ملفات خاصة

 
 
 

"إلى أرض مجهولة":

في توازن السياسي والإنساني

محمد هاشم عبد السلام

كان السينمائي الدولي

السابع والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

في جديد الفلسطيني مهدي فليفل "إلى أرض مجهولة"، الروائي الأول الطويل في مسيرته السينمائية، لا ينطلق المُخرج وأبطاله من أرض مجهولة أبدًا. ربما يتجه وأبطاله، كل في مُغامرته الخاصة، صوب وجهات مُختلفة، مجهولة أو معلومة، لكنها ستظل، في النهاية، وجهات قسرية، ومناف مُؤقتة، طال المقام فيها أو قصر. إذ، لا بد من قدوم يوم تتوقف فيه حياة الشتات والضياع والمنافي. المُؤكد أنه حتى ذلك الحين لن يكف مهدي فليفل عن رصد ومُعايشة ومُتابعة أحوال وظروف أهله وأناسه وأبطال أفلامه من منفى إلى آخر، سواء كان هذا المنفى على هيئة مُخيم لاجئين، أو في قبو بناية مجهولة في دولة أوروبية نابذة لكل مُهاجر، أو منفي، أو عابر، سيما لو كان فلسطينيًا.

من بين جُملة الأفلام المعروضة في الدورة الـ77 لـ"مهرجان كانّ السينمائي الدولي"، وبناء على مُشاهداتِنا، وغيرنا، من النُقاد العرب، أو الأجانب، يُمكن التأكيد وبقوة على أن "إلى أرض مجهولة" المعروض في برنامج "أسبوعا صُناع الأفلام"، من بين أكثر الأفلام الروائية اكتمالًا وفنية ومُتعة وتشويقًا ومصداقية. ليس لكونه فيلمًا فلسطينيًا يستوجب الدعم والتأييد والتعاطف والتآزر، وغير ذلك، بل لأنه بالغ الجودة، فنيًا وسينمائيًا، وإنسانيًا أيضًا.

يتتبع "إلى أرض مجهولة" الرحلة المُروعة للشابين المُغتربين شاتيلا (محمود بكري) ورضا (آرام صباح). وهما أبناء عمومة فلسطينيان، يجدان نفسيهما عالقين في أثينا، بعد فرارهما مُن مخيم في لبنان (بالتأكيد مُخيم عين الحلوة). يعيشان معًا في قبو مجهول ببناية منذ فترة لا نعلم مداها. وذلك خلال سعيهما اليائس لإيجاد وسيلة ما للوصول إلى ألمانيا.

عندما يأتي شاتيلا بخطة مُفصلة لجلب الأموال اللازمة لهروبهما، بدلًا من السرقة العرضية من المارة أو الجالسين في الحدائق والساحات، تكفيهما لتدبير أمر الجوازات المزورة، تتسارع وتيرة الفيلم ونوعية المخاطر أيضًا، لأن أي عقبة قد تؤدي إلى السجن والترحيل، أو الموت. تتمثل الخطة في تهريب مالك (محمد الصرافة)، وهو صبي شجاع من غزة (نموذج للغزيين ومصائرهم المجهولة المُعلقة مُستقبلًا)، يريد الوصول إلى إيطاليا ليعيش مع عمته، بعدما أوهمه المُهربون بهذا، وضحكوا عليه، وتركوه بمفرده في أثينا. في تلك الأثناء، تظهر في الصورة اليونانية السكيرة الجشعة، تاتيانا (أنجليكي بابوليا)، المُعجبة بشاتيلا. تمثل مشاركتها بداية أمل لتسفير الصبي معها باعتبارها والدته، وبذلك يربح الجميع المال من العمة المُنتظرة قدوم مالك إلى إيطاليا. المأساة أنه لا يوجد مخرج سريع إلا عبر ما هو غير مشروع. وبإخفاق عملية التهريب، يبدأ فصل آخر، جذاب ومُفجع، نُعاين فيه مُحاولة أخرى للاستيلاء والنصب ضحيتها مجموعة من اللاجئين السوريين الراغبين في الوصول لأوروبا.

"يُحقق "إلى أرض مجهولة" التوازن المثالي بين السياسي والإنساني بفنية عالية، إذ يُطلق كلمته القوية من دون نبرة زاعقة، أو مُباشرة، وبلا ميلودرامية، أو خطابية"

رغم تعدد القصص إلا أن الفيلم يتعمق في إبراز تناقض الشخصيات ومدى قدرتها على التمسك بالأحلام ومُحاولة تحقيقها أو انهيار الروح، ومن ثم الجسد، في النهاية. رغم الندية بينهما، أحيانًا، إلا أن شاتيلا يظهر كقائد ومبتكر بالفطرة، بينما يميل رضا إلى اتباعه، وغالبًا ما ينتظر دعمه وتوجيهه. العلاقة مُقنعة في ما يتعلق بديناميكيات التناقض بين جرأة شاتيلا وتفكيره الاستراتيجي مُقابل طبيعة رضا الأكثر ترددًا وامتثالًا. شاتيلا هو الذي يصمم خططهم، بما في ذلك حلمهم الأكبر بالمغادرة إلى ألمانيا. في حين دائمًا ما يحيد رضا عن مساره، ولا يُجيد التصرف بمفرده. يتجلى هذا في سرقة الحذاء، مثلًا. كما تظهر نقاط ضعفه جلية في هشاشته أمام إدمان المخدرات. ومُمارسة التدعر، أحيانًا. يتناقض تركيز شاتيلا الثابت على هدفه، وميول رضا للتدمير الذاتي. يرسم هذا التناقض صورة مؤلمة لكفاحهما من أجل البقاء، والحفاظ على الأمل، في ظل بيئة وظروف وأوضاع تتحدى إرادتهما بلا رحمة أو هوادة.

