ملفات خاصة

 
 
 

كوبولا المخرج الحالم الذي تمرّد على هوليوود

حقق الأفلام الكبيرة والصغيرة بمهارة واحدة

لندنمحمد رُضا

كان السينمائي الدولي

السابع والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

خروج فرنسيس فورد كوبولا من مسابقة مهرجان «كان» الأخير، من دون أي جائزة أو ذكر لفيلمه «Megalopolis» يعكس ما هو أبعد بكثير من هذه النتيجة.

لننسَ حجم هذا المخرج العملاق ومكانته في السينما الأميركية وتاريخه السينمائي الناصع. المشكلة التي واجهت نصف نقاد «كان» وكل رجال ونساء لجنة التحكيم هي عدم الاهتمام بمضمون الفيلم من ناحية وعدم الاكتراث للإبداع الفني الذي تفوّق به كوبولا على كل فيلم آخر اشترك في المسابقة من ناحية أخرى.

يؤكد هذا أن ثلاثة جوائز من بين جوائز المسابقة الأساسية ذهبت إلى مواضيع تتمحور حول الجنس على نحو واضح: فيلم «أنورا»، الذي نال السعفة يدور حول فتاة عاهرة وغرامياتها، وفيلم «إميليا تيريز» الذي نال جائزتين (لجنة التحكيم وأفضل تمثيل نسائي) يحكي قصّة رئيس عصابة لاتينية يريد استبدال جنسه، وجيسي بليمونز الذي نال جائزة أفضل ممثل عن فيلم «أنواع اللطف»، ولعب فيه دور رجل مزدوج الممارسة الجنسية.

ما يقوله لنا ذلك، أن توجّه لجنة التحكيم لم يكن خالياً من شوائب الاهتمام بالأمور الجنسية وحدها؛ هذا بدوره إشارة إلى أن مضامين فيلم كوبولا التي تحتوي نظرة بانورامية لعالم طلّق العيش في أخلاقيات الأمس واستسلم للجشع (في كل أصنافه)، وهذا تماماً ما عبّرت عنه هذه الأفلام الفائزة.

لكن «ميغالوبوليس» هو فيلم تمرّد أيضاً. كان يمكن للمخرج ابن الـ85 تحقيق فيلم لأحد الاستوديوهات. كان يمكن له أن يعود لإنجاز فيلم صغير مستقل؛ لكنه اختار أن يصنع فيلماً من ماله الخاص (بتكلفة 120 مليون دولار) على ألا يحقق عملاً لا يريده.

الفيلم بدوره تمرّد على الصياغة التقليدية (بداية، وسط، ونهاية) وعلى عالم اليوم المشحون بالأنانية الذي يراه بداية نهايته.

ذهب كوبولا، عبر ثلاثة أفلام هي «العرّاب»، و«العرّاب 2»، و«القيامة الآن»، إلى حيث لم يذهب أحد سواه لا في سينما «الغانغسترز» (كما حال «العرّابين») ولا في سينما الحرب («القيامة الآن»). بين هذه الأفلام الثلاثة أنجز كذلك «المحادثة»، الذي منح كوبولا سعفته الأولى سنة 1974 بينما منحه «القيامة الآن» سعفته الثانية بعد خمس سنوات.

لحين توجه كوبولا لأفلام صغيرة مثل «The Outsiders وRumble Fish» (كلاهما سنة 1983)، ومن ثمّ عاد للسينما المتوّجة بغطاء إنتاجي كبير عبر «The Cotton Club وPeggy Sue Got Married».

خلال ذلك أخرج أفلاماً بديعة بعضها لم يقدّر جيداً حينها مثل «نادي القطن»، الذي كان من المفترض به أن يكون البلورة المنفردة بدوره في سينما «الميوزيكالز»، ومثل «واحد من القلب» الذي تمتع بدراما رومانسية ممتازة. أفلام كوبولا في الثمانينات ضمّت، وبصرف النظر عن مستوى نجاحاتها التجارية أفلاماً أخرى رائعة وهادفة أخرى مثل «ucker: The Man and His Drem وGarden of Stone» قبل أن يذعن لضغط شركة «باراماونت» وينجز فيلماً ثالثاً من سلسلة «العرّاب» في عام 1990.

منتج أفلام «العرّاب» الثلاثة، آل رودي (الذي رحل قبل يومين عن 92 سنة) قال لي قبل عدة سنوات: «كل واحد كان يريد من كوبولا أن يعود إلى «العراب» وأنا أحدهم. لكن كوبولا كان يمانع. لم يجد في نفسه الرغبة إلا بعد أن طاردناه طويلاً لأجل القيام بهذه المهمّـة».

أضاف رودي متذكراً: «كوبولا كان دخيلاً على هوليوود في مطلع السبعينات عندما أخرج «العراب». اعتقدت شركة «باراماونت» أن كوبولا كونه جديداً على هوليوود سيستسلم لرغباتها، لكنه كان عنيداً لأنه كان يدرك أنه إذا تنازل خسر الفيلم.

الخلافات التي نشبت بينه وبين «باراماونت» التي انتخبته لتحويل رواية ماريو بوزو الشهيرة عن المافيا الإيطالية في نيويورك شملت تضارب آراء حادة في اختياراته للممثلين.

«باراماونت» لم ترغب في ضم آل باتشينو لأنها لم تجده نجماً يُعتمد عليه، ولم تعتقد أن جيمس كان مناسباً، وكانت حذرة من استخدام مارلون براندو بعدما أشيع عنه تسببه في مناوشات بينه وبين مخرجي أفلامه قبل ذلك.

