ملفات خاصة

 
 
 

المطبخ” الفيلم الأكثر طموحا في مسابقة مهرجان برلين

أمير العمري- برلين

برلين السينمائي

الدورة الرابعة والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

كان الفيلم المكسيكي “المطبخ” La Cosina للمخرج ألونسو ررويزبلاثيوس، هو الفيلم الأكثر طموحا- في رأيي الشخصي- من بين غالبية أفلام مسابقة الدورة الـ74 من مهرجان برلين السينمائي. ولا ينتقص من ذلك عدم حصوله على أي جائزة من جوائز لجنة التحكيم التي تخضع لاعتبارات كثيرة ليس من بينها دائما الفن الرفيع!  

إنه الفيلم الذي لا يكتفي برواية قصة مثيرة، تحمل من التراجيديا كما تحمل من الكوميديا، بل يحاول مخرجه التلاعب بالشكل السينمائي، لكي يعكس المزاج النفسي العبثي السائد، وأجواء الإحباط التي تحيط بالشخصيات المتعددة التي نراها، والانهيار الفادح لفكرة “الحلم الأمريكي”.

لدينا هنا كاميرا تتحرك حركات دائرية طويلة ممتدة داخل فضاء محدود، هو عبارة عن مطبخ كبير لأحد مطاعم نيويورك، وهذا المكان بتفاصيله الكثيرة المعقدة، يفترض أن يحد من حرية الحركة، لكن الكاميرا تتحدى المكان، كما يتمكن المخرج الموهوب، من التحكم في حركة وإيقاع العدد الكبير من الممثلين داخل هذا المكان المحدود بحيث لا يستطيع المشاهد أن يدير بصره لثانية واحدة بعيدا عن الصورة.

سيناريو الفيلم الذي كتبه المخرج نفسه، قائم على مسرحية “المطبخ” (1957) للكاتب البريطاني أرنولد ويسكر. ولكن المخرج وكاتب السيناريو المكسيكي، نقل أحداثها من لندن- الخمسينات إلى نيويورك الزمن الحالي، كما أضاف الكثير من واقع تجربته الشخصية الحقيقية في العمل في شبابه “نادلا” في أحد مطاعم لندن عندما كان يدرس الدراما هناك، وقد خبر الحركة داخل المطبخ، واقترب كثيرا من الشخصيات التي تمارس العمل في أدوارها المختلفة، وعرف كيفية التحكم في إدارة المكان، واختزن في ذاكرته الكثير من التفاصيل، واستدعاها وهو يكتب فيلمه الرابع وأول أفلامه الناطقة باللغة الإنجليزية.

 ورغم الأصل المسرحي، ورغم محدودية المكان، إلا أن الفيلم يتخلص تماما من الطابع المسرحي، ويتمتع بالكثير من الحيوية من الناحية السينمائية، وخصوصا استخدامه الكاميرا، والانتقال المدهش من خلال المونتاج، بين اللقطات الكبيرة للوجوه إلى اللقطات الأكثر عمومية داخل المكان، مع الكثير من اللحظات الرومانسية التي تقطع أجواء التوتر داخل ما يبدو كأجواء المصانع التي يعمل فيها العمال بطريقة الإنتاج بالقطعة.

الفيلم مصور بالأبيض والأسود لتكثيف الإيهام بالواقع، ولكن مع لقطات محدودة قصيرة بالألوان لإعطاء تأثير عاطفي معين، وكثيرا ما يتخذ الإخراج أسلوب الفيلم التسجيلي في متابعة التسجيل الحرفي لعمل الطهاة والسقاة وغيرهم داخل المطعم، وكيف يتحركون ويتحدثون ويحملون الصواني والأطباق ويتعاملون مع الزبائن ويتحملون ضغوطهم وإهاناتهم أيضا، كما يتحملون ما يمارس عليهم من قهر من قبل المشرف عليهم الذي يعتبر سوط صاحب المطعم.

تنقلب أجواء المرح والسخرية في ساعة الراحة وما يدور بين العمال من مزاح ومقالب ومشاجرات خفيفة مرحة أيضا، إلى الصرامة والصدام والغضب. أبطال الفيلم هم خدم المطعم الذي يطلق عليه The Grill أي “الشواء”، وهو قابع في أحد أركان شوارع “تايمز سكواير” في نيويورك.

في البداية نرى فتاة يافعة مكسيكية تدعى “إستيلا” (آنا دياز)، من الواضح أنها وصلت لتوها من المكسيك، لا تعرف اللغة الإنجليزية، وهي تحمل رسالة توصية أعطتها إياها امرأة من بلدتها لابنها بيدرو الذي يعمل في المطعم، لكي يساعدها في الحصول على عمل. وهي تسأل كل من تقابله عن المطعم، وعن “بيدرو” وهو الطباخ الذي سيصبح في قلب الفيلم، وأخيرا تقابل مدير العاملين “لويس” الذي يمنحها عملا رغم أنها تحت السن القانوني.

سنشاهد الأحداث من خلال عيني “إستيلا” لبعض الوقت، قبل أن يتعقد السرد أكثر فأكثر، وتتداخل المصائر والحكايات الفرعية، وتتراجع إستيلا إلى الخلفية. وسيبدأ التوتر بعد اكتشاف صاحب المطعم اختفاء مبلغ مالي من خزانة المطعم. ويتجه الشك نحو بيدرو نفسه، وهو مهاجر مكسيكي، وعده صاحب المطعم (رشيد) كما وعد زملاءه، بتسوية وضعه القانوني، وهو ما لم يحدث، فمن الأفضل عنده الإبقاء على هؤلاء المهاجرين القادمين من أفريقيا السوداء والمغرب والمكسيك وغيرها، في حالة انتظار وقلق لكي يسهل السيطرة عليهم. فعند أي خطأ أو مخالفة للتعليمات، يمكن الاستغناء عنهم وبالتالي يتم ترحيلهم إلى بلادهم فغالبيتهم يعملون من دون إقامة أو تصريح عمل.

لا ينطبق هذا بالطبع على “جوليا” الفتاة الأمريكية البيضاء التي تقوم بتقديم الطعام (تقوم بدورها روني مارا)، وهي ترتبط بعلاقة مع بيدرو، بل وقد أصبحت أيضا حاملا منه، ولكنها لا تريد الاحتفاظ بالجنين فهي لا تشعر بإمكانية استمرار العلاقة نتيجة التعقيدات والفواصل التي تفصل بينهما، إلا أنها لا تعبر عن هذا صراحة، بل تظل العلاقة بينهما تتأرجح بين الإقبال والابتعاد، أما بيدرو فيكاد يجن جنونه بالطبع. وسوف يتسبب توتره وما يقع عليه من ضغوط نفسية بالإضافة إلى اتهامه بسرقة المال، في نوع من الانفجار العنيف الذي يطيح بـ”المطبخ” ويدمره تدميرا في النهاية.

إننا أمام فيلم عن المهاجرين الذين جاءوا إلى أمريكا بشكل غير قانوني، مدفوعين بالحلم الأمريكي، ليجدوا أنهم أمام آلة رأسمالية مفترسة، تستغلهم، أسوأ استغلال وتقسو عليهم، وفي المشهد الأخير عندما يقف رشيد صاحب المطعم، يسألهم جميعا لماذا هم غير راضين، رغم أنه يوفر لهم العمل والطعام والحماية؟ يتطلعون إليه ويصمتون جميعا. إنه صادق فيما يقوله، فهو لا يفهم ماذا يريدون أكثر من هذا، لكنهم صامتون لأنهم فقدوا حلمهم بالتحقق وظلوا يعملون في “القاع” حرفيا.

يجسد الفيلم “الفوارق”، بين العمال وأصحاب العمل، وبين العمال الأجانب المهاجرين الملونين، والعمال الأمريكيين البيض، وفي أجواء كهذه تبرز فيها الفوارق، ليس من الممكن أن تستمر العلاقة بين بيدرو وجوليا، أو تكلل بالنجاح. ولكن “المطبخ” ليس كأي فيلم آخر عن المهاجرين، فمخرجه لا يتعامل مع موضوعه بالشكل المباشر المألوف في الأفلام المماثلة لأفلام الواقعية الجديدة. ويترك المجال لكثير من التلقائية بل وبعض الارتجال في الحوار.