يتجلى صدق الشخصيات وعمقها عبر تصرفات كثيرة نراها، خاصة عندما تتعارض الأفعال مع فطرتها ومعدنها الأصلي، فتنكشف الفروق الدقيقة التي تجعل منهم شخصيات حقيقة من لحم ودم، وليست أُحادية البُعد. وكيف أنها ضحية حياة وأوضاع ومصائر، وليست مُجرد أصداء لمُخرج ينسج من خلالها ميلودراما، أو ادعاءات يستدر من خلالها العواطف والمشاعر ويتاجر بها. لذا، يُقدمهما فليفل كفردين مُعقدين ومُتعددي الأوجه والخصال والمناقب. أيضًا، كأي بشر، يسعيان إلى غد أفضل. لديهما عائلات وآمال واحتياجات مُلحة تتجاوز رفاهية مُجرد الرغبة، أو التطلع لأن يكونا في مكان وأوضاع أفضل. هنا، يتيح لنا وضعهما التفكير أيضًا في القضايا الاجتماعية والسياسية الأوسع المُتعلقة بالهجرة والنزوح، ومصير اللاجئين والنازحين والمُشردين، بصفة عامة.

مُفردات سينما فليفل

كتب مهدي فليفل سيناريو "إلى أرض مجهولة" بالاشتراك مع المخرج المغربي فيصل بوليفة، وكاتب السيناريو البريطاني جيسون ماك كولجان. وذلك رغم أن الفيلم وأحداثه ومُفرداته وسماته وخلفياته "مهدية" حتى النخاع، وتؤكد على أن المُخرج لم يكن في حاجة إلى مُساعدة لتأليف وصياغة ونسج سيناريو وحوار فيلمه، لكنه نهج المُخرج الواثق من قدراته، غير المستنكف المُساعدة، أو الاستئناس بالآخر، ووجهة نظره ما دام الأمر لصالح العمل في النهاية.

المثير أن بصمة فليفل حاضرة وبقوة في كل تفاصيل الفيلم، بلا استثناء، تقريبًا. يُؤكد على هذا الحضور البارز والشديد لمفردات وعوالم سينما مهدي فليفل التي نسجها على مهل، على مدى سنوات، العمل تلو الآخر، وجعلنا نألفها ونعتادها. من بين المُفردات التي عايناها في أفلامه الوثائقية الطويلة أو القصيرة، وكانت لافتة للانتباه جدًا في جديده أنّ ثمة جرأة ملحوظة، في أكثر من مستوى، يندر وجودها في الأفلام العربية. مثلًا: ترك اللعنات والسباب والشتائم، وغيرها، من دون حذف، أو تجميل، أو تذويق، أو حتى إخفاء ومُداراة لها. ينسحب هذا على الأبطال والشخصيات أيضًا. إذ، رغم إيغاله في تقديم عوالمها القاسية والمُظلمة والمسدودة الأفق، لا يستنكف مهدي أبدًا عن تعرية ضعفها وفضحها من دون تردد. ومن ثم، نجد منها المُطارد، أو المُلاحق، أو المطلوب للعدالة، أو النصاب، أو اللص، أو الداعر، أو حتى مُدمن المُخدرات. في هذا، لا يُجَمِّلُ فليفل صُوَر أبطاله وشخصياته وواقعهم، وفي الوقت نفسه لا يُصدر عليها أحكامًا قيمية، أو أخلاقية، أو دينية، أو غيرها. إذ يكتفي بالرصد والتأمّل، وتقديم صورة صادقة وجريئة للواقع، مهما كانت بشاعته.

أما على مستوى الأفكار والهموم، فثمة ذِكر دائم، أو حضور عيني، للمُخيم والمنفى والترحال والتشرد، كما الفقدان الدائم للاتجاه، ومن ثم هاجس البحث عن ملجأ، أو منفى بديل، ناهيك بالحنين للوطن والآخر، ونشدان الاستقرار المكاني، سعيًا لآخر مادي ونفسي وعاطفي وأسري. أما الهوس بتغيير الأحوال والأوضاع المعيشية غير المرضي عنها، والتمرد على الواقع، والخوف من انسداد الأفق وظلام المستقبل، كلها تستبد بالشخصيات على اختلاف مسمياتها وأماكنها وأحوالها. وإن تجسدت كلها، في النهاية، في الاسم الرمزي الحاضر دائمًا في سينما فليفل، "رضا". أيضًا، نلاحظ في ما يتعلق بالحضور المكاني المتكرر الإتيان على ذكر المُخيم في لبنان، (عين الحلوة)، صراحة أو مُواربة. كذلك، التواجد في اليونان، والعودة لشوارع أثينا، ثانية.

أيضًا، تحضر الرموز السياسية والأدبية الفلسطينية، سواء لغرض في نفس المخرج، أو لدور فني، أو جمالي، أو غيرهما. يفتتح الفيلم بعبارة للمُفكر الفلسطيني إدوارد سعيد: "قدر للفلسطينيين ألا ينتهي بهم الأمر حيث بدأوا، بل في مكان غير مُتوقع وبعيد". ثم، عرضًا، تُلقي إحدى شخصيات الفيلم بأبيات لمحمود درويش من قصيدته الشهيرة "مديح الظل العالي"، تُبرز وتُذَكِّرُ وتُحيل للوضع الراهن في غزة، حيث "لا الماء عندك، لا الدواء، ولا السماء، ولا الدماء، ولا الشراع، ولا الأمام، ولا الوراء"... إلخ. يحضر، أيضًا، التواصل الصوتي أو الحكي مع الغائب تليفونيًا. عادة ما يكون الآخر الزوجة، أو الحبيبة، أو الأهل، وغالبًا ما يتمحور الحديث حول الأحوال المعيشية والظروف الصعبة، والتحلي بالصبر، والهاجس الدائم بلم الشمل، أو الالتحاق بالآخر والاستقرار معه، سواء كان الآخر زوجة، أو أولاد، أو عائلة.