كذلك واجهت «باراماونت» سيلاً من رسائل التحذير والتهديد من قبل المافيا (عبر هيئات مرخّصة تحت لواء جمعيات خيرية)، التي طلبت عدم البدء بالتصوير. للغاية قابل المنتج آل رودي زعيم المافيا جوزيف كولومبو، وأكد له أن اسم «المافيا» لن يأتي ذكره في الفيلم، ومنحه فرصة الاطلاع على السيناريو والإشارة إلى المواضع التي لا تعجبه.

لعل «العرّاب» في أجزائه الثلاثة يبدو العمل الأكثر إثارة للإعجاب والتقدير، لكن أفلام كوبولا الأخرى كلها تستحق هذا التقدير بما فيها تلك الأفلام المستقلّة التي عاد إليها في التسعينات والعقد الأول من القرن الحالي.

«ميغالوبوليس» هو تذكير وإشادة بتاريخ كوبولا الرائع. خطأ لجنة تحكيم «كان» هو أنهم منفصلون تماماً عن مفهوم الأعمال التي تتطلب احترافاً ومضامين أكبر حجماً مما تطرحه الأفلام الأخرى بما فيها «أنورا»، الذي لا يعدو سوى فيلم تسلية خفيف المحتوى والمعالجة.

 

####

 

شاشة الناقد: من أفلام «كان»

لندنمحمد رُضا

رفعت عيني للسما ★★★☆

* إخراج: أيمن الأمير وندى رياض.

* النوع: تسجيلي عن فرقة مسرحية.

* مصر | فرنسا (2024)

فيلم رقيق المعالجة عن فتيات شابات يسعَين لشقّ طريقهن الفني مدركات العوائق المتعددة التي تحيط بهن. ليس من بينهن من لديها سبيل مؤكد لتحقيق حلمها. إحداهن تتمنى أن تدرس الدراما، وأخرى تتحدّث عن رغبتها في أن تصبح مغنية مشهورة. لكننا نسمع من يندد، كذلك الذي يقول إنه سيحرق ابنته لو فكّرت في الفن، أو ذلك الشقيق الذي يسخر من أن تواصل شقيقته تعليمها لأنها في نهاية المطاف ستتزوّج وتبقى في البيت.

الفيلم رقيق المعالجة لا يتجنب تماماً الاعتماد على معالجة تقليدية، لكنه يتّسع لطرح الآمال المحقّة والواقع الصّعب. التمثيل والغناء وفن الرقص مواهب تصبح هنا موازية للأحلام، والواقع موازياً للمستحيل.

فاز الفيلم بجدارة بجائزة «غولدن آي» في مهرجان «كان» الأخير. تطلّب العمل عليه ست سنوات منها سنتان للبحث والتحضير وأربع سنوات للتصوير.

* عروض: مهرجان «كان» (قسم «أسبوع النقاد»).

 

FLOW ★★★☆

* إخراج: جينتس زلبالوديس

* النوع: رسوم متحركة.

* لاتفيا | فرنسا (2024)

هناك أمور كثيرة جداً يمكن تقديرها في هذا الفيلم، من بينها أنه ليس عن حيوانات ناطقة، فالفيلم بلا حوار وغير معني بتقليد إنتاجات «ديزني» في هذا الصدد. البطولة لقطّة رمادية اللون وبعينين واسعتين تزدادان اتساعاً كلّما واجهتا خطراً غير محسوب. وهناك مخاطر عديدة. تعيش وحيوانات أخرى في عالم ما بعد الدمار الشّامل وتتعرض لكلاب شاردة تطاردها، وفيضان كبير، وسلسلة من المواقف المفروضة عليها في عالم خارج من رحم عالم مضى. عالم الإنسان مضى والكلام مضى معه.

الرسوم سلسة والإيقاع غير مستعجل ولو أن الفيلم يبقى مشوّقاً ولا يعمد إلى تفعيلات استعراضية رخيصة أو سهلة. وهو ثرى بالصورة. وكل ما فيه يعيش ويتحرك كما لو كان مصوّراً بكاميرا حيّة. الثراء نفسه ينتقل إلى مشاهد الماء وتحت سطحها ما يجعل الفيلم فعلاً مترابطاً بجودة ما يعرضه وجودة ما يوفره من مضامين (معنى الصداقة وقيمة التواصل بين الأحياء، الخ...) كما جودة رسومه وخامته الفنية الممتازة.

* عروض: مهرجان «كان» (قسم «نصف شهر المخرجين»).

 

FAYE ★★★

* إخراج: لوران بوزيريو

* النوع: تسجيلي/ بيوغرافي

* الولايات المتحدة (2024)

من شاهد «بوني وكلايد» سنة 1967 تعلّق ببطليه وارن بيتي وفاي دوناوي. الأول كان نجماً معروفاً ومحبوباً. الثانية كانت جديدة، إلّا من بعض الأدوار المسرحية والسينمائية القصيرة. لكن بَيتي هو الذي أصر عليها رغم كثرة الممثلات اللواتي أردن مشاركته بطولة ذلك الفيلم العصاباتي العاصف.

يصنّف فيلم «فاي»، الذي يدور حول هذه الممثلة المتميّزة بجمالها وقدرتها على أن تعكس الألم الذي في داخلها. حسب هذا الفيلم، هذا الألم ناتج عن آلامها الشخصية. لم تكن سعيدة في حياتها وهي صغيرة، ولا عندما أصبحت شابّة ولا بعد ذلك عندما حققت أمنيّتها في التحوّل إلى التمثيل. المشهد الصارخ لجاك نيكلسون وهو يصفعها بقوّة وهي تردد «والدي، زوجي، والدي زوجي» يستخلص من داخلها ذلك الألم ممتزجاً بموهبتها الرفيعة في تقمّص الشخصية التي تؤديها.

