ملفات خاصة

 
 
 

"رفعت عيني للسما".. 

عن التشبث بحافة الأحلام

القاهرة -رامي عبد الرازق*

كان السينمائي الدولي

السابع والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

للمرة الثانية في أقل من 5 سنوات- عقب فوز فيلم "ريش" للمخرج عمر الزهيري- تشارك مصر ضمن منافسات مسابقة أسبوع النقاد بفيلم المخرجين ندى رياض وأيمن الأمير "رفعت عيني للسما"، حيث تشكل التظاهرة الهامة واحدة من البرامج الموازية التي يتكون منها محتوى مهرجان كان السينمائي الأشهر في العالم، إذ تأسس الأسبوع عام 1962 بغرض اكتشاف المواهب السينمائية الطازجة التي تقدم تجاربها الأولى والثانية.

كان الثنائي (رياض/الأمير) قد قدما فيلمهما الأول "نهايات سعيدة" عام 2016، وهو وثائقي ذاتي يحكي قصة زواجهم المعقدة على خلفية تباين عنيف في العقيدة والبيئات الاجتماعية والروافد الفكرية، وفي لحظة ديستوبية من التاريخ المصري الحديث عقب حراك يناير 2011، وقد تعرضت التجربة لتضييقات رقابية شديدة، لكنها لم تفت في عضد الطموح الجارف والشغف بصناعة الأفلام لدى المخرجين الشابين، اللذان أسسا شركتهما الإنتاجية الخاصة "فلوكة" وسعيا لإنجاز تجربتهم الوثائقية التالية، والتي كللت بالاختيار الرسمي ضمن قائمة تضم 7 أفلام تتنافس على جوائز الأسبوع، ليفوزا في نهاية المهرجان بجائزة العين الذهبية.

رفعت عيني

يضع صناع الفيلم للتجربة عنوانين، الأول بالعربية وهو "رفعت عيني للسما"، وهو عنوان يجمع خليطاً ما بين المقاومة، وهي واحدة من الأفعال الرئيسية للشخصيات بالفيلم، وعلى عكس الأكف التي تعطي انطباعا بالتوسل والرجاء، يمنح فعل رفع العين تأثيراً أكثر تمرداً وقوة، ويحمل حس صوفي يوحي بالمحبة العميقة والإيمان بأن المطلوب من القوى العليا سوف يأتي ذات يوم.

العنوان الثاني هو العنوان الإنجليزي للفيلم، وترجمته "حافة الأحلام"، وهو تعبير ذو دلالة شعرية معلنة، توحي بملحمية الموقف الوجودي والاجتماعي والإنساني والعاطفي لمجموعة فتيات "فرقة بانوراما برشا"، وهي فرقة مسرح الشارع المكونة من عدة فتيات يملكن شغفاً جارفاً تجاه الفن، كأداة حادة الصوت للتمرد والمقاومة، ويسكن في قرية البرشا في أعماق محافظة المنيا الصعيدية، بل وتمتد دلالات (الحافة) إلى التعبير عن الخوف من عدم التحقق، أو فقدان بوصلة الثبات على المبدأ، أو خطر السقوط في هوة ضياع العمر وانكسار الروح.

في اللقطات الأولى نرى الفتيات، وهن يعبرن كالبراعم الطائرة فوق الحقول الواسعة الخضراء، كأنهن قادمات من أرض الأحلام، ثم نراهن يتلاعبن بالماء في النيل، وأرجلهن مغمورة بمائه الذي يختلط بضحكاتهن المستبشرة بالحياة والقادم، ثم كأنما رواهن النيل، فأنبتهن زرعاً طيباً؛ يقدم لنا المخرجان اللقطة الأخيرة في الافتتاحية الشعرية الرقيقة كأنهن يسرن فوق الماء –بكل ما تحمله إشارات السير فوق الماء من ثقل ديني وصوفي واجتماعي- خاصة عندما تصلنا معلومة إنهن مسيحيات سواء عبر الأسماء أو صور وأيقونات القديسين التي لا يكاد يخلو منها مشهد بالفيلم.

هذه الافتتاحية تؤصل لأسلوبية الصنّاع في التعاطي مع المواد الأثيرية، التي تتشكل منها مادة الحلم الذي يراود المجموعة الشابة، فحجم المعلومات التي يتلقاها المشاهد لا تأتي بالتلقين ولا النقل المباشر، فلا تعليق صوتي من خارج عالم الفيلم ولا تعريفات بأسماء أو أماكن أو شخصيات تكتب على الشاشة، بل معايشة مخلصة للمدرسة التسجيلية التي يتبعها الصناع في رصد اليومي، المعاش، أو التقاط المخفي والغامض أو هواجس الإخفاق والاستسلام.

تمنح تسجيلية المعايشة فرصة كبيرة للرصد وحشد التفاصيل، خاصة مع الحكايات التي تتشكل من التفاعلات البطيئة بين الشخصيات والبيئة المحيطة، كما تُراكم الزمن بصورة عفوية ومتصاعدة لا غنى عنها لمثل هذا النوع من القصص، والتي يلعب الوقت فيها دور الخصم والحكم، فالفتيات في الفرقة في خصومة مع الزمن بمستواه المعنوي، أي العصر الذي يعيشون فيه، وفي خصومة مع مروره الخارق، وهن يسابقنه كي يحققن أحلامهن الطموحة حد الاستحالة، وهو ذاته الحَكَم الذي يراهنَ على أن تقدمه أو استغلاله والسعي وراء اكتساب الخبرات عبره، هو ما سوف ينصف قضاياهن التي يرونها عادلة ومستحقة الفوز.

"ولا عارفة ألبس فستان!"

