فنونٌ عدّة يمتهنها الأميركي ديفيد لينش في حياته المهنية.
فالسينما، وإنْ تكن أساسيّة، غير طاغية على اشتغالاته، التي تعثر في وسائل
تواصل بصرية مختلفة على أدوات قولٍ فني آنيّ، أحياناً كثيرة. ولينش، الراحل
في 15 يناير/كانون الثاني 2025، يتمتّع بالأعمق من هوايةٍ في اختبار كلّ
فنّ، وبالأوسع من كلّ أداةٍ تُعينه على قولٍ كهذا.
التعريف الأبرز له يتضمّن التالي: سينمائي وسيناريست
ومُصوّر فوتوغرافي وموسيقيّ ورسّام. لكنْ، في تقديم العدد الثاني من سلسلة
Hors Serie
الخاصة بـ"السينمائيين" (تُصدرها المجلة السينمائية الفرنسية الشهرية
"دفاتر السينما")، يُذكِّر تييري جوس وماركوس أوزال بـ"نشاطه الرائد في
الإنترنت، تلك المساحة التي يُدرك باكراً جداً كيفية الاستثمار فيها بطريقة
مرحة ومُبتكرة".
لكنّ رحيله، قبل خمسة أيام فقط على بلوغه 79 عاماً (مواليد
ميسولا في مونتانا، 20 يناير/كانون الثاني 1946)، يجعل عناوين صحافية كثيرة
تُبرز صفة "رؤيوي" في اختزال سيرة واشتغالات. الزميل سعيد المزواري (ناقد
سينمائي مغربي) يكتب في رحيله أنّ "العالم صار فجأةً أقلّ قابليةً
للغرابة"، وأنّ "الحياة تبدو بالتالي أكثر سطحيةً من أيّ وقت مضى"،
مُعتبراً أنّ العزاء "واحدٌ في الرجل. وعزاؤنا الوحيد في مُنجزه الهائل"
(فيسبوك، 16 يناير/كانون الثاني 2025).
فالصفة، التي يُمكن ترجمة أصلها الفرنسي
(Visionnaire)
بـ"حالم" أو "خيالي" أو "كثير الرؤى" وغيرها، تجد في سينما ديفيد
لينش كلّ الصفات تلك، لما فيها من اختراقٍ لمألوفٍ حياتي، ولأسلوبٍ في
تفكيك العالم وتفاصيله. أمّا "الغرابة" فركيزة تكاد تكون وحيدة في تلك
السينما، التي تفقد برحيل صانعها قدرة إمتاع مهووسين ومهووسات بها بالمعنى
الأبهى للغرابة، التي لن تبتعد كثيراً عن وقائع مثقلة بغير المُحتَمل،
فيصير الهوس بالمتخيّل إطلالةً على جوف عميق من ارتباكاتٍ وصدماتٍ.
لكنّ الانصراف في تلاعبٍ على مفردات نقدية، في كتابةٍ تودّع
ديفيد لينش، غير صائبةٍ كلّياً، لأنّ ما يُرى في سينماه ربما لن يكون
مقصوداً من قِبله كلّياً. هذا لا يعني أنّه غير قاصدٍ ما يُرى، أو غير
قاصدٍ ابتكار أصنافٍ شتّى من صُورٍ، تلتقي كلّها في غرابة مُحمّلة أحياناً
بشيءٍ من إثارة وهلع، ومن ترقّبٍ مُخيف للمُقبل من صُور وأحداثٍ وحالات.
في ردٍّ على اعتبار
Mulholland Drive،
المُنجز عام 2001، "بورتريه" لهوليوود، يقول إنّه غير عارفٍ أصلاً بأنّه
"فيلمٌ عن هوليوود"، وبأنّه يُدرك هذا لاحقاً. فالأساسيّ عنده كامنٌ في أنّ
هناك أفكاراً تنشأ في الوعي، "فتراها وتسمعها"، وعندما تتخمّر "سترى ثيمة
تظهر"، تفلشها على الورق، "وهذا يتغيّر في السيناريو"، مُعتبراً أنّ "هذا"
نفسه ليس هدفاً، بل وسيلةً لتنظيم الأفكار، وعندها "تُترجم هذا كلّه، وتقول
إنّه حكاية تتناول هوليوود". (حوار مع يال سادَت، "دفاتر السينما"،
إبريل/نيسان 2023).
إنْ يكن عن هوليوود، أمْ عن امرأةٍ تعيش فيها وليس عن "شرط
عيش النساء في هوليوود"، أو عن الممثلات، يُشكِّل فيلمه هذا تحدّياً في
كيفية إبراز حُطامٍ من داخل كائن بشريّ، وإيجاد حيّزٍ له في المساحة
الضيّقة لعيشٍ وشعور وعلاقات. تحدٍّ غير مُكتفٍ بنصٍّ، بل بصُور متلاحقة
تعكس جوّانية الكائن ومسار الجوّانية إلى الانكشاف والتقهقر، تماماً
كالحاصل في "الرجل الفيل" (1980)، لكنْ بطريقة عكسية، فالحطام سيكون خارج
الكائن البشريّ المُشوَّه، وجوّانية الأخير تخدع ذاك الخارج الذي ينهار
أمام انكشافها.