تعترف دوناوي بأخطائها بوضوح. تتذكر أولئك الذين أغضبتهم والذين أغضبوها. لا زالت (وقد بلغت 38 سنة) تتمتع بروح متمرّدة كتلك التي صاحبتها في معظم أدوارها. بدوره يستند الفيلم إلى مقابلات كثيرة مع ممثلين ومخرجين ونقاد سينما. جرأة الفيلم في عرض ما لها وما عليها نابعة من صراحتها التي خلقت لها بعض العداوات التي أثّرت على مسيرتها لبعض الوقت.

* عروض: مهرجان «كان» (قسم الكلاسيكيات).

ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز

 

الشرق الأوسط في

30.05.2024

 
 
 
 
 

إلى أرض مجهولة”.. فلسطينيان تائهان في أثينا يطلبان زاد الرحلة للمنفى

أمير العمري

على نحو ما، فمصير الفلسطينيين ليس أن ينتهوا حيث بدؤوا، بل في مكان آخر غير متوقع وبعيد جدا”.

هذه هي كلمات الكاتب الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد التي تظهر على الشاشة في بداية فيلم “إلى أرض مجهولة”، وهو فيلم واضح ومباشر في تعبيره عن الغضب، وعن العذاب والاحتجاج، وعن القسوة والرقة والتضامن الإنساني، والسعي المستحيل للعثور على الأمان.

إنه يروي قصة معاصرة تمس القلوب، لا سيما في ظل الحرب التي تشنها الآلة العسكرية الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر، لكنها ليست قصة مقصودة لإثارة المشاعر الجياشة، بل لدفعك إلى التفكير في “المأزق الإنساني” للفلسطيني الذي كتب عليه أن يسير خارج وطنه، لا يعرف أين سيذهب غدا، وعندما يغادر مكانا يجد نفسه حبيسا في مكان آخر، في “المنفى” الذي لا يبدو أن له نهاية.

عُرض فيلم “إلى أرض مجهولة” (To a Land Unknown) عرضه العالمي الأول في تظاهرة “نصف شهر المخرجين” بالدورة الـ77 لمهرجان كان السينمائي، وهو أول فيلم روائي طويل للمخرج الفلسطيني مهدي فليفل الذي يعيش في الدنمارك، وكان قد أخرج قبله 7 أفلام قصيرة.

تدور أحداث الفيلم في مدينة أثينا، وقد تقاسم دور البطولة فيه الممثلان محمود بكري وأرام صبّاح، أما السيناريو فقد اشترك في كتابته مهدي فليفل مع “جيسون ماكولغان” والمخرج المغربي فيصل بوليفة صاحب فيلم “الملعونون لا يبكون” (The Damned Don’t Cry).

مهجر أثينا المؤقت.. بحث عن المال لإكمال الرحلة

يروي الفيلم قصة شابين فلسطينيين في العشرينيات من عمرهما، وهما شاتيلا ورضا اللذان لم يعودا قادرين على تحمل عذاب العيش بمخيم اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، حيث يحظر عليهما الانتقال والعمل والتحرك وبناء حياة، فيغادران لبنان إلى العاصمة اليونانية أثينا، وهناك تدور أحداث الفيلم.

ليست أثينا هي المقصد، ولا يشعران بالراحة أو الاستقرار، وإنما هي محطة في الطريق إلى الحلم الأكبر، ألمانيا. ولكن كيف يجدان وسيلة للسفر إلى ألمانيا وقد جاءا متسللين، ليست لديهما جوازات سفر ولا تأشيرات، ناهيك عن حاجتهما الماسة إلى المال لتغطية تكاليف تزوير جوازات السفر، وشراء بطاقات السفر بالطائرة.

لا يرى شاتيلا (الممثل محمود بكري) وابن عمه رضا (الممثل أرام صبّاح) شيئا من أثينا التي يقصدها ملايين السياح، بل يعيشان مستترين فيما يشبه “الغيتو” الفلسطيني، يحاولان تدبر أمرهما والعثور بأي طريقة على بعض المال، لكي يدفعا للمزور المحترف مروان (الممثل منذر رياحنة) المبلغ الكبير الذي يطلبه، مقابل تزوير جوازي سفر لهما.

لذلك نراهما من أول مشهد في الفيلم يحتالان لسرقة حقيبة يد من امرأة يونانية مسنة في الحديقة العامة وسط أثينا، لكن ما يجدانه فيها لا يكفي ثمنا لوجبة عشاء.

فما هو ذلك الحلم الذي يدفعهما للذهاب إلى ألمانيا، وهي أكثر البلدان تشددا في معاملة الفلسطينيين كما أثبتت الأحداث الحديثة؟ ربما لأنها أكثر ليونة من غيرها في قبول اللاجئين.

شاتيلا ورضا.. علاقة العقل المدبر والمدمن الساذج

شاتيلا هو العقل المدبر للعملية، وقد سُمي على المخيم الشهير الذي شهد المذبحة في لبنان عام 1982، وهو الذي يخطط ويدبر ويفكر ويدفع الأمور، لكنه لا يتمكن دائما من السيطرة عليها، بل كثيرا ما يفشل فيما اعتزمه، لا سيما أن رضا من النوع الضعيف الهش، فلديه قلب إنساني يجعله عرضة للخسارة باستمرار، حتى عندما يبدو أنه قد حقق شيئا.

يستر رضا شعوره بالهوان والعجز والاكتئاب عن طريق تعاطي المخدرات، وهذا الإدمان -الذي يحاول شاتيلا أن يدفعه إلى الإقلاع عنه- يجعله لا يتورع عن السطو على المدخرات القليلة التي يخبئها شاتيلا في مخبأ أمين، لشراء المخدر الذي يفقده وعيه.

ومع أن رضا يوقع شاتيلا في مآزق كثيرة، بسبب طيبة قلبه وسذاجته وتعاطفه مع الآخرين من دون حسابات، فإنه يغفر دائما لزميله وصديقه الوحيد الذي يحبه ويثق فيه، بل يبدو أيضا أنه قد أصبح مسؤولا عنه، فهو الذي أغواه بالرحيل معه.