مذهبيا يمكن القول إن الفيلم ينتمي إلى الواقعية الاجتماعية، مع استخدام الرمز، والكثير من الشعر في صياغة المشاهد الغرامية بين بيدرو وجوليا، واستخدام المرايا والموسيقى وخصوصا موسيقى الجاز.

هناك الكثير من المشاهد التي تعكس حالة هؤلاء العاملين في المطعم واغترابهم عن واقعهم بفعل الاستلاب الواقع عليهم. بل وحتى الطعام الذي يصنعونه في ذلك المطبخ الهائل، ثم تصعد الفتيات لتقديمه بسرعة خصوصا في ساعة الذروة، يبدو مقرفا مقززا، ومقصود أن يكون كذلك، فهذه هي العجلة التجارية التي تمارس الإنتاج بالجملة، والتي لا تهتم بالتجويد بل بجني الأرباح بأقل التكاليف، وفي أقصر وقت ممكن.

هناك أيضا الانقسام بين العاملين، فالطباخون يعتبرون أنفسهم أكثر رقيا من الجميع، فهم القوة المنتجة التي تملك “التركيبة”، والنادلات أقل أهمية، أما عمال النظافة فهم في أدنى السلم. ويشرف على الجميع رجل يدعى “نونزو”، يساعده شخص آخر شرس، ثم هناك رشيد صاحب المطعم وهذه هي طبقة السادة التي تتحكم في “العبيد”. وليس معروفا بالضبط من هو رشيد، وهل هو عربي أو هندي بحكم اسمه، فالفيلم لا يهتم بهذا الجانب بل يتغاضى عن الأصل اكتفاء بتحديد موقعه الطبقي.

يقول المخرج إن “التراتب الطبقي لا يمكن التساهل معه. إنه مكان يمكن أن يصبح الجميع فيه أصدقاء، يضحكون ويتكلمون معا، ولكن عندما تحل ساعة الذروة، يصبح كل إنسان لنفسه. لن يساعد أحد أحدا، وستبرز المنافسة والفردية، وبالتالي فالمطبخ هو عبارة عن صورة رمزية للرأسمالية في مرحلتها المتأخرة”.

أحداث الفيلم كلها تدور في يوم واحد، منذ وصول “إستيلا” في الصباح الباكر إلى المطعم، إلى أن يتفرق الجميع وينتهي المأزق الجمعي بالانفجار. ولكن أهم ما يميز الفيلم تلك الدينامية الهائلة في الحركة، في التقاط التفاصيل مما تقوم به الشخصيات في أدوارها المختلفة، والاهتمام بالتكوينات التي تساهم في تكثيف المأزق، أو حالة العزلة التي يعيشها العاملون تحت الأرض، منتجو الطعام، آلة الإنتاج التي تشبه ماكينات الإنتاج بالجملة لإرضاء، الزبون، وصاحب البيزنس. والحصول على مباركته ورضاه.

ما يفسد الأجواء هو موضوع اختفاء مبلغ مالي، حوالي 800 دولار، هل اختلسها بيدرو لكي يدفع لآنا حتى تجري عملية الإجهاض رغم أنه يشعر بالحزن الشديد لأنها لا ترغب في الاحتفاظ بالجنين، ويظل يضغط عليها ويغريها، أن يتركا العمل في هذا المستنقع ويذهبان معا الى المكسيك، حيث يقدمها لأمه ويعيشان معا في هناء وسرور (لا نعرف كيف لكنه تعبير عن فقدان حلمه الأمريكي). ويظل الفيلم يشوقنا خلال السرد واستعراض آلية العمل في المطبخ، بالعودة إلى فكرة (من السارق؟) بين آونة وأخرى، وسيكشف في النهاية عن مفاجأة بهذا الخصوص.

زملاء بيدرو- وهو شاب صعب المراس، حالم لكنه غاضب، وقوي الشكيمة لكنه رقيق للغاية وصادق في حبه لجوليا، يسخرون مما يعتبرونه نزقا ومراهقة وجريا وراء السراب، في حلمه بالاندماج والارتباط بفتاة أمريكية “بيضاء”!

في الفيلم مشاهد طويلة، لكنها مليئة بالحركة التعبيرية بالكاميرا، منها المشهد الافتتاحي الذي نتابع فيه “آنا” وهي تغادر محطة قطارات الأنفاق ثم تسير قرب الشارع 49 وتبحث عن المطعم، تسأل هذا وذاك، ثم تدلف في ممرات طويلة إلى أن تجد نفسها أمام “لويس” المسؤول عن الموظفين وهو مكسيكي – أمريكي. هكذا في لقطة واحدة بالحركة البطيئة، داخل ديكورات ضيقة مع أسقف منخفضة، مما يمنح المشهد طابعا كابوسيا، وخلال ذلك تتسلط الكاميرا على أحد الأركان، حيث نشاهد بعض الفئران تهجم على بقايا الطعام الملقاة.

هناك اهتمام شديد بتصميم الحركة، ولاشك أن كل مشهد خضع لدراسة دقيقة وتحديدا لما يعرف بالـ “كوريوغرافي” أي تصميم الحركة، فكل ممثل يعرف بالضبط ما يفعله، وإلى أين يسير، وهل يصطدم مع ميل له، والمخرج يعرف كيف يحرك ويتحكم في أكثر من عشرين شخصية، وعندما تنفجر ماكينة لمشروب الصودا في المطبخ، تغرق الأرض ويرتفع منسوب السائل كثيرا حتى يغطي سيقان العاملين لكنهم يستمرون جميعا في التحرك بوتيرة سريعة، فهذا هو وقت الغداء، ساعة الذروة، حيث يصبح الزبائن نافذي الصبر، وتزداد الضغوط على الساقيات والنادلات في الأعلى، بينما يصارع الطهاة الزمن في الطابق الأسفل.

ويفقد بيدرو أعصابه أكثر من مرة بسبب ما يعتبره اعتداء على وظيفته من قبل إحدى الساقيات عندما تضطر تحت ضغط الوقت إلى انتزاع قطعة من الدجاج مما يشويه ووضعها في الصحن، وتارة أخرى يتعرض بيدرو للضرب المبرح والتهديد بالقتل من قبل طاه أمريكي عنصري.

يبرع كثيرا في أداء دور بيدرو الممثل المكسيكي راوول بيرونيس، الذي يؤدي بكل انسجام مع الشخصية، يصعد ويهبط معها في انفعالاتها، منتقلا من البراءة إلى المرح، ومن الرومانسية الناعمة والحب والمشاهد الحميمية مع جوليا، إلى الغضب والعنف الذي يصل إلى الذروة في النهاية. إنه ممثل ذو وجه لا ينسى.

أما روني مارا فقد يكون هذا أفضل أداء لها حتى الآن، لدرجة أنك لن تستطيع أن تتعرف عليها بسهولة في البداية في دور مختلف تماما عن أدوارها السابقة الأمريكية، يعتمد على سرعة حركتها داخل المكان. جمال ورقة وسحر وجاذبية، ولكن أيضا سرعة بديهة وحركة وألم خفي في داخلها، وتمزق بين ما تريده وما تشعر أنه سيضع عبئا لا تقدر عليه.

في البيان الي أصدره عن فيلمه، يقول المخرج: “لقد أردت أن أظهر ما يحدث بالفعل في هذا النوع من الأماكن التي تخدم 3000 شخص في أي يوم جمعة عادي؛ حيث لا يوجد ما يكفي من الوقت للجودة؛ حيث يتم تتبيل كل طبق بقطرات عرق عمال المطعم؛ حيث يتم غمر الحساء في بيكربونات الصوديوم لجعل الحساء يدوم ثلاثة أيام أكثر مما هو ممكن كيميائيا؛ حيث أن دم شريحة اللحم المتوسطة النادرة التي تذهب إلى الطاولة الثامنة هو في الواقع دم الطباخ الذي ارتكب خطأ شبه مميت- كل ذلك بسبب الضغط.. الضغط هو ما يكسر بيدرو ويجعله يدمر مطبخ رشيد في الفصل الأخير، والضغط هو ما يجعل رشيد غير قادر على فهم دوافع بيدرو”.

