ملفات خاصة

 
 
 

مهرجان كان السينمائي 2024...

ما بعد المشاهدة

كان/ العربي الجديد

كان السينمائي الدولي

السابع والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

بعد أيام على نهاية الدورة الـ77 لمهرجان كان، المشحونة بتساؤلاتٍ عن آلية اختيار بعض أعضاء لجان التحكيم، وكيفية انتقاء أفلامٍ، بات يُمكن إيجاد حيّز أهدأ وأعمق لنقاشٍ نقدي يتناول أفلاماً مختلفة. رغم أنّ مهرجان كان يعاني مصاعب، يُفترض بإدارته حلّها لتجديده وتطويره، فإن دوراته السنوية تمنح حيّزاً للاطّلاع على جديد الفنّ السابع.

 

####

 

عن هوس مهرجان "كانّ 2024" بأميركا والتزامه بمساواة جندرية

نديم جرجوره

تساؤلات، أقرب إلى ملاحظات نقدية، تطرحها الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) من مهرجان "كانّ" السينمائي:

ما سرّ تلك الحماسة للسينما الأميركية، أفلاماً وسينمائيين ـ سينمائيات ونجوماً؟ أيكون السرّ استغلالاً للحضور الجماهيري الطاغي لها في العالم؟ أم أنّ وفرة إنتاجاتها دافعٌ إلى اختيار ما يُظنّ أنّه الأفضل والأهمّ، أو ربما الأكثر تجاريةً، وبعض العاملين والعاملات فيها يُنجزون تُحفاً تستحقّ أنْ تُشرِّف المهرجان بعرض دولي أول لها فيه؟ هذا لا علاقة له فقط بغيابها في الدورة السابقة، بسبب إضرابات هوليوود. فحماسة مهرجان "كانّ" للسينما الأميركية سابقةٌ على تلك الإضرابات، ولاحقة عليها أيضاً.

الحماسة تلك تبلغ مرتبةً غير مفهومة، وإنْ تكن مُبرّرة فإنّها غير مقبولة: ما موقع غريتا غِرويغ في النتاج السينمائي غير التجاريّ، الذي (الموقع) يحثّ على اختيارها رئيسةً للجنة تحكيم مسابقة الدورة الـ77 هذه؟ ألكونها مخرجة فيلمٍ ("باربي"، 2023)، تبلغ إيراداته الدولية أقلّ من مليار ونصف مليار دولار أميركي بقليل؟ أم لرغبةٍ ملعونةٍ في إيجاد توازنات جندرية عشوائية، بإتاحة حيّز أكبر للنساء، خوفاً من مطاردةٍ للمهرجان باسم MeToo، وتداعياتها؟

الدورة الأخيرة تلك مفتوحة على كبارٍ في صناعة السينما الأميركية، طبعاً. توازن آخر تُتقن إدارة مهرجان "كانّ" تحقيقه بدقّة: التجاريّ الاستهلاكيّ مقبولٌ، وبكثرة أحياناً. لكنْ، في المقابل، هناك روائع جديرة بأنْ يتشرّف المهرجان بعرضٍ دولي أول لها في صالاته. تكريمان يختاران اثنين من أبرز عناوين تلك الصناعة، باختلافٍ واضح في النوع والأسلوب والعوالم السينمائية: ميريل ستريب وجورج لوكاس، وهذا إضافة للمهرجان لا العكس. أفلامٌ لفرنسيس فورد كوبولا ويورغوس لانتيموس وبول شرايدر (المسابقة)، وكيفن كوستنر وجورج ميلر (خارج المسابقة) مثلاً، وهذا غير معنيّ بالمُشاهدة، التي تتيح وحدها تبياناً نقدياً لكلّ مُنجز سينمائيّ منها. لكنّ التعليق مبنيٌّ على أسماء صانعيها، والأسماء أحياناً تقول الكثير قبل المُشاهدة.

انفتاحٌ كهذا غير لاغٍ أهمية التساؤل عن حماسةٍ، تنحدر أحياناً إلى مرتبة غير لائقة بمهرجان يُصنَّف "فئة أولى": اختيار أفلامٍ غير لائقة به (أقلّه بحسب دورات سابقة)، وأفرادٌ يُشاركون في لجان تحكيم.

الحماسة نفسها تؤدّي إلى تساؤل عن علاقة مهرجان كان بـ"نتفليكس". في الدورة الـ70 (17 ـ 28 مايو/أيار 2017)، تواجِه إدارته نوعاً من حملةٍ ضدها، لاختيارها فيلمين اثنين تُنتجهما المنصّة الأميركية، يُعرضان في المسابقة: "أوكجا" لبونغ جوون ـ هو، و"حكايات مِيروفيتز" لنواه بومباخ. والحملة، التي تقودها شركات توزيع الأفلام في فرنسا تحديداً، مرتكزةٌ على تضادٍ بين قرارين يتناقض أحدهما مع الآخر، فالمنصّة غير سامحةٍ بعرض فيلمٍ لها في الصالات التجارية حينها (لاحقاً، تُبدِّل قرارها، فتُتيح عرضاً كهذا ولو لفترة قصيرة)، والأفلام المختارة في المهرجان يُفترض بها أنْ تُعرض تجارياً.

بدءاً من الدورة اللاحقة على تلك، يتوقّف المهرجان عن اختيار أفلامٍ لـ"نتفليكس". الدورة الـ77 تُفتَتح بـ"الفصل الثاني" لكُنتان دوبيو، التي تُشارك المنصّة في إنتاجه: أهذا تحايل على المتفّق عليه بين المهرجان وشركات التوزيع الفرنسية؟ أإلى هذا الحدّ تُنتج "نتفليكس"، أو تُشارك في إنتاج أفلامٍ، يجهد المهرجان في الحصول على حقّ العرض الدولي الأول لها في صالاته؟ هذا يؤدّي إلى ملاحظةٍ أخرى: فرغم أنّ للمنصّة أفلاماً مُسرفة في اشتغالاتٍ سيئة، في مواضيع وأساليب معاينة وسرد أولاً، هناك أفلامٌ، وثائقية تحديداً، تمتلك شرطها الإبداعي الباهر، وأخرى روائية تحاول ـ بتعاونها مع سينمائيين وسينمائيات ذوي مصداقية سينمائية يُركن إليها كمرجعٍ أو حالة أو تحريضٍ على تفكير وتأمّل ـ صُنع لغةٍ تُكمل الفعل السينمائي المطلوب، وإنْ على شاشة منصّةٍ.