وكان شاتيلا قد ترك خلفه زوجته نبيلة وابنه الصغير الذي لا يتجاوز عمره 3 سنوات، وحلمه أن يفتتح مقهى ومطعما صغيرا في برلين في الحي الذي يقطنه العرب، ثم يأتي بزوجته نبيلة لطهي الأطعمة، فهو يصفها بأنها طاهية ماهرة، أما رضا فسيصبح مسؤولا عن تقديم المشروبات وخدمة الزبائن.

توازن الشخصيتين.. سيناريو يلعب على الحبال النفسية

يحقق السيناريو توازنا بديعا بين الشخصيتين، ويلعب على ثنائية الخوف والتحدي، والتردد والإقدام، والشعور المسيطر بالأمل مع الشك واليأس الذي يدفع إلى ارتكاب جرائم صغيرة لا مفر منها. كما لا يجعل الشخصيات أحادية الجانب، فهناك الجانب الشرير والجانب الخيّر، ولكن كلما أوغلا في الشعور بوطأة مأزقهما الإنساني، تدنى السلوك كما سنرى.

في لحظة ما يقول شاتيلا لرضا إن عومل الناس معاملة الحيوانات فسيأتي وقت يأكل فيه بعضهم بعضا.  وربما تنطبق هذه المقولة على غالبية الشخصيات التي يصورها هذا الفيلم، بعيدا عن صورة الضحية المعتادة في أفلام التعاطف العاطفي المسبق.

لا يتورع رضا مثلا عن الذهاب إلى الحديقة في أثينا ليلا، حيث يتردد الشواذ، كي يبيع قدرته الجنسية مقابل قليل من المال، ومع أن شاتيلا يستنكر ذلك فإنه لا يردعه، كما أن رضا يسرق أحذية من محل، ويفترض أن ثمن الحذاء لا يقل عن 200 يورو، ولكنه يقبل ببيعه مقابل 20 يورو فقط لرجل فلسطيني آخر جشع من مجموعة فلسطينيين اتخذوا مأوى داخل منزل مهجور، وهو نفس المكان الذي يؤوي شاتيلا ورضا.

تاتيانا” ومالك.. فرصة سانحة لجني بعض المال

هناك طفل يلفت انتباه رضا وشاتيلا في الحديقة، وهو يدعى مالك (13 سنة)، وسيتضح أنه فلسطيني من غزة، أصبح وحيدا تماما في أثينا، وهو الآن لا يجد مكانا يأويه، بعد أن تخلى عنه المهرب الذي جاء به، وكان يفترض أن يوصله إلى عمته في إيطاليا.

يشعر رضا بالتعاطف مع الطفل مالك ويريد أن يساعده، أما شاتيلا فيبدو مترددا، ففي البداية يصرفه بعيدا، ولكنه يعود إليه، فيرق له قلبه، ويوافق على أن يقيم معهما لبعض الوقت.

يلتقي شاتيلا بامرأة تدعى “تاتيانا”، وهي يونانية وحيدة ضائعة ذات جمال زائل، تغرق نفسها في الخمر كل ليلة، فتنجذب إليه وترثي لحاله، ولكنها في البداية لا تأنس إليه تماما، فهي تتشكك في نياته، ولكنه سرعان ما يجدها فرصة، إذ يمكنه أن يقنعها بالسفر مع مالك إلى روما بادعاء أنها أمه، مقابل أن تتقاسم معه مبلغ الـ4 آلاف يورو التي تعرضها عمة الطفل، وتشترط أن يكون الدفع بعد وصول مالك إلى إيطاليا.

بيع الوهم للاجئين السوريين.. ثقة في غير محلها

يريد شاتيلا انتهاز أي فرصة لجني بعض المال، حتى يدفع مستحقات استخراج جوازي السفر المزورين، ولذلك تتسع شهيته وتنفتح على استغلال أزمة 3 من اللاجئين السوريين، ممن قاسَوا الأمرّين للفرار من سورية، والآن سيصبحون ضحايا نتيجة سذاجتهم وطيبة قلبهم وثقتهم به، فيستولي على ما معهم من مال بالتعاون مع المزور مروان، وذلك بدعوى أنه وشركاءه سيهرّبونهم إلى إيطاليا.

فكيف ستنتهي هذه القصة المتشابكة الأطراف؟ وهل يتحقق حلم الشابين بالوصول إلى الجنة المنشودة في ألمانيا؟ كيف ستسير الأمور مع “تاتيانا” ومالك، ثم مع السوريين الثلاثة؟ وكيف سيجرّ التدني إلى تدنٍ أكثر وأكثر وسقوط في الجريمة؛ الخطف والاحتجاز وممارسة التعذيب؟

لن نعرف كثيرا ما حدث لمالك و”تاتيانا”. فهل وصلا إلى إيطاليا، وإن كانا قد وصلا فلماذا لم ترجع “تاتيانا”، ولماذا أغلقت عمة مالك هاتفها ولم تعد ترد على اتصالات شاتيلا، هل تراجعت عن دفع المبلغ المطلوب بعد أن وصل إليها مالك؟ أم أن الشرطة قبضت على “تاتيانا” ومالك؟

أسلوب الإثارة والتشويق.. تحول مسار الفيلم في الثلث الأخير

تبقى كل التساؤلات مفتوحة لا إجابة لها، فهي جزء من المحنة الفلسطينية، المأزق المستمر الذي لا فرار منه، وقد يأتي الموت قبل الأوان، في الغربة، فقد كتب على الفلسطيني- كما يقول إدوارد سعيد- أن يموت خارج أرضه. ما هو واضح أن شاتيلا ورضا لن يعودا أبدا إلى أرضهما، وسينتهي الفيلم في أثينا التي تبدو سجنا كبيرا.