 

موقع "عين على السينما" في

03.03.2024

 
 
 
 
 

كلمة و 1 / 2..

برلين ينصف (ألطف الكائنات)!

كتب طارق الشناوي

منذ أن عرفنا الجوائز فى الفنون، وهناك خط فاصل تعسفى له علاقة بالجنس بين الرجل والمرأة، وتحديدا فى مجال التمثيل، جائزة لأفضل ممثل يقابلها جائزة لأفضل ممثلة،رغم أن التمثيل هو التمثيل، فلا توجد مسابقة  مثلا لأفضل مؤلف ومؤلفة،أو مخرج ومخرجة، بينما فى فن الأداء الدرامى  يحرصون على هذا  الخط الوهمى.

مهرجان ( برلين) امتلك الجرأة قبل ثلاث سنوات  معلنا نهاية هذا الفصل العنصرى.

إلغاء الخط الفاصل فى جائزة التمثيل، هو المنطق الغائب، لأننا بصدد إبداع مطلق يعتمد على الوجدان وليس القوة الجسدية، فى المسابقات الرياضية ممكن أن نتحدث عن أفضل سباح وسباحة تبعا للفروق البيولوجية، بينما الإبداع أسقط تلك المساحات الفاصلة.

مهرجان (برلين) فى علاقته بالمرأة كثيرا ما يعلن حرصه على زيادة نسبة النساء فى لجان التحكيم أو فى الأفلام المختارة داخل المسابقة الرسمية، وهذا النوع من الانحياز لا أوافق عليه، لا نواجه العنف بعنف مضاد ولا التطرف بتطرف، (الكوتة) مقبولة كمرحلة انتقالية عندما نتناول الشأن السياسى، ولهذا كثيرا ما تتدخل السلطة السياسية فى عدد من البلاد لضبط الإيقاع المختل بما تملكه  من حقوق دستورية وتزيد من تمثيل المرأة، فى المجالس النيابية، ولكن فى مجال الإبداع (الكوتة) مرفوضة تماما، مثل أن حصول المرأة على حقيبة وزارية هو نتاج أحقيتها المطلقة وليس له علاقة بكونها امرأة.

أروع ما حققه مهرجان (برلين) انه بالفعل يسعى لإقرار المساواة، ومع الزمن لن يصبح هناك مجال للحديث  عن أفضل ممثل وأفضل  ممثلة، ستسأل فقط عن الأفضل فى المطلق، من الممكن أن تتفوق مثلا فى هذا الزمن «ميريل استريب» فى مجال السينما على كل أساطين فن الأداء من الرجال، لأن المقياس هنا تجاوز رجل أو امرأة ليصبح فقط الإبداع، المنطق سوف ينتصر فى نهاية المطاف.

 أصبح من المعتاد فى العالم أن نجد أكثر من وزيرة دفاع وداخلية، وهى مناصب كان من المستبعد قبل عقود من الزمان أن تحلم بها امرأة أو تتوقع أن تنالها امرأة.

حصلت المخرجة السنغالية الأصل ماتى ديوب على جائزة ( الدب الذهبي) أفضل فيلم ( داهومي)، لأنها الأفضل وليس لأنها امرأة، ورئيسة لجنة التحكيم لوبيتا نيونجو مؤكدة لم تٍسأل عن جنس المخرج ولكن إبداعه، وهكذا تم تتويج ماتى ديوب بالجائزة، ولم تكن الأولى، كثيرا ما حصدت المرأة الجوائز فى مهرجان ( برلين ) وغيره من المهرجانات، ولكنه يقف فى مقدمة الدفاع عن حق المرأة، إلا أنه لا ينحاز إليها عشوائيا، فهو يضع الإبداع أولا.

أطلقها صلاح جاهين قبل أكثر من 40 عاما فى أغنية (ألطف الكائنات) غناء سعاد حسنى (البنت زى الولد)، ومهرجان برلين يسير على الدرب معلنا نهاية التفرقة بين الطاووس والطاووسية!

 

مجلة روز اليوسف في

03.03.2024

 
 
 
 
 

"برلين السينمائي"... أفلام استحقت التكريم وأخرى لم تستحق العرض

ديوب وآرياس تألقا وحضور عربي محبط

فراس الماضي

كشفت الدورة الرابعة والسبعين من "مهرجان برلين السينمائي" التي انتهت فعالياتها قبل أيام، عن مجموعة ليست هينة من خيبات الأمل تجاه العديد من الأفلام المرتقبة، مع قلة ما يمكن تسميته بالاكتشافات الثمينة.

وعلى الرغم من ذلك، فقد برزت مجموعة من الأفلام التي تستحق الاهتمام فعلا، على نحو ربما غير معتاد في المهرجانات السينمائية الدولية، إذ فازت الأفلام الأجود بأهم الجوائز، محققة المستوى المتوقع منها، في حين تأخرت أفلام أخرى عن اللحاق بقطار السينما المتغيرة والمتجددة. ولعلّ الأكمل والأجدر بين الأفلام الفائزة، هو "داهومي" للمخرجة الفرنسية السنغالية ماتي ديوب التي نالت عن جدارة جائزة الدب الذهبي لأفضل فيلم في المسابقة الرسمية. نجحت ديوب في إنجاز عمل يتناول أشباح الماضي وتحديات الواقع الاجتماعي في آن معا، مازجة بين السرد السريالي والواقعية الوثائقية، ومقدمة رؤية متأنية لمسألة الإرث والهوية والتساؤلات حولهما في مجتمعات ما بعد الاستعمار، وتحديدا في جمهورية بنين التي تقع فيها أحداث القصة الحقيقية لاسترداد 26 قطعة أثرية نهبها الاستعمار من أرض بنين.

تحمل تلك القطع الأثرية صوت الراوي، وتستغل ديوب حضورها الغائر في الزمن لتحكي لنا عن ماضي بنين وحاضرها، من دون تهميش للاستعمار وأثره البالغ على المجتمعات التي تحمّلت وطأته. يتنوع السرد ليستعرض التفاصيل الدقيقة لتساؤلات الحاضر التي يطرحها شباب بنين عن هويتهم وعلاقتهم بوطنهم وتاريخهم، ويتأمل السرد كذلك في السياق التاريخي، ليخلق تباينا شعريا يربط الماضي بالراهن، مقدما صورة خاصة واسعة المدى لذلك الإرث المُنتزَع، العائد بعد قرن إلى موطنه في حالة سينمائية تنتمي إلى الواقعية السحرية.

قدمت ديوب رؤية متأنية لمسألة الإرث والهوية والتساؤلات حولهما في مجتمعات ما بعد الاستعمار

يدور فيلم "بيبي" للمخرج الدومينيكي نيلسون كارلوس آرياس في نطاق سردية مشابهة، في إعارة صوت الراوي لبطل غير متكلم، انتُزع من موطنه، تماما كما انتزعت آثار بنين في فيلم "داهومي". الراوي هنا فرس نهر يدعى بيبي، أخذ عنوة من موطنه في أفريقيا إلى أميركا الجنوبية ليستقر في حديقة الحيوانات الخاصة ببابلو اسكوبار، إمبراطور كارتلات المخدرات في القارة. لكن بيبي - البطل والراوي- ينجح في الهروب إلى نهر ماغدالينا الكولومبي، تاركا أثرا من الدمار، ونكتشف معه ومن خلال رحلته سياقات تدمير أميركا الجنوبية، وما خلفته التجربة الاستعمارية من بصمات لا تمحي على وجه القارة التي تشبه أفريقيا في جنوبيتها وثرائها، والتسابق الطويل بين دول الاستعمار على استنزافها وإفقار شعوبها

يختلف الفيلم هنا عن "داهومي" في كون صوت الراوي لا يفقد قدرته على السخرية خلال حكي التاريخ الأسود للاستعمار والعنف، ولا يلوح شبحيا كما جاء ذلك في تماثيل داهومي. يمكن القول إن هذا الفيلم الذي فاز مخرجه الكولومبي بجائزة أفضل إخراج في المسابقة الرسمية، هو أحد أقوى الأعمال التي ُعرضت من حيث الصورة، متميزا بوقود بصري يجعله خارقا على مستوى المكاني، وبارعا عند تنقله وسفره في الزمن، الأمر الذي حققه من خلال الاستعانة بالمزج بين اللقطات الأرشيفية والمناظر الطبيعية بألوانها المتنوعة، وإعادة تمثيل المشاهد التاريخية، كل ذلك من خلال خلطة تجريبية تجمع بين استخدام الكاميرا الرقمية وفيلم 16 مم، متلاعبا بدرجات الألوان، بالإضافة إلى الأبيض والأسود في مرات، مستخدما كذلك الشاشة العريضة، وأخرى بأطوال 3:4. نجح المخرج في كثير من محاولاته للتجديد على المستوى التقني من دون أن يتورط في تهميش العناصر الصوتية. لكن للأسف، مع تقدم الفيلم، فإنه يخسر بريقه ويفقد توازنه تدريجيا، ويبدأ في التحول إلى عشوائية متخبطة تفقده قدرا من سحره.

