت ما يؤكد وحدة الوجدان ويوثق الترابط ويبلور الذوق العام. لقد تخطى الفن الحدود بغير كبير جهد. كان محمد عبد الوهاب وام كلثوم واسمهان وفريد الاطرش وليلى مراد وصباح ومن ثم فيروز والرحابنة وصباح فخري وناظم الغزالي وغيرهم يتخطون الحدود ويصلون فيوصلون بين المستمعمين، بوسائل باتت اليوم بدائية: الاذاعة والاسطوانة والشريط...

لقد تهاوت <<صناعة>> الفنون في مصر التي شكلت لحقبة طويلة، الرابط بين الجمهور العربي، في مختلف اوطانه. ومع التقدير لأي فن <<وطني>> نشأ في اي قطر فقد بتنا نفتقد الاصوات الجامعة، واجمالا الانتاج الفني الجامع في السينما والمسرح والموسيقى والطرب.

صار التلفزيون في معظم الاقطار العربية، هو اداة الترويج للحاكم <<القطري>> بطبيعته وبمصالحه، والذي يريده <<عازلا>> لشعبه عن <<الآخرين>>، وفي احيان كثيرة منبر العداء والمخاصمة والكيدية والحملات المنظمة على الحكام المنافسين... وبالتالي فلا بد من ان يلغي كل ما يجمع، وكل ما يؤكد الترابط وعلاقات القربى ووحدة الوجدان بين الشعوب.

منذ متى لم يدخل المشاهد العربي صالة سينما تعرض شريطا عربيا، بممثليه وممثلاته ومخرجه ومنتجه؟!

لقد بارت صناعة السينما في مصر. تخلت عنها الدولة وحولها القطاع الخاص الى ما يشبه <<الكباريه>> او الدكان الذي تباع فيه اللذة الرخيصة والضحك الرخيص.

كثرت المؤتمرات وتناقصت العلاقات وتبادل الخبرات والتجارب بين المبدعين العرب. صار <<الدولي>> هو الأساس بتشكيلاته المختلفة وبميزانياته المحترمة. الدولي جعل كل حي في اي مدينة <<دولة>> بل امة لها موسيقاها وانماط غنائها وادبها الشعبي وثقافتها الخاصة.

احمد زكي، الفنان الممتاز، كان واحدا من الروابط الباقية.

قبل احمد زكي خسرنا توأمه الفنانة المبدعة سعاد حسني. لم تخسر السينما المصرية احد نجومها. لقد خسر العرب بعض صلات الوصل بينهم حيث يتلاقون بهمومهم الثقيلة وافراحهم الصغيرة.

احمد زكي: لقد انتهت معك مرحلة كنت فيها، مع قلة من زملائك الفنانين الممتازين، بين آخر روابط الوجدان بين العرب.

احمد زكي: لقد خسرنا معك بعض عمرنا بكل احلامه السَّنية التي تكاد تتحول مع الردة الانفصالية المعززة بالديموقراطية الاميركية وجدار الفصل العنصري الاسرائيلي في قلب فلسطين، الى كوابيس <<قومية>>.

ليس انطفاء نجم. انه انطفاء حلم.

مغامرة السفر من بيروت إلى دمشق

صار الذهاب الى دمشق <<مغامرة>> تستحق المساءلة وربما المحاسبة... ويرافقك الشعور بانك تقدم على امر جلل طوال الطريق التي افرغها الخوف المزدوج من سالكيها ذهابا او ايابا. صار <<سفرا>> مجللا بالشبهات، كأنك تخرق حرما، او تتحدى <<ارادة دولية>> فضلا عن استفزازك مشاعر الغاضبين الذين يملأون الشوارع بالاعلام واللافتات والهتافات التي تطالب <<بطرد>> سوريا، تلحق بها اللعنات ولوم المقادير التي جعلتها عند حدود لبنان الذي لا تحده حدود.

الطريف انك تواجَه بالارتياب <<هناك>>، قبل ان تتخلص من عبء الشبهات التي تحف بك في الذهاب والاياب، <<لبنانيا>>: ذاهب الى دمشق؟! هل هذا ضروري؟! ألا يمكنك ارجاء هذه الرحلة في قلب الخطر!! لا تعرف كيف سيستقبلونك هناك وسيارتك بلوحة لبنانية... ماذا لو تعرضوا لك؟! هناك روايات كثيرة عما يرد به السوريون على تعديات اللبنانيين على ابنائهم هنا، زواراً وعمالاً وعابرين.

الطريق التي كان النقص في ازدحامها مؤشرا على الغلط في السياسة، ومن الاتجاهين، تكاد تكون فارغة الآن إلا من الغلط. لقد احتلها الغلط تماما فأفرغها من الناس ليملأها بالخوف من الحاضر، وبخوف أشد على المستقبل.