تقدم مجموعة "بانوراما برشا" عروضها المسرحية في الشارع، عبر شكل أقرب للمظاهرات الملونة بالبساطة والمباشرة والهتاف البريء ضد ما يعوقهن ويعوق من هن على شاكلتهن، من مشكلات ظاهرها اجتماعي (الزواج القسري- الأمومة المبكرة- السلطة الأبوية- العنصرية الذكورية- الكبت- التسفيه- التنمر)، بينما باطنها يحتوي على شكوى حقيقية من الوضع الحضاري والإنساني، الذي وصل إليه المجتمع الذي يفتقد مقومات الحداثة وملاذات التقدم، سواء بحكم الانعزالية – الصعيد- أو العصبيات البالية أو السياجات الدينية، بل ان الهتافات والأغاني والاسكتشات اللائي يقدمنها، تختصر الصورة الكبيرة للوضع المزري في جمل وتراكيب طفولية؛ كان تعلن إحداهن أثناء العرض في منتهى الأسى (ولا عارفة ألبس فستان) كناية عن كل طاقة التمرد الحبيسة، والرغبة الحارة في إطلاق العنان لعصفور الحرية المكبل بصدأ الأوضاع المعيشية شحيحة المادة خاملة الأفق.

تدور كاميرا المخرجين على الفرقة سواء في مظاهراتها المسرحية، أو عبر البروفات والجلسات التحضيرية التي يتشاركن فيها البوح عن الأحلام والهواجس والكوابيس، كمادة خصبة للأسكتشات والأغاني، واللائي يصغنها من أجل عروضهن، لا يكاد يغيب الحديث عن الأحلام بمختلف تجلياتها عن مشاهد الفتيات الثلاث (ماجدة ومونيكا وهايدي)، سواء الحلم بمعناه المجازي كامل أو الحلم كزمن للسعادة المؤجلة، أو الرؤى التي يفرزها لا وعيهن الجمعي في مشاهد الحديث عن الكوابيس الليلة المرعبة.

منزوعة الريش

بمكر شديد وبراعة في التقاط التحولات، يمسك الفيلم بخيط مراوغ وشديد الحساسية يمثل نقطة تحول دراماتيكية هامة في حياة الفتيات الثلاث، فالمعايشة تمكنه من رصد التنازع الحاد بين الرغبات الشخصية، والسعي نحو إشباع الميول العاطفية، وتلبية احتياجات الغرائز الاجتماعية عبر التوق للاكتمال الشعوري والجسدي بالحب والزواج والخطبة، في مقابل كهرباء الشغف الفني التي تستعر في داخلهن، فكل من مونيكا وهايدي اللائي نراهن يمجدن المقاومة، ويربطن على قلوبهن حجر أثناء المظاهرات المسرحية، تصمت شرارات العاطفة الفنية بالتدريج في داخلهن، بينما تتأجج عواطفهن الأنثوية تجاه الذكور الذين تقدموا لخطبهتن، فمونيكا صاحبة الصوت المشروخ التي كانت تريد أن تصبح مطربة تنافس أصالة يخطفها الزواج لشهور من الفرقة، حتى إن ماجدة تطاردها بالمكالمات من أجل أن تعود إلى البروفات، رغم أن خطيبها/زوجها يطلق لها عنان مطاردة حلمها الدائم بالغناء.

بينما هايدي التي تعتبر ابنة عائلة فنية (أمها دميانة بطلة فيلم "ريش" لعمر الزهيري والتي تظهر في الفيلم، وقد أصبحت وجه مألوف لجمهور أسبوع النقاد في كان)، بل ويبدي أباها تفهماً استثنائياً يتحرر فيه من أثر العصبيات وبقع التقاليد الداكنة؛ تترك هي مقودها لسيطرة الخطيب الذي يطلب منها مسح أرقام مجموعة البانوراما من هاتفها، متهما إياها بأنها منحرفة وخائنة، طالما لم تغادر حلمها بأن تصبح ممثلة أو راقصة بالية.

هكذا تنجح تسجيلية المعايشة في صيد المأزق الوجودي بكل جدليته المراوغة، فبينما كانت عروضهن تصرخ رغبة في التحرر وانتزاع المبادرة والإرادة الحرة بقبضة صلبة ومستميتة، فإذا بهن يتخلين عن كل هذا عندما يتحقق اكتمالهن -المتصور- بالشريك

ليصبح السؤال: هل أدى الفن الغرض من وراءه؟

 هل اكتمل الحلم بالتحرر عندما صارت كل منهن حبيبة أو خطيبة أو زوجة

إن ماجدة تلوم مونيكا على غيابها لشهور عن الفرقة، فترد مونيكا أنها عروس وبيتها يستحق الالتفات والعناية – نراها بالفعل في البيت، وهي تؤدي مهامها كزوجة نشيطة- بينما تنتحي هايدي جانباً في البروفات لكي تدافع عن نفسها في التليفون ضد اتهامات الحبيب الرافض لوضعها، كعضوة في فرقة مسرح شارع يرقصن فيه للناس دون اعتبارا لسياقات المجتمع الملوث بالمحافظة الفارغة.

في حين تبدو ماجدة هي الوحيدة التي تتشبث بحافة حلمها، وفي كل مرة عندما يصدمها رد واحدة من زميلاتها يحيلها الفيلم شعرياً إلى وصف مؤثر ودرامي، كأن نراها مرة تنظف بأسى دجاجة منزوعة الريش (مسلوخة) كأنها هي، أو تغرق نظرتها الحزينة في ألسنة اللهب المتصاعدة من حريق قش الرز كمعادل لغضبها الداخلي من أثر التخلي الفاضح الذي لطخ فرقتها عقب انسحاب مونيكا وهايدي، وكأن كل ما صرخن به طار صداه من دون رجع حقيقي.