احتياجات مسافر

فيلم آخر لافت، حصد الجائزة الثانية في المهرجان وهي الدب الفضي الذي يمثل جائزة لجنة التحكيم الكبرى، وهو فيلم "احتياجات مسافر" للمخرج الكوري الرائع هونغ سانغ سو. في هذا الفيلم قدم المخرج وافر الإنتاج تعاونا ثالثا مع إيزابيل هوبير بعد فيلميهما "في بلاد أخرى" (2012) و"كاميرا كلير" (2017). عمل غامض في شخصياته ومفاجئ في سخريته، يحمل نسائم سينما سانغ سو كما عودنا في جلساته وحواراته وتلاعباته في هيكل السرد، حيث تنطلق أحداث الفيلم عند امرأة فرنسية تدّعي أنها معلمة جاءت إلى كوريا بلا ماض، ونلتقي - في جولاتها غامضة الهدف- على مدار يوم واحد بطلابها، وهم شابة كورية، ثم زوجان، وأخيرا فتى تسكن عنده من دون مقابل. ومن خلال هذه اللقاءات، نرتطم بحواجز اللغة وطبقات التعبير وحدود الكلمات، وسوء الفهم الذي يعبر بشخصياته إلى مختلف المصائر، هو فيلم حقيقي وكوميدي عن التواصل الذي يقود العلاقات الإنسانية.

من بين مختلف الأفلام، قد يكون "فعل مباشر"Direct action  للمخرج التجريبي الأميركي بن راسل، والفرنسي غيوم كيو أفضل عمل عرض في الدورة الأخيرة من المهرجان، وقد حاز جائزة أفضل فيلم في قسم "لقاءات". هذا الوثائقي الذي تتجاوز مدته ثلاث ساعات ونصف الساعة، يحمل أفضل النزوات السينمائية، ويقدم صورا مجردة وفاحصة ومنضبطة، تلتقط واحدا من أهم مجتمعات الناشطين الشيوعيين في فرنسا، وتسلط الضوء على المجتمعات الهائجة روحيا والساكنة في يومياتها. يصور الفيلم - الصامت في أغلب مشاهده- مجموعة من المشاهد المتوالية الطويلة التي تقترب من تفحص الإيماءات. تغور بدقة في عملية الفعل بصورته المتمددة، ليدخل حالة من الانهمار العميق في المساحات التي تفصل الفرد عن فعله، والذي يشيّد الفيلم من خلالها الخلفية بإتقان، إلى أن يتفجر الفيلم أخيرا عندما يحدث الهيجان وترفض الروح الظلم وتُقصف بالمقابل. وفي منعطف مفاجئ، تصرخ إحدى الشخصيات "لا يجب عليك أن تصور هذا"، ليرسم الفيلم حدودا بين الجماليات والفظائع، ويدرس ما يجب وما لا يجب، ما يمكن وما لا يمكن

حضور عربي محبط

وبعيدا من الأفلام الفائزة، وقريبا من السينما العربية، قد يكون الحضور الأبرز لفيلم التونسية مريم جعبر "ماء العين"، وهو فيلمها الطويل الأول والذيُ  عرض في المسابقة الرسمية كنسخة طويلة من عملها القصير "أخوان"، الذي حقق أصداء كبيرة حين ُعرض في 2020. فيلم "ماء العين" يتناول حكاية امرأة تونسية تعيش في ريف الشمال التونسي، تجد نفسها في أعمق درجات الحيرة والحزن بعد رحيل اثنين من أبنائها الثلاثة للانضمام إلى تنظيم "داعش" في سوريا، ثم يصحبنا الفيلم في رحلتها بحثا عن الحقيقة عند عودة أحد الولدين من الحرب من دون الآخر، مع امرأة اتخذها زوجة له، وتنطلق بعودتهما موجة منفلتة من الغموض والعنف في أنحاء القرية الهادئة.

 تكمن إشكالية "ماء العين" بعكس ما يعتقد الفيلم بأنه نجح في تحقيقه، وهي حدّه الواضح من إمكانيات السينما وتقييدها

وعلى الرغم من أن الفيلم جاء متأخرا مقارنة بسلسلة الأفلام التي تناولت هذا الموضوع خلال السنوات الماضية، إلا أن "ماء العين" لم يكن على مستوى الترقب والانتظار. وتكمن إشكاليته الرئيسية بعكس ما يعتقد الفيلم بأنه نجح في تحقيقه، وهي في حدّه الواضح من إمكانيات السينما وتقييدها، بقدر ما ظن بأنه أطلقها وكسر حواجزها. ويأتي هذا نتيجة الاعتقاد السائد بين صناع السينما العرب بأن جودة الفيلم تُقاس بقدرته على إثارة التعاطف لدى المشاهدين، حيث يتجه اهتمام جعبر نحو كيفية هز مشاعر المتلقي بأقصى درجة ممكنة، وتوظيفها الأدوات المختلفة بغرض تحقيق هذا الهدف. فجماليات الصورة مصممة لهذا الهدف، وكذلك أفعال الشخصيات ومشاعرها بما في ذلك الخوف أو اللعب، وحتى الضحك.

وفضلا عن الكليشيهات التي تحملها قصة فيلم "ماء العين"، إلا أنه يعتمد أيضا على أكثر الأساليب والتقنيات السينمائية ابتذلا، حيث التقنية مخصصة لتبث هذه المجموعة المحددة من المشاعر بأقصى درجة حتى وإن كانت في غير محلها، بما في ذلك لقطات لبث الحزن، وأخرى لبث الرعب، وبث التعاطف والألم، والمفاجأة.

 

مجلة المجلة السعودية في

03.03.2024

 
 
 
 
 

"ابنان" دنمركيان: تشويقٌ لا يليق بالـ"برليناله 74"

برلين/ نديم جرجوره

مسألتان اثنتان يُثيرهما فيلمٌ دنماركي، مُشارك في المسابقة الرسمية للدورة 74 (15 ـ 25 فبراير/شباط 2024) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)": كيفية اختيار أفلامٍ للمسابقة الأساسية؛ وأي عنوان يُفترض بناقد/ناقدة عربيّ/عربية اعتماده: الأصل، أم الإنكليزي الدولي؟

غوستاف مولر مخرج دنماركي، مولودٌ في "غيتيبوري" السويدية عام 1988. له فيلمٌ روائيّ أول (2018) بعنوان "المذنب"، (ترجمة حرفية عربية للأصل: Den Skyldige، تماماً كالعنوان الإنكليزي الدولي أيضاً The Guilty). للروائي الثاني عنوان دنماركي: Vogter، و"وصي" ترجمة حرفية عربية له، بينما العنوان الإنكليزي الدولي مختلفٌ تماماً: Sons، أي "أبناء"، ومشاهدته في "برليناله" تُتيح ترجمة أخرى: "ابنان".

هذه مشكلة، مُكرَّرٌ تناولها وإنْ قليلاً: الإعلان عن الأفلام المختارة في مسابقة رسمية، أو برامج وأقسام أخرى، في مهرجانات دولية، يضع عاملاً ـ عاملة في النقد والصحافة السينمائيين العربيين، مهتمّين ومعنيّين ومتورّطين إيجابياً بهذه المهنة، في حيرةٍ: كيف يُترجَم عنوان فيلمٍ غير فرنسي وغير أميركي ـ إنكليزي، فهاتان اللغتان أكثر انتشاراً في العالم العربي؟ أيتركان العنوان بلغته الأصلية، ريثما يتسنّى لهما مشاهدة الفيلم، أمْ يعتمدان ترجمةً حرفية، للأصل أو للعنوان الدولي؟ والعنوان نفسه، إنْ يكن أصلاً أو دولياً، لن تكون ترجمته العربية متوافقة ونصّه السينمائي دائماً، فلكلّ مفردةٍ تفسيرات عدّة، والفيلم يريد أحد هذه التفسيرات في نصّه. هذا ينطبق على العنوانين الأصليين، الفرنسي والإنكليزي، أيضاً.