من بين المألوف أيضًا في سينما فليفل، وكان له حضوره البارز في "إلى أرض مجهولة" القصة المُتعلقة بسرقة الحذاء الرياضي الجديد من محل الأحذية. وكأن فليفل يُريد أن يذكرنا، من حين لآخر بأنني أنا هذا المُخرج الذي ما يفتأ ينشغل بأهله وناسه وأبطاله، ويُعيد تقديم حكاياتهم القديمة، أو الموضوعات نفسها والعوالم والأفكار والأسماء والمواقف، ولا مجال أمامكم لنسيان عالمي، أو الفرار منه. نعم، أنا من يُكرر نفسه وعوالمه بطرق وأساليب مُختلفة. نعم، أنا مُخرج الفيلم الواحد، وإن تعددت الأدوات والوسائل. نعم، أنا المُخلص لكل هذا، وسأظل.

"لم يكترث فليفل كثيرًا، أو لم يحرص على تدقيق وتنميق وتجميل صور ولقطات ومشاهد أفلامه، وضبط الأحداث وتصرفات الشخصيات بصفة عامة"

أيعني هذا أن مهدي يكرّر ما أنجزه سابقًا، كمبدع خوت جعبته، وصار بليدًا، يعجز عن الإتيان، أو إضافة أي جديد. المُثير في ما يتعلق بفيلم "إلى أرض مجهولة" أن الأمر على النقيض من هذا تمامًا، إذ حتى بالنسبة لمن على وعي ودراية بأفلام فليفل السابقة، لن يشعر بأي تكرار لأفكار، أو لشخصيات، أو بالملل. وذلك لأننا إزاء فيلم منسوج بإحكام، مُقنع وصادق، ومُكتمل العناصر. فيلم يصعب جدًا وصفه بأنه عمل أول لمُخرجه، أو فيه الأخطاء المُعتادة في الأعمال الأولى، أو المشاكل التي تبرز عند انتقال المخرج من الوثائقي إلى الروائي. بالعكس، تجلى هذا في الأساس في حُسن إدارته للمُمثلين، وخلق الجو العام المُقنع، استنادًا إلى أدوات وفنيات وجماليات الفيلم الروائي.

سابقًا، لم يكترث فليفل كثيرًا، أو لم يحرص على تدقيق وتنميق وتجميل صور ولقطات ومشاهد أفلامه، وضبط الأحداث وتصرفات الشخصيات بصفة عامة. كان في هذا بعض التعمّد بالتأكيد، تجلّى في عدم الاكتراث مثلًا بزوايا التصوير والإضاءة، ودرجة النقاء والوضوح، وترك مساحة لعفوية المُمثلين والارتجال. ناهيك بحدة المُونتاج، وابتعاده عن السلاسة والنعومة، قصدًا. في "إلى أرض مجهولة" لا مجال لكل هذا. الاشتغال البصري على الصورة وجودتها مع المصور السينمائي تودوريس ميوبولوس جد ملحوظ. انتقاء اللقطات، والانتقال بينها، وزوايا التصوير المقصودة، كلها لم يكترث بها المُخرج كثيرًا سابقًا. كذلك، يُلاحظ استغلال الديكور وتوظيف الإضاءة، سواء في تنفيذ المشاهد الداخلية، أو الخارجية. يسبق هذا كله تصوير الشخصيات باحترافية تزيد حيويتها وأبعادها وأعماقها، من دون ترك أي مساحة للارتجال، أو العفوية، أو تهاون ما، يخل بانضباط الأداء التمثيلي الذي يُعد من أجمل الجوانب في الفيلم. ما يُؤكد على تمكن المُخرج من أدواته، وتمرّسه فعليًا في استخدامها. يكفيه تقديم وإبراز الوجهين السينمائيين الموهوبين والمُقنعين جدًا، محمود بكري، وآرام صباح.

حضور السياسة

سياسيًا، وبعيدًا عن أية فنيات، يُحقق "إلى أرض مجهولةالتوازن المثالي بين السياسي والإنساني بفنية عالية، إذ يُطلق كلمته القوية من دون نبرة زاعقة، أو مُباشرة، وبلا ميلودرامية، أو خطابية، أو توجيه اتهامات وإدانات. وذلك رغم الحضور القوي والبارز للقضية الفلسطينية من خلال أزمة الهجرة واللجوء والمنفى، والمنسوجة بسلاسة في حبكة الفيلم، ومن دون نسيان التذكير بمأساة أجيال أخرى تتكرر، مُمثلة في الطفل مالك، الهارب من غزة. يُتيح هذا الطرح، الهادئ النبرة والقوي المضمون، سطوع فكرة المُخرج، أو إيصال ما أراده بعمق بالغ، من دون التضحية بالفنيات والجماليات السينمائية.

 

ضفة ثالثة اللندنية في

03.06.2024

 
 
 
 
 

بارثينوبي”.. العودة إلى الجمال العظيم مع طبقة من الغموض

أمير العمري

الجمال يمكن أن يفتح الطرق.. كما يمكن أن يشعل الحروب”.

هذا ما يقوله الكاتب الأمريكي “جون شيفر” الذي يقوم بدوره غاري أولدمان، لبطلة فيلم باولو سورينتينو الجديد المثير والغامض “بارثينوبي” Parthenope وهي حكمة تحمل من الإطراء، بقدر ما تحمل من التحذير.

عرض فيلم “بارثينوبي” في مسابقة مهرجان كان السينمائي الـ77، وانقسمت الآراء من حوله، رغم أنه عمل شديد الإخلاص لفكر وأسلوب مخرجه المرموق، فهو يسعى من خلاله، إلى سبر أغوار فكرة “الجمال” المبهر التي سبق أن عالجها، على صعيد مختلف، في فيلمه الشهير “الجمال العظيم” The Great Beauty (2013).

بارثينوبي” هو الاسم الذي أطلقه اليونانيون على مدينة نابولي في بداية تأسيسها، مستلهما من إحدى الحوريات السبع، حارسات أثينا القديمة. والمغزى المجازي لإطلاق هذا الإسم على بطلة الفيلم، ذات الجمال المبهر، هو أن سورينتينو، يستخدمه هنا كرمز لمدينته، التي ولد ونشأ فيها، نابولي، التي أخرج عنها فيلمه السابق مباشرة “يد الله”.