طبول الحرية

بذكاء يترك الفيلم إلى حدس المتلقي ومفهوميته المقاربة بين موقف الفتيات قبل الحب والزواج وبعده، كنماذج لشمولية السياقات الاجتماعية وجدليتها غير الهينة، بينما تحافظ له ماجدة على استمرارية السعي، رغم انتصارات الواقع بكل سخافاته، تخلي زميلاتها عن حلم الفرقة، أو تنمر الأخ الذكر وسخريته التافهة من طموحها المستحق، فنراها تقرر السفر إلى العاصمة لكي تتقدم لمعهد الفنون المسرحية، وتواجه المترو/الوحش الذي يخيفها به أخاها كأنها طفلة صغيرة يريد ردعها عن الخروج للعالم الواسع.

وبذكاء أيضاً لا يستسلم الفيلم ككائن حي مفعم بالمقاومة والتمرد لخفوت الخط الحياتي الخاص بفتيات الفرقة، بل يصعد في نهايته – صعود معنوي وبصري- إلى وجوه جديدة لفتيات جديدات– كأنهن الجيل الأحدث من فرقة البرشا- يصنعن أدواتهن الصوتية الخاصة للإعلان عن القدوم من أجل تقديم العروض، وهن يضربن على طبولهن البدائية- طبول الحرية- ليقرعن أسماع مجتمع كلما أعاد إنتاج الكبت، أو حطم حواف الأحلام حد السقوط أفرز في نفس الوقت براعم المقاومة والتمرد، وكأنه ارتباط شرطي بين نقيضين، كلما تفاقم أحدهم برز الآخر في مواجهته.

ومن وجوه الفتيات اللائي يمزقن الأصوات اليومية الكسولة في شوارع القرية، تصعد الكاميرا في لقطة علوية، ليظل صوت دق الطبول والغناء العفوي الخشن صاعداً معنا كأنما هو قادم من الخطوط الضيقة التي تدعى مجازاً شوارع، والتي نراها كعروق جافة تمر بين أكداس من البنايات العشوائية الملتصقة كأنما كهوف تحبس الفراشات عن أن تطير، ولكنها حتماً ستطير ذات يوم، وتحلق فوق الحقول الواسعة كما طارت سابقتها التي رأيناها في اللقطة الأولى من الفيلم، صحيح أن السعي خاب لبعضهن، ولكن مجرد وصول الشريط الذي صنعنه بحكاياتهن إلى مهرجان كان يعني أن الخروج للنور والسير على الماء نحو الحلم، ليس معجزة أو مستحيلاً.

* ناقد فني

 

####

 

"شرق 12".. عن محاكمة الخيال

القاهرة -رامي عبد الرازق*

كان ياما كان ناس خايفة

من كتر الخوف خيالهم هرب

منذ فيلمها الأول "زهرة الصبار"، والتجريب يشغل المخرجة المصرية هالة القوصي، كنظرة إلى الواقع لا تجد في غيرها ما يمكن أن يعبر عن كم العبث والسريالية التي يفرزها، وبالتالي فإن تجربتها الجديدة "شرق 12" – الذي عرض في تظاهرة أسبوعي المخرجين بالدورة ال77 لمهرجان كان- هي الصعود الطبيعي بأسلوبيتها إلى مستوى أكثر مغامرة وشطحاً من "زهرة الصبار".

ففي مقابل ما كان يحتله (الواقع/العادي/التقليدي) بكل اضطرابه وشططه الاجتماعي والنفسي في الفيلم السابق، نجدها تفسح الوقت والدراما في التجربة الجديدة لتصور أكثر رعباً عن هذا الواقع، تصور لا موضع فيه للمدينة بصورتها المكانية الراسخة، ولا حضورها الجغرافي المعروف، ولا أثر فيه للزمن بمستواه الناقل لرتم الحياة، حتى أن اللقطات الأولى من الفيلم عقب التترات مباشرة تأتي لمجموعة ساعات متوقفة عند توقيتات مختلفة، لأننا في الفيلم خارج إطار الزمن التقليدي أو الحسبة السهلة لتحديد حقبة معينة، رغم ما يشوب الفيلم من حالة ديستوبيا صريحة، خصوصاً مع كم البقايا والكراكيب والخردة والعاديات التي يكتظ بها المكان، الذي تديره الأم "جلالة"، ويأتي إليه الناس كي يمارسوا نوع من المقايضة التراثية، التي توحي أننا في زمن ما قبل المال والاقتصاد الحديث.

مستعمرة شرق 12

هكذا يكتب على الشاشة في تعريف المكان الذي سوف تدور فيه الأحداث، لو كان هناك أحداث بالمعنى التقليدي- في واقع متشرب بالأبيض والأسود – وكأنه نيجاتيف للواقع، وليس الواقع نفسه- وعبر تقنية تصوير تعتمد الخام السينمائي الذي أضحى أداة تراثية نتيجة الاعتماد الكسول تقنياً على التصوير الرقمي، مما خلق صورة أكثر عمقاً وخشونة للأماكن الغريبة التي تتحرك فيها الشخصيات داخل الجغرافيا المبهمة.