أمّا أنْ يختار مهرجان "كانّ" فيلماً لـ"نتفليكس"، فهذا يحتاج إلى إجابة واضحة: إنْ يستحقّ الفيلمُ اختياراً وعرضاً، فليكن. لكنّ المأزق أنّ آلية الاختيار بحدّ ذاتها، في "كانّ" وفي مهرجانات أخرى، ملتزمةٌ قواعد ومفاهيم وشروطاً خاصة بتلك المهرجانات، ولا علاقة لها بنقدٍ و"سينيفيليّة".

 

####

 

"كل ما نتخيله كضوء"... رصد مُرهف لمشاكل المرأة الهندية

محمد هاشم عبد السلام

سجّلت المخرجة الهندية بايال كاباديا اسمها بحروف بارزة في تاريخ مهرجان كانّ، وتاريخ السينما الهندية، بعد فوز أول روائي طويل لها، "كل ما نتخيله كضوء" بالجائزة الكبرى لمسابقة الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024). باختيار فيلمها في المسابقة، عادت الهند بعد غياب ثلاثة عقود. إنّه أول فيلم هندي لمخرجة في المسابقة تلك، وكاباديا أول مخرجة هندية تشارك فيها. بخلاف هذا، جعلها الفوز أول هندية تنال جائزة كبرى، وإحدى المخرجات القلائل اللواتي فُزن بها في تاريخ المهرجان. نجاحها في نيل جائزة كبرى، في مسابقة حاشدة بأفلام أساتذة في الإخراج، وآخرين لهم تاريخهم السينمائي، بأول روائي، لم يكن مفاجئاً أو مستغرباً، بل متوقع بعد عرض الفيلم، نظراً إلى مستواه الفني وموضوعه والأداء التمثيلي، وموهبة مخرجته وذكائها وحساسيتها في تناول موضوعها بشكل مُرهف.

لفتت كاباديا الأنظار إليها بآخر وثائقي طويل لها، "ليلة الجهل بكل شيء"، الفائز بجائزة "العين الذهبية" لأفضل وثائقي في تظاهرة "نصف شهر السينمائيين"، قبل ثلاثة أعوام. فيلمٌ شجاع وجريء ومتحدٍّ، يقتحم مناطق سياسية شائكة، ويوجّه إدانات لقمع السلطات الهندية وتنكيلها وقتلها طلاباً جامعيين، ويفضح ممارسات كهذه من دون مواربة. فيه طرح لِهَمّ سياسي واجتماعي وثقافي، عبر مزج المتخيل بالواقعي. طوال مدّته، تُسمَع فتاة تقرأ رسائل طالبة في معهد السينما، كتبتها إلى حبيبها، تبثّ فيها غرامها، وتسرد له وقائع وأهوال ما جرى، مع لقطات أرشيفية كثيرة للأحداث القمعية المشينة. كما برزت مهارة المخرجة في سرد موضوعها بإقناع وفنّية، وتمكّنها من استخدام أدواتها بحرفية ملحوظة.

في "كل ما نتخيّله كضوء"، لم تبتعد كاباديا كثيراً عن فيلمها السابق، فنياً وفكرياً وأسلوباً: التزام مناقشة الحرية والقمع والمسكوت عنه، سياسياً واجتماعياً ودينياً، مفضّلة في الروائي إعطاء مساحة لمن ترى أنْ لا صوت لهم في بلدها ومجتمعها. لذا، اختارت ثلاث نساء تحديداً، من أعمار وبيئات وسلوكيات مختلفة. وبالمهارة نفسها، والمزج الفني البارع، والطرح السياسي والاجتماعي والإنساني والحسي والديني الجريء ضد سياسات وتصرّفات وأوضاع بلد وحكومة وقوانين وسلوكيات بشر، نسجت بهدوء وإقناع وفنّية أحداث جديدها هذا.

للنَفَس الوثائقي حضور لافت في مشاهد منه، لكنّه يتجلّى بقوة في لقطات استعراضية طويلة للشوارع الكئيبة في مومباي، والتعليقات الصوتية المصاحبة، في افتتاحه. تستمر اللقطات دقائق، تُسمع فيها تعليقات صوتية لأفراد يروون، في جمل مقتضبة، تجربتهم مع المدينة: "يوجد عمل ومال في مومباي"، "الأفضل أن تعتاد المدينة لتستطيع المواصلة"، "المدينة تسلبك وقتك وحياتك"، وجمَل أخرى متدفقة يقولها عمّال نازحون من قراهم الفقيرة، بحثاً عن لقمة العيش في أسواق وشوارع إحدى أكبر مدن الهند ضخامة واكتظاظاً وكآبة وقسوة.

افتتاح غامض ومشوّق، كأنه تمهيد يُجهّز أجواء فيلمٍ يسوده الكبت وانعدام المساواة والظلم الاجتماعي والاقتصادي، والحرمان النفسي والعاطفي والجنسي، والأمان عامة. كما يوحي بأنّ الشخصيات الروائية لا تختلف عن تلك الأصوات، ضحايا المدينة، مجهولي الأسماء والوجوه. انطلاقاً منه، وبعد لقطات قليلة ذات أثر شبه وثائقي تُعرّف بالشخصيات والأجواء، يمضي الفيلم بانسيابية في سرد أحداث واقعية واجتماعية ورومانسية حزينة، تُختَتم في النهاية بجماليات صورة ومواقع وأداء، مناقضة تماماً للمقدمة والوسط. تدريجياً، يُعرَّف بالنساء الثلاث، اللواتي يعملن في مستشفى هندي بائس في أحد أحياء مومباي. يمارسن حياتهن المهنية، ويقمن بروتين يومي عادي.

برابها (كاني كوسروتي) ممرضة خبيرة وكتومة وصارمة ومحافظة، وآنو (ديفيا برابها)، الأصغر سناً، ممرضة استقبال منفتحة وجسورة ومقبلة على الحياة. تعيشان معاً في منزل واحد، وفي حياتهما العملية اليومية تتحدّثان عن المناظير المهبلية، ووسائل منع الحمل المختلفة، وكلّ ما يتعلق بصحّة المرأة والإنجاب. لكنْ، في حياتهما الخاصة، هناك التزام وانضباط وأسرار.

تتحمّل برابها الكثير، وتُبقي عذاباتها مخفية. بعد زواجها تقليدياً، يسافر زوجها إلى ألمانيا للعمل. لا يتصل بها لعامٍ، ولا يتواصل معها. عندما تتصل به تحت ضغط أحداث وتطوّرات، تكتشف أنْ هاتفه لا يعمل. ذات يوم، يُرسل إليها جهاز طبخ أرز باهظ الثمن. في الوقت نفسه، يتقرّب منها مانوج (عزيز نيدومانجاد)، طبيب رومانسي مُهذّب يكتب الشعر، ويحاول تعلّم اللغة الهندية، رغم صعوبتها عليه. تحاول مجاراته، وتقبل دفتر أشعاره، وتعلّمه بعض الهندية. لكنّها في النهاية، وبعد عذابات، وبدافع صرامتها وجدّيتها، تُخبره أنّها متزوجة، وأن الأمر صعب للغاية بالنسبة إليها.

