ملفات خاصة

 
 
 

السوري عبد اللطيف عبد الحميد سينمائي الخيبات الانسانية

سامر محمد إسماعيل

عن رحيل

عبداللطيف عبدالحميد

   
 
 
 
 
 
 

صاحب "رسائل شفهية" التقط تناقضات الشارع واستبق انتفاضة الشعب بصرخة مدوية وسخر من شتى أنواع والقمع

ملخص

رحل المخرج والممثل السينمائي السوري عبد اللطيف عبد الحميد عن 70 عاماً في دمشق التي لم يشأ أن يغادرها، على رغم الحرب، مختاراً أن يبقى مع الشعب الذي عبّر عن خيباته والآمه وآماله القليلة.

شكّل الحلم في سينما عبد اللطيف عبد الحميد (1954-2024) مادة خصبة لصياغة ما يقارب 20 فيلماً، روائياً طويلاً وقصيراً ووثائقياً. وقد بدأ تجربته منذ تخرجه في المعهد العالي للسينما في موسكو عام 1981، فاستلهم تجربة "سينما المؤلف"، وكتب كل سيناريوات أفلامه. الرجل المولود في حمص كان بدأ حياته كموسيقي ومطرب بعد دراسته للموسيقى. وهذه ذكريات كان عبد الحميد قد عاد إليها في أفلام له  اقترب فيها من السيرة الذاتية، بينما استعاد في أفلام أخرى، أحداثاً من حياته مذ كان فتى ، فأورد عبرها، ملامساته الأولى لسحر الفن السابع، عبر مواظبته طفلاً على حضور أفلام شارلي شابلن في صالات مدينة اللاذقية.

أثناء دراسته للسينما في موسكو قام صاحب "قمران وزيتونة" 2002 بتحقيق العديد من الأفلام الروائية القصيرة كان أبرزها "تصبحون على خير" و" رأساً على عقب"، إضافةً إلى فيلمين تسجيليين هما "أيدينا" و"أمنيات" اللذان حققهما في 1983. وهو العام الذي عمل فيه مخرجاً مساعداً مع  السينمائي محمد ملص في فيلمه "أحلام المدينة"، قبل أن ينجز فيلمه الروائي الأول "ليالي إبن آوى" 1987. وقد قارب فيه ولأول مرة بيئة الساحل السوري، بما شكّل صدمة للجمهور على صعيد استخدام لهجة تلك المنطقة.

اتكأ هذا الفنان على إرثٍ معرفي وحياتي كبيرين، لقراءة البيئة التي أخلص لها من دون أن يخونها أو يزوّرها، أو حتى أن يحاول زركشتها وتجميلها. لكن البيئة هنا لم تكن هاجس هذا المخرج، بل كانت هي مجرد أداة لتشريح عمق هزيمة حزيران 1967، وما تركته هذه الهزيمة من آثار نفسية لا تمحى عند أبناء جيل عبد اللطيف.

بدا ذلك في فيلمه الأول الذي حاز عليه العديد من الجوائز في مهرجانات دولية. فيلمه الثاني "رسائل شفهية" 1991 لم يتأخر، بل كان مفاجئاً وصادماً من حيث استمرار عرضه في الصالات السورية لسنوات عدة، وبنجاح جماهيري منقطع النظير. ظاهرة لم تشهدها سينما القطاع العام في سورية إلا في فيلم "الفهد" لنبيل المالح (1936- 2016). هكذا تمكن عبد الحميد من تحقيق ما يسمى معادلة "نقاد- جمهور"، فنال هذا الشريط وقتها الجائزة البرونزية في مهرجان فالانسيا لدول المتوسط في إسبانيا، عام 1992. إضافةً إلى جائزة الجمهور الشاب في مهرجان مونبليه في فرنسا، وجائزة اتحاد النوادي السينمائية الأوروبية عام 1992.

قدّمت الحياة الكثير من المقترحات لصاحب "ما يطلبه المستمعون"  2003، فانعكست شخصيته المرحة الساخرة في نتاجه الإبداعي، وتجلى ذلك كملَكة خاصة لديه، لصياغة المفارقة والدهشة سينمائياً، أمام كل موقفٍ أو حادث عابر يمر به في حياته اليومية. هكذا التقط الفنان السوري مادته الفيلمية بفطرية بالغة، من متناقضات الشارع السوري، وسخر من شتى أنواع القبح والقمع الاجتماعي والسياسي والأبوي. فقد كان معروفاً عن عبد اللطيف أنه يستيقظ من نومه ليدوّن أحلامه على دفاتر يضعها إلى جانب سريره، فـالأحلام بالنسبة إليه هي "الحقيقة الوحيدة" كما كان يردد فيدريكو فيليني (1920-1993).

