ملفات خاصة

 
 
 

أفلام المرأة العربية في “كان”..

ثورة الأحلام الموءودة في فيلم مغربي وآخر سعودي

أمير العمري

كان السينمائي الدولي

السابع والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

في مهرجان كان السينمائي الـ77، عُرض فيلمان بينهما قاسم مشترك في الأقسام الأخرى خارج المسابقة، أولهما الفيلم المغربي “الجميع يحب تودا” للمخرج نبيل عيوش، والثاني الفيلم السعودي “نورا”، وهو أول الأفلام الروائية الطويلة للمخرج السعودي توفيق الزيدي، بعد عدد من الأفلام القصيرة.

فالمرأة وحلمها بالحرية هما محور الفيلمين، فكلاهما يصور بطريقته عذاب المرأة ورغبتها في التحرر والبحث عن حياة أفضل، بعيدا عن السيطرة الذكورية، وخارج سجن التقاليد والعادات المتوارثة، وكلا المرأتين في الفيلمين تنشدان التحرر عن طريق الفن، الأولى بالغناء، والثانية بالرسم.

الجميع يحب تودا”.. نظرة ذكورية تلاحق مغنية الملاهي

عُرض الفيلم المغربي “الجميع يحب تودا” في العروض الأولى بمهرجان كان 2024، وهو يحمل في طيات عنوانه دلالة ساخرة، فهو يتلاعب بحقيقة أن بطلة الفيلم تودا تعاني “من كل هذا الحب”، أو تحديدا من النظرة الذكورية التقليدية المتخلفة التي لا تراها أكثر من هدف جنسي.

فيريد كل من تقابلهم من الرجال استغلالها والعبث بجسدها، من غير أن يعبؤوا بمشاعرها ورغباتها، وتكمن مشكلتها في جاذبيتها وقدرتها على التعبير عن نفسها بالغناء، وفي ثقتها بنفسها وشموخها وتعاليها على الواقع.

في أول مشاهد الفيلم وبعد حفل ساهر صاخب، نرى رجالا يطاردون تودا ثم يغتصبونها، في مشهد يكثف بكل قسوة عذابها، وحقيقة ما يحيط بها من مجتمع يسيطر عليه الذئاب، من غير أن تستطيع الإفلات منه، وهو ما ستؤكده المواقف التالية عبر الفيلم.

غناء العيطة.. فن حزين محمل بالروحانيات والتصوف

لا يعني ولع تودا بالغناء أنها تميل إلى الغناء الشعبي الراقص الحديث، فهي إنما تؤديه لكي تكسب عيشها، لكن ولعها الأساسي هو بنوع من الغناء الكلاسيكي القديم شبه المنقرض في المغرب، ويسمى العيطة، وتسمى من تغنيه الشيخة.

لكن الزمان لم يعد على حاله، لذا فإن إصرار تودا على غناء العيطة التي تتميز بالحزن والشجن المرتبط بالروحانيات والمعاني الصوفية، لا يجلب لها سوى المتاعب، ويزيد من شعورها بالاغتراب.

إنها امرأة مطلقة، تعول طفلا أصمّ في عامه التاسع، ويسخر منه زملاؤه في المدرسة، وتقيم معه في غرفة ضيقة خانقة، تستأجرها في إحدى قرى جبال أطلس، وهي تترك ابنها عند جارتها، وتذهب للغناء في الحفلات والحانات الرخيصة، لكنها تحلم بالذهاب إلى المدينة الكبيرة، أي الدار البيضاء، والغناء في أكبر الملاهي والمسارح هناك.

وربما يمكنها أن تصل إلى التليفزيون، فتحقق شهرة وتجني ثروة تتيح لها تعليم ابنها على مستوى يكفل له مستقبلا أفضل، لم تحققه هي لنفسها، فقد حرمت من التعليم، وهي الآن أمية لا تقرأ ولا تكتب، وإنما تحفظ أغاني العيطة بالسماع من تسجيلات قديمة على هاتفها.