مُشاهَدة الروائي الثاني لمولر كفيلةٌ بتأكيد الاختيار: "ابنان". فهناك ابنٌ مقتولٌ في سجنٍ، يوضع فيه لجُرمٍ عادي؛ وهناك ابنٌ آخر يقتل هذا الابن في سجنه، لأنّه (الآخر) غاضبٌ ومتوتّر وعنيف، أساساً. النواة الرئيسية معقودةٌ على غضبٍ آخر، يتمثّل بغليان دافع إلى ثأر، تعيشه والدة المقتول في سجنه، والرغبة في الثأر تشتعل فيها لحظة اكتشافها أنّ قاتل ابنها مسجونٌ في السجن الذي تعمل فيه شرطيةً ـ حارسة (أمْ أنّها اختارت هذه المهنة "بحثاً" عن قاتل ابنها؟).

المسألة الأخرى منبثقةٌ من المُشاهدة نفسها: لماذا اختيار فيلمٍ كهذا في مسابقة رسمية، في مهرجان مُصنَّف فئة أولى؟ طرح السؤال متأتٍ من النوع الذي يُدرج فيه "ابنان": تشويقٌ معطوفٌ على تحليل نفسي ـ اجتماعي متواضع، في بيئةٍ منحدرةٍ من أسلافٍ موغلين في العنف والتوحّش (هذا يُناقش في أفلامٍ أخرى، مشاركة في مسابقة "برليناله 74" أيضاً، أبرزها "حمّام الشيطان"، للنمساويين فيرونيكا فرانتز وسِفِرن فيالا، مثلاً). التشويق مبطّن، فالظاهر هدوء ملتبس في سلوك وتواصل وانتقامٍ، والوحش ينقضّ ويتراجع، وفي انقضاضه وتراجعه تنكشف أحوالٌ وتفكير وانفعالات ورغبات. هذا كلّه مُنجز بأسلوب سينمائي متماسك وجاذب، لكنّ الإنجاز غير مؤهَّلٍ للمشاركة في تلك المسابقة.

إيفا (سِسَاي بابِتْ كْنودسن) شرطية تعمل في قسم سجناء، في أحد السجون، محكوم عليهم بسبب تهم "بسيطة". تتعامل معهم برحابة صدر، فلا أذيّة ولا عنف ولا تشابك، بل تواصل وهدوء. وظيفة روتينية، تؤدّي أحياناً إلى تأسيس علاقات أكبر من ثنائية مجرم ـ حارس. ذات يوم، تكتشف أنّ ميكِلْ (سيباستيان بُل) منقولٌ إلى السجن نفسه، لكنْ في قسمٍ آخر، يختصّ بالمجرمين العنيفين، فتطلب نقلها إليه فوراً، لتبدأ سلسلة صدامات بينها وبينه. ورغم الإيحاء بأنّ إيفا تريد انتقاماً منه، ويكاد السبب ينكشف، عندما يُخبرها المسؤول عنها، الضابط رامي (دار سليم)، بأفعال ميكِلْ، وبينها جُرمه في قتل شابٍ مسجون؛ رغم هذا، يُحافظ "ابنان" على سويّة تشويقية، مليئة بالعناصر المطلوبة لهذا النوع السينمائي.

توتّرٌ وصدامات صامتة، وبعض الصدامات حاضرٌ في غضبٍ مباشر وعنف ملموس. لحظات مديدة تعرّي تفكيراً وذاتاً، كأنّ هناك محاولة لمصالحة مع الذات، واغتسال من ماضٍ ملوّث بدمٍ وقهر وضغوط. هذه حاضرة، وحضورها يصنع فيلماً، مشاهدته ممتعة، لكن ليس في مهرجان سينمائي أوّل، ولا في مسابقته الرسمية. بعض هذه الحالات ماثلةٌ في "المذنب" أيضاً ("العربي الجديد"، 1 أكتوبر/تشرين الأول 2018)، المبني أساساً على براعة أداء يُكُب سيدرْغين، في شخصية أصغر هولم، العامل في قسم اتصالات الطوارئ (112)، كما على نصّ (مولر وإيميل نوغارْد ألبرتْسن) متماسك، يضع الشخصية الرئيسية، بل الوحيدة الظاهرة أمام الكاميرا، في غرفة مغلقة، لكنّها مفتوحة على تداعيات ذات وانفعال وضغوط.

اتصال طوارئ من سيّدة تُدعى إيبِنْ (جيسيكا ديناج)، تُخبر هولم فيه أنّها مخطوفة من زوجها مايكل (يوهان أولسن)، وأنّ ولديها الصغيرين باقيان في المنزل وحدهما، وأنّها تريد الذهاب إليهما، وأنّها محتاجة إلى مساعدته. يجهد هولم في إنقاذها عبر الهاتف فقط، ومن داخل غرفته تلك. في 85 دقيقة، يبرع سيدِرْغرين في إظهار انفعالاتٍ ورغباتٍ وانشغالاتٍ وضغوط، فهو منقولٌ إلى تلك الغرفة ـ المهنة، بعد بدء تحقيقات داخلية معه جرّاء "قتله" شاباً "عن طريق الخطأ". إضافة إلى معاناة ذاتية متأتية من انفصال حبيبته عنه، ما يُزيد من توتّره، المنعكس في ملامحه وسلوكه وحركاته، رغم بقائه جالساً على كرسيه الوقت كلّه تقريباً.

في "ابنان"، هناك شيءٌ متشابه في شخصية إيفا: معاناتها الذاتية غير منبثقةٍ من مقتل ابنها في السجن فقط، فالأعنف كامنٌ في أنّ مقتله حاصلٌ بعد انشقاق بينهما، وابتعادها عنه كلّياً. "ذنب" تحمله جرحاً في روحها وذاتها، يتحوّل إلى غضبٍ وغليانٍ يدفعانها إلى ثأرٍ، لن يكتمل. مواجهة تخوضها، محاولةً تعذيب القاتل من دون أنْ يدري أنّها والدة الشاب المقتول على يديه. تُنسَج علاقة ملتبسة بين إيفا وميكِلْ، تبدأ عنيفة (تهاجمه في نوبة غضب، فيُصاب بكسور، وهذا كفيلٌ بتقديم شكوى ضدّها، لكنّه غير فاعل هذا، لغرضٍ في نفسه: استغلالها للحصول على منافع)، وتنتهي في لحظة لاحقة على نوعٍ من اغتسالٍ، أكثر التباساً من تلك العلاقة.

فيلمٌ مُشوِّق، كأي فيلمٍ يعاين ثنائية السجن التحليل النفسي ـ الاجتماعي، وإنْ يُشاهَد في مسابقة رسمية في مهرجان أوّل.

 

العربي الجديد اللندنية في

04.03.2024

 
 
 
 
 

بعد ترشحه لـ«الأوسكار» عن فيلم «غرفة المعلم»..

مخرج ألماني من أصول تركية :الإعلام يتجاهلني لأسباب عنصرية

برلين ـ «سينماتوغراف»

اعتاد المخرج إلكر تشاتاك أن يواجه الرفض كمهاجر ولكنه؛ كأي طفل لعائلة من المهاجرين في ألمانيا، فقد رفض والداه أن يستخدم هذه الحوادث العنصرية لاعتبار نفسه "ضحية".

إلكر تشاتاك، مخرج ألماني من أصول تركية، والمرشح لجائزة أوسكار عن فيلمه "غرفة المعلم"، وجد نفسه وحيدًا حينما تجاهله الإعلام الألماني رغم ترشحه للجائزة، كونه من أصول مهاجرة.