عبارة استقاها عبد الحميد من السينمائي الإيطالي، فكان لكل فيلم من أفلامه قصة حلم. المنامات المدونة كسيناريوات محتملة، ومن ثم استعادتها أمام الكاميرا، بدت جوهر هذه التجربة الخاصة التي لا تعتبر الواقع إلا حلماً موازياً. تماماً كما حدث عندما كتب وأخرج فيلمه الروائي الطويل "نسيم الروح". الشريط الذي أهداه لروح الموسيقار المصري بليغ حمدي (1932-1993) وحقق أيضاً نجاحاً في شباك التذاكر، وحصد عليه العديد من الجوائز، ومن أبرزها جائزتا لجنة التحكيم الخاصة والجمهور الشاب في مهرجان جربا في تونس 1999، وجائزة أفضل ممثل (بسام كوسا) في مهرجان الفيلم العربي في باريس 2000.

وتميزت تجارب عبد اللطيف بمسحة الكوميديا المريرة والساخرة، لاسيما في شريطه الطويل "خارج التغطية" 2007. الفيلم الذي تعرض لهجوم كبير من الرقابة لكونه طرح لأول مرة مسألة المعتقلين السياسيين في سوريا. وعلى الرغم من الحذف وإعادة المونتاج في الفيلم، ظل عبد اللطيف مصراً على تقديم وجهة نظر مغايرة عن مثقفي اليسار الذين تعرضوا للاعتقال والمضايقات من قبل السلطات. تماماً كما حصل في فيلمه الإشكالي "العاشق"، والذي وجّه عبره نقداً قاسياً لحزب البعث ومسؤوليه، خاتماً الشريط بصرخة: "الشعب السوري واحد"، وهي أحد أبرز الهتافات التي تبناها الحراك الشعبي في البلاد بعد اندلاع الأحداث الدامية في نيسان (آذار) 2011.   

في هذا الفيلم ومن قبله "صعود المطر" 1994 ومن بعده فيلماه "خارج التغطية" 2007، و"مطر أيلول" 2008، أكد أن تجربته السينمائية لم تقتصر على الريف السوري، بقدر ما كانت تحاول النبش في المسكوت عنه أينما وجد، ومحاولة إيجاد شخصية سورية جامعة، حاول هذا الفنان تهجئة مراراتها وخيباتها العميقة. فالمدينة كما هو الريف الذي شاهده الجمهور في أفلام عبد اللطيف، كانا بعيدين عن أي ضغينة أو أفكار مسبقة، بل سعى هذا الفنان إلى التجريب السينمائي دونما جلبة، واعتمد على قصص واقعية أعاد إنتاجها بصيغة أقرب إلى الكاريكاتيرية ضمن قالب أقرب إلى الواقعية السحرية.

لا يمكن أن نعزل شخصية عبد اللطيف المخرج عنه كممثل في أفلامه وأفلام سواه، وشارك في العديد من التجارب كممثل دور رئيسي، كان أبرز تلك الأفلام أمام كاميرا المخرج أسامة محمد في فيلمه "نجوم النهار" عام 1988، ليلعب بعدها أدواراً لافتة مع المخرج جود سعيد في ثلاثة أفلام هي "صديقي الأخير"، و "في انتظار الخريف" ومؤخراً "سلمى" (قيد التحضير)، فيما قدم شخصية شيخ الكتّاب في فيلم "ماورد" لمخرجه أحمد إبراهيم أحمد. وفي كل هذه الأفلام لم يتنازل عبد الحميد عن مسحة الأداء الكوميدية، وعن تلك الشطارة في تمرير لحظات تلقائية أمام كاميرا المخرجين الذين عمل معهم، فجسد أدوار ضابط الإستخبارات ورجل الدين والمدرب الرياضي والمزارع والمخرج السينمائي، بعفوية لافتة، وابتعد تمام البعد عن التكلف أو المبالغة.   

قدم عبد اللطيف في سنوات الحرب السورية العديد من الأفلام التي تباينت من حيث مستواها الفني، لكنها ظلت محافظة على سخريتها اللاذعة من كل أطراف الصراع السوري، ومن أبرز تلك الأفلام "أنا وأنتِ وأمي وأبي" و"طريق النحل" و"عزف منفرد" و"الإفطار الأخير" و"الطريق"، وحاز هذا الأخير جائزتي أفضل نص وأفضل تمثيل (موفق الأحمد) في الدورة 33 من مهرجان قرطاج السينمائي لعام 2022. وكان المخرج يعكف على كتابة سيناريو فيلمه الجديد، لكن حالته الصحية كانت إلى تدهور بعد وفاة رفيقة دربه ومصممة أزياء معظم أفلامه لاريسا عبد الحميد، مما عرّضه لإجراء عملية قلب مفتوح، إلى أن تمكنت الأحزان من اقتطاف عينيه مساء الأربعاء إثر تعرضه لنوبة قلبية حادة.