الزواج الفاشل.. بقية أسى كامن يبحث عن متنفس

ما السر في ميل تودا إلى غناء العيطة تحديدا؟ هل لأنه يكفل لها التعبير عن شعورها الكامن بالحزن والرثاء للذات بعد تجربتها الفاشلة في الزواج وطموحها الذي تعجز عن تحقيقه؟

لا تجد تودا من يحنو عليها غير أمها وأبيها، عندما تذهب لزيارتهما في قريتها، وكانت قد هجرتها منذ سنوات، وأخذت تنتقل من مكان إلى مكان آخر، وتقول الأم إن زواجها كان خطأ، وأما أبوها فهو يرحب بها، لكن أخاها يشعر بالعار مما انتهت إليه، فهو كغيره من الشباب يرى عمل المرأة خطيئة.

لا يهتم المخرج نبيل عيوش بالشرح والتوضيح، فاهتمامه ينصب على متابعة رحلة هذه المرأة الوحيدة الموهوبة، ذات الصوت القوي البديع والشخصية الطاغية القوية، وما ينالها من أذى الرجال أينما حلت.

الدار البيضاء.. غربة في جمهور يرفض غناء العيطة

تحزم تودا أمرها، وتترك ابنها في رعاية أمها، وتذهب إلى الدار البيضاء، وهناك تجد عملا في ملهى رخيص، لكن صاحبه يطالبها بتطعيم الغناء بالرقص المبتذل، ويبدأ بعض الزبائن يطاردونها يريدون العبث معها، لكنها ترفض ذلك، وتسعى لأن يُعترف بأنها فنانة حقيقية، لا راقصة تتستر بالغناء، تعرض جسدا في الملاهي.

ومع ذلك فقد كانت النتيجة دائما طردها من العمل، لكنها تجد البديل، وهناك تنشأ علاقة بديعة مع عازف كمان عجوز مخضرم، يتفهم ولعها بغناء العيطة، ويتولى تدريبها عليه، بحيث تتعايش مع الكلمات، وتذوب مع الموسيقى والأغاني التي تعبر عن الرغبة في التحرر.

ولكن يظل رفض الجميع هو المشكلة التي تشعرها بالإحباط، سواء أصحاب الأماكن التي تغني فيها، أو رفض الجمهور نفسه لهذا النوع من الغناء الشعبي الأصيل، فهم لا يريدون الشعور بالأسى الذي تولده هذه الأغاني، ويزيد رفضهم وإعراضهم شعور تودا بالوحدة والغربة.

نسرين الراضي.. أداء آسر يمنح الفيلم رونقا وتماسكا

قامت ببطولة الفيلم الممثلة المغنية نسرين الراضي، فأدت أداء آسرا ساحرا، مما جعل الفيلم متماسكا، يحقق متعة المشاهدة، لا سيما في المشاهد التي تمسك فيها تودا بالبوق، وتنطلق في الغناء وسط الأضواء، ومن خلال حركة كاميرا شديد الحيوية والرونق.

إنها تعيش الشخصية من الداخل، تضيف إليها من ذاتها ومن مشاعرها الشخصية، بحيث تكثف عذابها في وحدتها، حتى أثناء وجودها وسط حشود من البشر، كما تعكس محنتها في مجتمع لا يريد أن يعترف بها، أو يتيح لها الفرصة للتعبير عن نفسها بالغناء الذي تحبه.

في منتصف التسعينيات، وفي قرية صحراوية نائية خاضعة لشيخ قبيلة يدعى أبو سالم، تدور أحداث فيلم “نورة

نورة”.. أول مشاركة للسعودية في مهرجان كان

عُرض الفيلم السعودي “نورة” في تظاهرة “نظرة ما” بمهرجان كان، ويمثل أول مشاركة سعودية في هذا المهرجان السينمائي الكبير.

تبدو الفتاة الحالمة نورة عاجزة عن الخروج من سجن النظرة الذكورية للمرأة، مثلها مثل تودا في الفيلم المغربي، وإن على مستوى آخر، ومن خلال حبكة أخرى.

تدور أحداث الفيلم في منتصف التسعينيات، في قرية صحراوية نائية خاضعة لشيخ قبيلة يدعى أبو سالم، أي قبل التغيرات الجديدة التي شهدتها السعودية في السنوات الماضية.

ذو النظارات والملابس الأوروبية.. مدرس يصل إلى القرية

ذات يوم، يصل إلى القرية مدرّس يدعى نادر، أوفدته الحكومة لتعليم الأطفال القراءة والكتابة، فيأتي بسيارته مرتديا الملابس الأوروبية، ويضع نظارات كبيرة سوداء على عينيه، فيبدو مثل نجوم “البوب”.