يذكر تشاتاك أنه كره اعتبار نفسه ضحية للعنصرية، ولطالما حاول أن يصبح جزءًا من المجتمع الألماني الذي ولد فيه، ونأى بنفسه عن كل حديث يتطرق للعنصرية في ألمانيا تجاه المهاجرين، ولكن عندما ترشح لجائزة أوسكار تغير كل شيء.

التجربة فتحت عينيه على حقيقة التغطية أحادية الجانب في الإعلام الألماني، إذ نادرًا ما تم ذكره في التقارير التي تتحدث عن أوسكار، فيما تم وصف مرشحين آخرين بـ"الألمانيين" في أكثر من مناسبة، وتم تجاهل اسمه على الإطلاق في بعض التقارير، أو كُتب اسمه بشكل خاطئ أكثر من مرة، كما فعلت وكالة الأنباء الألمانية DPA.

ويترشح لجائزة أوسكار لجائزة أفضل ممثلة الألمانية ساندرا هولسر عن دورها في الفيلم الفرنسي "تشريح السقوط"، والمخرج الألماني فيم فيندرز عن فيلمه "أيام مثالية" ويمثل اليابان، وليس ألمانيا. ما يجعل المخرج تشاتاك الممثل الوحيد لألمانيا في أكبر حفل توزيع جوائز لصناعة الأفلام في العالم. ومع ذلك تم ذكر زميليه في التقارير الصادرة عن الإعلام الألماني والعناوين الرئيسية وتم تجاهله.

واستخدمت بعض وسائل الإعلام الألمانية عنوان "الألمانيان في حفل توزيع أوسكار"، في إشارة إلى هولسر وفيندرز فقط، بتجاهل واضح لتشاتاك، كذلك ذكرت تقارير إعلامية أخرى فيلمه في العنوان دون ذكر اسمه، خلافًا لزملائه، مثل: "ساندرا هولسر، فيم فيندرز، "غرفة المعلم": موهبة ألمانية تثير الإعجاب في ترشيحات أوسكار".

دفع هذا التوجه تشاتاك إلى أن يكتب رسالة واضحة للعامة والإعلام الألماني في مقال له عبر موقع زايت أونلاين، في 27 فبراير 2024، عبر فيها عن شعوره بالإقصاء، وانتقد فيها التغطية غير العادلة والتجاهل الذي واجهه كونه من أصول مهاجرة.

وأدت هذه الرسالة بعد أيام إلى تغير في لهجة الصحف الألمانية، فيما عدلت بعضها عناوينها لتدرج اسمه، وبدلًا من استخدام "الثنائي الألماني في أوسكار"، في إشارة لهولسار وفيندرز، تغيرت العناوين لتصبح "الثلاثي الألماني".

 

موقع "سينماتوغراف" في

05.03.2024

 
 
 
 
 

"النهار" تحاور برونو دومون الفائز بـ"الدبّ الفضّة" في برلين:

في السينما أبحث عن هارمونيا والممثّل الذي يلعب جيداً يزعجني

هوفيك حبشيان

نال "الأمبرطورية"، جديد #المخرج الفرنسي برونو دومون، #جائزة "الدبّ الفضّة" (أو جائزة لجنة التحكيم) في الدورة التي انتهت الأسبوع الماضي من #مهرجان برلين، وذلك بعد عشرة أيام من تظاهرة #سينمائية سيطرت عليها الغرابة والغموض. تبدأ أحداث العمل الذي اختلف حوله النقّاد، مع ولادة طفل منتظر في قرية صيادي سمك في شمال فرنسا. هذا الطفل سيؤجج الصراع بين الخير والشر الذي يدور خارج الكوكب.  

لا يختلف "الأمبرطورية" عن أحد أعمال دومون السابقة، "ما لوت"، لكن يتجاوزه جنوناً وسوريالية وحسّاً "بورلسكياً". كثر لم يتوقّعوا فيلماً كهذا من دومون، لكن أهمية صاحب "كاميّ كلوديل" تكمن في انه لا يتوقّف عن ادهاشنا في كلّ مرة، مقحماً إيانا في مناطق جديدة. ماذا يمكن القول عن فيلمه هذا سوى انه جرعة من السينما الخالصة، نعيشها بحواسنا وطبعاً بعدم فهمنا لكلّ ما يحدث على الشاشة، من أحداث متلاحقة تزج بالفيلم في الـ"بارودي" (رغم انه يرفض هذا التوصيف)، اذ يتبين بعد دقائق من انطلاق الفيلم ان الهدف منه هو محاكاة تلك السينما التي تأخذ من صراع الخير والشر قضية لها. هنا، كلّ شيء ساخر، لا يمكن تناوله في مستواه الأول. يلعب دومون مع توقّعاتنا كمُشاهد ومع كودات الفيلم الفضائي، مستغلاً المناسبة ليقذف دماً جديداً في عروقه. في الآتي، مقابلة "النهار" معه، أُجريت في برلين قبل أيام، يكشف فيها المخرج الستيني بعض الغموض الذي يلف مشروعه، هذا الذي يتعذّر تصنيفه. 

1 – "لم أنجز باروديا"

"لي عالمي المعروف. لذلك، كان يهمّني هذه المرة اعادة احيائه من خلال وضعه في مواجهة عالم آخر. هذا العالم الآخر هو نقيض سينماي: انها السينما الأميركية الترفيهية. أعتقد ان هاتين السينماتين اللتين لا تلتقيان (مع ان إحداهما تنظر في عين الأخرى)، تتحدّثان في الحقيقة عن أمر واحد، ولكن بطرق وأساليب مختلفة. اذاً، باختصار، هذا ما سعيتُ اليه. كنت أود ان أرى ماذا سينتج من هذا اللقاء أو المواجهة بين صنفين من السينما.  

السينما الأميركية الجماهيرية حافلة بالكليشيهات والأنماط المعلّبة. وخصوصاً سينما علم الخيال التي تجري فصولها في الفضاء. الأشياء نفسها تتكرر بلا توقّف: المركبات الفضائية، المقصورات، المواقع. لذا، كان في ودّي تجديد هذا النوع. أمضيتُ الكثير من الوقت بحثاً عن مركبات فيها ما هو جديد. لهذا السبب، لجأتُ إلى التراث الهندسي كالسانت شابيل في باريس أو قلعة استيه في إيطاليا، كي أمد هذه المركبات بدم جديد وببُعد مسرحي.  

لستُ متأكداً ان فيلمي باروديا. فأنا لا أسخر كثيراً. أو ربما لستُ على يقين. عندما أُري المراكب الفضائية، أريها بجدية خالصة. لا يوجد تهكّم من جانبي. لو فعلتُ ذلك، لوقعتُ في السهولة. حتى الشخصيات التي تأتي من الفضاء، مثل جاين، أتعامل معها بجدية كبيرة. طبعاً، هؤلاء نقيض البشر ولهم حضورهم الخاص. قدوم جاين إلى الأرض يولّد شيئاً غريباً. لكن لا يوجد من طرفي أي رغبة في التهكّم. عندما تحط جاين على الأرض، يأخذ هذا الفعل أنسنة وحساسية. ما كان يهمّني هو التجسيد. وكي أرى هذا التجسيد، كان عليّ ان آخذ شخصاً من خارج البشر يدّعي انه بشري".

2 – "الحبّ يعقّد كلّ شيء"

"عند البشر، تصعب رؤية الخير والشر، فهما غير ظاهرين للعين. بيد انهما، أكثر وضوحاً داخل الفضاء. الفضاء يساهم في فصل الأفكار بعضها عن بعض، والاشارة إلى الخير والشر بوضوح. وعندما يصلان إلى الأرض، يختلطان. يروي الفيلم لماذا نحن مختلطون، ولماذا البشر تصارعهم قوى نقيضة لهم، وهي بدورها تصارعها قوى أخرى تتمثّل في الحبّ. يأتي الحبّ ليعقّد كلّ شيء. وهذا أمر تصعب رؤيته على الأرض. هذا هو المذهب الطبيعي في السينما الأوروبية. نصوّر الخير والشر، لكن لا يمكن التقاطهما بسهولة. الأميركيون لا يزعجون أنفسهم في هذا المجال. الخير والشر منتهى الوضوح. هذا لا يمنع ان كلّ شيء يمدّك بإحساس بالزيف. انه مجرد خيال. نظرية لا علاقة لها بالواقع. أنا أردتُ ان أمزج المدرستين". 