أما اللون، فلا يزور هذا الواقع إلا في مخيلة الشخصيات فقط، وتحديداً مخيلة (عبدو جلالة/ عمر رزيق)، في تكريس لموهبته التي تفوح بالنضج والحضور والطزاجة، فالمستعمرة تقع في نطاق حكم سلطوي ديكتاتوري، يرتدي قناع من 3 وجوه، وجهان سافران؛ أولهما "شوقي بهلوان/ أحمد كمال) وهو نموذج للإعلام الموجه الذي يتلقى التعليمات القادمة من تليفون قديم بدون قرص، في دلالة أنه يستقبل فقط، ولا يحق له ان يرسل أي شيء إلا في اتجاه الجماهير التي يتم حشدها في صوان أقرب للمسارح الشعبية القديمة، من أجل أن يتم غسيل دماغها بصورة منتظمة، أما الوجه الثاني فهو (الضابط صاحب قبعة الكاوبوي/ أسامة أبو العطا) الذي يبدو أقرب لكلاب الحراسة، التي تؤمّن بقاء النظام السلطوي الذي يدفع الناس إلى أن تذهب إلى "جلالة" كي تستبدل الساعات/الأعمار بمواد استهلاكية ربما لا تفيدها، ولكنها تشتريها من أجل أن تشبع النهم الذي تولده حكايات "جلالة" الخيالية عن البحر الذي ليس له وجود في نطاق المستعمرة.

و"جلالة" نفسها هي الوجه الثالث للسلطة في المستعمرة، ولكنها الوجه الخفي، الوجه التخديري الذي يبدو منصفاً لخيال الناس وهمومهم، ومنحازاً لاحتياجاتهم البسيطة، في حين أنها جزء من منظومة التغييب الكبرى التي تمارس على أهل المستعمرة، ومن بينهم "عبده" ابنها نفسه، والذي يحمل البذرة الثورية التي سوف تطيح بالوجوه الثلاثة، وتعلن التمرد من أجل عبور الخيال إلى البحر الحقيقي كما في مشهد النهاية.

مجازات

ظاهرياً يبدو الفيلم في منطقة مشبعة بالتجريب والفانتازيا، خاصة على مستوى الزمان والمكان، فالزمان متوقف كما أشرنا – في أول ظهور لشوقي البلهوان يشتكي لمحدثه في التليفون، والذي يتكلم معه بصيغة الجمع تفخيماً -من أجل التأكيد على أنه تابع لمجموعة تدير شؤون المستعمرة- بأن الساعة خربت، في دلالة على أن الزمن ليس فقط متوقف، ولكنه متضرر أيضاً من وجود هؤلاء السلطويين على رأس الناس.

ولكن ظاهر الفيلم الفانتازي يعكس وبقوة واقعية شديدة في التعامل مع مختلف سياقات الحكاية المفككة، واقعية خشنة بمجازات واضحة، فالشباب في المستعمرة مثلا يتحدثون بلغة غريبة غير العامية التقليدية التي تتحدث بها الشخصيات الأكبر سناً – وهو ما يحيلنا إلى لغة الشباب الحالية التي يمكن تلمس ملامح كلماتها المدغمة في أغاني المهرجانات أو التراب- بينما العملة المعتمدة كأجر للخدمات والعمالة هي مكعبات السكر، والتي بالنظر إلى أن الفيلم هو مشروع يرجع إلى 8 سنوات سابقة على حد تصريح المخرجة يمكن اعتباره رؤية استشرافية، خاصة مع أزمة السكر والمواد الغذائية نتيجة الأزمة الاقتصادية العنيفة التي تعيشها مصر حالياً.

أما "شوقي البلهوان" أو "شكوة" - وهو اسم التدليل الذي يفضله ودلالاته أيضاً فاضحة- فهو خليط من عدة وجوه إعلامية معروفة، تمثل الأبواق الدعائية للسلطة، والذي يشرف بنفسه على عملية جمع التبرعات من الشعب المتهالك مادياً في صندوق كرتوني يرتديه رجل على رأسه، وعلى الكل إما أن يتبرع! أو يدفع رشوة إلى الجنود الواقفين على باب صوان الحشد الشعبي كي يسمحوا بالتسلل بعيداً عن فقرة التبرعات.

ونعود إلى "جلالة" الحكاءة مديرة مستودع العاديات، التي تتراص الساعات الصامتة على جدار واسع خلف عرشها المهيب، فهي أكثر المجازات قوة وعنفاً، وهي ما يمكن اعتبارها مكعب السكر الأهم في الفيلم، فـ"جلالة" بحكم مكانتها النخبوية المتمثلة في امتلاء مستودعها بالحكايات، حتى إننا يمكن أن نذهب إلى التصور بأن كل العاديات الموجودة في المستودع قد استدعتها عبر خيالها الفخم والمهيب وحكاياتها عن البحر

الأرض أرض 

والسما سما والهوا هوا

والجدع يحلم ببحر واسع 

والحلم يدفنه الخوف 

والخوف بهلوان جعان 

ونعاود من البداية 

ويحلم الجدع 

والحلم بحر مينشفش

هكذا تكرس "جلالة" لما هو كائن وما هو آت في واقع المستعمرة، فالجدع ليس سوى "عبدو" – نلاحظ أن فعل العبادة مجرد، وليس متبوع بصفة إلهية- كما أن مهابة لفظ جلالة واضحة الإيحاء- و"عبدو" يحلم بالبحر مثله مثل الناس كلها –نراه بالفعل في أول ظهور له وهو يغسل وجهه في الأزرق، بينما يكسو اللون كامل المشهد، قبل أن يرده صوت أمه إلى الواقع الأبيض والأسود عندما تنبهه إلى عدم الإسراف في استعمال المياه – وهي مفارقة ساخرة بأن "جلالة" تحكي عن البحر، وتخشى على الماء! لأن مواد المستعمرة شحيحة نتيجة امتلاء إدراج السلطة بالسكر، كما نرى في ولع "شوقي البهلوان" و"الضابط الكاوبوي" بمكعبات السكر الوفيرة لديهما.