تبدو القرية مفتقدة تماما لكل معالم الحداثة، ومع أن الشيخ أبو سالم يرحب بالمدرس ويدعوه على العشاء في بيته، ويرحب بتعليم الفتية، فإن بعض أكابر القرية لا يعترفون إلا بالتعليم الديني، ويفرضون على النساء البقاء داخل المنازل.

حتى أنهم يرفضون وجود التليفزيون، ويحظرون المذياع، بل ينظرون بالريبة إلى اعتزام الحكومة إدخال الكهرباء. فكل ذلك عندهم من المظاهر التي يمكن أن تحرف المرء عن دينه وقيمه المتوارثة البدوية.

تعليم الرسم.. فكرة متحررة تتسلل إلى عالم الصبية

يبدو المدرس نادر منفتحا جدا على الوسائل الجديدة في التعليم، وسرعان ما يبدأ شيئا يراه أهالي القرية من علامات السقوط والتدني، حين يبدأ بتعليم الصبية الرسم، ويشرح لهم أهمية اتخاذ الفن وسيلة للتعبير، ودوره الكبير في تغيير حياة الإنسان والرقي بها.

يجذب ذلك الاهتمام بالرسم نورة، بعد أن تطّلع من أخيها الصغير نوفل على رسم خطه له المدرّس نادر بقلم الرصاص، فتهيمن عليها فكرة الحصول على رسم لنفسها.

لا سيما أنها تذهب بين حين وآخر إلى دكان القرية الوحيد، ويديره رجل هندي يتكلم العربية بلهجته، فتشتري المجلات المصورة سرا، لكي تستمتع بمشاهدة صور النجوم وأهل الفن.

دكان الهندي.. لقاء سري لرسم ملامح امرأة منقبة

تحمل فكرة الفن -والرسم تحديدا- معنى رمزيا في الفيلم، وتلعب دورا بديلا عن التعبير المباشر عن العواطف والمشاعر، فهي تؤدي لبروز علاقة غير مباشرة بين نادر ونورة، فبعد أن تفتنها الصورة التي رسمها لأخيها نايف، تسعى لأن يرسمها نادر في صورة بالألوان.

فتتفق مع صاحب الدكان على ترتيب لقاء مع المدرس الشاب في الجزء الخلفي من الدكان، لكي يرسمها، وهو ما سيحدث، ولكن مع المحافظة على وجود مسافة بينهما، ومع احتفاظها بالنقاب الذي تستر به وجهها، فهي تريده أن يرسمها من خياله، من الملامح العامة لتكوين وجهها كما يبدو من الجنب، من غير أن تنزع النقاب الأسود.

وبطبيعة الحال لا يبقى أمر تردد نورة على دكان الهندي ولقائها بالمدرس سرا، بل يتطور الأمر ويكاد أن يفجر العنف، لكنه ينتهي بعد أن يُجبَر نادر على مغادرة القرية، ويكون قد كبر حلم نورة بمغادرة الحياة الخانقة في تلك القرية والذهاب إلى عمها في المدينة، وكبر معه أيضا الحلم بالفن، والإحساس بقيمة الفن وجماله، خلافا للتصورات السائدة.

مغادرة القرية.. هروب تحت تهديد السلاح والاضطهاد

يلعب الفيلم على وتر العلاقة بين الإنسان والفن والحرية، ولكن بسياق سرد حذر، بحيث لا يخدش ما هو مستقر من أعراف وتقاليد، فنورة مثلا لا تكشف وجهها للرجل الغريب، ومع إعجابها الواضح بوسامته وشبابه وتحرره، فإن الفيلم لا يوحي بولادة علاقة غرامية بينهما.

وحتى عندما تقرر الهرب معه في سيارته، فإنها كانت تود الذهاب إلى المدينة للالتحاق بجدها المتحرر، وذلك لكي تفلت مما تفرضه عليها عمتها من قيود منذ مصرع والديها في حادث سيارة.

ترفض نورة الرضوخ لعمتها، فهي تريد إجبارها على الزواج من شاب آخر متزمت جامد أمّي من أهل القرية، وهذا الرجل لا يفتأ يراقب تحركاتها، ويهدد نادر، ثم يجبره على مغادرة القرية تحت تهديد السلاح.