ونعته نقابة الفنانين ووزارة الثقافة السورية والمؤسسة العامة للسينما، فيما كتب العديد من المثقفين والفنانين على حساباتهم الشخصية على الفيس بوك في رثائه، فدوّنت الفنانة سلاف فواخرجي تقول: "ما أقسى هذه الليلة أيها الحبيب الغالي، أستاذي وصديقي…الكبير والعظيم عبد اللطيف عبد الحميد، لا تكفيك كل الدموع … يا قلبي رحل أبوك…لا ضحكات من بعدك". فيما كتب المخرج جود سعيد تدوينة مؤثرة بعد أن قام بإسعافه شخصياً من بيته في حي ركن الدين إلى مستشفى ابن النفيس عند سفح قاسيون: "السينما السورية تنعى بسمتها، عبد اللطيف إلى لقاء في عالم أقل وجعاً. كيف سأنام اليوم دون صوتك، كيف سأنام اليوم وغداً وبعد غد. كان هذا باكراً يا صديقي". في حين كتب الشاعر والنحات أحمد إسكندر سليمان المقيم في ألمانيا ناعياً صديق العمر: "عبد اللطيف عبد الحميد، لن أقول وداعاً، لأنكَ باقٍ كما الزمان الذي يأتي ويتدفق. إلى الآن الذي أردناه مشبعاً بالجمال والفرح والعدالة. يؤلمني أنني لستُ قريباً منك الآن يا صديقي... يؤلمني أنني لن أراك حين أعود إلى دمشق".

 

الـ The Independent  في

16.05.2024

 
 
 
 
 

وفاة المخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد

دمشق ـ «سينماتوغراف»

أعلن في سوريا، فجر اليوم الخميس، وفاة المخرج السينمائي السوري البارز عبد اللطيف عبد الحميد، عن عمر ناهز 70 عاماً.

ويعتبر المخرج الراحل أحد أبرز رواد الحركة السينمائية والفن السابع في سوريا، ووضع بصمة مميزة في السينما من خلال أعماله التي حفلت بها مسيرته.

عبد الحميد المخرج السينمائي ولد عام 1954 ودرس السينما في المعهد العالي للسينما في موسكو ليتخرج منه عام 1981 وينجز أثناء دراسته في المعهد ثلاثة افلام وهي (تصبحون على خير، ودرس قديم، ورأساً على عقب) وبعد عودته إلى دمشق أنجز للمؤسسة العامة للسينما فيلمين تسجيليين هما (أمنيات وأيدينا).

عبد الحميد صاحب موهبة الدمج بين الكوميديا والتراجيديا في آن معاً حيث كانت بيئة الريف السوري خصوصا سمة للعديد من أفلامه السينمائية، وحتى حين ينتقل بكاميرته للمدينة يظل يبحث عن آثار ريفية لتطعيم عمله بالهوية المتفرد بها.

وعمل عبد الحميد في المؤسسة العامة للسينما وأنتج معظم افلامه من خلالها حيث شهد النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين انعطافة حادة في مسيرة السينما السورية بعد فترة من الركود تمثلت بالأفلام الجماهيرية التي أخرجها عبد اللطيف عبد الحميد حيث كانت البداية بفيلم (ليالي ابن آوى) ومن ثم فيلم (رسائل شفهية) في مطلع التسعينيات.

وعمل عبد الحميد مخرجاً مساعداً في فيلم (أحلام المدينة) عام 1983 وعام 1987 أدى الشخصية الرئيسة في فيلم (نجوم النهار) ليحصد أولى ثمرات تعبه بنيل فيلمه (ليالي ابن آوى) جوائز سيف دمشق الذهبي والزيتونة الذهبية في مهرجان حوض المتوسط في كورسيكا والجائزة الذهبية من مهرجان الفيلم الأول الدولي في انوناي بفرنسا عام 1990 بالإضافة لجائزة أفضل ممثل للفنان (أسعد فضة) تلتها الجائزة البرونزية في مهرجان فالنسيا لدول المتوسط 1992 في إسبانيا وجائزة الجمهور الشاب في مهرجان مونبلييه بفرنسا لفيلمه (رسائل شفهية).