آنو تتحدّى القواعد والمجتمع والعادات والتقاليد والدين، بمواعدتها شاباً مسلماً يُدعى شياز (هريدهو هارون). قصة حبّ صادق، مليئة بمشاكل ومخاطر عليهما (إنّها هندوسية وهو مسلم). ما يُعقّد الأمور أكثر، ليست محاولاتهما إخفاء علاقتهما خشية المجتمع والأهل والدين فقط، بل رغبتهما في لقاء جسدي يصعب تحقيقه، ويُجهَض في كل مرة، ما عدا قبلات عابرة مختلسة، هنا وهناك.

أثناء ذلك، يتمّ التقرّب من زميلتهما الطاهية بارفاتي (تشايا كادام)، أرملة خمسينية تجد نفسها بعد أكثر من عقدين تحارب الإخلاء القسري التعسفي من مسكنها العشوائي، غير الآدمي، المقرّر هدمه لإقامة أبراج سكنية فارهة. بعد إخفاقها في إثبات ملكيتها، وضيق المدينة بها بعد إفناء شبابها فيها، تُقرّر ترك المدينة نهائياً، والعودة ثانية إلى قريتها الشاطئية في ولاية "كيرالا". تدعو برابها وآنو إليها لتمضية وقت معها. تذهب الممرّضتان في رحلة برية إلى بلدتها الساحرة، حيث تصبح الغابة الغامضة مساحة لتحقيق بسيط لأحلام وتخيلات ورغبات.

في هذا الجزء، يحدث انفتاح على الطبيعة، ويتجلّى سطوع الألوان، ويُلمس مدى حيويتها وتأثيرها عليهنّ، وعلى تصرّفاتهن التي تُبرزها الحركة النشطة للكاميرا، كما اتساع زوايا التصوير على الأفق الرحب، وغلبة اللقطات النهارية الخارجية، والألوان الطبيعية، والأشجار والبحر والرمال والهواء. هذا كلّه في مقابل الابتعاد عن المونتاج الصارم، والانتقالات التقليدية، والإضاءة القاتمة، والشوارع والطرقات والبيوت المُقبضة، مع غلبة التصوير الداخلي بين الجدران، خاصة في النصف الأول من الفيلم.

في "كل ما نتخيّله كضوء"، نجحت كاباديا في مزج الأنثوي بالإنساني، في إطار اجتماعي وسياسي وديني، مغلّف برومانسية مفتَقَدة، وحسّية منشودة، في خليطٍ بالغ الرهافة والحساسية والحزن والصدق، من دون أي افتعال. برقّة، نسجت حبكة هادئة وإيقاعاً مُتمهّلاً، يصل إلى حدّ البطء أحياناً، من دون ميلودرامية، كاشفة بعمق عن نماذج لنساء هنديات مُتباينات، يكابدن مشاق حياة ومجتمع وقوانين، وصعوباتها وتناقضاتها، إلى صراعات داخلية متراكمة، تعكس حتماً مشاكل مجتمع ضاغط، وسلطة قاهرة، وبلد مُنقسم على نفسه، لغوياً ودينياً وطائفياً وطبقياً وعرقياً.

 

####

 

"إلى أرض مجهولة" لمهدي فليفل: إشارة استغاثة فلسطينية عن وضع لا يُطاق

سعيد المزواري

كهرباء خاصة كانت تسري في صالة مسرح لاكروازيت الممتلئة، عند عرض "إلى أرض مجهولة" للفلسطيني مهدي فليفل، في "نصف شهر السينمائيين"، في الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2024) لمهرجان كان، قطعت مع جوّ الأريحية واللارسمية الذي تجرى فيه عروض أفلام هذا القسم، المهتمّ بكتابات وأساليب متفرّدة للمخرجين. مزيجٌ من توقّعات عالية إزاء فيلم فلسطيني، حاضر في اللائحة الرسمية، وتقاطعاته مع راهن حرب إبادة همجية، يشنّها الجيش الإسرائيلي على غزّة، لم يفت مندوب القسم، جوليان ريج، تأكيده أنّ الفيلم يتصادى بشكل فعّال معها، قبل أنْ يمنح الكلمة لفليفل، الذي قال إنّ المدة الفاصلة بين تصوير العمل وتقديمه في كانّ لا تتجاوز ستة أشهر، وإنّه لا يزال غير مستوعبٍ كيفية تحقيق ذلك، رفقة فريقه الفني والتقني.

لعلّ هذا الطابع، المستعجل إلى حدّ ما لصنع الفيلم، انعكس على الشاشة مُطيلاً أمد شحنة الكهرباء، بل مُعزّزاً لها، بمجرّد بدء العرض، وتقديم الشخصيتين الرئيسيتين شاتيلا (محمود بكري) ورضا (آرام صباح)، العالقَين في وضع مزرٍ في أثينا، بانتظار تمكّنهما من الهجرة إلى ألمانيا بجوازي سفر مزوّرين. في البداية، يسعى البطلان المضادان إلى جمع مالٍ طلبه المهرّب مروان (منذر ريحانة) لتهجيرهما بطريقة غير شرعية، عبر سرقة سيدة عجوز بحيلة مبتكرة. في تفقّدهما ما غنماه، يظهر التضاد المطلق بين شخصيّتيهما: شاتيلا، الأكبر سنّاً، حادّ الطباع، واقعي ومفرط في الجدّية؛ ورضا حالم ورقيق ومنصاع. هذا دفعه إلى الإدمان، هرباً من وضع لجوء يائس في اليونان، برع السيناريو، المقتبس بحرّية عن رواية "رجال في الشمس" (1963) للفلسطيني غسان كنفاني (كتابة فليفل والمغربي الإنكليزي فيصل بوليفة والإنكليزي جايزون ماكلوغان)، في التقاطها، بإجراء بحث ميدانيّ في أثينا، وتصوّرها كفضاء برزخي، أو "حلقة وسطى" (أليغيري) بين جهنم، منبع المخيّمات، وفردوس المسعى الأوروبي.

إدمان رضا سيُشكّل حتى النهاية سيف ديموقليس تراجيدياً، مُسلّطاً على حلم الهجرة إلى ألمانيا، كمعطى حتمي، أو شرط لا يمكن تجاوزه، لأنه مترتّب على أوضاع لا تُحتمل صعوباتها.