لكن الفيلم يشير إلى أن نادر استطاع زرع بذرة جديدة في نفوس الفتية الصغار، وكانوا قبل وصوله محرومين من المعرفة، أو الإلمام بتاريخ الفن ومغزاه وفائدته.

صناعة الصورة.. أداء واقعي وإضاءة ترسم أعماق الشخصيات

السياق السينمائي بسيط، والشخصيات واضحة وبسيطة، والفيلم لا يحتاج إلى شروح لفهم المغزى الذي تكشف عنه صوره ولقطاته في حرص ورصانة، ومن خلال أداء واقعي شديد الصدق في التعبير عن الحالة الذهنية والنفسية للشخصيات، وأداء ماريا بحراوي دور نورة، ويعقوب الفرحان دور نادر، وعبد الله السدحان دور الشيخ أبو سالم.

أما التصوير فقد أداره المصور “شون لي”، وهو يحيط بالبيئة المحلية في تلك المنطقة الجافة، ويبرز تفاصيل المكان، ويعكس الحالة الكابوسية السائدة بإضاءته الخافتة في المشاهد الداخلية، ويكثف عزلة الشخصيات عن بعضها، وخواء المحيط وجفاف البيئة بشكل عام.

فيلم “نورة” بداية جيدة للمخرج توفيق الزايدي، فقد سيطر على المكان والشخصيات، ودفع تطور الأحداث بهدوء وسلاسة، من خلال التحكم في زمن اللقطات وطول المشاهد والانتقالات بين المشاهد المختلفة، وبين الداخل والخارج، وذلك بمساعدة المونتاج البارع الذي قام به المونتير التونسي منير السوسي.

 

الجزيرة الوثائقية في

05.06.2024

 
 
 
 
 

«فيوريوسا: ملحمة من ماد ماكس»: لم يبلغ الملحمة

سليم البيك

من ضمن أفلام مهرجان كان السينمائي الشهر الماضي، كان في برنامج المشاهدات لديّ الفيلمُ الجديد من سلسلة «ماد ماكس» للأسترالي جورج ميلر، وكان خارجَ المسابقة الرسمية للمهرجان. بالكاد تسمح زحمة أفلام هذه المسابقة بمكان لغيرها، لكني اخترت مشاهدة الفيلم لكونه لاحقاً لآخر كان تحفةً هو «ماد ماكس: طريق الغضب».

وجدت للفيلم وقتاً، كان باكراً جداً، في الثامنة والنصف صباحاً، في صالة لوميير الكبرى في قصر المهرجان. دخلت إلى الصالة متأخراً، كان الفيلم في أول مَشاهده، سأعرف لاحقاً أن دقيقتين بحد أقصى قد مرّا. لكن، دون تردد، ولتجارب سابقة، درتُ وخرجت، مع علم مسبق بأن عروض الفيلم في الصالات الفرنسية ستكون قد بدأت حين عودتي إلى باريس بعد الحادثة بأسبوع.

بعد العودة من «كان» بيومين مررت إلى السينما وشاهدت الفيلم، وكان رد الفعل الأول أني، لحسن الحظ، لم أعطه ذلك الوقت وربما الجهد للكتابة، الضيقين في مهرجان لن يفلح أحدنا، وإن بالدخول إلى فيلمين وأحياناً ثلاثة يومياً، بمشاهدة جميع أفلام المسابقة الرسمية، ناهيك عن أفلام في تظاهرات موازية، تكون فلسطينية، أو عربية، أو غيرها، يمكن أن تنال اهتماماً خاصاً من ناقد لاعتبارات غير سينمائية أو مهرجاناتية.

ليس الفيلم، وهو الخامس من السلسلة، بهذا السوء، لكن امتياز سابقه جعله أولاً منتظَراً، وثانياً ما دون المتوقَّع إذ لم يحمل إضافات، بل خفتَ في جانبه البصري – وهي نقطة الارتكاز في هذه السلسلة – عن «ماد ماكس: طريق الغضب» (2015).

يعود «فيوريوسا: ملحمة من ماد ماكس» (Furiosa: A Mad Max Saga) إلى مراحل أولى من حياة بطلة الفيلم السابق، فيوريوسا، فنراها هنا من طفولتها إلى أن تكبر قليلاً وتبدأ معاركها. هي إذن مرحلة سابقة، ومن أراد مشاهدة الفيلمين لأول مرة، أفضلَ أن يبدأ بهذا، الخامس، قبل الرابع، خاصة أن الخامس أفضل من لاحقه. وإن أراد مشاهدة الأفلام الخمسة جميعها، فلا ضرورة للترتيب، أو ليكن ذلك حسب زمن الإنتاج.