في الثلث الأخير من الفيلم، يتغير الأسلوب مع تعقد السرد عند محاولة إيهام اللاجئين السوريين بتهريبهم ثم احتجازهم والتنكيل بهم لانتزاع كلمة السر التي تفتح هواتفهم، ويتجه الفيلم نحو أسلوب الإثارة والتشويق، ثم يكتسي أيضا بلمسة ميلودرامية، وصولا إلى نهاية مأساوية تذكرنا بنهاية فيلم “المخدوعون” لتوفيق صالح، ولكن من دون أن يفقد الفيلم طابعه الإنساني المؤثر.

يتحدث رضا مع زملائه في المأوى، فيقول إنه أنهى دراسته الثانوية، ثم يقرأ عليهم مقطعا من إحدى قصائد محمود درويش عن التيه الفلسطيني. فيسأله أحدهم: هل أنت كاتبها؟ فيقول: لا بل كتبها محمود درويش. ثم يسأله: أتعرف محمود درويش؟ فنسمع همهمة، من غير إجابة!

إلى أرض مجهولة”.. إخراج واقعي وتصوير يغوص في المشاعر

يلتزم أسلوب الإخراج بالواقعية التي اكتسبها مهدي فليفل من تجاربه السابقة في التصوير المباشر بالشوارع، مع إبراز لملامح المكان في وجود الشخصيات دائما، ولا شك أن الفضل في قوة التعبير بالصورة في الفيلم، يعود إلى مدير التصوير اليوناني “ثودوروس ميهولوبولوس”.

يركز التصوير على الوجوه في لقطات قريبة (Close-Up) لإبراز المشاعر والتعبيرات وانعكاس الأحداث على وجوه الأبطال الثلاثة، مع اختيار زوايا تصوير لا تربك عين المتفرج ولا تشتت المنظور، واستخدام الإضاءة ذات المصادر الطبيعية.

يرتفع الفيلم كثيرا بفضل الأداء الممتاز من جانب الممثلين جميعا، لا سيما محمود بكري وآرام صبّاح في الدورين الرئيسيين، مع أداء مميز جدا للممثل الأردني منذر رياحنة في دور مروان، والطفل محمد الصرافة في دور مالك.

وعند تقديمه للفيلم في مهرجان كان، قال المخرج مهدي فليفل إن التصوير بدأ بعد شهر من أحداث السابع من أكتوبر 2023، وانتهى العمل في الفيلم بعد ستة أشهر، للحاق بالعرض في المهرجان. وقد اشتركت في إنتاج الفيلم جهات عدة، في اليونان والدنمارك وبريطانيا وهولندا.

 

الجزيرة الوثائقية في

30.05.2024

 
 
 
 
 

إشادات نقدية عالمية بأول فيلم صومالي في تاريخ كان

البلاد/ مسافات

فيلم The Village Next to Paradise للمخرج مو هاراوي، والذي شهد عرضه العالمي الأول بقسم نظرة ما بمهرجان كان السينمائي السابع والسبعين وهو أول فيلم روائي طويل تم تصويره في الصومال يتم اختياره للمهرجان، حظى بشعبية كبيرة عقب عرضه واجتاح الإنترنت حيث تلقى إشادات واسعة من النقاد في جميع أنحاء العالم مكنته من أن يكون على رأس قائمة الأفلام التي يجب مشاهدتها لجميع عشاق السينما.

وتدور أحداث الفيلم في قرية صومالية عاصفة، يجب على عائلة أُعيد لم شملها حديثًا التنقل بين تطلعاتهم المختلفة والعالم المعقد المحيط بهم. الحب والثقة والمرونة ستدعمهم خلال مسارات حياتهم. إن الحب والثقة والمرونة ستمنحهم القوة خلال مسارات حياتهم، حتى في خضم ويلات الحرب الأهلية والكوارث الطبيعية.

من بين المراجعات والإشادات النقدية المتميزة  التي تلقاها الفيلم هي ما كُتب عن الفيلم من كريستوفر فورلياس لموقع Variety "بدأ المخرج باستكشاف الحياة في البلد الذي تركه وراءه، مستخدمًا السينما لسد الفجوة بين ذكريات وطنه والطريقة التي تصورها العدسات الأوروبية عن  الصومال"

ويقول في مراجعته: "يقاوم المخرج الرغبة في تصوير الصوماليين على أنهم ضحايا لا حول لهم ولا قوة. يهتم هاراوي أكثر بالتحقيق في الروابط الحميمة لوحدته العائلية غير التقليدية ولكن المتماسكة، بينما يستكشف كيف يتحمل الأفراد المسؤولية عن أفعالهم أو يتهربون منها".

كما أشاد فابيان لوميرسيه لموقع Cineuropa بسيناريو هاراوي للفيلم قائلًا "يفرض مو هاراوي حسه الرائع في خلق صورة سينمائية على حكاية مؤثرة ومقتضبة توضح مصائب الشعب الصومالي وقدرته على الصمود"، ويكمل قائلًا: "الفيلم يأخذ وقته ليرسم، من خلال عائلة صغيرة، صورة للصومال حيث الحاضر قاس للغاية، والماضي ثقيل بمن اختفوا، والمستقبل غامض". وسلطت نيكي بوغان من Screendaily الضوء على "محو الأمية البصرية المذهلة" للفيلم بفضل التصوير السينمائي لمصطفى الكاشف.

كتبت عنه ليلى لطيف لموقع IndieWire تحت عنوان "بداية واعدة": "لقد أظهر العمل الروائي الطويل الأول لهاراوي بعض الإمكانيات المثيرة للغاية بالنسبة له وللقصص والمواهب التي لا تعد ولا تحصى التي تقع داخل حدود الصومال". علاوة على ذلك، وصف الناقد أدهم يوسف من The Film Verdict الفيلم بأنه "مذهل بصريًا ومُروى ببراعة"، بينما أعلن إيوغان لينج من موقع Dmovies ببساطة أنه "دراما مذهلة من الصومال".