يُظهر الفيلم تأثّراً كبيراً بموجة السينما البريطانية الجديدة (كاتبو السيناريو الثلاثة درسوا في بريطانيا)، باللجوء إلى عدسة ذات بعد بؤريّ طويل، تسحق أفق النظر، وتحبس الشخصيتين في بيئة اقتصادية ـ اجتماعية لا يمكنهما الهروب منها. وأيضاً بالنزوع إلى تصويرهما في فضاءات حقيقية، تعكس وضعيتهما الداخلية، أي الحاضر، في تزاحم اللاجئين في أماكن ضيقة وخراب، كذاك الذي يستغلّه شاتيلا لخزن أمواله، قبل أن تُستلّ منه وفق تطوّر درامي أولي صادم في البداية، فيصفع ابن عمّه ويطرده من المسكن. لكنّه يحتضنه سريعاً، كأنّ شيئاً لم يكن.

سيزيفية تُشكّل شرطاً فلسطينياً عميقاً يتمثّله الفيلم بوضعيات (الطرد من المسكن، فقدان الممتلكات، إلخ.) تحاكي من دون رمزية فجّة أو خطابية شروط العيش في الداخل، وبانعكاس مرآويّ في مخيّمات لبنان، من حيث تنحدر الشخصيتان، وحيث أمضى مهدي فليفل طفولته، التي تمثّل قصصاً منها في فيلمه الأول "عالم ليس لنا" (2012).

"وأنت؟ ليش طلعت من لبنان؟"، "لبنان مش بلادنا، لبنان زيّ السجن، مثل عندكم في غزّة"، يقول رضا. عالم المخيّمات، الحاضر هنا بقوّة ما، يظلّ خارج الحقل، عبر مكالمات مع زوجة شاتيلا ووالدة رضا، لا تفلح كلماتهما، الساعية إلى التخفيف عنهما بصوت يخنقه الأسى، سوى في تأجيج الأزمة، والتأكيد على أنّ العودة ليست خياراً مُمكناً. لكنّ الشرط الأساسي، الذي يعبّر عنه الفيلم بإيحائية خلّاقة، يتمثّل في كيف أنّ المعيشة القاسية والحصر في الزاوية يُخرج من الفلسطيني ما ليس فيه، وهذا عبّر عنه محمود بكري بأداء لافتٍ، في مونولوغ يقول فيه كيف أنّ الظروف حوّلتهما إلى سارقَين ونصّابَين، بينما هما يحلمان بعيشٍ كريم، وفتح مطعم متخصّص بالطبخ الفلسطيني، في منطقة ألمانية يعيش فيها عربٌ.

إحالة فيها التقاطٌ لراهن "عملية 7 أكتوبر"، التي يحلو للبعض أنْ يراها هجوماً، بينما هي إشارة استغاثة وتحذير في آنٍ من وضع لا يُطاق، وترسّب لعقود من الصمود والنضال بغية استرداد حقوق مهضومة.

لقاءٌ مزدوج يأخذ "إلى أرضٍ مجهولة" في منعطف درامي وجمالي: صبي (13 عاماً) قادمٌ من غزّة، يَعلَق بدوره في أثينا، بعد أنْ غَدر به مهرّبه، وأخلف وعده بأخذه إلى عمّته في إيطاليا، وتاتيانا الأربعينية يونانية مُفلسة، تمضي وقتها في احتساء الكحول. يُشكّل التعرّف إلى هاتين الشخصيتين الثانويتين وضعيّتَين جديدتين، تُخرجان شاتيلا ورضا مؤقّتاً من أفقهما الضيق: أخيراً، يظهر الأول وهو يرقص ويداعب اليونانية بحنان كأنّها زوجته، والثاني يحتضن الصبي الغزّي بحنان أبوي، يُلهيه عن تناول المخدّرات. كأنّنا نكتشف نبذة عن الوجه الآخر لما يمكن أن تغدوه الشخصيّتان، إنْ نجحتا في السفر إلى ألمانيا.

تلي ذلك دوّامة درامية من أحداث لن نفصح عن فحواها، لكنّ مهدي فليفل توفَّق في تقفّيها بإيقاعٍ سريع، ينهل من نوع الثريلر وفيلم احتجاز الرهائن. ولعلّ اللحظة المفتاحية، التي تشهد التقاء الأوج الدرامي بخطٍّ نصف خبيء حول الشرط الفلسطيني، تتمثّل في مشهد أنثولوجي، سرت له قشعريرة في أبدان المشاهدين، وسط صمت جنائزي لفّ "مسرح لاكروازيت": فلسطينيون يأخذون رهائن فلسطينيين يصرخون "تحيا سورية". لا أحد منهما يثق بالآخر، أو يستوعب ما يقوله، قبل أنْ يشرع أحدهما في إلقاء قصيدة محمود درويش "سقط القناع"، والأبيات التي تقول "سقطت قربك فالتقطني/ واضرب عدوّك بي/ فأنت الآن حرّ"، تُلقى على خلفية المحتجِزين والرهائن كصورة وانعكاسها على مرآة. مشهد مُدوٍّ كقنبلةٍ. أهناك فعل مقاومةٍ أشدّ يأساً وأملاً، في آن، من أنْ يؤذي المرء نفسه من أجل حرّيته؟

من نقاط قوّة الفيلم تناوله شخصية الفلسطيني بعيداً عن الملائكيّة، التي تحمل في عمقها أبويّة واستغلالاً معظم الأحيان. هذا يُشكّل فعل مقاومة للتمثّلات النمطية. كغيره، يسرق الفلسطيني ويكذب ويشتم ببذاءة، وربما يمارس جنساً مثلياً. إنّه إنسان، ومن رحم هذه الإنسانية تنبع أسمى شرعية يستحقّ بموجبها أنْ يعيش حياة كريمة كالآخرين، خاليةً من مضايقات الاحتلال وجرائمه.

رغم مقارنة البعض للفيلم بـ"سارقو الدرّاجة" (1948) للإيطالي فيتّوريو دي سيكا، يندرج "إلى أرض مجهولة" (العنوان مستمدّ من مقطع لإدوارد سعيد، يفتتح الفيلم: "بطريقة ما، إنّه قدر للفلسطينيين ألّا ينتهي بهم الأمر إلى حيث بدأوا، بل إلى أرض غير متوقّعة وبعيدة") في إرثٍ سينمائي عربي عريق، يحكي المأساة الفلسطينية بموشور الاستعارة، أوضحها "المخدوعون" (1972) للمصري توفيق صالح، المقتبس عن رواية "رجال في الشمس" أيضاً. لكنْ، امتلك "إلى أرض مجهولة" ذكاء تحيين الرؤية التي تناول بها القصة بتناغم مع وضع أكثر تراجيديةً واستعجالاً. لا وسيلة لطرق جدران الحافلة، المنطلقة بسرعة سيارات الإسعاف، التي يجلس على مقاعدها الخلفية شاتيلا ورضا، في رحلتهما النهائية نحو "أرضٍ مجهولة". لم يعد طرق الجدران يجدي في شيءٍ على أيّ حال.