هي أجواء قيامية، ما بعد انهيار الحضارات، في الصحراء أو أرض يباب، حيث يكون البترول وكذلك الماء، وتحديداً الفاكهة، مفقودة، وإن وجدت تكون كنزاً تتقاتل عليه القبائل، وهو حال الفيلم بأجزائه، وذلك بحرب طريق، أو بفيلم وسترن، إنما بامتطاء عربات بمحركات ضخمة، لا الخيول، وباعتماد أساسي على السيارات والموتورات والشاحنات، الفانتازية في أشكالها وطاقاتها. كل ذلك، وغيره من الأمكنة المسكونة والمساحات الشاسعة الرملية والجبلية، يعطي للفيلم عوالم خرافية، ما بعد انهيارات البشرية. وهذا حاضر في أفلام السلسلة كافة، كما في آخرها.

في وقت ركّز الفيلم الأسبق على معركة بعينها، ركّز «فيوريوسا» على البطلة، في نقل لحكايتها ما قبل تلك المعركة، فأتى الفيلم أخيراً محدوداً بصرياً، متكئاً على سابقه، لتركيزه على قصة شخصية من طفولتها إلى سنوات لاحقة، فكانت الأحداث محدودة، وافتقد الفيلم معركة حاسمة يمكن أن تُوظف فيها طاقات إخراجية وإنتاجية عالية، كما رأيناها في «طريق الغضب» الذي كان حدثاً سينمائياً استثنائياً، لجودته أولاً ولحلوله سنوات طويلة بعد الأفلام الثلاثة السابقة، 30 عاماً بعد آخرها. أما الفيلم الجديد، فأتى أقل من سابقه إنتاجياً وإخراجياً، وبعد 9 سنوات فقط منه، ما أزالَ عنه انبهاراً كان متوقَّعاً، وذلك فقط مقارنة بسابقه. هو، بحد ذاته، فيلم ممتاز، بصرياً وسمعياً تحديداً.

الفيلم الجديد، وفيه معارك صغيرة متتالية، كان تكراراً أقل ابتكاراً من سابقه. وقصته بسيطة، وهو مطلوب في طبيعة فيلم كهذا يعتمد على جانبه البصري والإبهاري، إذ لا بد أن تكون القصة بإطارات عامة لا تفاصيل تغمرها، لتترك الأعينَ على راحتها، في متابعة الحاصل على الشاشة. نحن هنا أمام قبائل لكل منها ميزاتها، أشكالها، مساوئها، جميعها شرير بطبيعة الحال، بينهما تحوم فيوريوسا المخطوفة، التي كبرت وتعلمت القتال بينهم. لتبدأ عملية انتقام ستستمر لاحقاً إلى الفيلم الأسبق. انتقام من زعيم إحدى القبائل الذي عذّب أمها أمامها قبل قتلها، هذه القصة المبنية على تراث بشري للحكايات، كانت بداهتها ممهداً لانبهارات بصرية لم تكن بالمستوى المتوقَّع لفيلم يأتي 9 سنوات بعد آخر كان مبهراً. لا يسيء ذلك إلى الفيلم الجديد ولا يتندّم أحدنا على ساعتين ونصف الساعة في الصالة لذلك، لكنه كذلك ليس عملاً استثنائياً يبني على سابقه.

الناجون هنا هم من لم يشاهدوا السابق فلا ترتفع توقعاتهم للاحق. لكن، وهذه ضريبتهم، تبقى مشاهدة سلسلة كهذه، بفيلميها الأخيرين، لازمة لصالة السينما، في إمكانياتها الصوتية والبصرية، لا لمنصات وشاشات منزلية.

كاتب فلسطيني سوري

 

القدس العربي اللندنية في

09.06.2024

 
 
 
 
 

أحمد شوقي يحكي:

أفلام لن تُعرض هنا.. السينما والجنس في مهرجان كان

أثناء الخروج من أحد العروض الصحفية في مهرجان كان السينمائي، علّق أحد النقاد مازحًا بأن مبرمجي المهرجانات العربية سيجدون صعوبة كبيرة في العثور على أفلام صالحة للعرض في المنطقة دون محاذير رقابية. التعليق ساخر يحمل بعض المبالغة بطبيعة الحال، فعدد الأفلام الضخم المعروض في مختلف برامج كان سيكفي المهرجانات العربية ويزيد، لكنه يشير إلى ملاحظة سديدة تتعلق بعدد الأفلام ذات المحتوى الذي يمكن اعتباره جريئًا أو مثيرًا للتحفظ وفقًا لقيود الأجهزة الرقابية العربية.