ولكن بينما كان “يد الله” يعبر عن “النوستالجيا”، أو الحنين إلى الطفولة وإلى عصر البراءة، وكان يصور كيف لعبت نابولي دورا كبيرا في تشكيل وعي بطل فيلمه (الذي يعتبر المعادل السينمائي لشخص سورينتينو نفسه) بالعالم من حوله، تجسد “بارثينوبي” بكل ما يحيط بها من غموض وتناقضات وتعقيدات، فكرة المدينة التي تجمع بين الجمال المبهر، والبراءة الخارجية، مع قدر من التدني والتدهور وغياب الروح.

بارثينوبي- الفتاة- تحاول التمرد على حقيقة جمالها، تتجه نحو طريق الاهتمامات الجادة، لكي تخلص نفسها من فكرة “تفاهة” الجمال في حد ذاته، تمتنع عن الجنس الذي لا يشبعها، لكنها لا تتورع عن الاستسلام عن وعي، لكل ما يتناقض مع منطق الأمور، بغرض الإقدام بكل جرأة على التدنيس، أي أمام تمثال القديس سان جينارو في الكنيسة، ومع القس المترهل المسن، الغليظ، الشهواني.

هذه التناقضات تؤكد فكرة الرمز.. إلى المدينة التي تجمع بين كل هذه التناقضات: الجمال، الجاذبية، الغموض، والتدهور. وهو نفس المعنى الذي ستردده المغنية العجوز المشهورة “غريتا كول”، التي تنتمي للمدينة، والتي غادرتها من عقود، ثم عادت إليها للترويج لها تحت إغراء المال، لكنها بدلا من ذلك، تنفجر في حشد المعجبين الذين تجمعوا للاحتفال بها وبعودتها، لتهجو المدينة  المتعفنة، وصب لعناتها على أهلها الذين تقول إنهم “دائما ما يلقون باللوم على الآخرين بسبب تدهور مدينتهم”.

لكن سيمضي وقت طويل قبل أن نصل إلى هذ المشهد في الفيلم الذي يمتد إلى 136 دقيقة. وهو يبدأ من ولادة “بارثينوبي”  في عام 1950، تلدها أمها وسط مياه البحر التي يطل عليها قصر العائلة، ثم يمضي الفيلم بعد ذلك في فصول محددة الأزمنة، وكأن سورينتينو يروي قصة خيالية، مستوحاة من عالم الأحلام.. قصة أسطورية تتناغم مع مغزى الاسم الذي اختاره للمولودة ذلك العجوز الذي يعتبر نفسه الراعي الذي يصبغ لطفه وكرمه على أسرتها، أي “الكوماندوري”. وسوف يظل باستمرار يتأمل في جمالها ويغازلها ويتحسر على عدم قدرته أن ينال حبها بسبب فارق العمر بينهما!

تنتمي الحورية الجميلة لعائلة ثرية، تقيم في قصر يشبه القلعة، يشرف مباشرة  على مياه البحر التي تسري من تحته، تعيش مع أمها وأبيها وشقيقها “ريموندو”، الذي سينبهر بجمالها بعد أن تصبح في الثامنة عشرة من عمرها مثل غيره من الرجال الذين تتركز نظراتهم جميعا عليها كما لو كانوا، كلما مرت من أمامهم، وكأنهم أمام إلهة من آلهة الجمال عند الإغريق، التي تسحرهم فيتجمدون  كالتماثيل في أماكنهم.

هذا المعنى يصل إلينا كمشاهدين، من خلال أسلوب التصوير الذي يستخدمه سورينتينو وتركيزه طويلا على وجود الرجال، الذين يبدون كالمنومين تحت تأثير ابتسامتها الغامضة المثيرة، وجسدها الملفت، وعينيها الساحرتين. هل هي حلم أم حقيقة، واقع أم خيال، خيال أم أسطورة؟ وما معنى الجمال وقيمته عند صاحبته، هل تشعر هي بتأثيره؟ كلها تساؤلات يدور الفيلم حولها لكنه لا يجيب ولا يقطع بل يبقي على الغموض والتساؤل.

في 1968 تلتحق بارثينوبي بالجامعة، يشرف على دراستها البروفيسور المأزوم “دو فيتو” (يقوم بالدور سلفيو أورلاندو الذي سبق أن قام ببراعة، بدور الأب أنجلو في مسلسلي سورينتينو الشهير “البابا الشاب، ثم البابا الجديد) وهو يبدو هنا وكأنه ينتمي إلى عصر آخر. إنه الرجل الوحيد من بين الرجال الذين نراهم في الفيلم، الذي لن يقف مبهورا أمام جمال بارثينوبي الأسطوري، بل سيرى فيها ما لا يراه الآخرون، عقلها وتفوقها الدراسي وذكائها، ثم ستقتنع هي بدراسة علم الأنثروبولوجي (دارسة السلالات البشرية)، ويظل يقف معها ويدعمها إلى أن تصبح أيضا عضوا في هيئة التدريس في الجامعة، ثم يرشحها لكي تأخذ مكانه في رئاسة القسم، عندما يقرر التقاعد.

لكن قبل ذلك ستكون مياه كثيرة قد سارت في الأنهار، فسوف ننتقل أولا إلى عام 1973، حينما تذهب الفتاة مع شقيقها المكتئب ريموندو، وعاشقها الصامت الأنطوائي “ساندرينو”، إلى جزيرة كابري حيث تلتقي هناك بالكاتب الأمريكي “جون شيفر”، تقول له إنها قرأت كل قصصه القصيرة، وهو الذي يحذرها من جمالها وما يمكن أن يصنعه بها، وعندما لا تبدي مانعا من أن تهب نفسها له، يبتعد عنها قائلا إن الشباب أولى منه بالجمال. وسوف تنتهي رحلة كابري بانتحار شقيقها لتدخل لفترة طويلة في نوبة من الاكتئاب.