لكن الأكيد أن ما قدّمه فليفل في كانّ هذا العام يكرّس نجاح مسيرته التي عمل على رسمها على مهل، وقد حصد ثمن تأنيه هذا، إذ سبق أن حصد جائزة الدب الفضي في مهرجان برلين عام 2016 عن فيلمه القصير "العائد" (A Man Returned)، ثم رشّح لجائزة بافتا عام 2018 عن فيلمه القصير "الغريق" (A Drowning Man)، وها هو يعرض فيلمه الروائي "إلى أرض مجهولة" ضمن عروض "نصف شهر السينمائيين".

 

####

 

"الملعونون"... إنّها الحرب بلا استعراض وأبطال وأمجاد

ندى الأزهري

في "الملعونون"، يستعير الإيطالي روبرتو مينرفيني عنوان فيلم عرض عام 1969 لفيسكونتي، يسلّط الضوء على جوانب قذرة للفاشية، لكنّه يختار زمن الحرب الأهلية الأميركية. مينرفيني، المُقيم في الولايات المتحدة، صوّر فيلمه هناك، وبعودته إلى الماضي، سعى إلى تفحّصِ كيفية تمثّل الحرب في المخيال الجمعي، تلك التي يجد أنّها ثابتةٌ في الخطاب السياسي الأميركي المعاصر، كما يذكر في حوار منشور في الملف الصحافي لفيلمه، الفائز بجائزة الإخراج مناصفة مع المخرجة الزامبية البريطانية رانغانو نيوني، عن "أن تصبح دجاجاً غينياً"، في "نظرة ما"، في الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ". يقول مينرفيني إنّه يواجه مشكلة حقيقية في الاستعارات المستخدمة على نطاق واسع في أفلام الحرب، لا سيما تلك المتعلّقة بالبطولة والهوية الوطنية والانتقام، والتضحية من أجل قضية عادلة. يجد في الشعار العام، المتمثّل في "الخير في مواجهة الشرّ"، خطراً وتضليلاً سياسياً.

يبرز الفيلم لذلك نهجاً مختلفاً في تصوير الحرب. فبدل التركيز عليها وعلى وقائعها وفظاعاتها، وعلى محاربي الطرفين، يُركّز على الأفراد. يهتم بالإنسان الذي وجد نفسه في المعارك مجبراً أو مختاراً عن قناعة وضرورة، يدعو إليها إحساس بواجب وطني أو ديني، أو للدفاع عن النفس. لذا، تُعنى الكتابة السينمائية (مينرفيني نفسه) بشخصيات محدّدة، تمثّل توجّهات عدّة وقناعات متنوّعة، تُطرح عبرها تساؤلات ونقاشات عن الواجب والإيمان والطبيعة والخوف، وما يدعو الفرد إلى الالتحاق بفرقة عسكرية، ووضع نفسه في أتون الجحيم.

الفرقة مكوّنة من متطوّعين تجمّعوا شتاء 1862، بعد أشهر قليلة على بدء الحرب الأهلية (1861 ـ 1865)، وكُلّفوا بمهمّة استطلاعية لجيش الولايات المتحدة في مونتانا غرباً، والقيام بدوريات في مناطق غير مستكْشَفة. تطرأ تحوّلات على مهمّتهم، تفرضها ظروف طبيعية وهجوم أعداء، فيمرّون بفترات شكّ في هدف التزامهم العسكري، وتساؤلات وجودية عن معنى الحياة والموت والفَقد.

الفرقة قليلة العدد، تتبع جيش "الاتحاد" الذي يحارب الانفصاليين. تتنقّل في طبيعة جميلة للغاية، ومتوحّشة. مكان ملائم تماماً بإمكانياته الطبيعية، التي تحثّ المرء على اختبار مشاعره ومواقفه أمام مجهول، لا ينحصر في هذه البرّية. ففي كلّ لحظة من لحظات "الملعونون"، ومنذ البداية، هناك ترقّبٌ وانتظارُ حدث لا بدّ سيطرأ. تنصب الفرقة خِيَمها لأيام، في مكان تراه موائماً، قبل مواصلة التقدّم مجدّداً. تمضي أوقاتها، المحمّلة بقلق وانتظار وتوتر مع شيءٍ من متعةِ الصحبة، في إشعال النار، والبحث عن طرائد، والصيد في الأنهار، وتحضير الطعام، ثمّ الصلاة قبل تناوله.

في كلّ لحظة من انشغال أفراد الفرقة، هناك عدو تُنتَظر إطلالته. في كلّ لقطة وحركة وصوت، توقّع هجوم. إذا انكسر غصن شجرة وهوى، إن هبّت ريح وعصفت، إن قرّر طيرٌ الطيران وانطلق، أيّ صوت ينبعث يُحرّك هذا الترقّب، ويثير تشويقاً مُدهشاً، في فيلمٍ لا أحداث فيه، بطيء الإيقاع ومتقشّف الحوار. غير معروف من سيهجم، وكيف ومتى. حتى عند وقوع الهجوم، سيكون لوقعه تأثير المفاجأة بالكامل. في هذا إبداع إخراج وتفوّقه، في فيلمٍ يُشغله سؤالٌ: متى سيظهر العدو، هذا الذي لن يظهر حقاً؟

يخيّم على الفيلم صمت. يُترك لأفراد الفرقة تحضير استقرارهم المؤقّت في المكان، واستكشاف طبيعة المنطقة، وتنظيم دوريات الحراسة، والاعتناء بالخيل، وتنظيف الأسلحة، وتبادل كلمات غنيّة بمعانيها وعميقة بدلالاتها. كلّ كلمة فيها دعوة إلى تأمّل. كلّ رأي في الحرب، لكلّ فردٍ على حدة، يُبيّن رؤيته لها، واعتقاده الخاص تجاهها، ووجود سبب قوي دفعه إلى أن يكون هنا وإن لم يبلغ سنّ الرشد بعد، وهذا حال اثنين منهم. حوارات ذكية في ثوابت بعضهم، كالإيمان والعدالة، وفي تغيّر وجهات نظر كلّ منهم بعد الهجوم، والشعور بفجاعة فقدان القريب والرفيق. كما حصل لشاب صغير، عندما رافق، عن اقتناع وحماسة، أباه وأخاه ليكونوا معاً في القتال، ثم فَقدهما.