هذا الجدع يحلم بمغادرة المستعمرة من أجل أن يطارد حلمه بأن يصبح موسيقياً، فهو غير قانع بالأوركسترا البدائي الذي صنعه من الخردة التي تملأ المكان – كما أشرنا فالفيلم يحتوي على لمسة ديستوبية ناصعة التجلي- وتنضم إليه في الحلم كعادة هذا النوع من الحكايات (ننه أو مصاصة/ فايزة شامة) - العاهرة الشابة التي تضع قطعة حلوى المصاصة في فمها طول الوقت كلازمة شهوانية، والتي نراها تتعرض للانتهاك الجسدي اليومي على يد الكاوبوي وجنوده حتى أنها تحمل طفلاً لا تدري من هو أباه.

وبالطبع مثل الحكايات كلها التي تحمل حلما بالمغادرة، يتغذى على روح الشباب الثائر على مجتمع مهترئ ومتآكل وفاشي، فإن الثورة تحدث بالفعل في النهاية على يد "عبدو" و"مصاصة"، لكن الأهم من بلوغ فعل الثورة هو انكشاف وجه جديد من وجوه السلطة وهو الوجه الأخطر، لأنه الأقرب للناس والأكثر تضامناً معهم ومواساة لأرواحهم المنهكة، وهو وجه "جلالة" المثقف، الذي لا يرى في الإمكان أفضل مما هو كائن بالفعل، والذي ينشغل بالتغييب عن التغيير.

تقول جلالة لعبدو: الخيال دوا شافي 

فيرد ثائراً: الخيال بيخدورنا بيه من (اللفة) لحد القبر.

إن ثورة "عبدو" تبدأ تحديداً من تمرده على الخيال التغييبي لـ"جلالة"، والذي يتجلى ملموساً في شكل بدائي ساذج أقرب لمسرح الأطفال، كما نرى في مشاهد استدعاء البحر بحركات السباحة (على الناشف)  أو تمثل الموج بالملاءات البيضاء التي نرى من يحركها، تماما كما في المسرح المدرسي.

هنا يلتقي التجريب مع الرمز من أجل الكشف عن فصل جديد من فصول الديكتاتورية، وهو تواطئ المثقف وأصحاب الخيال على شعوبهم من أجل استمرار الأوضاع الضحلة بحجة أن الأمن يجب أن يستتب، والشعب يجب أن يبقى في حظيرة الدولة – في مشهد الثورة نرى جموع الشعب التي نجح "عبدو" في استدعائها عبر تزيف صوت "شوقي" بأن هناك كنز مدفون يدعوهم إلى البحث عنه، وهم يتدافعون ليمروا من أسوار شبكية كأنها أسوار مزارع البهائم أو حظائر الحيوانات.

الحلم بحر 

عندما تدرك جلالة فداحة ما تفعله تحدث لها صدمة تُسكت فمها عن الحكي، والتي كانت تهجس دوماً بأن تمتلك تليفون بقرص ربما كي تبلغ رسالتها، أو تعلن احتجاجها، ولكن الصدمة تمنعها من ممارسة التغييب الذي يدفع الأطفال للسباحة بالملابس الداخلية على الأرض ظناً منهم أنهم يعومون، أو يجعل أمهم تشتري لهم زعانف بدلاً من الطعام أو الكتب؛ لأن الوعي صار مشبعاً بالاستهلاك بديلاً عن الاستخدام.

ومن سم الخياط الضيق للحلم ينفذ عبدو في النهاية إلى البحر الملون، مصطحباً معه أفراد كثيرون من ناس المستعمرة، والذين نراهم في مجموعات جميلة يتوزعون على شاطي البحر لأول مرة في النهاية، ينظرون إلى الأفق، ويمرحون في سعادة مستحقة، وقد شملهم اللون أخيراً، ولمس الماء خواصرهم ووجوههم، بعد أن كان مجرد سباحة في هواء جاف وملاءات بيضاء ساذجة تحاكي الموج.

لقد سعت القوصي عبر استنفار أكثر من أداة سردية كالموسيقى والرقص والمسرح والتشكيل، إلى دعم أفكارها عن الواقع بتجلياته القاسية والمربكة، محتمية من نمطية الحكاية بالمغامرة الشكلية، دون أن يخلو عصب القصة المكررة من موضوع جاد، والذي يمكن اعتباره هنا هو الكشف عن الوجه الثالث الخفي وراء السيطرة على الجماهير.

صحيح أن ملامح الموضوع تاهت أحياناً بين المسارب المفككة للحكي القافز بين عدة أشكال، لكنه عاد في النهاية ليتماسك، ويقدم محاكمة ثورية للخيال الذي يفقد صفته المقدسة حين يتحول إلى أداة للتغييب، بينما تنجح الثورة عليه في إعادة نعته كمنفذ نحو الحلم بالبحر والحرية.  

* ناقد فني

 

الشرق نيوز السعودية في

02.06.2024

 
 
 
 
 

دونالد ترامب الوحش الذي باع روحه

شفيق طبارة

بعدما رسم المخرج الإيراني الدنماركي علي عباسي صورة شفّافة للرجولة في المجتمعات الثيوقراطية في فيلمه «العنكبوت المقدس» (2022)، يطلق في فيلمه الجديد «المتدرب» الذي عُرض في المسابقة الرسمية لـ «مهرجان كان السينمائي» الأخير، أشعته السينية نحو النيوليبرالية، المتمثلة في دونالد ترامب وروي كوهين. تتحوّل شاشة عباسي إلى حوض سمك كبير مليء بأسماك القرش الجائعة التي تعقد صفقات تجارية وتقدم خدمات شخصية، تبتز وتلتهم بعضها. إنها الفردية الصارخة، وهي السوق يا صديقي، فكل شيء مضيعة للوقت أمام المصالح الاقتصادية لتلك النخب التي تدّعي اهتمامها بالعالم، في حين لا شيء يبقيها مستيقظةً في الليل، إلا البحث عن طرق جديدة لدفع ضرائب أقل وخفض رواتب عمّالها.