3 – "للكاميرا قدرة تمجيدية"

"ينبغي التصوير في مكان ما، فلمَ لا أصوّر اذاً في مكان أعرفه، كوني من المقيمين فيه؟ أعرف جيداً الناس وأعرف جيداً المناظر الطبيعية. والناس هم جزء من الديكور. لديهم لكنة وأشكال لافتة. يخيل إليك انه تم نحتهم في المكان. هذا كله محسوس جداً للمُشاهد. السينما في حاجة إلى هارمونيا. هذا يعني ان المُشاهد سيشعر اذا تمت الاستعانة بناس من البيئة التي تجري فيها الأحداث. واذا جئتَ بناس من خارج المكان الذي تصوّر فيه، فهذا سيعقّد الأمور. إني أسعى إلى العثور على هارمونيا، لكن تلك التي أبحث عنها موجودة في أي حال. يكفي ان ننظر إلى الطبيعة. أنا أبحث غالباً عن أماكن عادية، ويبقى على الكاميرا مهمّة تمجيدها. للكاميرا قدرة تمجيدية وارتقائية فريدة. هذا ما لاحظته. كلّما كان الشخص الذي تصوّره عادياً، بدا عظيماً واستثنائياً بفضل السينما". 

4 -  "أتبع منهجاً واحداً للجميع"

"إني أتعامل مع المحترفين بالطريقة عينها التي أتعامل فيها مع غير المحترفين. لا تهمّني مهنتهم. ما يجذبني فيهم هو شخصيتهم. أتبع منهجاً واحداً للجميع: يضعون سمّاعات في آذانهم. هكذا أديرهم خلال التصوير. لا أجري التمارين. أراقبهم يمثّلون ثم أطلب اليهم ان يقوموا إما بمقدار أقل أو أكثر. في الواقع، غالباً لا أملك أي فكرة كيف يجب ان يمثّلوا. لكن، أحرص ان تكون لي خلال المونتاج ألوان مختلفة من التمثيل. ثم، خلال المونتاج أقرر حدّة التمثيل ودرجاته. عندما يسألني الممثّل "هل عليّ ان أبكي بقوة أو بخفّة"، أرد بـ"دعنا نجرّب كليهما وسنختار الأفضل خلال المونتاج". ألجأ إلى هذا الحلّ، لأنني لا يمكنني ان أفعل غير ذلك. فالاهتمام بهذه الشؤون خلال التصوير والتركيز عليها، غاية في الصعوبة. وقد يُحدث خللاً عند الممثّل. كان يصعب على لوكيني التكيّف مع "طريقتي"، وكان يلح عليّ دائماً لمعرفة اذا أداؤه جيد أم لا. فكنت أرد في كلّ مرة إنني لا أعرف بعد اذا كان جيداً". 

5 – "أدير الممثّلين من خلال ما يلبسونه"

"فابريس لوكيني هو الوحيد في الفيلم الذي كتبتُ الدور خصيصاً من أجله. لباسه جئتُ به من المسرح، وكان ذلك بهدف دفعه للذهاب في هذا الاتجاه. انه اللباس الذي كان يرتديه لوي جوفيه في "دون جوان" على خشبة المسرح في الأربعينات. الزي هو الذي جعله يدخل في الشخصية. ينسحب هذا أيضاً على شخصية جاين التي جراء اكسسوار بسيط على رأسها، تتحوّل إلى "سوبروومان". الأزياء مهمّة جداً في عملي السينمائي. إني أدير الممثّلين من خلال ما يلبسونه، وهذا يجعلني أقطع مسافة كبيرة في ادارتهم. بعد ذلك، الأشياء تأتي من تلقاء نفسها. لا أسلّم للبسيكولوجيا كثيراً".

6 – "الواقع حين لا يكون موازياً لا يعني شيئاً"

"أميل إلى التنوّع في العمل السينمائي. هذه حاجة عندي. وإلا شعرتُ بالملل بسرعة. منذ بداية مسيرتي، تردد ان "حياة المسيح" فيلم اجتماعي. لطالما رفضتُ هذا التوصيف، قائلاً انه فيلم فانتازي. فيه نوع من تجريد، حتى لو كانت الطبيعانية حاضرة جداً فيه. أفرغتُ الشوارع من أجل هذا الفيلم، وقمتُ بالكثير من التدابير. عدلتُ الواقع كثيراً. الاعتقاد بأني من سينمائيي الواقع سوء فهم. لا أقول ان لا واقع في أفلامي، لكنها أقرب إلى السينما التعبيرية والموازية للواقع. الواقع حين لا يكون موازياً لا يعني شيئاً. ما يهمّني في الواقع هو ما يتيحه من توازٍ. لذلك أحب التمثيل الموازي والعناصر الموازية. لهذا السبب أهتم بالممثّل غير المحترف. صحيح انه لا يمثّل جيداً، لكنني أجده رهيباً ومؤثراً. فهو شاعري "لأنه" لا يمثّل جيداً. الممثّل الذي يلعب جيداً يزعجني ولا يهمّني. عندما أنجزتُ "جانيت، طفولة جانّ دارك"، قيل لي ان غناء الممثّلة سيئ.

حسناً، لا أكترث لهذا أيضاً. (…) ما يثير إعجابي عند الممثّلين غير المحترفين هو أنهم يخافون، وهذا الخوف يمدّهم بشيء ما. الاحساس الذي يخرج منهم هو في الحقيقة خوف، خوف من التمثيل، وهذا يُترجم بتوتر على أرض الواقع. هشاشة الإنسان تظهر في لغته. أتذكّر خلال تصوير "حياة المسيح"، أنه كان على الممثّل ان يقول "أحبّك" للفتاة، وكان عاجزاً عن ذلك. عبارة كانت تخرج من فمه للمرة الأولى. في الأخير، نطق بها، فخرجت خجولة من فمه، لكن كم كانت جميلة وحسّاسة". 

 

النهار اللبنانية في

06.03.2024

 
 
 
 
 

«برلين السينمائي»… مناسبة فلسطينية رغماً عنه

سليم البيك

حفل الختام لمهرجان برلين السينمائي، الشهر الماضي، كان بداية لكرنفال تحريضي من قبل إعلاميين وسياسيين ألمان، على المهرجان وحفله، وتحديداً كلمات الفائزين والمحكمين، والكوفيات التي طبعت دورة هذا العام من البرلينالي، ما جعل المهرجان (السينمائي) عرضةً لاتهامات باللاسامية في الإعلام الألماني.

قبل اليوم الأول من المهرجان، كان موقف البرلينالي من الحرب الإبادية على قطاع غزة حيادياً، حذراً. أُخذ عليه عدم التصريح بشيء تضامناً مع الضحايا الفلسطينيين، لكونه مهرجاناً سياسياً كذلك، وأكثر من زميليه (كان وفينيسيا السينمائيين) فلا يترك مناسبة (إيرانية أو أوكرانية أخيراً) إلا ويدلي بدلوه فيها، بياناتٍ وبرمجةً وتظاهرات. لكن هذه الحيادية، كذلك، أُخذت كموقف متقدّم في اعتبار أنه ألماني، هناك حيث تحوّلت المؤسسات الثقافية والداعمة للمشاريع الثقافية إلى ماكينة مكارثية تنقضّ على كل مناصر للقضية الفلسطينية، في استعادة تلقائية لماضٍ نازي لتلك البلاد المأزومة بتاريخها الأسود.

خلال المهرجان الذي يصنع قيمته الفنانون المشاركون فيه (كأي مهرجان آخر) حضرت دعوات التضامن مع الفلسطينيين، من خلال الكوفيات، التي يندر أن يمر يوم في قصر المهرجان وباحاته دون رؤية أحدهم يعتمر إحداها، من النقاد إلى الفنانين مروراً بالجمهور. ومعها دعوات إلى وقف إطلاق النار، معلقة على ملابس المدعوين، في الافتتاح والختام والعروض بينهما، كالمخرجة الأمريكية اليهودية إليزا هيتمان، التي نالت مسبقاً جائزة لجنة التحكيم الكبرى.