الأهمّ في تغيّر النظرة إلى الذات، وفي معنى البطولة والحرب، وكيف يمكن أن يصبح الإنسان أكثر إنسانية وأقلّ افتخاراً بقدراته، الجسدية هنا، وأن يغدو أقلّ اعتقاداً ببطولاته، وأكثر تسامحاً. في كلّ هذه المعالجة، وعبر نقاشات أبطال "الملعونون"، يُقدّم مينرفيني مفهوماً مغايراً للحرب والبطولات المُصاحبة لها في أفلام النوع، ويقلب مفهوم البطولة الأميركية فيها، فلا خير ضدّ شرّ.

يصوّر روبرتو مينرفيني في روائيّه هذا (له ثلاثة أفلام وثائقية وفيلمان روائيان لم يعرضا في الصالات) هول الحرب من بعيد، من دون إبدائها، باستثناء مشهد واحد للهجوم كافٍ ليكشف عنف المعارك وقسوتها. فمعظم المشاهد تدور في أشغال يومية نهاراً، والحوار ليلاً، وإظهار تفاصيل صغيرة لحياة يومية يسودها ملل وتوتر من مهمّة، لا يدري أصحابها هدفها تحديداً، في أراضٍ تكشف الغرب الأميركي بهدوء وعناية وتأمّل، وليس بوصفها مسرحَ مغامرات. يعتمد لقطات مقرّبة لشخصياته، التي تنحفر وجوهها في الذاكرة، وتعابيرها الحيادية المتحفّظة، بل الباردة أحياناً، كأنّ المناخ القارس يصيبها بعدواه في المظهر فقط، فالقلوب مفتوحة، والشعور بالتضامن على أشدّه، في هذا الجوّ الثقيل المشحون.

أداء الممثلين مُعبّرٌ بجودة متناهية عن حيرة الشخصيات وإيمانها وفكرها المتوقّد. لذا، اختارهم مينرفيني بطريقة غير تقليدية، باحثاً ليس فقط عن مهارات تمثيلية، بل أيضاً عن قدرات فكرية، ليتمكّنوا من المساهمة بفعالية في تطوير القصة ودفعها إلى أبعد ممّا تَصوّره وكتبه، فكان بينهم مؤرّخون وفنانون تشكيليون وكتّاب، لتمثيل الحرب كما أراد لها المخرج أن تظهر: "بلا استعراض ولا أبطال ولا أمجاد". فالحرب تعني أنّ هناك أناساً حقيقيين سيموتون.

 

العربي الجديد اللندنية في

09.06.2024

 
 
 
 
 

المبتدئ”.. فيلم رسم طموح ترامب شابا وأغضبه كهلا

أمير العمري

أثار فيلم “المبتدئ” ردة فعل عنيفة فور عرضه في مسابقة مهرجان كان السينمائي الـ77، فسرعان ما تلقى منتجو الفيلم ومخرجه خطابا من الفريق القانوني للرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب”، يحمل تهديدا باللجوء إلى القضاء، لوقف عرض الفيلم في الولايات المتحدة.

فيلم “المبتدئ” (The Apprentice) أخرجه المخرج الإيراني الدنماركي علي عباسي، وكتب له السيناريو “غابرييل شيرمان”، ويتناول السنوات الأولى في مسيرة صعود “دونالد ترامب” رجلَ أعمال بمجال العقارات في السبعينيات والثمانينيات.

يكشف الفيلم بصياغته الروائية تخلي “ترامب” عن أكثر حلفائه إخلاصا وتنكره له، وتفتح شهيته أكثر فأكثر نحو التوسع والسيطرة وشراء العقارات، وذلك قبل سنوات كثيرة من تحقيق حلمه الأكبر، أي الوصول إلى مقعد الرئاسة.

ترامب” الغاضب.. دعوة إلى مشاهدة ونقاش الفيلم

رفض مخرج الفيلم علي عباسي تهديد وقف عرض الفيلم، ونفى تحامله على الرئيس “ترامب”، ودعاه إلى أن يشاهد الفيلم معه، وأن يتناقشا فيما جاء فيه بعد المشاهدة، والمثير للدهشة أن رد فعل محامي “ترامب” جاء قبل مشاهدة الفيلم، وفي ضوء ما كُتب عنه بعد عرضه في مهرجان كان.

وكان الملياردير “دان سنيدر” -وهو من ممولي الفيلم- قد شاهد الفيلم في فبراير/ شباط 2024، أي قبل عرضه في مهرجان كان، وأبدى غضبه الشديد، بعد أن وجد أن الفيلم لا يجامل “ترامب”.

كان فيلم “المبتدئ” من أكثر الأفلام الواقعية إمتاعا في المهرجان، مع أن آراء النقاد منقسمة حوله، فقد رآه بعضهم عملا تقليديا سطحيا، في حين رآه آخرون عملا من أعمال السينما الرفيعة. أما أنا فأراه عملا جيدا جدا، مكتوبا ببراعة ودقة.

صحيح أنه يستخدم كثيرا مما نُشر وأصبح معروفا عن شخصية “ترامب”، لكنه يحسن صياغة ذلك في سياق سينمائي مثير ممتع خالٍ من الثغرات، فقد ابتكر مخرجه بعض المواقف، وطوّع مواقف أخرى، بحيث يكتمل ملامح “البورتريه” الذي يقدمه للشخصية.

ففي أحد المشاهد مثلا، نرى “ترامب” في شبابه وهو يتردد على سكان مجموعة من مساكنه التي يؤجرها للفقراء، لكي يجمع الإيجار، لكنهم يواجهونه بالشتائم والسباب والطرد، وإلقاء الماء في وجهه، أو إطلاق الكلاب عليه.

المبتدئ”.. خيوط البداية التي تقود لفهم الشخصية

ينصبّ الاهتمام الأساسي للفيلم على محاولة فهم “ترامب” وما هو عليه الآن من قسوة وأنانية ونرجسية وعدم مبالاة، ويتأمل رحلة صعوده ليصبح واحدا من أغنى أغنياء أمريكا، ويبحث عن من ساعده في البداية، وعن علاقته بعائلته، وما جعله يصبح مغرما بذاته مع ولعه الشديد بالاستعراض والكذب، واتهام كل من ينتقده بالتآمر والتزوير، وكل هذا يلمسه الجميع اليوم.

ومن هذا المدخل، ينقب السيناريو في حياة “ترامب” مع أسرته في شبابه، فيصور علاقة أبيه به، واستخفافه به وبرغبته في العمل في مجال العقارات، وتشكيكه في قدرته على عقد الصفقات الكبرى في ذلك الوقت من منتصف السبعينيات، ولم يكن يومئذ قد بلغ الثلاثين.