تحاول الاستجابة لنصيحة وجهت إليها بالسعي لأن تكون ممثلة، لكن الممثلة المخضرمة “فلورا مالفا”، التي تضع نقابا مليئا بالثقوب تستر به وجهها الذي تشوه بفعل عمليات التجميل التي أجراها لها جراح برازيلي- حسبما تقول- تخبرها أنها لا تصلح للتمثيل، لأنها تفتقر للإحساس الداخلي في الأداء، فالتمثيل لا يصلح أن يكون من الخارج. ومن هنا تبدأ “بارثينوبي” البحث الشاق عن حقيقة نفسها، عن الجوهر في داخلها، وتترك نفسها للتجربة والمغامرة، والمرور بمغامرات مع بعض من لا يمكننا تخيل أن تقيم علاقات معهم من الرجال، في شوارع وأحياء نابولي الموبوءة بالجريمة، لكن يظل اهتمام الفيلم الأول منصبا على غموض معنى الجمال، وماذا يمكن أن يجلب لصاحبته. وما هو الشباب، وهل الماضي يترك أثره علينا بعد أن نكبر ويتقدم بنا العمر. وهو نوع من التساؤلات التي شغلت سورينتينو أيضا في فيلم سابق له هو فيلم “الشباب” Youth (2015).

سنصل إلى الزمن الحالي، بعد أن تكون بطلتنا قد كبرت وبدت آثار الزمن على وجهها ولكنها مازالت تتمتع بالجاذبية والسحر الغامض، وقد نشرت أخيرا مذكراتها في كتاب (تقوم بدورها هنا الممثلة الإيطالية المخضرمة، ستيفانيا سندريللي).

يتميز الفيلم بالجمال الشديد في تصميم المناظر، والتصوير المبهر، للأماكن المفتوحة، والطبيعة، مع إبراز التفاصيل الباروكية في الداخل، مع التركيز على جمال المدينة، واحتفالات سكانها في رأس السنة، وتصوير بعض التقاليد الغريبة المثيرة، والاهتمام بالتكوينات المدروسة بعناية التي تجعل اللقطات وكأنها لوحات فنية مبهرة.

إلا أن المشكلة الأساسية في الفيلم هي أن البناء السينمائي، أي سياق السرد، يفتقد للحبكة المتماسكة، التي يمكن أن تدفع السرد إلى الأمام، وتصنع تطورا في بناء الشخصية والحدث. إنه أقرب إلى دراسة للشخصية، لكنها أيضا دراسة تخفي أكثر مما تظهر، وتبقي على السحر الذي يشع من الغموض، غموض الشخصية وغموض دوافعها، مع غموض الفيلم نفسه بدرجة أكبر، تجعل المشاهد يشعر أحيانا بعدم الارتياح، أي بالحاجة إلى أن يعرف أكثر من مجرد تأمل اللوحات الفنية والاستمتاع بالصورة.

من أكثر عناصر الفيلم جاذبية وربما ما جعله على نحو ما أصبح عليه من كل هذا الجمال والسحر والغموض، أداء الممثلة الجديدة “سيلستي ديللا بورتا”، التي تهيمن على جميع مشاهد الفيلم تقريبا، تتركز الكاميرا عليها باستمرار، مع لقطات قريبة لوجوه الرجال الذي يتسمرون في أماكنهم أو يفقدون قدرتهم على إخفاء مشاعرهم بما في ذلك رجل ثري يحلق من فوق مجلسها، في طائرة مروحية، يخاطبها ويطلب ودها، لكنها تمتنع، وتقول له إنها لا تغويها فكرة ممارسة الحب من دون حب، وإنها إن منحته نفسها فسيكون هذا من باب المجاملة فقط، لكنها رغم ذلك، ستفعل تحديدا ما سبق أن رفضته، عندما تذهب، قرب نهاية الفيلم، إلى الكنيسة، ترتدي ملابس أسطورية كنسية، وتستجيب بل وتعرض نفسها للقس العجوز الشهواني المتهتك، ربما تعكس من خلال ذلك، الرغبة في انتهاك المقدس، وربما هي رغبة سورينتينو أساسا!

رغم هذه الملاحظات، ورغم أن الفيلم كان يمكن أن يكون أكثر إمتاعا، لو لم يتوقف بعد نصفه الأول، عن تطوير الفكرة والشخصية، إلا أنه دون شك، يظل من أفضل ما شاهدناه من أفلام في مسابقة مهرجان كان 2024، فهو متعة للعين وللسمع، بشريطه الصوتي البديع، وموسيقاه التي من دونها لم يكن ليتمتع بكل هذه التأثير.

 

موقع "عين على السينما" في

03.06.2024

 
 
 
 
 

"إلى عالم مجهول"..

مأساة المهاجرين الفلسطينيين في مهرجان كان السينمائي

كان (جنوب فرنسا)-محمد عبد الجليل

شهدت الدورة 77 من مهرجان كان السينمائي، العرض العالمي الأول للفيلم الفلسطيني "إلى عالم مجهول" للمخرج مهدي فليفل، حيث نافس في مسابقة نصف شهر المخرجين، المُخصصة للأفلام الروائية الطويلة.

"إلى عالم مجهول" يُسلط الضوء على الواقع المأساوي لحياة اللاجئين الفلسطينيين في مخيم "عين الحلوة" جنوب لبنان، حيث يروي الفيلم قصة المحاولات اليائسة لاثنين من أبناء العم اللذان تقطعت بهما السبل في مدينة أثينا، لإيجاد وسيلة للوصول إلى ألمانيا.

يدخر "شاتيلا" و"رضا" المال لدفع ثمن جوازات سفر مزورة للخروج من أثينا، وعندما يخسر "رضا" أموالهما التي حصلا عليها بشق الأنفس بسبب إدمانه للمخدرات، يخطط "شاتيلا" لخطة متطرفة تتضمن التظاهر بأنهما مهربين، وأخذ رهائن في محاولة لإخراجه هو وصديقه من بيئتهما اليائسة قبل فوات الأوان.