ولعبد الحميد العديد من الأفلام الطويلة الأخرى ذات الطابع الريفي كفيلم (قمران وزيتونة) الحاصل على الجائزة الفضية في مهرجان دمشق السينمائي عام 2001 و فيلم (ما يطلبه المستمعون) عام 2003.

ولم تمنع الحرب عبد الحميد من كتابة وإخراج العديد من الأفلام التي أسقطت الحرب ضمن نطاق السينما بصور متعددة حيث تطرق لعوائدها السلبية على المجتمع السوري عامة ومنها فيلمه (أنا وأبي وأمي وأنت) عام 2016 وفيلم (طريق النحل) عام 2017 وفيلم (عزف منفرد) عام 2018 ليعود من باب فيلمه الروائي الجديد (الطريق) إلى عوالم الريف البسيط.

يذكر أن عبد اللطيف عبد الحميد كان المؤلف لمعظم سيناريوهات الأفلام التي أخرجها.

 

موقع "سينماتوغراف" في

16.05.2024

 
 
 
 
 

رحيل

عبد اللطيف عبد الحميد... نام «ساحر» السينما السوريّة

وسام كنعان

دمشقكان قد عوّد جمهوره ومحبيّه على حضوره الذي يأخذ من اسمه نصيباً وافياً، وعلى فنّه السهل الممتنع. لذا كان منطقياً للسينمائي السوري عبد اللطيف عبد الحميد (1954 ــــ 2024) حزم حقائبه والرحيل بخفّة وهدوء ينسجم مع صيغة حياته! من دون مقدّمات ولا حتى إنذار، مضى صاحب الابتسامة التي لم تفارق وجهه، تاركاً ذاكرةً لأجيال متعاقبة استطاع أن يبني لها علاقة وطيدة مع لعبة الضوء والعتم والتورّط في السينما حتى أضحت شخصيات أفلامه مضرب مثل!يمكن لأصدقائه ومعايشيه أن يكتشفوا حجم الخذلان الذي أصابه بعدما رحلت قبل أعوام رفيقة دربه وزوجته مصمّمة الأزياء لاريسا عبد الحميد، فصار وحيداً يطمئن عليه كل بضع ساعات صديقه المخرج جود سعيد، وخصوصاً أنّ ابنته الوحيدة تعيش في إيطاليا، وقد خضع قبل مدّة لعملية قلب مفتوح. وأول من أمس، انتبه أحد جيرانه بأنه يعاني من ذبحة قلبية، فاتصل فوراً بالإسعاف وبجود سعيد. وما إن وصل إلى مستشفى «دار الشفاء» في دمشق، حتى غادر الحياة.

في مشوار الراحل الشخصي الكثير من التباينات والدراما. لذا كان منطقياً أن ينطلق منها ليصنع أفلاماً تصوغ، بلغة فريدة ومنطق متمايز، جزءاً يسيراً من ذكرياته وذاكرته الريفية، فحقّقت معادلته البصرية انتشاراً واسعاً، إلى درجة يمكن معها القول بأنه كان أشهر سينمائي في تاريخ سوريا. منذ ذلك الفيلم الذي عرضته سينما متنقلة للجيش في الجولان عام 1961 وكان من بطولة نجاح سلام التي غنت «ميّل يا غزيّل»، وصودف أنه أوّل شريط يحضره الطفل عبد اللطيف عبد الحميد الذي كان يمضي خلف والده العسكري الذي جاب الأراضي السورية في خدمته، إلى آخر ليلة عاشها، خاض عبد الحميد مشواره الخاص الذي أراده، فصنعه بيمنيه، وكانت سمته الإبداع والإصرار على الإنجاز، ولو من العدم أو الفتات في أحسن الأحوال!

في صغره، كانت أمّه مثلاً تصفّر لتطرد بنات آوى، ما أوحى له بفيلمين حققا نجاحات ساحقة هما «ليالي ابن آوى» (1989) و«رسائل شفهية» (1991). بعد ذلك، انتقل إلى الرومانسية، وقدّم «نسيم الروح» (1998) فأوقف الشارع السوري، وكرّس في مرّات قليلة مفهوم فيلم شبّاك التذاكر. ثم بطريقة مواربة، كنوع من الاحتيال المشروع على الرقيب، خاض في خلفيات المعتقلات السياسية وقدّم ما يشبه التحية لمعتقلي الرأي في «خارج التغطية» (2007)، إضافة إلى تجارب كثيرة تثبت بأنّ أوكسجين الرجل هو العمل الدائم، يعرف كيف يصنع أفلاماً بميزانيات متواضعة هي ما يتاح له من القطاع العام.