يعود هذا الفيلم إلى الواجهة مع إدانة هيئة المحلفين في نيويورك أخيراً الرئيس السابق دونالد ترامب بالتهم الـ34 الموجهة إليه في قضية دفع أموال بما يخالف القانون. يستلهم الشريط اسمه من البرنامج التلفزيوني الشهير «ذا أبرانتيس»، الذي قدمه دونالد ترامب بهدف مساعدة الشباب كي يصبحوا رجال أعمال مختلفين. يعتمد عباسي على أشكال سينما هوليوود الجديدة، ليصوّر صعود دونالد ترامب، والتأكيد بأنّ عبارته الشهيرة «اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، تعني في الواقع «اجعل ثروتي أعظم». في فيلمه المقتبس عن نص كتبه الصحافي غابريال شيرمان، يُظهر عباسي الجوانب والخصائص المختلفة لشخصية بطل فيلمه المتغطرس والمتقلب والمتنكر والمتلاعب والعنصري والمبتذل. سرد عباسي بدايات ترامب التجارية، واتفاقياته مع مجموعات المافيا في نيويورك، ومسيرته المهنية القاسية والكاذبة، وازدرائه لأي نوع من القيم بخلاف قيم الأرباح والمال، وجانبه المسيحاني، وأنانيته، وازدرائه للنساء، وخيانته لأصدقائه، ونبذه لأخيه، حتى عمليات التجميل الذي أجراها للتخلّص من الدهون، وزرع الشعر، والأدوية الذي يتناولها بانتظام. كل هذا من دون دحض قصة الرجل العصامي، الذي بدأ من لا شيء تقريباً، وأصبح أحد أهم رجال الأعمال بفضل ذكائه وجشعه وطموحه.
بدأ كل شيء في مطعم أنيق في عام 1973: يراقب دونالد ترامب (سباستيان ستان في أداء مبهر)، البالغ 27 عاماً، روي كوهين (جيريمي سترونغ)، مع بعض أصدقائه من رجال العصابات، وأعضاء النقابات والقضاة. كوهين المحامي الذي قاد عائلة روزنبيرغ إلى الكرسي الكهربائي، وكان متواطئاً مع جوزيف مكارثي، والمافيا الإيطالية في نيويورك، وقريباً من جميع شؤون نيكسون الفاسدة، يستقبل ترامب على طاولته. بالمقارنة مع هؤلاء الأشخاص ذوي الوزن الثقيل، فإن دوني (اسم الدلع لترامب) صغير، هو الابن الخجول لرجل أعمال غير ناجح يعاني من مشكلات قانونية. يطلب ترامب المساعدة من كوهين، لحلّ عددٍ من المشكلات القضائية بالابتزاز. يبدأ ترامب شيئاً فشيئاً بصنع اسم لنفسه في عالم العقارات. وفي منتصف السبعينيات، عندما كانت نيويورك شبه مدمرة وخطيرة، يحصل ترامب على عدد من المزايا بفضل كوهين، فيتمكن من بناء فندق «حياة» في قلب المدينة، يحلّ محل فندق مدمّر بالقرب من محطة «غراند سنترال». يتعلّم دوني تسلّق السلم الاجتماعي، وإقناع رؤساء البلديات بعدم دفع الضرائب، ويصبح منتفعاً لا يرحم. علّم كوهين ترامب كل شيء، من الإيمان بنسبية الحقيقة، وعدم إظهار أيّ ضعف، ودفع الفحش إلى أقصى الحدود لتحقيق الأهداف، وطبعاً عدم الاعتراف بالهزيمة. مع حلول الثمانينيات، ونيوليبرالية رونالد ريغان المتطرفة وصعود فيروس الإيدز – الذي أثّر على كوهين وكثيرين حوله - تتغير حياة الاثنين: ترامب في صعود ناري، وكوهين في طريقه إلى الهبوط. وبينما يفتتح ترامب برجه العظيم، يتجاهل وينكر كوهين المريض والوحيد
.

لا حاجة إلى عباسي لانتقاد دونالد ترامب أو تقديم فيلم يدينه، فحياة ترامب تدين نفسها. كل ما فعله هو تقديم القصة كما هي، وإبراز كيفية تحول العلاقات الإنسانية إلى مجرّد تبادل خدمات تدعمها المصالح الاقتصادية للموجودين. مع ذلك، فإنّ المخيف في «المتدرب» هو أن الأحداث لا تستند فقط إلى وقائع، بل إن عباسي يتقرّب منها من منظور واقعي مسرحي، مستخدماً الكاميرا على أنها «ذبابة على الحائط»، تراقب كل شيء في آن. صنع عباسي فيلماً بأسلوب الشريط التلفزيوني الفاخر، مستحضراً نظرة محددة إلى العصر الذي يُعيد بناءه، بين السبعينيات والثمانينيات، من السيارات المناسبة والملابس والديكورات، وألوان وعدسة الفيلم المستعملة ونسبة عرض إلى ارتفاع الشاشة التي تذكّرنا بأفلام الـVHS.