الفيلم حصل على دعم من مهرجان البحر الأحمر، ومؤسسة الدوحة للفيلم، والمركز اليوناني للسينما، بجانب عدد من برامج الإنتاج المشترك الأوروبية.

كواليس الفيلم

وروى المخرج مهدي فليفل، لـ"الشرق"، كواليس رحلته مع فيلم "إلى عالم مجهول"، موضحاً أنه يعمل على الفكرة منذ عام 2011 تقريباً، بالتزامن مع تنفيذه فيلمه التسجيلي "عالم ليس لنا"، حيث زار اليونان لأول مرة مع "أبو إياد" بطل الفيلم التسجيلي، قائلًا: "منذ ذلك الحين، تعرفت إلى عالم جديد تماماً بالنسبة لي، وتعرفت على مجموعة شباب، وصورت بعض المشاهد الخاصة بالفيلم، وخلال تلك الرحلة كنت أعمل على عدة أفلام قصيرة، مثل (A Man Returned، و A Drowning Man)، وكانت لديّ رغبة شديدة لصناعة فيلم عن الشباب اللاجئين في اليونان، لكن لم أكن أتوصل للإطار الرئيسي للفكرة".

وأضاف "مع مرور الوقت، لأكثر من 7 أعوام تقريباً، تركت الفكرة تماماً، لكن زميلي الفنان رضا الصالح، الذي سبق وتعاون معي في فيلمين، عاد إلى اليونان مُجدداً، ليصطحب زوجته وابنه إلى ألمانيا، وفور علمي بذلك، تحمست وسافرت إليه، واستأنفت تصوير الفيلم مرة أخرى لمدة شهر، وبعد مرور نحو 6 شهور توفي رضا، وأعتقد أن وفاته كانت دافعاً قوياً لي، لاستكمال رحلتي مع الفيلم، بينما قررت تطوير القصة، وبعدها تعرفت على (رضا وشاتيلا)، وعلمت لاحقاً أنهما أولاد عم، عالقين بأثينا".

البحث عن تمويل

وتحدث مخرج "إلى عالم مجهول"، عن معاناته في البحث عن جهة لتمويل مشروعه السينمائي، مؤكداً أن إحدى الجهات في الدنمارك، رفضت توفير أي دعم مادي، بحجة أنّ المشروع سيُصور في اليونان، وليس باللغة الدنماركية، ليضطر إلى عمل ميزانية مُخفضة نوعاً ما، واتجاهه إلى تقديم في صورة فيلم وثائقي، إلا أنه تراجع عن ذلك المقترح، وتمسك بفكرة تنفيذه كفيلم روائي طويل، وعمل على كتابة السيناريو.

واستعرض كواليس اختيار المُمثلين، موضحاً أنه يُحب التمثيل منذ طفولته، وحرص على دراسته أيضاً، "كان علي اختيار مُمثلين يُشبهون الشخصيات التي أحب رؤيتهم على الشاشة، وملامحهم قريبة من الشخصيات الموجودة على الورق، فقد عقدت معهم ورش عمل مكثفة، ما بين عمان وفلسطين، باستثناء آرام الذي بدأ بروفات قبل التصوير بـ6 أيام تقريباً، ورغم أنّ ذلك هو أول فيلم له، لكن لديه خلفية جيدة عن التمثيل"

وحول عرض الفيلم في الدورة 77 لمهرجان كان السينمائي، أكد أنّ "ذلك كان هدفاً رئيسياً بالنسبة لي، الأمر الذي جعلنا نصنع المستحيل لتحقيق هذا الهدف، فقد انتهيت من تصوير الفيلم كاملاً قبل نحو 6 شهور، وهذا شيء أقرب إلى الجنون، فقد كانت هناك حالة من الضغط النفسي بسبب ضيق الوقت، وكنا نعمل على المشروع حتى وقت قريب جداً، لكن الأهم هو التواجد هنا في كان، وأن تكون الانطلاقة الأولى للفيلم من المهرجان، وإن كنت أتمنى أن يُعرض في المسابقة الرسمية".

صورة ليست منقوصة

ومن جانبه، كشف المُمثل محمود بكري، صاحب شخصية "شاتيلا"، كواليس مشاركته في الفيلم، موضحاً أنه شارك في "تجارب الأداء"، عقب تجربته في فيلم "علم" إخراج فراس خوري، لكن لم يقع عليه الاختيار آنذاك، وبعد فترة تلقى عرضاً بالصدفة من "كاستينج دايركتور" أنّ يحضر "ورش العمل" التي قد تؤهله للمُشاركة بالفيلم، متابعاً "رفضت في البداية، لكن قررت إرسال اختبار الأداء الذي قدمته للشخصية إلى المخرج، ونال إعجابهن وبعدها حضرت وِرش العمل في فلسطين".

وأرجع أسباب حماسه للمُشاركة في الفيلم، إلى أن "الشخصية جديدة عليّا تماماً، ولا تُشبهني قط، كما أنني أحب أسلوب مهدي فليفل في الأفلام الوثائقية، وأعتقد أنّ أسلوبه في الوثائقي انعكس على طريقة إخراجه لهذا الفيلم"، متابعاً: "تحمست للفيلم أيضاً من منطلق شعوري بمسؤولية كبيرة، كوني أُقدم صورة معاناة المواطن الفلسطيني الذي يُهاجر إلى بلاد أخرى، رغم أنني لم أخض تلك التجربة من قبل، فكانت لدي رغبة حقيقية لتقديم الصورة الصحيحة دون أي نقصان".