"الرجل
الفيل" أول فيلمٍ أشاهده لديفيد لينش، رغم أنّه الثاني في سلسلة أفلامه
الطويلة، بعد "ممحاة الرأس"
(1977،
ترجمة حرفية لـEraserhead)،
المشغول بالأسود والأبيض. مشاهدة "الرجل الفيل" صادمةٌ، لشدّة هلعٍ ينبثق
من الشاشة، قبل تمكّنٍ ذاتيّ من ضبط العلاقة بالمُصوّر في حكاية مفتوحة على
ابتكار بصري، التمثيل أبرز إنتاجه (جون هارت وأنتوني هوبكنز أولاً). أمّا
"برّية في القلب"
(1990،
ترجمة حرفية لـWild
At Heart)،
فمزيجٌ صاخب من تناقضات وامتدادات في آنٍ واحد، بين رجل وامرأة (نيكولاس
كايج ولورا ديرن)، في مدى واسعٍ من مشاعر ومواجهات وعنفٍ، بعضه المبطّن
أقسى من ذاك الظاهر أحياناً.
من جملةٍ تقول إنّ "ديك لورانت توفّي"، تبدأ رحلة في متاهات
الذات الفردية وما يحيط بها من أناسٍ وذكرياتٍ وماضٍ، في "طريق سريعة
مفقودة"
(1997،
Lost Highway).
متاهات تتشكّل في سلسلة لقطات، يطغى عليها مناخٌ يشي بكابوسٍ، يحضر في
أفلامٍ أخرى للينش أيضاً.
أيُمكن اعتبار الكابوس امتداداً لغرابة سينماه، أو تفسيراً
مختلفاً لها، إذ يُصنَع الكابوس من لوحاتٍ متداخلة ومعقّدة وضاغطة، ألوانها
غير متناسقةٍ، ومحتواها مُصوّر بكل ما يشي بغموضٍ وعدم إدراكٍ، يكادان
(الغموض وعدم الإدراك) يكونان فعلاً غريباً في مقاربة كلّ شيءٍ وكلّ أحدٍ،
أو في الإحساس بهما (الشيء والأحد)؟
نبأ رحيل سينمائيّ كديفيد لينش دافعٌ إلى محاولة اكتشاف
جديدٍ في الكتابة عنه. فهو مُثابرٌ فعّال في تحريضٍ دائم على مُشاهدة
وإعادة مُشاهدة أفلامه (على الأقلّ)، بنيّة اكتشاف غير المُكتشف سابقاً.
"الرجل الفيل" حاضرٌ بقوّة في ذاتٍ غير منفضّة عنه. "توين بيكس" (1992، قبل
"القِطَع الناقصة من الملف"، 2014) يعلق بشدّة، لما فيه من ثقوبٍ غير
واضحةٍ إلى الآن، أو ربما هناك رغبة ذاتية لاواعية في عدم توضيحها.
"الكثبان الرملية"
(1984،
Dune)،
رغم كونه "خيال علمي" غير مُحبّب كثيراً إليّ، يجد في الذاكرة مكانةً،
لتمزيقه كلّ خارجٍ يحجب مخبّأ.
هذا قليلٌ في كتابة تودِّع فناناً اسمه ديفيد لينش. أعمالٌ
كثيرة له غير سينمائية، والتنقيب فيها عن سمات مطبوعة به يحتاج إلى أكثر من
مقالةٍ، وإلى وقتٍ أطول. في زمن كورونا، يهتمّ بمسائل سينمائية، مُعتبراً
أنّ هناك عاملين وعاملات في صالات العروض يحتاجون إلى دعمٍ وانتباه أيضاً،
في عزلةٍ مفروضة عليهم. يُشدِّد حينها على أنّ إغلاق الصالات مؤقّتٌ، وأنّ
المقبل أفضل، فالناس "يحبّون" المُشاهدة في الصالة، لا في غرفة منزلٍ.
لكنّه، في 15 يناير/كانون الثاني 2025، يُغادر الصالة
والغرفة والمدينة والعالم والحياة، بما يُشبه الصمت والسكينة. قبل أشهرٍ (5
أغسطس/آب 2024)، يعترف بأنّه مُصاب بـ"انتفاخ في الرئة"، جرّاء "سنوات من
التدخين"، فللمتعة (التدخين) ثمنٌ (انتفاخ في الرئة)، والموت خاتمةٌ بغيضة،
لكنْ لا فرار منها. |