يُظهر علي عباسي شخصية بطل فيلمه المتغطرس والمتلاعب والعنصري والمبتذل

لم يفوّت عباسي الفرصة ليظهر الازدراء الكامل الذي يشعر به ترامب تجاه الفن. في مشهد يقع في منتصف الفيلم، يُجري ترامب محادثة مع آندي وارهول (ربما يكون واحداً من أشهر الفنانين وأكثرهم تصويراً في مشهد الثقافة المضادة في السبعينيات في نيويورك)، من دون أن يعرف من هو. لم يسمع ترامب عن وارهول وهو غير مدرك تماماً لمظهره الشهير، فهو لا يهتم إلا بالسلطة والمال، وكل ما يتجاوز تلك الحدود، فهو غريب تماماً عنه. ولحسن الحظ أنّ الفيلم يحتوي على نص يدرك قوسه السردي والحاجة إلى رمزية أحداث معينة تشرح الموضوع، بدلاً من الاكتفاء بترتيبها ترتيباً زمنياً. إن تضخيم اللحظات الدرامية وتبادل النظرات، يُظهر انبهار عباسي بالسطور المرعبة لهذه القصة. ويتحوّل المكتوب على الورق الذي هو استكشاف صريح لصعود ترامب على يد روي كوهين، إلى تحليل للجوانب الأكثر غرابة في الروح الأميركية. يستخدم عباسي هذا التحليل لمحاولة شرح كيف تخلق الرأسمالية الأميركية ثقافة التجاوزات الاقتصادية، وتشجّع عقلية ترامب الأنانية.
قد يكوّن بعضهم فكرة أن عباسي يضفي الطابع الإنساني على بطليه، وهذا الانتقاد يجب أخذه في الحسبان. نعم، أُضفيَ الطابع الإنساني على كوهين بسبب المرض وأداء جيريمي سترونغ القادر على جعل المرء يشعر بالعاطفة تجاه الرجال الحقيرين. لكن في الوقت نفسه، هناك شيء واضح في الفيلم هو أنّ كوهين ربما أكثر شراً من ترامب في تاريخ الولايات المتحدة، وهشاشته ووحدته في نهاية حياته لا تجعلانه بطلاً. من جهة ثانية، لا يحاول الفيلم أن يبيع لنا ترامب إنسانياً، فبطل فيلم عباسي لا يقل وحشيةً عن أولئك الذين ظهروا في أفلامه السابقة. لكنّ «المتدرب» يستخدم الموارد المتاحة له لفهم الأسباب التي صنعت هذا الوحش. على أي حال، كانت الورقة الرابحة لصانع الفيلم هي جعل المشاهد يشعر أن هناك شيئاً أكثر فساداً مخفياً تحت السطح غير المريح الذي يعرضه لنا. ما يكمن تحت السطح هو «الاستثناء الأميركي» والشره إلى النجاح مهما كان
.

 

الأخبار اللبنانية في

03.06.2024

 
 
 
 
 

«فيريوسا: ملحمة ماد ماكس»…

جورج ميلر يعود لصحراء الانتقام والأمل

عبيد التميمي

عندما قرر المخرج جورج ميلر صناعة فيلم يحكي قصة شخصية فيريوسا التي أدت دورها تشارليز ثيرون في فيلمه السابق «Mad Max: Fury Road»، كانت فكرته الأولية أن يكون فيلم رسوم متحركة. تغيرت الفكرة لاحقًا لتصبح فيلمًا حيًا، لكن الأثر البصري للفكرة القديمة لا يزال واضحًا ومحسوسًا في عدة مشاهد وكادرات من فيلم “فيريوسا: ملحمة ماد ماكس”«Furiosa: A Mad Max Saga». أذكر كل ذلك لأقول إنه من المدهش مشاهدة رجل يبلغ من العمر 79 عامًا وهو منغمر في عالمه الخاص ويصوره بكل شغف وكأنه يرينا مقتنياته الثمينة.

 في الفيلم السابق “ماد ماكس: طريق الغضب” fury road طريق الغضب، أخرج لنا جورج ميلر لمحة من عالمه الديستيوبي، ذلك العالم الذي يبدو ظاهره جافًا قاسيًا متقشفًا، لكنه مفعم بالتفاصيل التي لا يتنقص ثراءها من هوية الفيلم الرئيسية. وفي هذا الفيلم الجديد، نستكشف هذا العالم بشكل أكبر مع بطلته فيريوسا في قصة ملحمية عن الانتقام والأمل.

 من الأمور التي لا يمكن تجنبها في «فيريوسا» هي المقارنة المباشرة مع «طريق الغضب»، فالأخير احتوى نقلة نوعية صنعها جورج ميلر من الناحية البصرية والاعتماد على استخدام المؤثرات العملية أكثر من المؤثرات البصرية، ومشاهد المخاطر إلى جانب تصوير الفيلم في مواقع حقيقية وعدم الاكتفاء بالكروما (الخلفية الخضراء واستخدام المناظر المخلقة رقميًا)، ما أكسب الفيلم مصداقية وجمهورًا حقيقيًا. بالتالي؛ من الطبيعي أن يأتي هذا الجمهور إلى فيريوسا وهو متلهف للمزيد، لكنه عمل مختلف من الناحية السردية بالكامل، فبينما كان طريق الغضب يقدم نظرة شاملة على ذلك العالم بالكامل ويختار عدة شخصيات منه جاعلًا منهم أبطالًا يرافقهم في رحلتهم، فإن فيريوسا يقدم نظرة أكثر قربًا وحميمية مركزًا على شخصية واحدة جاعلًا منها بطلة للفيلم، نستكشف العالم نفسه من خلال تجربتها وحدها.