مع ذلك، لا يمكن المرور على السينما السورية، إلا بعد التوقّف الملي عند أحد أركانها وأعمدتها ولو أنّ السنوات الأخيرة جعلته يغيّر طريقة شغله ويختار قصص حب يقترحها بمنطق مكثّف يساير فيها الإمكانات المتواضعة المتاحة لدى القطاع العام لإنتاج الأفلام. ولن يتمكّن أحد من سحب لقب «الساحر» منه كونه كان يقبض على قلوب الجمهور بضربة واحدة، ويجعله يلحق به حتى عندما تُعيد الفضائيات تقديم أفلامه. ورغم أنّه كان يجرّب في بعض أفلامه الأخيرة أن يترك احتمالات مفتوحة على دلالات متعددة، ورمزية عميقة، عن دمشق المدينة التي أكلتها الحرب، وصارت الهجرة عنها واجباً، لكن العودة إليها يبقى بمثابة حلم يلتهمه الحنين اليومي.

أمضى الراحل أكثر من 40 عاماً منذ تخرّجه من معهد السينما في موسكو وحتى وفاته منهمكاً في العمل المتواصل، إلى درجة أنّه صنع تاريخاً صريحاً ومرجعياً في السينما السورية. ولعلّ اللحظة الأكثر صدقاً في آخر ظهور له عندما صعد على المنصّة ليقدّم فيلمه «الطريق» وأفراد فريقه للتحية، فحكى عن رفيقة دربه وزوجته الراحلة مصمّمة الأزياء لاريسا عبد الحميد وغصّ بالبكاء كونها غادرت أثناء إنجازه الفيلم. سالت دموعه كأنه يحفز وجدان الصالة الصامتة، ثم عاد ليستجمع قواه ويشرح كيف مضت قبل أن ترى الشريط، فأهداه لها على الشارة، لكنه عجز عن فعل مشابه لشريكه في كتابة السيناريو وصديقه الشاعر عادل محمود الذي دخل في غيبوبة قبل عرض الفيلم الأوّل في قرطاج، وغادر بعد فوزه بجائزة أفضل سيناريو بساعات قليلة!

صاحب «ليالي ابن آوى» صنع برحلته الآسرة نموذجاً متّقداً في الانتماء لروح الشباب وهزم عدّاد العمر، وقهر النوائب ولو كانت بالفقد والوحدة والمرض والسخرية من ضنك الحياة وعتمتها وقسوتها المفرطة التي نعيشها في الشام!

يشيّع جثمان الراحل من مستشفى «ابن النفيس» في دمشق اليوم إلى قريته البهلولية في محافظة اللاذقية، ويوارى الثرى بعد صلاة العصر في مقبرة القرية. تقبل التعازي أيام الجمعة والسبت والأحد في مبرة القرية، ويوم الأحد 19 أيار (مايو) في صالة نقابة الأطباء في دمشق أبو رمانة من الساعة السادسة حتى الثامنة مساء.

 

الأخبار اللبنانية في

17.05.2024

 
 
 
 
 

عبد اللطيف عبد الحميد أحد رواد السينما السورية الجديدة

صاحب "نسيم الروح" و"ليالي ابن آوى" و"رسائل شفهية"

نوار جبور

غاب المخرج السينمائي السوري عبد اللطيف عبد الحميد في 15 مايو/ أيار 2024، تاركا وراءه إرثا ثريا من الأفلام التي تعكس الواقع السوري والعربي.

لا نعرف كيف انتقل عبد الحميد إلى السينما بعدما درس الموسيقى، لكننا نستطيع أن نعرف من خلال تجربته في الصورة كيف تتحدث طفولته عنه وكيف عكست تلك الصورة أيضا تجربة التعلم والنضج. كانت البداية من التخرج في موسكو ، معهد غيراسيموف للسينما، الذي يُعَدّ من أقدم المعاهد لدراسة السينما في العالم. ثم المسافة التي قطعها لكي يقف خلف الكاميرا، إذ عمل مساعد مخرج وممثلا أحيانا. لقد فهم المهنة مرتين: المرة الأولى من خلال تجربة السينما بوصفها وسيطا بين النص والمخرج، ثم من كونها عينه وذاكرته وسرده أيضا.