الحقيقة أن الرقابة تتساهل قليلًا مع المهرجانات، فتمنحها هامش حرية أوسع بعض الشيء من الهامش الممنوح للعروض التجارية، باعتبار أن من يذهب إلى عروض المهرجانات جمهور متخصص، أكثر انفتاحًا على مشاهدة مواد قد لا تناسب الجمهور العام، لكن هذا التساهل يقف عند حد معين لا يتجاوزه. صحيح أن هذا يقودنا لأسئلة بديهية من نوعية: هل الحرية هامش تمنحه الجهات متفضلة أم يُفترَض أن تكون حقًا دستوريًا مكفولًا للجميع؟ وهل من حق الأجهزة الرقابية أن تحدد العمر العقلي لكل نوعية من الجمهور فتقرر أن تسمح لهذه المجموعة بمشاهدة أعمال تُمنع على مجموعة أخرى؟ تذكر أننا في عصر الفضاء المفتوح الذي يمكن لكل إنسان فيه أن يشاهد ما يحب وقت ما يريد.

لكن هذا ليس موضوعنا، فنحن مع الحرية إجمالًا، وضد أي رقابة على الأفلام باستثناء التصنيف العمري الذي تكون أكثر سلطة فيه هي منح الفيلم تصنيفًا مرتفعًا كأن يشاهده من تجاوزوا سن الثامنة عشر مثلًا. لكن هذه القناعة لا تمنعنا من أن نؤكد رجاحة الملاحظة، ونؤكد أن مهرجان كان قد عرض أكبر عدد من الأفلام ذات المحتوى الحسي شاهدته خلال سنوات حضوري المهرجان التي اقتربت من العشر.

يُمثل الجنس هنا عنصرًا رئيسيًا في توازنات القوى التي يبني عليها بيكر نصّه، فالجنس هو قوة تملكها آني تواجه بها المال الذي يملكه فانيا وأسرته، وهي المرأة المتمرسة التي تدخل الشاب عالمًا جديدًا من اللذة

يصعب تحديد سبب هذا التوجه، لكن المؤكد أن مهرجان كان لا يعوزه الاختيارات، فهو ليس مهرجانًا يُشكل برنامجه وفق ما يتاح له من الأفلام، بل هو المكان الذي يُعرض عليه كل إنتاجات العام من قِبل كل المخرجين الكبار حول العالم فيختار الأفضل من بينها. وإذا كانت هذه سمة غالبة في أفلام كان، فهذا يعني كونه توجهًا عامًا يسيطر على خلال أكبر صناع الأفلام في العالم حاليًا.

ربما كان للأمر علاقة بمنصات العرض الرقمي، التي خلقت على مدار السنوات الماضية مساحة حرية أوسع لأفكار ومشاهد جريئة حققت نجاحًا واسعًا حول العالم. الأمر الذي لا يفرض فقط على السينما أن تحاول مجاراته لأسباب تجارية (كما فعلت السينما قديمًا لتتجاوز مشكلة ظهور التلفزيون)، بل يطرح إنتاج المنصات -وهو الأهم في حالتنا- أسئلة جديدة، تفتح آفاق المبدع على التفكير في موضوعات ومعالجات ربما كان قبل عدة أعوام يراها غير ملائمة للتقديم في لحظتها.

فيلم السعفة والجنس سلاحًا

ولنفهم قدر انتشار الأمر في أفلام كان 77 سنبدأ بفيلم السعفة الذهبية، “أنورا Anora” للمخرج الأمريكي شون بيكر، الذي يهتم في كل أفلامه بدخول عالم العاملين في صناعة الجنس بأشكالها المختلفة، متمثلة هذه المرة في فتاة في الثالثة والعشرين من عمرها، تعمل كراقصة إيروتيكية في نادي للتعري بنيويورك. تقابل عميلًا روسيًا شابًا تكتشف كونه ابن ملياردير من أوليجارشية بوتين. يقع الشاب في حبها -أو هكذا تعتقد- فيعرض عليها الزواج. يتزوجان بالفعل فتعرف أسرته لترسل رجالها لإنهاء الزيجة.