الصور والفيديوهات الرسمية الصادرة عن المهرجان، وصفحات المدعوّين على المواقع المختلفة، جعلت من الحضور الفلسطيني، برموزه أو نداءاته، سمةً من سمات هذه الدورة من البرلينالي، وهو ما كان خارج نطاق سيطرة إدارة البرلينالي وإرادة داعميه من المؤسسات الحكومية والبلدية الألمانية.

تعرّض «برلين السينمائي» بإدارته الفنية، لتحقيقات مكارثية مبكرة، منذ اختيار رئيسة لجنة التحكيم، بسؤال إحدى الصحف المحلية لمديرة المهرجان عن اختيار الممثلة الكينية المكسيكية لوبيتا نيونغو، التي كانت وقّعت مع نجوم آخرين رسالة إلى الرئيس الأمريكي، تدعوه إلى الضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار. واستفسرت الصحيفة (كأنّ المقابلة أجريت في غرفة تحقيق) إن كان المهرجان تداول ذلك قبل اختيارها، ما كان إشارة إلى مستوى الانحطاط لهذه الصحافة، وما سيمتد إلى ما بعد المهرجان وحفل ختامه.

الحدث الأكثر إزعاجاً لتلك المكارثية كان حفل الختام والكلمات التضامنية التي ألقاها الفائزون والمحكّمون، وهؤلاء أتوا من كل العالم. فلا يمتلك الألمان سلطة عليهم. وكانت الكلمات ملفتة لكثرتها، كأنّ في موقع المهرجان، العاصمة الأشد دعماً لتل أبيب، ما شجع هؤلاء على التصريح بتضامنهم مع فلسطين، وإدانتهم لإسرائيل، بدءاً بالممثلة الإيطالية جازمين ترينكا، العضو في لجنة التحكيم، مروراً بفائزين، منهم من اعتمر كوفية، مثل الأمريكي بن راسل، وانتهاءً بالفائزة بالدب الذهبي، الفرنسية السينغالية ماتي ديوب.

النتيجة أن حفل الختام، وليس فقط مسابقته الرسمية، كان أقرب لمناسبة تضامنية عالمية مع القضية الفلسطينية، من خلال الكلمات والتصفيق لها، وهو ما ضيّق الخناق على إعلاميين وسياسيين ألمان تهجّموا على المهرجان من بعد ختامه، بشكل مسعور نراه في سلوك وكلام موظّفي فاشيات سياسية. لعلّ أكثر ما ضايقهم كان نيل فيلم لمجموعة نشطاء فلسطينيين وإسرائيليين، «لا أرض أخرى» جائزتي «أفضل وثائقي» و»الجمهور» وكلمة كلٍّ من مخرجَيه الفلسطيني والإسرائيلي الفاضحتين للسياسة الألمانية وحليفتها الإسرائيلية، تحديداً في مطالبة الفلسطيني باسل عدرا في كلمته، الحكومة الألمانية بالامتثال لقرارات الأمم المتحدة، والتوقف عن إرسال السلاح لإسرائيل.

تزامن مع ذلك، خلال المهرجان، بيان من مئات العاملين في البرلينالي، يطالبون الإدارة بالتصريح بمطلب وقف إطلاق النار. فضلا عن احتلال ناشطين مبنى «السوق الأوروبي» في المهرجان، ورفع لافتات ورمي مناشير تدعو لوقف الإبادة. كل هذا، بالتزامن مع وقفات لمتضامنين في ساحة بوتسدام، قرب قصر المهرجان، وغيره، مما جعل المهرجان مناسبة فلسطينية رغماً عنه.

من بعد حفل الختام، أصدرت إدارة المهرجان بياناً جباناً تنتقد فيه التصريحات «الأحادية» المنتقدة لإسرائيل، متبرئة منها، وذلك بعد الهجوم المسعور، الإعلامي والسياسي الألماني، على المهرجان، بسببها، واتهامه، كمهرجان، بكونه معاد للسامية. كما أعلنت وزيرة الثقافة فتح تحقيق حول حفل الختام وتهمَ معاداة السامية تجاه المندّدين بالحرب الإسرائيلية، في تفاهة ألمانية لا سقف لها. بعدها، وفي درس أخلاقي لا أمل في أن يتعلّم منه الألمان، أصدر المدير الفني لدورة هذا العام من المهرجان، والأعوام الأخيرة، الإيطالي كارلو شاتريان، ومسؤول البرمجة، الكندي مارك بيرانسون، بياناً مشتركاً قالا فيه إن «الهجوم السياسي والإعلامي الألماني يجعل من اللاسامية سلاحاً وأداة لغايات سياسية… ومهما كانت آراؤنا ومعتقداتنا السياسية، يجب أن نبقي في أذهاننا أن حرية التعبير جزء أساسي في تعريف الديمقراطيات».

وصلت المهزلة الألمانية أقصى حالاتها في محاولة الدولة بأجهزتها، فرض سياستها الخارجية في التعامل مع مهرجان له قيمة دولية كبرى، ويمتلك فيه الفنانون حق التصريح الحر لدقائق، حال استلامهم الجوائز، كأن المهرجان واجهة لبروباغاندا ألمانية (كما كان مهرجان فينيسيا في زمن الفاشية) لا مساحة لأفلام السينمائيين، ولأفكارهم ومواقفهم. فبهم أولاً يتخذ المهرجان مكانته.

مقابل حالة التجييش المحلي ضد المهاجرين والأجانب، مع حضور قوي لحزب اليمين المتطرف «البديل من أجل ألمانيا» المعروف بكونه امتداداً للنازية، في مؤسسات الدولة، مقابل هذا كله كان المهرجان فضحاً، لا للموقف المخزي للدولة الألمانية ومؤسساتها الرسمية والموالية، تجاه الإبادة في قطاع غزة، وحسب، بل لعموم التوجه الألماني في دعم دولة الاحتلال. فالمهرجان عالميٌّ بضيوفه، ولا يمتلك أن يتحكم في مواقفهم، وإن طالب سياسيون بذلك في دوراته المقبلة، في ابتزاز صريح من رئيس بلدية برلين للإدارة الجديدة للبرلينالي، بقوله، في تغريدة، إنه يتوقع منها أن تضمن عدم تكرار أحداث كهذه.

كان المهرجان هذا العام، رغماً عن الألمان، مناسبة كبرى لإدانة إسرائيل. كانت المساحات مفتوحة لفنانين من كل العالم، قالوا ما لن يستطيع ألماني (أو فرنسي) قوله علناً، دون حملات قد توصله إلى المحاكم والإدانة والسجن، ودائماً بتهمة معاداة السامية، التي احترفها (المعاداة ثم التهمة) الألمان والفرنسيون قبل غيرهم من الأوروبيين. فلا يستغرب أحدنا أن يصرّح سياسي بأنه يشعر بالخزي لرؤية كل هذا التصفيق في بلده لكلمات انتقادية لإسرائيل، أو يتفوّه آخر بأن التصفيق، الذي تلا تلك الكلمات وعلاها، نقطة تدنٍّ ثقافية وفكرية وأخلاقية، أو أن تُساءل وزيرة الثقافة عن تصفيقها حين نال «لا أرض أخرى» جائزته، لتؤكد بسفاهة أن تصفيقها كان موجهاً للمخرج الإسرائيلي لا الفلسطيني. فلا قاع لمهازل الفاشيات.

كان المهرجان أخيراً، في ما سبقه وخلاله وفي ما لحقه تحديداً، دفعةً قوية للخطاب المتضامن مع القضية الفلسطينية، أظهر تكاتف هذه المواقف، وكثرتها، بما لم يتوقعه أحد، أظهر انسجاماً أكبر من المنتظَر، من المجتمع الفنّي في العالم، مع عدالة القضية الفلسطينية، وأظهر شرخاً بين هذا المجتمع من ناحية، ومجتمع المتنفّذين والسياسيين وأصحاب رؤوس الأموال، الإعلامية تحديداً، من ناحية أخرى. وأظهر، كذلك، هذا الانحطاط الأخلاقي المسيطر في ألمانيا، الذي يستعيد اليوم من التاريخ الحديث ثلاثينيات القرن الماضي، الأعوام الأولى للنازية.

كاتب فلسطيني

 

القدس العربي اللندنية في

06.03.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004