السجادة الحمراء بالغة الطول
أمجد المنيف
قادت سجادة حمراء طويلة الملك أجَامِمْنـُون بعد عودته من
حرب، إلى حتفه. هذا الحتف الذي صنعته غيرة زوجته كليتمنسترا، كما روت القصة
في أوديسة هوميروس اليونانية.
اليوم توجد سجادة حمراء طويلة، تقود المئات من الأشخاص إلى
الحياة كل عام. تذهب بهم إلى المجد، ويشبه صوت خطاهم عليها السير على القمة
التي يحلم الجميع بتسلقها.
يظهر النجوم على شاشات السينما باهتين، ويكتمل ضوء من تصله
دعوة من مهرجان سينمائي يُدعى «كان»، الذي يجمعهم ويُضفي عليهم بريقًا
مختلفًا.
في جنوب شرق فرنسا وفي حضن البحر الأبيض المتوسط تقع «كان»،
إحدى أشهر مُدن الريفييرا الفرنسية، الساحل الذي تنتهي إليه أفئدة أثرياء
العالم.
وبينما اعتادت مُدن الكوكب أن تصنع معالمها من جغرافيا
الأرض، إما بجبال شاهقة، أو بحيرات عُظمى، أو من خلال تلك التي أحدثها
الإنسان من أسوار ضخمة، أو قلاع كبيرة، إلا أن «كان» امتلكت مهرجانًا يوازي
حجم كل ذلك ربَّما.
لم يكن
«مهرجان
كان السينمائي»
حدثًا عاديًا، على الرغم من أنه ليس المهرجان السينمائي الأول. لكن الرمزية
التي تقع خلف قصته والتي أنشأها موقف ينزع قيودًا ضخمة، ويعترض ليخبر
الجميع بأن السينما ذاكرة العالم، ويجب ألا تتعرض تلك الذاكرة للعبث.
كان مهرجان البندقية في إيطاليا، الذي يسبقه، هو المهرجان
السينمائي الوحيد حول الأرض، لكن عامًا بعد آخر بدأت تظهر بصمات بينيتو
موسوليني، قائد الحزب الفاشي الإيطالي والديكتاتور ذائع الصيت.
ظهر أوج هذه البصمات حين تدخل موسوليني في عام 1937، لمنع
فوز الفيلم الفرنسي «لا غراندي إيلوجن»، أو الوهم الكبير، الذي أجمع الكل
على أنه رائعة سينمائية.
لكن قصة الفيلم، التي تدور أحداثها في سياق يناهض الحرب
ويدعو إلى السلام، أثارت حنق رئيس الفاشية الإيطالية، بحيث يرمي ثقله وبشكل
فج على إبطال ترشيحه.
تكرر الأمر مرة أخرى في النسخة التالية من مهرجان البندقية،
لكن هذه المرة بعد فوز فيلم أنتجه نجله بجائزة المهرجان العليا، برغم عدم
امتلاكه لأي من مؤهلات الفوز التي تم التعارف عليها.
حينها قرر أعضاء لجنة التحكيم الفرنسيون والبريطانيون
والأميركيون انسحابهم من هذا المهرجان؛ لتكون الفرصة المواتية التي يأتي
معها قرار «جان زاي» وزير التربية الوطنية الفرنسي بإنشاء النسخة الأولى من
«مهرجان كان السينمائي»، في عام 1939.
افتُتحت النسخة الأولى من المهرجان بعرض خاص للفيلم
الأميركي «أحدب نوتردام»، بحضور نخب ونجوم السينما من هوليوود وبقية أنحاء
العالم.
لكن الرقم 1939 يبدو مألوفًا لأي شخص مُلم بالتاريخ، فهو
العام الذي اندلعت فيه أحداث الحرب العالمية الثانية. ولم تندلع الحرب
العالمية فقط في نفس العام، بل في اليوم الثالث من انطلاق المهرجان، فقاد
ذلك إلى تأجيله، ثم إلغائه.
وبقدر الأسى الذي تحمله هذه المُصادفة، إلا أنها تضفي
رونقًا آخر على هذا المهرجان الذي اشتبك نسيجه بخيوط التاريخ. وكذلك عرض
نوعًا من الصمود بعد عودته في عام 1946 بعدما أفرغ الحلفاء قنابلهم على
برلين بشهور، معلنين انتهاء الحرب العالمية الثانية.
عاد بخطوات أقل ثباتًا، انقطعت لعامين نتيجة لمشاكل في
الميزانية. لكن الصمود الذي جعله يتجاوز الحرب، مكَّنه من القفز عبر هذه
العثرات؛ ليعود بخطى ثقيلة وصل صداها إلى جميع أنحاء العالم.
وعامًا بعد آخر، بدأ بالتحول إلى القمة التي يحلم جميع
صنَّاع الأفلام بالسير عليها. اكتسب نضجه تدريجيًا، حتى أصبح ظاهرة تدين
لها شاشات السينما.
ويتجاوز مهرجان كان السينمائي «السعفة الذهبية» جائزته
الأعلى قدرًا، ويتجاوز كذلك مسرح لوميير الكبير الذي قُدمت من خلاله أهم
عروض المهرجان، وقاعة ديببوسي الفارهة، وبقية الأشياء اللامعة التي يُقدم
من خلالها المهرجان.
فإضافة إلى الاحتفاء بأهم الأعمال السينمائية، وأبرز
النجوم، يوجد وجه آخر أكثر أهمية يتمثل في الأحداث المصاحبة له. حيث يُقام
«مارشيه دو فيلم»، وهو أضخم وأهم سوق للأفلام عبر التاريخ، والذي تُنجز من
خلاله صفقات بمئات المليارات كل عام.
كذلك يقدم أهم صنَّاع السينما حول العالم دروسًا ودورات
تُقام علنًا، وتتعلق بجميع مراحل إنتاج الفيلم. وهناك ما تسمع الحروف
الأولى عادة للتقنيات الجديدة في هذا المجال.
ويجد المنتجون طريقهم الوحيد للقاء زملائهم من حول العالم
فيه. وخلقت هذه اللقاءات إنتاجات دولية ضخمة، جعلت من أشرطة الفيلم تتجاوز
الحدود؛ لتصبح وسيلة ترتبط الدول من خلالها.
إنها تظاهرة ضخمة، لا يمكن لأي شخص، حتى منسقي المهرجان،
التنبؤ بحجم المفاجآت التي يحملها، أو الفائدة التي تحدث هُناك، والتي تصل
حتى إلى علاقات الحُب التي تشتعل شرارتها للمرة الأولى بين ردهات قاعاته.
كل هذا يدفعك لأن ترى سجادة حمراء طويلة جدًا. يفوق حجمها
ما تراه العين، وتكون واسعة بشكل كافٍ لأن تسمح لصناعة من أعظم منجزات
الحضارة البشرية كالسينما، أن تسير عليها بكامل راحتها، وبحلة أنيقة تجذب
إليها جميع أنظار العالم.
هذا ما يحدث في مايو من كل عام، في مدينة «كان» الفرنسية.
والسلام.. |