وأشار إلى أنه كان يُداوم بصحبة زميله المُمثل آرام صباح، على مشاهدة فيلم "عالم ليس لنا"، مُبرراً ذلك بقوله: "من أكثر التجارب التي تؤثر فيّ، وخصوصاً شخصية أبو إياد، لذلك حرصت على مُشاهدة الفيلم أكثر من مرة خلال التصوير، للاطلاع على حكايات البشر، وكيف كانوا يتعاملوا ويحكوا".

وكشف محمود بكري، أصعب مشهد بالنسبة له داخل الفيلم، قائلاً: "الأصعب من الناحية النفسية، هو مشهد طرد رضا من المنزل، رغم أنه ابن خالتي، ووالدته كان توصيني به دوماً"، مُعتبراً مشاركته الأولى في مهرجان كان السينمائي، بـ"الخطوة المهمة في مسيرته الفنية كمُمثل".

التجربة التمثيلية الأولى

أما آرام صباح، الذي يخوض تجربته التمثيلية الأولى، قال لـ"الشرق"، إنّ مشاركته في فيلم "إلى عالم مجهول" جاءت عن طريق الصدفة، حيث إنه يعمل مونتير، ويهوى عالم التمثيل، والكتابة، ومعدات التصوير، لكنه لم يعثر على فرصة تُمكنه من تحقيق هدفه.

وتابع "قبل أيامٍ قليلة من التصوير، تلقيت اتصالاً من أحد مهندسي الصوت بالفيلم، حيث جئت بديلاً لأحد المُمثلين الذي واجه صعوبة بالغة في إصدار تأشيرة السفر، الأمر الذي كاد يُربك مواعيد التصوير، حتى اقترح مهندس الصوت، اسمي على المخرج، وأرسل لي السيناريو للاطلاع على طبيعة الشخصية، وأعجبت بها، باستثناء مشهد وحيد، كانت عليه ملاحظة، لكن اقتنعت به لاحقاً، رغم ما به من صعوبات ومشاعر نفسية مؤثرة".

 

الشرق نيوز السعودية في

04.06.2024

 
 
 
 
 

«أرماند»… فيلم الكاميرا الذهبية بين المبالغة والتخبط

أحمد شوقي

لم يخل أي مقال تناول الفيلم النرويجي “أرماند” Armand من ذكر حقيقة أن مخرجه هالفدان أولمان تونديل، ينتمي إلى أشهر عائلة سينمائية في المنطقة الاسكندنافية ودولها الأربعة، فجدّه هو المخرج السويدي الأكبر إنغمار بيرغمان، وجدته هي الممثلة النرويجية ليف أولمان.

الأمر وصل في بعض المقالات لضرب المقارنات بين “أرماند” وهو الفيلم الروائي الطويل الأول لمخرجه وأفلام بيرغمان، ومحاولات البحث عن أوجه التشابه بين المخرج الشاب أولمان تونديل وأفلام جدّه، بل وافتراض كون الفيلم بداية متوسطة تشبه بدايات المخرج الكبير في خمسينيات القرن الماضي!

لست في حاجة لأن تكون خبيرًا أو حتى سينمائيًا متمرسًا لتلمس ما في الأمر من غياب للعدالة، سواء تجاه المخرجين الآخرين الذين لم ينالوا نفس القدر من الاهتمام لأنهم لا ينتمون لعائلة سينمائية عريقة، أو تجاه تونديل نفسه – وهو الأهم – بوضعه في مقارنة مع أحد أعظم المخرجين في التاريخ، فقط بسبب صدفة بيولوجية، ربما لم يكن بيرغمان نفسه ليهتم بها، وهو الذي عُرف بالتقلب العاطفي والتنقل بين الزيجات، وعدم منح أبناءه التسعة الاهتمام الكافي المطلوب من أي أب.

لكن المراجعات التي كُتب أكثرها بعد عرض الفيلم مباشرة عادت لتضع الفيلم نفسه لا صلات القرابة الخاصة بمخرجه في مركز الاهتمام، بعدما فاز الفيلم بجائزة الكاميرا الذهبية التي يمنحها المهرجان لأحسن فيلم عمل أول في كافة الأقسام، وهي الجائزة الرسمية الوحيدة التي يمنحها مهرجان كان لأفلام لم يخترها. فلجنة التحكيم تشاهد الأعمال الأولى في الاختيارات الرسمية، وفي نصف شهر المخرجين وأسبوع النقاد أيضًا، وهي أقسام مستقلة تختار أفلامها بمعزل عن إدارة كان. من هنا فهذه الجائزة تُعد مؤشرًا بالغ الأهمية على حرفية وموهبة من ينالها، لأن الفائز بها يصبح تلقائيًا صانع أفلام ينتظر الجميع بترقب فيلمه الثاني.

لجنة التحكيم قررت الانحياز للاختيارات الرسمية ومنحت الكاميرا الذهبية لـ “أرماند”، الذي عُرض في مسابقة “نظرة ما”، ثاني مسابقات البرنامج الرسمي أهمية. بينما تجاهلت لجنة تحكيم المسابقة نفسها الفيلم تمامًا، وزعت جوائزها على سبعة أفلام متنافسة ليس من بينها “أرماند”. الأمر الذي يعكس الطبيعة الخلافية للفيلم، والتي تجعل من المنطقي أن يقع البعض في حبه، بينما يراه آخرون عملًا متواضعًا، أقل من أن يوضع في هذا المكان المهم من برنامج أكبر مهرجانات العالم.

ليس مجرد خلاف بين أطفال

أحداث الفيلم بالكامل تدور داخل مدرسة للأطفال، في إطار زمني يكاد يقترب من الزمن الفعلي: منذ نهاية آخر يوم دراسي في العام وحتى بداية المساء. تتورط معلمة شابة في حل مشكلة تبدو صالحة للانفجار بين طفلين في السادسة من عمرهما، بعدما اتهم الطفل يون زميله أرماند بالاعتداء عليه جنسيًا خلال إحدى الألعاب. تستدعي المدرسة والدة أرماند لتواجه والديّ يون الذي أبلغوا بما حدث لابنهما، أو على الأقل ما قاله الطفل.