كانت تجاربه الإخراجية الأولى مذهلة بالنسبة إلى السوريين المخنوقين من كل شيء. كانت الثمانينات ونهايتها أشد فترات سوريا انغلاقا، تصاعدت أيديولوجيا السلطة ومقوماتها الخطابية التي لم تُثمر إلا ترديا ثقافيا وانعداما للحياة السياسية، ولم يتردد النظام في إغلاق كل مبادرة اجتماعية أو سياسية وثقافية تحيي السينما أو الفنون، فظهر فيلم "ليالي ابن آوى" 1989، كأول تجلّ لفن سوري ممكن عبر السينما دون رقابة من النظام أو اعتراض. معظم الأفلام السورية في تلك الفترة لم تحبذها السلطة، لكن هذا الفيلم استطاع أن يمرّ ويشكّل مفاجأة هائلة، وهو أحد أكثر الأفلام وضوحا عن تفكير عبد الحميد في السينما، ويرصد هزيمة 1967، لكن دون رصد لأي تحول في الشخصيات أو البنية الاجتماعية.

ابتعد عن تقديم عمل يمسّ السلطة واتكأ على بناء بنية نفسية للشخصيات المهزومة بعيدا من مدارات قد تُصيب السلطة

مجتمع الريف

ابتعد عبد الحميد عن تقديم عمل يمسّ السلطة أو منهجها، واتكأ على بناء بنية نفسية للشخصيات المهزومة بعيدا من مدارات قد تُصيب السلطة. لم تكن النتيجة سيئة أبدا، اذ استطاع وضع ثيمة نفسية لأب متسلط يدمر عائلة كاملة بسوطه وقسوته، دون أن يُفقد النص والصورة طابعا ساخرا. يمضي الفيلم ببطء، والكوميديا ليست جزءا منه بقدر ما كانت الكوميديا أثرا لتأخر الريف السوري، الاقتصادي والثقافي، الذي عايشه عبد الحميد. "ابن آوى"رسم قسوة المجتمع الريفي وبساطته الثقافية، والعجز والخوف الذي يعانيه الأب في مواجهة الآخر، الذي يكون حيوانا، وعدوا خارجيا في نهاية المطاف. كانت المهادنة في الفيلم مع السلطة، حيث جعلها خارجة عن سياق الفعل، الطاغية هو الأب في المنزل، والآخر الخارجي الرهيب، أو الحيوانات المتوحشة.

كان انقطاع السوريين عن السينما سببا لشهرة عبد الحميد. انهارت السينما السورية مبكرا منذ مرحلة السبعينات، فكان صعود عبد الحميد في هذا الفيلم جذابا. وفيه كان الأثر الروسي شديد الوضوح، من حيث السرد البطيء، والعاطفة التي لا تظهر إلا بقسوة أو إيماء أو خجل، والرمزية أو تخفيف المباشرة، والتركيز على الفولكلور بالمعنى التراثي لمنطقة الساحل وتراث السلوكيات الزراعية لمنطقة عرفها جيدا. من هنا نفهم أن السيرة الطويلة لكل فيلم هي جزء من سرد ذاتي، لم يستطع أن ينقل عموميات التراث السوري عبر السينما، بل قال ما عرفه واختبره.

رسائل شفهية

في فيلمه الثاني، "رسائل شفهية"، غرق عبد اللطيف في صنع الشخصيات وجعل لكل شخصية ثيمة كوميدية، لكنه أوغل في المباشرة من خلال تقطيع الشخصيات ورسمها عبر كتابته، فلم يجعل شخصياته تمر دون تدقيق على مستوى صنع الشخصية الكوميدية، سواء في الشكل أو اللباس أو التصرفات. كل شخصية ستظهر بانطباع كوميدي عند المشاهد، ثم نقل الشخصيات الى بيئة يعرفها تماما، وهنا يظهر ما يُسمى "الكوميديا الطبيعية، أو الكوميديا الوضعية" التي تنتج حتما عن طبيعة الشخصيات المرسومة وبيئتها المختارة أيضا بعناية. ربما يكون "رسائل شفهية" أحد أكثر الأفلام مشاهدة في تاريخ السينما السورية. يذكر الكثيرون أنهم حضروه ثلاث مرات، كانت سوريا حينها بالكاد تتنفس، فقد نسي السوريون مراكز السينما، ولم يعد أي مخرج سوري مهتما بالعرض داخل سوريا. كان "رسائل شفهية" فيلما ساحرا للسوريين، ضاربا تاريخا من السينما الكوميدية لدريد لحام ونهاد قلعي وناجي جبر. بدا السوريون يتقولون الجُمل الساحلية في كل مكان، ومشاهد الحب الساخرة تقلد وتنشر.