ولعل النقد الأكثر ثاقبة جاء من لوفيا جياركي من مجلة هوليوود ريبورتر، التي عقدت أوجه تشابه بين نهج هراوي وأعمال المخرجين المشهورين مثل غابرييل مارتينز ومحمد صالح هارون. وأشادت جياركي "بالوتيرة البطيئة للفيلم والتركيز اللطيف على عائلة واحدة" وكذلك كيف "يبني الفيلم حول صراع جيوسياسي أوسع".

الفيلم من تأليف وإخراج مو هاراوي وهو أول فيلم روائي طويل له ويضم مجموعة من الممثلين الصوماليين الناشئين، بما في ذلك أحمد علي فرح، وأحمد محمود صليبان، وعناب أحمد إبراهيم. عملت على مونتاج الفيلم المونتيرة الأسترالية الشهيرة جوانا سكرينزيوقامت بتصميم الإنتاج نور عبد القادر.

الفيلم إنتاج دولي مشترك بين شركة فيلم فرايبيوتر في النمسا، وشركة مامال فى الصومال، وشركة كازاك للإنتاج في فرنسا، ونيكو فيلم في ألمانيا. مع شركة Totem للأفلام التي تتولى المبيعات الدولية وشركة Jour2Fête التي تتولى التوزيع الدولي، بينما تتولى MADDistribution التابعة لـ MAD Solutions مهام التوزيع في العالم العربي.

الفيلم أيضًا من تصوير مصطفى الكاشف الذي يُعد ثاني الأفلام الروائية الطويلة له بعد فيلم 19 ب للمخرج أحمد عبد الله السيد والذي شهد عرضه العالمي الأول في الدورة 44 من مهرجان القاهرة السينمائي حيث شارك في المسابقة الرسمية وفاز بثلاث جوائز، منها جائزة هنري بركات لأفضل إسهام فني في التصوير السينمائي، وعاد إلى مهرجان كان السينمائي هذا العام بعد أن أسر فيلمه القصير "عيسى" جمهور المهرجان الفرنسي العام الماضي.

فاز مشروع فيلم The Village Next to Paradise بعدد من المنح الإنتاجية من بينها منحة صندوق  السينما العالمية في مهرجان برلين السينمائي، كما فاز مشروع الفيلم بمنحة ما بعد الإنتاج (20 ألف يورو) من ورش أطلس بمهرجان مراكش الدولي للفيلم، وقد عبر الحاضرون عن إعجابهم بالفيلم وأشادوا بشكل خاص بالتصوير السينمائي لمصطفى الكاشف.

 

البلاد البحرينية في

30.05.2024

 
 
 
 
 

شون بايكر من فيلم مصوَّر بالهاتف إلى التكريس هل يستحق "أنورا" الفوز بـ"سعفة" مهرجان كانّ؟

هوفيك حبشيان

في منتصف العقد الماضي، وصل المخرج الأميركي #شون بايكر إلى #مهرجان ساندانس ومعه واحد من أول ال#أفلام الحقيقية التي صُوِّرت بكاميرا هاتف الأيفون. فيلم متواضع عن عاملتي جنس، كان أطلق عليه عنوان "تنجيرين". اليوم، تبدو تلك اللحظة بعيدة، ولو انها قريبة زمنياً. فـ"السعفة" التي نالها قبل أيام في ختام الدورة السابعة والسبعين لمهرجان كانّ ال#سينمائي (14 - 25 أيار) عن فيلمه "أنورا" (المصوَّر بـ35 ملم) كرّست هذا الإحساس، وأغلب الظن انه سيكون هناك ما قبل ذلك الفوز وما بعده عند هذا المخرج الذي يبلغ الـ53 من العمر.

يأتي بايكر من السينما المستقلّة الأميركية التي تألّقت في مرحلة ما، قبل ان تخبو في فترات لاحقة. انها السينما التي تبلورت على هامش مصنع الأحلام ال#هوليوودي، وتعتاش على تصوير ناس وأحداث وأماكن لا تبدو ذات أهمية بالنسبة لأعمال هوليوودية تحظى بملايين الدولارات لأفلمة النسخة الشبه الرسمية للحلم الأميركي مع بعض التعديلات. بايكر في أفلامه العديدة يذهب إلى أبعد من ذلك. يرينا المقلب الآخر لذلك الحلم، من منكوبين ومهمّشين ومتروكين لمصائرهم على قارعة ذلك الحلم. وهذا، تاريخياً، ليس بجديد، لكن هذا ما يحاول ان يفعله بايكر في أحدث أعماله، بنجاح أكيد، مستخدماً أنماط الفيلم الهوليوودي ومفرادته - خصوصاً على مستوى جمعه بين شخصين من طبقتين مختلفتين ما كانا ليلتقيا في ظروف اعتيادية، قبل ان يحلّق بعيداً من تلك الأنماط، في النصف الثاني للفيلم.

انطلق بايكر من رغبة في نقل قصّة ساندريللا إلى أميركا الحالية، بتحديثها، ليرى ما يمكن ان ينتج منها. تخيّل بايكر كلّ شيء، لكن خياله متأصّل في واقع وفي زمن مضطرب تتردد أصداؤه من بعيد. يحملنا إلى واقع فتيات الهوى الذي لا يملك ازاءه أي شفقة بل التعاطف. الفيلم خال من تلك النزعة إلى كشف بؤس هذا الوسط، وهذا يعطيه لوناً آخر. هذا الواقع سيبقى في الخلفية، لكنه حاضر بامتداداته ودلالاته. صحيح أن بايكر ينطلق من حكاية ساندريللا التي تروي قصّة فتاة تلتقي فارس الأحلام، لكنه سينتهي بأن يقترح بانوراما شاملة للعلاقة بين المستضعفين في لحظة لقائهم بالسلطة والمال، وتحديد موقعهم من هذا كله.