مشاهد ما قبل المواجهة والمواجهة نفسها تكشف أفضل عناصر الفيلم، وهو طاقم التمثيل الذي تتصدره النجمة ريناته رينسفه، والتي ترسخ اسمها كأحد أهم الممثلين في أوروبا. رينسفه بلغت ذروة نجاحها قبل ثلاثة أعوام عندما نالت جائزة أحسن ممثلة من كان عن فيلم المخرج خواكيم تريه “أسوأ شخص في العالم The Worst Person in the World”. من يومها ولا تكاد رينسفه تلعب دورًا إلا وتركت فيه بصمة واضحة، وإن كان الأدوار بدأت تدور في مساحة متقاربة، هي المرأة الجميلة المبهرة التي تحمل جانبًا مظلمًا قادرًا على إفساد حياتها وحياة من حولها.

ما يبدأ كمواجهة بين أولياء أمور يناقشون مشكلة حدثت بين الأولاد يكشف عن علاقات معقدة يقرر المخرج أن يؤجل كشفها لقرابة منتصف زمن الفيلم، بل وألا يكشف بعضها فيترك الاحتمالات مفتوحة لتأويل الجمهور. لكن المظلة العامة هي أن إليزابيث (ريناته رينسفه) كانت متزوجة من خال يون، شقيق والدته سارة التي تحمل كراهية مكبوتة تجاه إليزابيث، منبعها قناعتها من أن انتحار شقيقها كان سببه إليزابيث.

على المستوى الفردي، تخلق هذه الخلفيات (التي تتضمن وجود علاقة سرية ما بين إليزابيث ووالد يون، زوج عمّة أرماند) مساحة من التعقيد الروائي المفيد في مواقف الشخصيات، بما في ذلك شعورنا بأن سارة كانت تكره إليزابيث حتى قبل موت شقيقها، بسبب جاذبيتها وقدرتها على التلاعب بالآخرين واستمالتهم لصفها. لكن على المستوى السردي والفكري لا يحقق الأمر درجة النجاح نفسها.

غابة من الأفكار والأساليب

سرديًا، يعاني الفيلم من تخبط واضح في إيقاعه، الذي يبدأ بهدوء وتشويق في مرحلة تقديم المشكلة وأبطالها، ثم يبدأ مساحة من الغموض عندما نبدأ في الشعور بأن هناك ما هو أكثر مما نسمعه عن الأزمة بين الأولاد، ثم يدخل المخرج مرحلة يحاول فيها أن يقدم المعلومات التي يختار كشفها بمزيج من الأحاديث المبتورة وتفاصيل الديكور (الصور المعلقة على حائط المدرسة التي كانت ساره وشقيقها من طلابها القدامى)، بالإضافة لتوظيف فنون أدائية أخرى في مشهدين راقصين تقوم ريناته رينسفه بأحدهما وحدها (بمشاركة طفيفة من حارس المدرسة)، بينما تشارك أولياء الأمور الثاني. ليكون الناتج النهائي مزيج من كل شيء، من عناصر جيدة وأخرى خارج السياق، ومن لحظات مشوقة وأخرى بلا قيمة، كان من الأجدى الاستغناء عنها لحساب الحكاية الرئيسية.

أما على المستوى الفكري، فيُجهد كثيرًا من يحاول إيجاد الفكرة الحاكمة لهذا النص الذي كتبه المخرج بنفسه. ففي بدايته يبدو الأمر واعدًا بطرح أفكار حول الفوبيا التي صارت تسيطر على المجتمعات كلها (والغربية خصوصًا) فيما يتعلق بتفسير كل التصرفات وكأنها ستؤدي لمصائب كبرى، وحول طريقة تعامل السلطات مع المشكلات التي تبدأ بمحاولة تجاهل أهميتها حتى تفشل المحاولة فيتم تضخيم الأمر. ثم يترك الفيلم هذه الأفكار ليتجه لأزمة إليزابيث وكيف يضعها كل من حولها داخل إطار من التصورات النمطية التي تزيد غضبها فتُقدم على أفعال تزيد من ترسيخ تلك التصورات في دائرة جهنمية، قبل أن يترك المخرج هالفدان أولمان تونديل كل هذا، ويأخذنا لمتاهة غامضة من مشكلات الطفولة والمراهقة غير المعلنة، والتي تؤثر في اختيارات الكبار وبالتالي يورثونها لأبنائهم، لينتهي الفيلم على كل شيء ولا شيء. مجرد جهود مشتتة كان بإمكان أحدها أن يكون موضوعًا لفيلم قيّم، غير أن ازدحامها حرمها جميعًا من التأثير.

يمتلك المخرج صنعة إخراجية واضحة، لا سيما في استخدام موقع التصوير وخلق جو عام يُحرك المشاعر داخل مكان محايد بطبيعته مثل المدرسة، كذلك في قراره بألا يظهر الأطفال على الشاشة تقريبًا في فيلم تنطلق الدراما فيه من شجار بين طفلين وتدور أحداثه داخل مدرسة، وبالطبع في توجيهه لبطلته القادرة دومًا على الإدهاش. لكن قراره بأن يطرح كل الأفكار ويستخدم كل الأساليب جعل الفيلم لا يبلغ ما كان يملكه بالفعل من تأثير.

لذلك نقول إن الفيلم قد ظُلم مرتين عبر التمييز الإيجابي: مرة عندما نال اهتمامًا أكبر من منافسيه بسبب جذور مخرجه، ومرة بحصوله على جائزة كبيرة لم يكن – على الأقل في اعتقاد كاتب السطور – الأجدر بها. مما يجعلنا نأمل أن يكون فيلم تونديل المقبل (والذي لن يتأخر بطبيعة الحال) قادرًا على الاستفادة من تجربة “أرماند”، فيخرج منها أكثر خبرة وقدرة على سرد حكاية مكتملة برغم تشويش الإعلام والجوائز.

 

موقع "فاصلة" السعودي في

06.06.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004