قد يكون "رسائل شفهية" أحد أكثر الأفلام مشاهدة في تاريخ السينما السورية

في "ليالي ابن آوى" و"رسائل شفهية"، تطفو معانٍ سينمائية خاصة بعبد الحميد، شخصيات انفعالية بطابع نفسي لكل شخصية، والمرأة إما أن تكون صامتة أو منفعلة شتامة، لكن في غياب رب العائلة. كشف عبد الحميد كثيرا من تناقضات المجتمع السوري الذي بقي ريفيا بسمات القلق والهيجان الانفعالي الدائم. وركز كثيرا على تصوير التفاصيل الريفية والطبيعية، وحافظ على آلية الكشف للضوء والظل بهدف التركيز على ظهور الشخصيات وعلى الطبيعة بلقطات واسعة الكادر، ضاجة بأصوات الحيوانات أو الطيور، لكنه لا يعطيها بعدا هادئا أو تأمليا، بل سريعا ما يقصيها من الهدوء والتأمل على الطريقة الروسية، في اتجاه آخر لظهور الانفعال في المشهد أو النص.

الأهم هو إدخال الطابع الكوميدي التقليدي بحيث تكون كل الشخصيات بتصرفاتها مضحكة فيزيائيا، مع كوميديا سوداء تعالج القضايا المؤلمة بكوميديا، وحيث يحمل العنف طابعا تهريجيا. فالشخصيات المعنفة في أفلام عبد الحميد تمارس عنفها بتهريج أكثر من كونه عنفا مؤلما للمشاهد. كانت روح عبد الحميد تلجأ الى كتابة الكثير من الشتائم لكل شخصية لتجعل الموقف الانفعالي تهريجا.

كان"رسائل شفهية"فيلما جماهيريا كوميديا، ولم يستطع تجاوز هذه الصفة رغم نجاحه مثل "ابن آوى". بدأت حينها بوصلة عبد الحميد الكاتب الرفيع على مستوى السيناريو بالتجدد،. "رسائل شفهية"نجح أكثر مما توقع، لا سيما في خلق شخصيات باسمه، كتابة وإخراجا. ويخطئ الكثير حينما ينسبون إلى مرحلة ما بعد القرن العشرين تأسيس كوميديا الشخصيات أو الكوميديا الوضعية للبيئة، أو حتى الكوميديا السوداء، كان عراب هذا عبد الحميد دون شك. لأنه استطاع وضع مركب للشخصية الكوميدية وهي تملك بنية متماسكة داخل النص.

خارج التغطية

توالت أفلام عبد الحميد، "قمران وزيتونة"، و"خارج التغطية".و هذا الأخير أثار الجدال، لتعرضه لمأساة المعتقلين السياسيين، لكن الفيلم لا يواجه السلطة بقدر ما يواجه المجتمع معزولا عن السلطة. يخلق عبد الحميد دوما بنى هامشية ويستند اليها، وذلك لينجو من أي رقيب. كان الفيلم عن رجل يعاني من التزام خُلقي وسياسي تجاه زوجة رفيقه المسجون. الفيلم ركز على مأساة المعتقلين، لكنه ارتكب مغالطة حسب الكثيرين، بالتشديد على جانب أحادي من قضية المعتقلين، في أن تصبح زوجة الرفيق متطلبة لكل شيء من رفيق زوجها الذي يعاني من أجلها ومن أجل عائلته، وصولا الى مأساة التواصل الجسدي بينهما. شكل الفيلم جرحا لدى طبقة المثقفين والمعتقلين السوريين، فرغم جرأته، بدا خاليا من معنى التجارب الإنسانية المريرة لحيوات المعتقلين السياسيين في سوريا. ولم يخل الفيلم من اقتباسات واضحة من روايات أميركا اللاتينية والمسرح الإسباني لفترة الديكتاتورية الملكية.

في الوقت نفسه حافظ عبد الحميد على رؤية واضحة لتشكيل الشخصية التي تملك بعدا نفسيا، ومشاهد تهريجية للشخصيات، وقصة حب، الحب الذي لم يخلُ فيلم واحد من أفلامه إلا بوصفه ألما ومأساة.

رغم جرأة "خارج التغطية" إلا أنه بدا خاليا من معنى التجارب الإنسانية المريرة لحيوات المعتقلين السياسيين 