لقد سدت الاخطاء السياسية هذه الطريق منذ زمن بعيد.

صار <<الخط العسكري>> خلال فترة التيه هو الطريق، تزدحم عليه سيارات <<النافذين>> وفيهم السياسي والسمسار، تاجر الحديد والخشب والمهرب <<الشرعي>>، اما طريق الناس الطبيعيين المؤمنين بالعلاقات الطبيعية بين بلدين متكاملين تجمعهما القربى والمصالح المشتركة واطماع العدو الواحد، فكادت تكون فارغة لان الطبيعي قد أنقِصَ الى <<ممتاز>>... وهكذا بات <<الخط العسكري>> للممتازين الذين يخالفون الطبيعة ويتجاوزون منطقها فتكون النتيجة اغتيال ما هو طبيعي في السياسة كما في الاقتصاد، في الامن كما في التجارة، في الصناعة كما في الزراعة، في الثقافة والجامعات كما في العمالة وحركة رؤوس الاموال...

صار <<الخط العسكري>> معبراً للغلط... وتزايد عابروه بما يدل على تعاظم الغلط، فقد صار دليلاً على التمييز بين اللبنانيين، بين اصحاب الحظوة منهم لأسباب غير مفهومة، في الغالب الأعم، وبين سائر المواطنين المؤمنين بالاخوة اللاغية للحدود. صار امتيازاً لمن لا يستحقون، على حساب الأكثرية التي كانت مستعدة لحماية العلاقة الطبيعية بشغاف القلب.

الشام هادئة تماماً، كعادتها. هادئة بأكثر مما تتوقع. هادئة بأكثر مما تحتمل الظروف الدقيقة التي تعيشها، في ظل صرخات الغضب الموجهة إليها من شوارع بيروت وساحاتها، حيث تحول العتاب الأخوي، في ظل التجاهل والارتباك ورد الفعل المتشنج، إلى ما يشبه <<الثورة>> العاتية التي يسهل فيها تصوير الأخ الشقيق عدواً، ولا سيما أن ثمة جريمة لا يمكن طمسها ولا تغطيتها بالعودة إلى ثوابت التاريخ والجغرافيا والمصالح. كان لا بد من اجوبة قاطعة في وضوحها، ومن تصرفات مؤكدة لمضمون الشعارات، خصوصاً ان مباذل السياسة قد استهلكت الشعارات فجعلتها جوفاء، بلا صدى، بلا دلالة، بلا معنى الا لمن أراد استخدامها للتدليل على نقيضها.

لا سيارات لبنانية في عاصمة بني امية. لكن اللوحة اللبنانية لا تستفز احداً. السوريون الفقراء يزدحمون في شوارع المدينة ذات التاريخ المتوهج، يملأون الحارات العتيقة التي تفتش عن العيد في يوم العيد.. يمضون إلى شؤونهم بالصبر الذي ادمنوه. لا قلق، ولكنْ ثمة حزن تشي به العيون.

كان العيد في الشارع، وديعا مثل اصحابه، لا يخص طائفة بالذات ولا دينا بالذات... حتى العيد الديني في سوريا وطني التقاليد والمظاهر. العيد مثل اصحابه، متواضع، بسيط، إنساني، لا تحف به الابهة وطقوس اظهار الثراء وبهرجة محدثي الغنى والنكاية بالغير واذلال الفقراء.

دمشق تفتقد بعض روحها التي كانت تستقبل بها اي وافد عربي وكأنه عائد إلى بيته، اما <<اللبناني>> فكانت تخصه بحنان الأم... خصوصاً إذا كان قادماً إليها عبر الخط العادي، اما القادمون عبر الخط العسكري فلم تعرفهم دمشق ولم يعرفوها!

أما السفر من دمشق الى بيروت فحديثه اعظم ايلاماً وادهى!

عيد للأمل

تستقبلك عند الباب صورة للفرحة التي تتطاول الآن لتقف على قدميها، عنوانا للربيع الذي وُلد من رحم الوجع واليأس وانحطام القدرة على انجاز ما لم ينجح الآخرون في انتاجه ليكون للناس طريق للخروج من المأزق.

الصالة مزدحمة بالبهجة والأمنيات الطائرة الملونة والموسيقى التي تأخذ الى الرقص، وفي العيون المغشاة بدمع الشكر يلتمع الرجاء بأن الحياة ستنساب الآن في مسارها الطبيعي، بالتعب والرغبة، بالخذلان والنجاح، بالمآسي والانجازات.

ها هو الغد يتمايل بما يشبه الرقص، ويحرك يديه الصغيرتين بما يشبه الطرب، ويتأتئ بألفاظ تشبه الكلام... انه الأمل بتمامه.