يُمثل الجنس هنا عنصرًا رئيسيًا في توازنات القوى التي يبني عليها بيكر نصّه، فالجنس هو قوة تملكها آني تواجه بها المال الذي يملكه فانيا وأسرته، وهي المرأة المتمرسة التي تدخل الشاب عالمًا جديدًا من اللذة، بما يكشف ما فعلته بها السنوات من صقل تجاربها بما يجعلها أنضج عقليًا بعقود منه حتى وإن كانت تكبره عمرًا بعامين فقط. الجنس هنا جوهري شكلًا ومضمونًا، تنطلق منه الحكاية وترتكز عليه بشكل عضوي.

فبدون المشاهد التي يكتشف فانيا فيها لذة الجنس بصورة لم يعتدها في ممارساته السابقة، لم تكن الحكاية لتسير في طريقها بصورة منطقية، ودون مشاهد نادي التعري لم يكن من الممكن للقصة أن تبدأ من الأساس. والأهم هو جوهر مشروع شون بيكر السينمائي كله: إذا كان من حق بعض البشر استغلال المال أو السلطة لتحقيق مكاسب وسعادة، فمن حق كل إنسان استخدام مصادر قوته (بما يتضمن جمال الشكل والجسد) في تحقيق أهداف مماثلة.

ساعي البريد في البرازيل

الأمر نفسه يتكرر في “موتيل ديستينو Motel Destino”، أحدث أفلام المخرج البرازيلي جزائري الأصل كريم أينوز، الذي يواصل التنقل بحرية بين الأنواع والأشكال الفيلمية. أينوز شارك في مسابقة كان العام الماضي بفيلم تاريخي ناطق بالإنجليزية عن زوجة الملك هنري السابع، لكنه عاد في العام الحالي بفيلم يدور داخل فندق صغير في البرازيل مخصص للقاءات الجنسية، تتغير الحياة فيه عندما يصله شاب هارب من مطاردة، يوافق صاحب الفندق على توظيفه لتبدأ علاقة تنشأ بينه وبين زوجة صاحب الفندق الشابة.

نظريًا نحن أمام مثلث درامي معتاد: صاحب الفندق العجوز والزوجة الشهوانية والشاب الذي يأتي لتقع في حبه. مثلث نموذجه الأساسي هو رواية “ساعي البريد يدق دائمًا مرتين” للأمريكي جيمس كاين، والتي قدمها الإيطالي لوكينو فيسكونتي في فيلمه الشهير “هوس Ossessione” عام 1943، قبل أن يقدمها الأمريكي تاي جارنيت في فيلم حمل نفس اسم الرواية عام 1946. لكن المختلف هنا هو أن أينوز يحرر المثلث من الخلفية الاجتماعية والاقتصادية للأعمال الكلاسيكية، ويستخدم كل أدواته السينمائية للتركيز على الحسية التي تمثل مركز هذا الصراع الدرامي.

لدى الشاب قصة قادته إلى الموتيل، وبالتأكيد لدى الزوجة حكاية وراء زواجها من هذا الرجل متقلب المزاج الذي يكبرها عمرًا، لكن الفيلم لا ينشغل كثيرًا بهذه الخلفيات قدر انشغاله بالانجذاب الجسدي الذي يحركه الوجود في مكان مثل هذا الفندق الغريب، الذي يسيطر الجنس على كافة تفاصيله البصرية والسمعية، فلا يتوقف من يوجد داخله عن سماع آهات النزلاء الذي يزورون المكان لساعة أو ساعتين لأغراض جنسية بحتة. هل يشبه المكان عالمنا الحالي الذي صار أشبه بموتيل جنسي كبير يصعب للفرد أن يمنع نفسه داخله من الاندفاع نحو الحسّية؟ ربما كان هذا أحد التفسيرات.

