تنتهي بعض الأفلام بعد أن تبدأ بقليل عندما يكون بإمكان المتابع توقع
الأحداث في تسلسل استنتاجي بناء على الأحداث التي تجري في بداية الفيلم
وتكون بقية الأحداث بلا قصة حقيقية، بعض الأفلام الأخرى تقطع الأنفاس حتى
آخر مشهد، وينتظر المشاهد ظهور شارة النهاية للتيقن من انتهائه حيث يفوق
تحديده للنهاية قدراته، أما فيلم “دواحة” التونسي للمخرجة رجاء عماري فيبدأ
بعد ان ينتهي العرض، ليس فقط للصدمة التي يتركها بل للمستوى الرمزي الذي
يقدمه.
للفيلم الذي عرض أمس الأول ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة مستوى
واقعي وآخر رمزي، ويدور حول ثلاث شخصيات، فتاة وأمها وجدتها مع أن حبكة
الفيلم لا تصرح بهذه التراتبية العنقودية من التسلسل العائلي، بل يظهرها
على أنها أم وابنتاها، لكن مع ربط بعض الاشارات ببعضها يستنتج المشاهد أن
الشخصية التي تلتقي فيها خيوط الأحداث وهي الفتاة عائشة “حفظية حرزي” هي
ابنة راضية “سندس بالحسن” وليست أختها عندما تنبش عائشة قبر الطفل الذي
أجهضته ليتبين أنها عظام جمجمة كلب وليس طفل راضية المجهض نتيجة عملية
اغتصاب غامضة تعرضت لها لم تتوضح في الفيلم تماما، لكن الشبهة تدور حول
والدها نفسه.
إذاً، لدينا ثلاثة نساء يعشن في عزلة اختيارية من الأم وابنتها، واجبارية
للفتاة الشابة، ويكون مكان الأحداث منزلاً كبيراً قديماً فيه عدة سراديب
والكثير من الغرف وحديقة كبيرة تحيط به من كل الجهات، هذه العزلة يتم
اختراقها فجأة من قبل شاب مع خطيبته هما علي وسلمى (ريم البنا)، ورغم أن
المرأة الكبيرة تتعرف إلى علي من خلال صورة قديمة تعود للعائلة التي كانت
تقطن المنزل، إلا أن هذا الاقتحام أحدث هزة في السكون الذي كانوا يعيشون
فيه لفترة طويلة في قبو المنزل الذي كان يستخدم سابقاً للخدم، ومن هؤلاء
الخدم كانت المرأة الكبيرة التي تعرفت إلى الصورة. فكرة الطمانينة بالعزلة
كما في قصة “السرداب” للكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس هي ما قررته
المرأة الكبيرة وابنتها راضية لحماية الفتاة من الخارج، فكانت النتيجة فتاة
لم تتخلص من طفولتها، ولا تعرف شيئاً عن فكرة الحب والارتباط لدرجة كادت
تنبه علي أن يترك سلمى وشأنها عندما دخلت عليهما. تبدأ عائشة بالانجذاب
للعالم الجديد الذي جاء مع هذا الشاب وخطيبته من خلال شكل الفتاة الأنيق
ذاتها والحفلة الكبيرة التي أقاماها في المنزل وحضرته عائشة التي وجدت الأم
والجدة بانتظارها لتفحصا بكارتها في مشهد يعكس وحشية العالم الخارجي في
نظرهما لذا تقومان بربط الفتاة بالحبل، وعندما ترى سلمى وضعها بالصدفة تدخل
من النافذة لتقع بين أيدي الامرأتين وتظل حبيسة وأشبه بمعتقلة في الداخل،
فيما يبحث عنها خطيبها ومجموعة من أصدقائه، ولأن المجتمع يتغير بسرعة هناك،
شهدت عائشة خيانة علي لسلمى مع فتاة أخرى. محاولة هروب سلمى من القبو تبوء
بالفشل في كل مرة لدرجة تواجهها راضية في المرة الأخيرة بالعنف. الصدمة
التي احدثها الفيلم كانت في المشاهد الأخيرة عندما تستيقظ عائشة وتذهب إلى
غرفة أمها لتخنقها حتى الموت، ثم تأتي إلى الحمام لتتأنق وهو ما يعتبر خطا
أحمر وضعته لها الامرأتان، لكنها لا تبالي ولتسألها بتحد: ماذا قالت لك
أمي؟ ثم تقوم بذبحها بشفرة الحلاقة دون أن يظهر مشهد الدم، لتسير في المشهد
الأخير في شارع مزدحم بالمدينة وهي ترتدي فستاناً أبيضاً عليه الكثير من
دمائها وسط ذهول المارة منها، بينما هي تبتسم في غاية السعادة.