وكانت أمريكا في ذلك العهد تعاني من التدهور السياسي والاقتصادي، قبل انتخاب الرئيس “رونالد ريغان”، الذي حقق قدرا من الرخاء الاقتصادي على حساب الطبقات الفقيرة.

قصة صعود ترامب كما يصورها الفيلم قريبة من قصة “فاوست” (Faust)، أو “فرانكنشتاين” (Frankenstein)، فهو سيلتقي بالرجل الذي يصنعه ويلقنه مبادئ الصعود، أي المحامي اليميني الشرس “روي كون”، وهو محامي السيناتور “جو مكارثي” في ذروة هستيريا العداء للشيوعية في الخمسينيات.

عقدة الدناءة.. دافع النجاح في مجال العقارات العنصرية

يبدأ الفيلم في عام 1973، ويصل بالتدريج إلى الثمانينيات فيتوقف، ولكن بعد أن نكون قد اقتربنا من شخصية “ترامب” الشاب، ومن المؤثرات التي جعلته على ما يبدو اليوم.

يستخدم المخرج الكاميرا المتحركة، لتتابع عن كثب تحركات “ترامب” وترصد ما يحيط به، وكأننا نتابع فيلما تسجيليا، لكنه يتوقف أيضا أمام المشاهد الصاخبة في النوادي الليلية ومنتديات الصفوة، والبهرجة والانتقال من الظلال إلى الأضواء المبهرة.

نرى أيضا معاناة “ترامب” على نحو ما من عقدة الشعور بأنه أدنى، وأقل موهبة من والده، فقد حاول بكل الطرق أن يثبت العكس، ومضى يشق طريقه ويجرب في عالم العقارات في مدينة نيويورك التي يجيد علي عباسي تصوير ملامحها، من خلال صور ضبابية شاحبة، يحاكي من خلالها المزاج اللوني السائد في أفلام تلك الحقبة.

يجد “ترامب” الشاب نفسه واقعا في مأزق قانوني، بسبب اتهامه بمخالفة قانون الإسكان الذي ينص على المساواة في تأجير المساكن بين جميع الأشخاص، أما هو فكانت التهمة الموجهة إليه أنه يرفض تأجير مساكنه للسود الأفارقة.

روي كون”.. ملازمة التلميذ المخلص لمحامي الشيطان

يلتقي “ترامب” ذات مرة في أحد النوادي الليلية بالمحامي الشيطاني المغرور “روي كون”، فيتجه مباشرة إلى هدفه، فهو يريد أن يصبح “كون” أباه البديل، أن يتبناه ويوفر له الحماية، وهو الذي يخشاه السياسيون وذوو المناصب الرفيعة في البلاد.

يرفض “كون” في البداية التعامل معه، فـ”ترامب” لا يعدل شيئا، مقارنة بالنخبة من كبار الأثرياء والسياسيين الذي يحيطون به في مجلسه، ويخطبون وده لحاجتهم إليه، وبعض عتاة الضالعين في عالم الإجرام مثل “توني ساليرنو” رجل المافيا الأمريكية الشهير.

كان “ترامب” يلح ويبدي استعداده لأن ينطوي تحت جناح “كون”، ويكون تلميذا يتعلم منه، وبذلك لمس الوتر الحساس في شخصية “كون” الذي يريد أن يستمتع بصنع مخلوق على شاكلته، فيوافق على تخليصه من المأزق القانوني الذي وقع فيه مع الحكومة، ويرفع قضية يطالب فيها بتعويضه بمائة مليون دولار.

وفي مشهد طريف على العشاء في منزل أبيه، يستنكر الأب “فريد ترامب” بكل جدية تهمة العنصرية، مرددا أنه “يوظف سائقا من السود”!

مبادئ النجاح الثلاثة.. دستور شرس يرسم معالم الطريق

كان المحامي “روي كون” يشعر بانصياع “ترامب” الشاب له، فلقنه 3 مبادئ يتعين عليه الالتزام بها إن أراد النجاح، وهي: أن يهاجم خصومه بكل قسوة، وأن لا يقر بهزيمته بل يصر دائما على الفائز والمنتصر، وأن لا يعترف أبدا بأي شيء يمكن أن يؤخذ عليه.

أليست هذه الأسس هي التي يطبقها “ترامب” حرفيا حتى اليوم؟!

نرى بعد ذلك لقاء “ترامب” مع الفتاة الشقراء وسيدة المجتمع “إيفانا”، وهي ترفض تودده إليها في البداية، لكنه لا يكف عن استمالتها والتلويح وإرسال الهدايا لها، ثم يلوح لها بحبه إلى أن توافق على مصاحبته، تحت إغراء الثراء والطموحات الكبيرة غالبا.

وكان “ترامب” يومئذ قد استحوذ على ناطحة السحاب الهائلة في مانهاتن؛ عمارة الكومودور، ثم أضاف إليها عدة طوابق لإقامة فندق، لتصبح واحدة من معالم نيويورك البارزة، وكانت شهيته الفطرية تجاه العقارات قد تفتحت وامتدت واستبدت.

ومع أن والده كان معارضا لملك العقارات، وقد أصبح الآن في وضع مالي صعب، ويرفض فكرة ابنه بشراء ناطحة السحاب، ويرى فكرة إقامة فندق في الطوابق العليا في تلك المنطقة نوعا من الجنون، فإنه سيثبت له فيما بعد أن ابنه كان بعيد النظر، وأنه نجح في الاستحواذ والتخلص من الضرائب الباهظة بفضل “روي كون”، وأصبح عمدة المدينة يرى أنه مدين له في إنقاذ نيويورك واستعادة مجدها القديم.

إيفانا”.. زواج مختل البدايات مؤذي النهايات

عندما يقرر “ترامب” الزواج من “إيفانا”، يخبر المحامي “روي كون”، فيحذره من أن الزوجة قد تصبح شريكة في كل ممتلكاته، وأن عليه أن يضمن عدم حدوث هذا في عقد الزواج، فيضع فيه شروطا ترفضها “إيفانا” رفضا قاطعا.

لكنه يجد حلا وسطا، ويقدم لها شيكا بمئة ألف دولار، ويمنحها وعودا وضمانات أخرى، وقد لعبت هي دورا مهما في تصميم القاعة الرئيسية في مدخل “برج ترامب” بحاستها الفنية المتميزة.

ومن الجوانب التي أثارت ثائرة “ترامب” ومستشاريه القانونيين في الفيلم، تلك المشاهد الساخرة التي تظهره وهو يجري عملية شفط دهون، ثم يصبح مهوسا بمقاومة بدايات الصلع في رأسه بزراعة الشعر، ثم تعاطي حبوب “الأمفيتامين” بغرض إنقاص وزنه.