تصاغر الكبار لعلهم يربحون معه دورة اخرى من عمر الطفولة. تعثروا بوقارهم وهم يدبون، مجتهدين، في تقليد حركاته، ثم اجبرهم الألم في الظهور على الوقوف وقد انعقفوا محدودبين بتعب التقليد... ولكنهم استمروا يتقاذفون البالونات الملونة، يهزون خصورهم، يحركون ايديهم كمن يلتقط الهواء، ويضحكون مقهقهين غير عابئين بانكشاف الاسنان الاصطناعية، واختفاء الملامح في اعماق التجاعيد.

الفرح عيد ميلاد جماعي. صار عمر الفرح سنة. لقد استعاد كل من شهد العيد سنة ضائعة من عمر طفولته التي لا تهرم ولا تشيخ.

من أقوال نسمة

قال لي <<نسمة>> الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:

لا يغيب الحب وان غاب الحبيب، يتعاظم الحب تعويضا عن الغياب، حتى ليشغلك عن كل من حولك وما بين يديك. الحب انت، فكيف تكون نسختين إلا إذا توحدت في حبيبك؟!

السفير اللبنانية

الأول من أبريل 2005

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

نجم الواقعية المصرية الجديدة

حسين بن حمزة  

سُئل أحمد زكي مرة عن مثله الأعلى في التمثيل، فقال؛ إنه أحمد زكي نفسه. لم يكن ذلك غرورا بقدر ما كان إقرارا بالحالة الحقيقية التي يعيشها كممثل. كان احمد زكي يتحدى نفسه، يربي الممثل الذي في داخله ويعتني بطموحاته ورغباته. وكان يسعى، في سبيل ذلك، الى امتصاص كل التجارب والمؤثرات الأدائية وتحويلها الى انجاز شخصي والى فن يحمل بصمته. لقد راكم عبر 56 فيلما، وهو عدد سنوات عمره ايضا، نبرة خاصة في الأداء تجمع بين الواقعية والعفوية، وتعويم الانفعال الداخلي ودفعه الى ملامح الوجه والنظرات واليدين وايقاع الصوت والتنفس. هناك حزمة من التفاصيل والتدرجات في حضور هذا الممثل الذي كثيرا ما قيل عنه انه <<غول>> او <<وحش>> تمثيل. يوسف شاهين، الذي عمل احمد زكي بإدارته في فيلم <<اسكندريه ليه>>، قال انه <<عفريت تمثيل>>. نور الشريف صرّح انه، ان كان يعطي لنفسه سبعة من عشرة في التمثيل فانه يعطي عشرة من عشرة لأحمد زكي.

ربما لا يحتاج الامر الى شهادات في حقه، فأفلامه تشهد بنفسها على تجربة سينمائية غاية في الخصوبة والتنوع والبراعة. كما انه كان علامة فارقة وحاسمة في صعود موجة تجديد واقعية السينما المصرية في ثمانينيات القرن الماضي، تلك الموجة التي تحققت في افلام مخرجين من أمثال عاطف الطيب ومحمد خان وخيري بشارة وعلي بدرخان وداوود عبد السيد... لقد عمل أحمد زكي امام كاميرا هؤلاء وفي اكثر من فيلم لكل واحد منهم. اذ ينبغي ان لا ننسى انه كان بطل <<العوامة رقم 70>> الفيلم الروائي الاول لخيري بشارة: وانه كان بطلا لافلام <<الهروب>> و<<البريء>> و<<ضد الحكومة>> و<<الحب فوق هضبة الهرم>> للراحل عاطف الطيب، وانه كان بطلا لأفلام <<موعد على العشاء>> و<<زوجة رجل مهم>> و<<أيام السادات>> لمحمد خان، وأنه كان بطلا لفيلم <<أرض الخوف>> لداوود عبد السيد، وفيلم <<الراعي والنساء>> لعلي بدرخان، وهو آخر افلام سعاد حسني شريكته في <<لوثة>> التمثيل والنهاية المأسوية.