يبدأ "أنورا" بلقاء بين متعرية اسمها أنورا (ميكي ماديسون) تعمل أيضاً كـ"إسكورت"، وإيفان، ابن أحد الأوليغارشيين الروس (مارك أيدلشتاين). هذه العلاقة التي كان من المفترض ان تكون عابرة لكونها قائمة على تبادل الخدمات (المتعة مقابل المال)، تأخد مساراً مفاجئاً عندما يطلب الشاب يد الفتاة، خلال عطلة صاخبة في فيغاس، الأمر الذي تلبيه الفتاة على الفور، نظراً لفائدته المادية. تطمح أنورا الى تسلّق السلم الاجتماعي، والافلات من الظرف الاقتصادي الذي تعيش فيه ويجعلها "تبيع" جسدها. لكن لا شيء من الذي نجده في سيناريو كلاسيكي سيحدث. لن يقع الشاب في فخ فتاة "استغلالية" تراه جيباً. وبعد غضب الوالدين واصرارهما على إلغاء زواج ابنهما غير المسؤول، من خلال تكليف ثلاثة رجال يتولّون تنظيف مخلّفات الشاب الطائش، ستنتقل بنا الأحداث من قصّة نجاح وصعود إلى قصّة خيبة وسقوط، ومن فيلم رومنطيقي إلى فيلم حركة كوميدي، يقول الكثير عن أميركا الحالية، من دون ان يكون قولاً صريحاً بل عبر الإيحاء وأساليب السينما الجماهيرية الذكية اللمّاحة.

يستعير الفيلم من قوالب الفيلم الرومنطيقي، حيث لقاء سريع بين شخصين يحمل الكثير من الوعود، سينقلب بسحر ساحر إلى كابوس، لكن سرعان ما ستتكسَّر تلك القواعد ويتم التلاعب بها، ليجرّنا في إتجاه آخر. لا تصدّقوا النقلة التي ستعيشها أنورا من أحياء نيويورك الوضيعة إلى القصور. انه سراب في أحسن حالاته، وضرب من ضروب المال والسلطة ومن وضعوا أنفسهم في خدمتهما في أسوأها. أمام أول مشكلة، سيهرب فارس الأحلام، تاركاً الحصان خلفه.

كنّا فقط نتمنّى ان نتعمّق أكثر في أهل الفتى، لكن هنا أيضاً يختار بايكر اختزال التفاصيل إلى حدّها الأدنى. ضحكة من الأب وتحديقة من الأم… لا نحتاج إلى أكثر من هذا في فيلم، أبطاله كلهم سواسية أمام كاميرا المخرج. سواء أكانوا فقراء أم أغنياء، أو كان في داخلهم خير أم يقتاتون على الشر. وهذا ينسحب حتى على إيفان وأنورا. الأشياء هنا تمر عبر المسكوت عنه، وهذا ما يجعله عملاً معتبراً. بالنظرات الصامتة، باللمسات القصيرة، بالاعجاب الذي يتبدّد، بالبغض الذي يتحول إلى تسامح عندما يدرك شخصان انهما لا يملكان الا أحدهما الآخر، أقله في تلك اللحظة. هذا ما يُخرج الفيلم عمّا هو مستهلك ومكرور، رغم ان المعالجة تقليدية وصورة الفيلم لا تشكّل ثورة بصرية.

مهما عدّدنا مزايا الفيلم على المستوى السينمائي، فإن ما يتميز به هو الصدق الذي ينبع منه، خصوصاً في التعامل مع الشخصيات وفي مقدّمها أنورا التي يحمل الفيلم اسمها. هذه النزاهة تستحق وقفة، لعلها هي التي أغوت أعضاء لجنة التحكيم، بالإضافة إلى ان الفيلم ينتمي إلى السينما القريبة من تلك التي ارتبطت بها رئيستها غريتا غرويغ. بعض الأفلام تأتي على المهرجانات برياح منعشة، لانتشالنا من الرتابة والتكرار، وهذا ما كان عليه "أنورا" الذي عُرض في منتصف المهرجان وكانت له أصداء إيجابية على الفور. حتى الذين لم يُغرموا به، لم يكرهوه بل أثنوا على جوانبه التي تثير المتعة.

هل سيكون فوزه انطلاقة جديدة للسينما المستقلّة الأميركية؟ هذا ما يأمله كثر. أما السؤال الذي يدور حول ما اذا كان يستحق "السعفة"؟ فالجواب: بلى، يستحقّها بجدارة، جنباً إلى جنب مع الفيلم الهندي، "كلّ ما نتخيله كضوء"، وفقط في حالة واحدة: لو تم عزل "ميغالوبوليس" لكوبولا واعتباره فوق المسابقة.