أما رجل المافيا “توني ساليرنو” الذي جسده الممثل “دومنيك لامبردوزي” في فيلم “الأيرلندي” (The Irishman) للمخرج “مارتن سكورسيزي” (2019)، فسيلعب دورا في تعطيل العمل بمشروع “برج ترامب”، بعد تجاهله إياه، فهو يرى المنطقة منطقة نفوذ له، وقد أرسل رجاله لحرق بعض الطوابق التي بُنيت، وبعدها نصح “كون” تلميذه “ترامب” بمنح الرجل ما يستحقه من “اهتمام”، أي أن يعطيه نصيبه!

نكران الجميل والدم.. طباع قاسية تصدم المعلم الأول

يتجسد أهم محاور الفيلم في العلاقة المعقدة بين “ترامب” و”روي كون”، فقد تدهورت هذه العلاقة بعد إصابة “كون” بالأيدز” وانعزاله، فابتعد عنه “ترامب” ثم تنكر له بكل صفاقة، رافضا تقديم أي مساعدة له.

وهو نفس موقفه من أخيه “فريدي” (الممثل تشارلي كاريك) الذي كان يعد نقطة الضعف في العائلة، فهو لم يكن طموحا مثل “دونالد”، فقد فشل في دراسته وعمل سائقا للحافلات، ثم زاد شعوره بالتدني بعد صعود أخيه، وعندما لجأ إليه ذات مرة وهو ثمل يطلب مساعدته، تخلص منه بعد أن منحه حفنة من الدولارات، وطلب منه أن يبيت ليلته في فندق، واعدا أنه سينظر في أمره في الصباح.

ومن الطريف أن فيلم “المبتدئ” يبدأ بلقطات تسجيلية للرئيس الأمريكي السابق “ريتشارد نيكسون” صاحب فضيحة “ووترغيت”، وهو يقول في خطاب على التليفزيون: لقد ارتكبت أخطاء، ولكني لم أتربح قط من عملي العام طوال حياتي. وطوال عملي العام لم أعق عمل العدالة قط، إنني لست مخادعا”. وكان “نيكسون” يكذب، لكنه كان يطبق مبدأ النفي والإصرار على البراءة، مثلما يفعل “ترامب” دائما.

يقودنا الفيلم في مشاهده الأخيرة إلى تدهور حالة “روي كون” الصحية، وابتعاده عن الساحة والأضواء، بعد أن كان ملء السمع والبصر، لكنه يرفض الاعتراف بإصابته بمرض الإيدز، مع أن رفيقه ومساعده “راسل” توفي جراء إصابته بالمرض، وسبق أن رأينا “كون” منفردا به في أحد المشاهد، خلال حفل صاخب من حفلات الجنس الجماعي التي كان “ترامب” تتردد إليها.

يبدي “كون” بعض الندم، فهو لم يكن يتصور أن تبلغ الدناءة بتلميذه “ترامب” أن يتخلى عنه على هذا النحو الفظ، بعد كل ما قدمه له.

نزعة الاختلال.. نموذج مستبد تصنعه أوهام المال

قد لا تكون شخصية “ترامب” في الفيلم شخصية متعددة الأوجه، بل ذات بعد واحد، لكن ما يظهر منه اليوم يكفي لتتبع نزعته المختلة، لتكون نموذجا للاستبداد الذي يصنعه المال.

وقد تعلم “ترامب” الكذب مبكرا، واتهام كل من يعارضه بالكذب، وتزوير الحقائق واتهام الآخرين بالتزوير، والإصرار دائما على أنه محق.

يظهر الفيلم أيضا أن شعاره الشهير “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، إنما هو شعار سرقه من الرئيس السابق “رونالد ريغان”، الذي استخدمه في حملته الانتخابية الأولى عام 1980.

وما يجعل فيلم “المبتدئ” عملا بديعا يستحق المشاهدة، أن كاتبه ومخرجه لا يلجآن للحلول القريبة، أي الصورة الكاريكاتورية الكوميدية الساخرة، ومراكمة بعض المشاهد الفكاهية الساخرة، بل هو عمل رصين، مبني على محاولة فهم “مفتاح الشخصية” في ضوء الظروف السياسية والاقتصادية التي كانت سائدة وقت صعود ترامب في عالم المال والأعمال، وولعه الخاص بالاستعراض والتباهي بذاته.

أداء الممثلين.. تقمص يتجاوز الشكل إلى خبايا الروح

ومن أهم عناصر الفيلم وأكثرها جاذبية أداء الممثل “سباستيان ستان” لشخصية “ترامب” بكل براعة ودقة، في السلوك والحركة والإيماءات، فهو لا يقلد أو يحاكي، بل يبحث عن جوهر الشخصية، ويعكس ما يكمن وراء السطح.

إنه يتحكم في نبرة صوته، ويستخدم إشارة يديه التي أصبحت من علامات “ترامب” المميزة، ويكثف رغبته الشرسة في الصعود، وميله النرجسي المبكر للاستعراض والتباهي، وإبهار من يرى أنهم أدنى أو أصغر. إن “ستان” لا يمثل “ترامب” أو يتقمص شخصيته، بل يضع يده على روحه.

وعلى نفس المستوى من الأداء المدهش، يأتي “جيريمي سترومغ” في دور “روي كون”، الرجل الخشن الصلب، الذي كان قريبا في الماضي من الرئيس “نيكسون”، ولا يعرف سوى لغة الشتائم والسباب، ويشعر بقوته وقدرته على التحدي، ويحيط نفسه بالكبار.

وهو يقوم بإرادته بدور “ميفيستو”، ذلك الشيطان الذي يمتلك قواعد اللعبة، ويلقنها لتلميذه “فاوست”، ثم نراه في ذبوله وشحوبه وقد أزيح إلى الهامش، بعد أن أجبره المرض على هجران الأضواء، والوقوف ذليلا عاجزا أمام تلميذه القديم، وكأنه يستجدي مساعدته.

أما الممثلة البلغارية “ماريا باكالوفا” التي أدت دور زوجته “إيفانا”، فقد أجادت في حدود المعالم التي رسمها السيناريو للشخصية، بحيث لم تحتل مساحة كبيرة من الفيلم.

لا يقدم “المبتدئ” كل شيء عن “ترامب”، فهناك كثير مما يخفى علينا، ولكن ما يقدمه يكفي. فهل يلعب الفيلم دورا في الحملة الانتخابية القادمة؟

ربما يكون ذلك أكثر ما يخشاه “ترامب” وأنصاره!

 

الجزيرة الوثائقية في

12.06.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004