الخروج من بيئة الساحل

بعد عام 2010 خرج عبد الحميد من بيئة الساحل بشكل كلي، ولهذا علامات جيدة، لم يعد يتكئ كثيرا على بيئة وضعية من الممكن فيها إعادة عقارب الساعة إلى الوراء للهروب من التحولات الاجتماعية أو الأثر السياسي، بدأت أفلامه تأخذ أشكالا جديدة، لكنه انتقل إلى التركيز على الحب، والفقد واستحالة الوصل بين المحبين. ما ظلّ ثابتا في أفلامه، هو محورية المرأة فيها. فالمرأة قوية مقموعة في "ليالي ابن آوى"، لكنها تطرد الأشباح ولا تعبر عاطفيا، مرغوبة ومعشوقة، ومن تختاره لا يحبها في "رسائل شفهية"، ومن يحبها يطلق النار على أنفه لكي تحبه، والرجل الذي يحب امرأتين في "خارج التغطية"، والحبيبة الميتة في "الإفطار الأخير"، والمرأة التي يتقاتل عليها الجميع في فيلم "طريق النحل"، هناك شيء يُستدل عليه في أن المرأة محركه الدرامي، المرأة المستحيلة والتي كانت أمه. لعبد الحميد تصريح عن تأخره في اكتشاف محبة أمه له، مما يذكرنا بفاغنر والشخصيات الأنثوية كلها التي خلقها في مسرحه الموسيقي بوصفها مرغوبة أو لا يمكن الوصول إليها أو يحصل عليها التنافس. نتحدث عن ابتعاده عن المرأة بوصفها شخصية تملك خللا فيزيائيا أو نفسيا، وعن جعل الرجال أصحاب شخصيات تهريجية. قسوة الحديث الشخصي الذي يمكن الاستماع فيه الى عبد الحميد يجعلنا نفهم الكثير مما وصل منه إلى السينما.

لم تنجح أفلام عبد الحميد التي خرج فيها من البيئة التي أحبها، وذلك لعدم قدرته على إبراز القسوة السورية بشقها الحديث، عيشا وثقافة وسياسة. كان يملك دائما خطا محددا، فيلمه يُبنى على كتلة محددة وسياق في اللهجة وطبيعة الشخصية. حينما بدأ تجربة فلمية مختلفة لم يستطع الحصول على النجاح نفسه، لكونه كثيرا ما غرق في ذاتيته. وحينما بنى قصصا حديثة كانت بسيطة وأقل تطورا دراميا وسينمائيا. لم يستطع الخروج من الطفل الذي نما في قرية صغيرة أمامها بحيرة وخلفه جبال شامخة وبشر يثقلون ذاكرته في بساطتهم. كان محايدا دوما وبعيدا عن أي مواجهة مع سلطة تقود تحولا اجتماعيا، وحينما يكون البشر يملكون شيئا ما غريبا وقاسيا يُبقيه ليقول عبر الكاميرا كُنت أنا هناك، وهذا ما نجح فيه لكنه لم يخبرنا تماما أين نحن الآن، سوى بعض السخرية التي بدت مفتاحا له في الكتابة والتأليف.

لم يُخرج عبد الحميد نصا لغيره. توتر الكتابة واتساع الصورة بقيا له، متحديا نفسه والآخرين، وهذا ما جعله حساسا للنقد. فالفيلم يخرج من كيانه كله، حيث لا يمكنه التملص من المسؤولية الكاملة عما يقدمه، بالتالي يجعله حادا أمام النقد. لم يكن باحثا عن الشهرة أو الجماهيرية، حتى أنه استغرب نجاح "رسائل شفهية" الذي أعطاه مفتاح الخارج والداخل على حد وصفه. حافظ عبد الحميد على بساطة إنسانية تشبه الشخصيات التي أحب أن يكتبها، وكأنه لا يصدق هذا العالم الحديث والمتوالي، ولا يريد انتزاع التحولات ولا مواجهة السياسات. كانت المهمة التي أحبها، رصد ما هو بسيط وحميمي في البشر، خلافا لمخرجي عصره الذين لمعوا في السينما البصرية والرمزية، وخلقوا شخصيات يتفاعل فيها التحول والتاريخ السوري

 لم تنجح أفلام عبد الحميد التي خرج فيها من البيئة التي أحبها، وذلك لعدم قدرته على إبراز القسوة السورية بشقها الحديث

بدأ عبد اللطيف عبد الحميد مسيرته السينمائية بفيلم التخرج، "تصبحون على خير" (1978)، وواصل إثراء السينما العربية بأعمال متنوعة ومؤثرة. من أفلامه الأخرى:

"درس قديم" (1980) - فيلم قصير.

"رأسا على عقب" (1982) - أول فيلم روائي طويل له.

"نسيم الروح" (1984).

"ما يطلبه المستمعون" (1986).

"صعود المطر" (1996).

أيام الضجر" (2000).

ذكريات حمص" (2011) - فيلم وثائقي.

حاز على عدد من الجوائز الدولية، منها جائزتان لأفضل فيلم عن "نسيم الروح" و"رسائل شفهية" في مهرجانات سينمائية بالشرق الأوسط، وجائزة أفضل إخراج في مهرجان أوروبي عن "ليالي ابن آوى".

 

مجلة المجلة السعودية في

17.05.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004