لكن المهم في الفيلم الذي لم يفز بأي جوائز، هو الأسلوب الذي صور به كريم أينوز الحكاية بما فيها حضور دائم للجنس سواء كان الحدث المركزي أم كان شيئًا يحدث في الخلفية. توظيف الألوان الساخنة المشبّعة، وشريط الصوت الحافل، وميكانيكية تصوير الفعل الجنسي نفسه، والتي تتفادى السقوط في فخ البورنوغرافيا وتحاول تصوير الجنس كما هو في الحقيقة لا كما تتخيله الأفلام الإباحية، تجعله تجربة تستحق المشاهدة وإن كان من المستحيل عمليًا عرضها في أي مهرجان أو عرض جماهيري عربي.

صور عديدة لجوهر واحد

سيطول هذا المقال كثيرًا لو تحدثنا بالتفصيل عن كل مرة يرتكز فيها أحد الأفلام على مشهد حسي، ففي “بارثينوبى Parthenope” للإيطالي باولو سورنتينو تتمثل إحدى اللحظات المفصلية في وعي بطلة الفيلم التي تحمل الاسم القديم لمدينة نابولي في الليلة التي تقضيها صحبة أسقف المدينة. تذهب الفتاة التي تبحث في الأنثروبولوجيا لتجري حوارًا حول المعجزات مع الرجل الذي وصفه أستاذها بأنه شيطان، لتجد نفسها تقضي الليلة معه لتقع المعجزة بشكل فعلي فقط لهذا التلاقي.

وفي “ليمونوف Limonov” للروسي كيريل سيريبرينيكوف (الفيلم الذي تحدثنا عنه باستفاضة في مقال الأسبوع الماضي)، يكتشف الأديب السوفيتي الكثير عن نفسه وعن الحياة عندما تقوده قدماه وغريزته لممارسة الجنس مع أحد المتشردين في شوارع نيويورك. المشهد الذي يصوّره المخرج بشكل صاخب يكشف من خلاله عن جانب من تكوين شخصية ليمونوف كما يراها.

وفي “أنواع الطيبة Kind of Kindness” لليوناني يورغوس لانثيموس يحضر الجنس دائمًا في الحكايات الثلاثة التي يضمها الفيلم، في حكايتين منهم كصورة للانضباط: فالموظف يمارس الجنس بالطريقة التي يفرضها عليه مديره، والمؤمن بطائفة دينية ينصاع لقواعد القائد الروحي فيما يتعلق بكل السوائل التي تدخل جسده بأي طريقة. أما الحكاية الثالثة فالجنس فيها يُشكل عنصرًا من علاقة بطل الحكاية بزوجته المفقودة التي تعود إليه فيشعر بكونها كائن آخر يتظاهر بكونه الزوجة.

وفي “المادة The Substance” للفرنسية كورالين فارجيا يظهر الجنس مرة أو مرتين بشكل عابر، لكن ما يستمر طيلة الأحداث هو تيمة عبادة الجسد الجميل الكامل، متمثلًا في الممثلة المتقدمة في العمر (ديمي مور)، والتي توافق على استخدام مادة غامضة تخلق من داخلها فتاة شابة (مارجريت كويلي) تمثل الأنثى الشابة مكتملة الجمال، التي يُفرط الفيلم في تصويرها بشكل يُبرز كل بوصة من جمالها، قبل أن ينقلب ذلك كليًا في نصف الفيلم الثاني عندما يبدأ الفيلم في إيضاح الأفكار التي يطرحها.

يمكننا الاستمرار أكثر في ضرب أمثلة مختلفة من أفلام المسابقة، بما يؤكد الملاحظة الطريفة التي ذكرها الناقد الزميل، وبما يدفع أيضًا للتفكير في أنه من المستحيل عمليًا في كل الأفلام المذكورة تقريبًا الاستغناء ولو عن مشهد واحد، بما يتناقض مع العبارات المتكررة في إعلامنا المحلي وعلى ألسنة بعض الفنانين، الذي يرون أن التلميح بالأشياء أفضل من تصويرها. قد يكون هذا رأيهم وقد يقولونه إرضاءً للجموع أو اتقاءً لردود الأفعال، وفي النهاية كل شخص حر فيما يقتنع به. لكن زمننا الحالي يخبرنا أن الفنون البصرية عمومًا، والسينما خصوصًا، قد تحررت في العالم من قيود كثيرة كانت تكبّلها، بينما نحن ما زلنا نذهب لمشاهدة الأفلام وداخل عقلنا سؤال مؤلم: هل يصلح هذا الفيلم للعرض في بلدي أم لا؟

 

موقع "شهرزاد" المصري في

01.06.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004