لم يكن تفوق احمد زكي مفاجئا، بل افصح منذ البداية عن حساسية مبكرة تمثلت في نيله جائزة افضل ممثل على مستوى المدارس الثانوية في مصر، وتخرج في المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1973 وكان الاول على دفعته. وفي وصف مميز للممثل احمد عبد الوارث، زميله في المعهد، قال ان احمد زكي لم يكن يتفوق عليهم فحسب بل كان شيئا مختلفا بالمرة. والأرجح ان هذا الوصف يحاذي الحقيقة والواقع، فأحمد زكي لم يكن متفوقا وبارعا ورائعا فقط. لقد كان، ببساطة، ممثلا مختلفا. حتى ان البعض يرى انه كان اهم من بعض الافلام التي ظهر فيها. كانت لديه كاريزما معدية يمكنها ان ترفع مستويات الفيلم الاخرى بينما هو مشغول باستخراج احشاء الاداء من اعماقه وابرازها امام الكاميرات والمشاهدين. معظم الذين مثلوا مع احمد زكي تحدثوا لاحقا عن الدعم الفائض وغير المباشر الذي شعروا به وساعدهم على اظهار افضل ما فيهم. احمد زكي، بدوره، لم يكن يُنكر مواهب ونجاحات بعض زملائه، ولا يُنسى، في هذا السياق، وصفه للمشهد الذي ترجوه فيه سعاد حسني بأن يبقى في فيلم <<الراعي والنساء>>. قال ان هذا المشهد ينبغي ان يُدرّس في معاهد السينما، تُرى كم هي عدد مشاهد احمد زكي التي ينبغي ان تُدرّس؟!

في اللحظات التي أعقبت خبر رحيله، احتارت محطات التلفزيون ماذا تعرض له في المناسبة وماذا تهمل، فهو لم يُعرف بفيلم او باثنين او بثلاثة. بعض الصحف اشتقت خبر رحيله من افلامه، فعنونت مقالاتها برحيل <<البريء>> و<<الامبراطور>> و<<عندليب السينما>>، والعنوان الاخير اشارة الى فيلم <<حليم>> الذي لم ينته تصويره. وإذا وُضعت جنازته هو في نهاية الفيلم كما أشيع في الاخبار فإن ذلك سيطابق بين سيرة عملاقين ولدا في محافظة الشرقية نفسها وعانيا من اليُتم المبكر وعاشا ثالوث الفقر والمرض والشهرة، ومن غرائب الصدف ان يرحل قبل ثلاثة ايام من الذكرى الثامنة والعشرين لرحيل عبد الحليم.

رحل أحمد زكي في زمن تراجعت فيه السينما المصرية وتغير مفهوم الجودة فيها. انتشر ما سمي بالسينما الكوميدية والشبابية وكلها، في الواقع، تسميات مقنّعة لسينما تبحث عن الايرادات الضخمة على حساب السينما نفسها، حيث صار المنتجون يفضلون السيناريوهات الخفيفة والمفبركة ويشترطون فيها زيادة الضحك (حتى لو كان زائدا وسمجا وغبيا). فيلم ليس على هذه المقاييس من النادر ان يصمد في سوق الافلام التي تبلغ ذروتها في موسم الصيف، حيث تبدأ الصحافة بتفضيل الافلام حسب قائمة الايرادات.

سينما كهذه كان أحد نتائجها طرد السينما الجيدة او وضع صعوبات هائلة امامها على الأقل. السينما الرديئة طردت السينما الجيدة، الممثل الرديء والعادي طرد الممثل الجيد، المخرج الرديء طرد المخرج الجيد... وهكذا توقف الكثيرون، ممثلين ومخرجين، عن العمل تقريبا. بعض النجوم حاولوا تغطية اعتزالهم السينمائي الاجباري بالهجرة الى التلفزيون. بعض المخرجين فعل ذلك ايضا. خيري بشارة لجأ الى الفيديو، محمد خان وعلي بدرخان وداوود عبد السيد لا يعملون تقريبا، عاطف الطيب رحل قبل ان تحل الكارثة بالسينما، ورضوان الكاشف غاب باكراً. هناك مجدي علي احمد وأسامة فوزي ويسري نصر الله الذين يواجهون عقبات كبيرة في العمل.

أحمد زكي، في هذا المعنى، رحل في زمن تماوت السينما المصرية. وفي الوقت الذي كان زملاؤه يتوقفون او يهاجرون الى التلفزيون، كان هو مشغولا بأفلام الشخصيات <<ناصر 56>> و<<أيام السادات>> و<<حليم>>.. وهي افلام لن تُصنّف، رغم اهميتها، بين اهم افلامه، لأنها، بحسب نقاد كثيرين، تحجب الممثل في احمد زكي لصالح المحاكاة والتقليد. افلام الشخصيات، على الارجح، كانت نوعا من الحل الذي حمى احمد زكي من التوقف او الهجرة الى التلفزيون.

رحيل احمد زكي، يكشف حقيقة المشهد الآفل للسينما المصرية اليوم، فالممثل الذي قدم 56 فيلما بينها عشرة وردت في قائمة افضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية. ماذا كان سيفعل لو خيّر بين التوقف عن العمل او الهجرة الى التلفزيون. رحيل أحمد زكي أعفاه من مرارة الاختيار.


(
) كاتب سوري مقيم في بيروت

السفير اللبنانية

الأول من أبريل 2005