يتضمن الفيلم ثلاثة مشاهد عاطفية حساسة، وإن كان تبرير ذلك سيكون لخدمة
العمل الفني كما يقال دائماً، إلا أن المشهد الثالث فيه لا يخدم سوى الغرض
التجاري.
لو تناولنا الفيلم على هذا المستوى فإنه لن يكون واقعياً، لأن ما رواه ليست
ظاهرة بل استثناء يحدث في أي مجتمع، كما ان النتيجة التي يقولها الفيلم أن
الكبت يولد الانفجار فكرة قديمة لم يبق كاتب في أي حقل أدبي أو سياسي أو
فني لم يتناولها.
المخرجة رجاء عماري نفت أن تكون شخصيات فيلمها هي نموذج المرأة التونسية،
وربما إجابتها لم تقنع بعض الجمهور الذي حضر اللقاء المفتوح الذي أعقب
الفيلم مباشرة. وأكدت أن القصة تستند إلى الخيال أولا لخلق شخصية فريدة.
ربما لم ترغب المخرجة في فك شيفرة فيلمها مباشرة وعند أول تساؤل معترض على
النماذج النسائية التي قدمتها. لكن طالما ان مشهد قتل الفتاة لأمها وجدتها
كان هو الفعل الصحيح حسب رؤية المخرجة في الفيلم، من الضروري النظر إلى هذه
الشخصيات كرموز تشير إلى مستوى آخر من الطرح الخفي، وهي مسألة التغيير
الاجتماعي والتيارات المتصارعة بين منفتح “عائشة” على العالم الخارجي
“سلمى” وبين التيار المحافظ التقليدي الذي جسدته الجدة والأم الذي واجه
التغيير بالانغلاق أولاً ثم بالعنف ثانياً، الانفتاح يجلب الرخاء الاقتصادي
والذي رمزت إليه المخرجة من خلال مساعدة سلمى لراضية ببيع مطرزاتها في مكان
آخر غير الذي اعتادت عليه، وهو ما أعاد عليها بفوائد مالية غير متوقعة، لكن
رغم ذلك قامت بالتضحية بكل هذه المكتسبات مقابل الحفاظ على الانغلاق في وجه
الانفتاح المحيط بهم من كل الجهات. وبالتالي طرح المخرجة يناقش فكرة
الحداثة ذاتها في إطار البيئة التي ترفضها، واختارت شخصية الفتاة المراهقة
الناتجة عن زواج غير شرعي بين التقاليد والسلطة كرمز ثوري يقضي على قابلية
استنساخ هذا التيار تجديد نفسه.
ربما رمزية الفيلم شديدة التعقيد، وقابلة للتأويل لدرجة تصل إلى عدم ذهابنا
بعيداً وراءها، بل ان هناك أيضا من يرفض فهم فكرة الفيلم خارج الاطار
الواقعي الأول الذي ذكرناه بداية، هذا كله لا يعفي الفيلم من الغموض الذي
اكتنفه في الكثير من المراحل لدرجة بدت أنها مرهقة للمشاهد، ولم تتوضح
العلاقات الاجتماعية فيها كما لم تكشف عن معطيات تاريخية لكيفية خلو
المنزل، الأمر الذي يقطع الطريق على المشاهد ربط المنزل بفضاء جغرافي أو
ثقافي معين، بالاضافة إلى أنه يمكن مناقشة فكرة التغيير على أكثر من مستوى
وبأكثر من طريقة بينما تركزت رؤية الفيلم على تأسيس مرحلة قطع شاملة مع
الماضي وبطريقة ثورية، وهو ما ينفي الحيوية عن فكرة التغيير والتطور ذاته.
وفي المؤتمر الصحافي الذي عقد يوم أمس، أكدت المخرجة رجاء عماري انه يمكن
قراءة الفيلم بأكثر من طريقة، منوهة بأنها لم تقم من خلال فيلمها بانتقاد
المجتمع التونسي بل لنقل الواقع.
الخليج الإماراتية
في
16/10/2009 |