لم أدرك الدرجة التي أراد فيها الفيلم التعمق داخل مكنون هذه الشخصية حتى رأيت الفترة التي قضاها وهو يستكشف طفولتها فقط، هناك حرص واضح على دراسة فيريوسا وإعطاء المشاهد كل الأدوات لفهم شخصيتها ودوافعها، ليس في هذا الفيلم فقط؛ بل حتى في الفيلم السابق. النجاح في هذه النقطة تحديدًا أمر مبهر حيث أن العديد من المشاهد والعلاقات في «طريق الغضب» اكتسبت بُعدًا وعمقًا آخر بسبب أحداث فيلم «فيريوسا»: علاقتها بماكس، وردات فعلها الحادة نتيجة الأحداث المستقبلية التي نراها في الفيلم الأقدم، تبدو أكثر منطقية ومناسبة جدًا لتطور قصتها.

على الرغم من الإفراط في استخدام المؤثرات البصرية الصناعية في بعض المشاهد، بخلاف الخلطة البصرية الممثلة التي صنعها ميلر في فيلمه السابق، فإن الفيلم يرتقي للتوقعات ويقدم ملحمة بصرية رائعة.

حينما تبدأ فيريوسا مغامراتها وبعد تحضير طويل لما ينتظرها، يأتي أول مشاهد المطاردات كحمام ثلج بارد يصعق المشاهدين ويدفعهم إلى حواف مقاعدهم. توقيت المشهد مناسب جدًا لأنه يأتي بعد فترة طويلة من تأسيس شخصية فيريوسا، في تلك المرحلة كان الفيلم أقرب إلى كونه بيوغرافي أكثر منه فيلم أكشن. بمجرد اكتمال تقديم وتطوير اللاعبين في القصة ينطلق الفيلم بالسرعة المعهودة بدون توقف.

هذه نقطة مهمة يختلف فيها الفيلم عن سابقه، فـ “طريق الغضب” لم يعطِ أي مجال للإبحار في اسكتشاف الشخصيات ودراستها عن قرب، لكنه نجح تمامًا في خلق انطباع بأن الشخصيات التي أمامنا مكتملة التأسيس وليست سطحية إطلاقًا. لكن هنا ميلر يؤسس شخصية فيريوسا فحسب، بل ويبني العالم من حولها ويسلط الضوء على الطبقية في أعلى درجاتها تطرفًا، ولا يغفل تطوير شخصيات أخرى مهمة للقصة على رأسها «ديمينتيس» الذي قام بدوره كريس هيمزورث.

 هيمزورث قدم في هذا الفيلم أحد أفضل أدواره بلا شك، واستطاع الخروج من فقاعة مارفل التي احتوته في نوع معين من الأدوار. هنا يتحدى القالب المعتاد الذي يتم تصنيفه فيه. وبرغم طبيعة شخصيته الغريبة إلا أنه يستطيع أن يظهر عمقًا حقيقيًا من خلال هذه الغرابة، وأعني بذلك أن الشخصية لا تبدو مجرد مجموعة من التصرفات الغريبة والفوضوية بهدف الشر والخراب فقط، لكننا نستطيع أن نفهم أنه لم يكن هذا الشخص على الدوام وأن هناك ظروفًا قاسية حولته إلى الوحش الذي هو عليه الآن.

 آنا تايلور جوي تقدم أداءً صاعقًا، دورها لا يعتمد على الحوارات، وهذا منطقي جدًا بالنسبة لأسلوب الفيلم السردي وطبيعة شخصيتها، لكننا نستطيع استشعار الغضب المكبوت داخلها والذي ينتظر اللحظة المناسبة للانفجار في وجه الجميع. يمكنك فهم أن هناك كثير من المشاعر والرغبات والنوايا تعتمل داخلها بمجرد النظر إلى عينيها. إن أكبر تساؤل يطرحه الفيلم حول فيريوسا، هو سؤال حول الدوافع التي تحركها للمضي قدمًا، هل ما يحركها هو الأمل بالحصول على حياة أفضل؟ أم أنه الانتقام لموت أمها؟ على مدار الفيلم يُطرح هذا النقاش بينها وبين «ديمينتيس» الذي يقف مثالًا حيًا على انقضاء الأمل واعتناق الفوضى والخراب.

إن قدرة جورج ميلر على العطاء بهذا الشكل مثيرة للاهتمام، خصوصًا حينما نأخذ في عين الاعتبار أنه طور هذه القصة من مجرد رسومات وأفكار أولية، وأنه  استطاع بناء فيلم كامل حولها. «فيريوسا» مثال سينمائي رائع للقدرة السردية البصرية والسمعية، بدون الحاجة إلى تلقين المشاهد كل الأفكار التي يريد صناع الفيلم إيصالها.

ومن اللمحات البارعة في استخدام الموسيقى كعنصر من عناصر السرد السينمائي، أن مقطوعة «Brothers In Arms» التي لاقت نجاحًا باهرًا في الفيلم السابق يتم عزفها بشكل متقطع وغير كامل في هذا الفيلم، في إشارة إلى أن نمو فيريوسا لم يكتمل بعد، وأنها لا تزال في بداية مشوارها.

 بعد نهاية الفيلم يتم عرض بعض المشاهد من فيلم «طريق الغضب» وفيه بداية رحلة هروب فيريوسا مع زوجات «جو الخالد»، لم ينهض أي أحد من المشاهدين من مقعده ولم يغادر أحد صالة السينما التي حضرت الفيلم فيها، إن في ذلك دلالة على سلاسة التدفق السردي الذي صنعه جورج ميلر في ملحمته الخاصة بعالم ماد ماكس الموحش.

 

موقع "فاصلة" السعودي في

03.06.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004