 

النهار اللبنانية في

31.05.2024

 
 
 
 
 

«بارتينوبيه».. رحلة نابوليتانية للجمال والزمن

حسام فهمي

لو أن هناك سينمائي واحد يمكن وصف سينماه بأنها تحتفي بالجمال، فسيكون الإيطالي “باولو سورنتينو”، المتوج بالأوسكار عن “الجمال العظيم” `The great beauty في 2013 والذي عاد لمهرجان كان هذا العام بفيلم “بارتينوبيه” Parthenope الذي عُرِض ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان

بارتينوبيهيقتبس اسمه من أسطورة شهيرة، عن حورية تنهي حياتها غرقاً بسبب فشلها في سحر “أوديسيوس” بأغانيها. تنتحر جميلة الأسطورة حينما تجد أن جمالها لم يعد ساحراً، أما الفيلم فينقل لنا رحلة امرأة من مدينة نابولي التي حملت قديما اسم تلك الحورية، ونرى حيرة البطلة التي تحمل الاسم نفسه بين جمالها الساحر ورغبتها في أن تُرَى لذكائها وليس فقط لأنوثتها

كيف تصلح حكاية “بارتينوبيه” كصورة معاصرة عن الأسطورة؟ وكيف يمكننا قراءة فيلم سورنتينو الأول الذي يدور عن رحلة “إمرأة”؟ 

يختار سورنتينو لحكايته بطلة شابة تقوم بدورها الإيطالية “سيليستي ديلا بورتا”، تملك بارتينوبيه/ سيليستي جمال ساحر لكنه أيضا غير تقليدي بمقاييس الجمال الغربية، تبتعد بارثينوبي عن معايير جمال الشماليين، فلا تملك شعرا أشقر أو عيونا زرقاء، لكنها تمتلك جمال جنوبي بامتياز، شعر وعيون داكنة وجسد تعود على أشعة الشمس على شاطئ البحر المتوسط

يتتبع فيلم سورنتينو هذه الفتاة الجميلة التي تحمل اسم يربطها بشكل حرفي بمدينتها “نابولي” منذ ميلادها داخل البحر، وكأنها عُمِّدت لتغدو حورية البحر في عصرنا، ثم مراهقتها وشبابها قبل أن نراها سريعا قبيل نهاية الفيلم وهي في فترة الكهولة

يستكشف سورنتينو من خلال السرد عن طريق الصورة جمال بارتينوبيه الذي يكتمل شيئاً فشيئاً، وتدركه هي شخصيا مع مرور الوقت، جمال يزيد إشراقا في المشاهد الخارجية التي تظهر فيها “بارتينوبيه” وسط طبيعة نابولي الساحرة، وكأن كلا منهما يزيد من جمال الأخر

يستمر سورنتينو في الفصل الأول من الفيلم في التحرك في بيئة يعرفها جيدا وتصبح مألوفة لكل محبي سينماه، مشاهد بين البحر، منزل إجازة الصيف مع العائلة والأصدقاء، الاستمتاع بالأكل الإيطالي سويا والسخرية على هامش الأحداث، لكن شخصيته الرئيسية النسوية هنا تنقل السخرية لبعد جديد في سينماه

فبطلتنا “بارتينوبيه” تعتمد في رحلتها على صفة شخصية مميزة للغاية؛ أنها تستطيع دائماً الرد بتعليق سريع ساخر على من يناقشها، تثبت “بارتينوبيه” من خلال ذلك ذكاءها، لنفسها أولا قبل الآخرين، يبدو الأمر هاما للغاية لها، لأنها تريد أن يراها الناس ذكية قبل أن تكون جميلة

سعيها نحو انتزاع الاعتراف بسحر ذكائها لا جمالها يجعلها تتورط في صداقة مضطربة مع الروائي “جون شيفر” الذي يقوم بدوره بمسرحية شديدة “جاري أولدمان” لتثبت لنفسها أنها تستطيع الحديث مع الأذكياء، وتبكي بحرقة بعد أن يصارحها رجل خابت آماله فيها بعد أن رفضت حبه بأنها ليست ذكية كما تعتقد

تتحول “بارتينوبيه” مع مرور الزمن لنوع آخر من الذكاء، حينما تدرك أن جمالها أحد أدواتها التي يمكن أن تستخدمها، فتتلاعب بمن حولها من خلاله، ليصبح هذا هو وسيلتها لتثبت ذكاءها

في الفصل الأخير من الحكاية يرسم “سورنتينو” علاقة صداقة صادقة تنشأ بين “بارتينوبيه” وأستاذها في الجامعة، علاقة لا يراها فيها الأستاذ كجسد جميل أو 

أنثي يشتهيها، ولكن كابنة ذكية، ومعه تتحول “بارتينوبيه” لشخص أخر

في “بارتينوبيه” يقدم سورنتينو رسالة حب جديدة لنابولي، تبدو كما لو كانت جزءًا ثانيًا من فيلمه السابق “يد الله” The hand of God. لكنها هنا تستمر كموسيقى خلفية لحكاية فتاة جميلة تستكشف أنوثتها وذكاءها، رسالة حب تخبرنا أن العلاقة بالوطن يختلط فيها الحب والكره، الرغبة في البقاء والتوق إلى الرحيل ثم الشوق إلى العودة. تعيش “بارتينوبيه” أجمل سنينها في “نابولي”، ترحل عنها للشمال حيث ما يعتبره كثيرون مكان تتاح فيه جودة حياة أفضل وأموال أكثر، هناك حيث يسخر الجميع من الجنوبيين، تجد نفسها شخصًا آخر

ينتهي الفيلم بجماهير فريق نابولي لكرة القدم وهي تغني، النادي الذي فاز بالدوري الإيطالي في العام الماضي للمرة الأولى منذ أيام مارادونا في الثمانينيات، رغم الغياب لعشرات السنين عن منصة التتويج، لا تزال جماهير نابولي عاشقة لفريقها، يتحدثون عن جمال لا يراه أحد سواهم، هكذا هي علاقة سورنتينو بمدينته

في الأسطورة تفضل “بارتينوبيه” الحورية الجميلة الموت على أن يرفض “أوديسيوس” سحرها، لكن في فيلم “سورنتينو” تستمر “بارتينوبيه” الإنسانة في الحياة، تختار أن تكمل حياتها كإمرأة ذكية ومثقفة تدرس الأنثربولوجي، وتستمر جماهير نابولي في رؤية جمالها حينما تعود، حتى بعد مرور الزمن، تماما كما يغنون لمدينتهم وفريقها

 

موقع "فاصلة" السعودي في

31.05.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004