ملفات خاصة

 
 
 

"ثقل التاريخ" في "برليناله":

عنفٌ مُصوَّر سينمائياً وللموسيقى حضورٌ

نديم جرجوره

برلين السينمائي

الدورة الرابعة والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

مشتركٌ أساسيّ بين أفلامٍ عدّة، معروضة للمرة الأولى دولياً في المسابقة الرسمية للدورة 74 (15 ـ 25 فبراير/شباط 2024) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)"، يتمثّل بـ"ثقل التاريخ". أي أنّ أفلاماً كهذه تختار من الماضي ما يُعتَبَر ثقلاً، أخلاقياً وثقافياً واجتماعياً، في تاريخ بلدان ومجتمعات وأفراد.

هذا غير مفاجئ. مخرجون ومخرجات كثيرون يستلّون من تاريخ بلدانهم ما يرونه مناسباً لقراءة أو أكثر، ترتبط برغبةٍ في مُصالحةٍ واغتسال، أو تُشبه راهناً، أو تتقاطع مع مسائل آنيّة، يُلجَأ إلى التاريخ لقولٍ (مبطّن، غالباً) مفاده أنّ في التاريخ مسائل عالقة، أو أنّ الاشتغال على بعضها غير كافٍ.

في المقابل، تهدف عودةٌ دائمة إلى فصلٍ واحدٍ من التاريخ إلى تذكير متكرّر بفداحة جُرمٍ مرتكَبٍ قبل أعوام، كنوعٍ من ابتزاز، أو كتأنيبٍ قاسٍ على فعلٍ يرتكبه آخر، في زمن قديم. النازية مثلٌ، و"تأنيب الضمير" مُنتِجٌ فعّال لأفلام (ولغيرها) تنبش كلّ فعلٍ، صغيرٍ أو كبير، يُذكِّر الألمان أولاً وبقية الشعوب ثانياً بجريمة أدولف هتلر وجماعته"من هيلدا، مع الحبّ"، للألماني أندرياس دْريْزن، مثلٌ على ذلك، رغم أنّ تذكيره بجُرم نازيّ متمثّل بإعدام شيوعيين وشيوعيات، أو متعاطفين ـ متعاطفات مع الاتحاد السوفييتي. جوهر الحكاية مهمّ، إذ يُقرّ ألمانيٌّ (دْريْزن) بأنّ للنازية جرائم بحقّ أفرادٍ غير اليهود أيضاً (وإنْ يكن بعض هؤلاء يهودياً)، وهذا ضروريّ في بلدٍ خاضع لابتزاز يهودي ـ صهيوني ـ إسرائيلي خانق، والحاصل في ألمانيا حالياً، تحديداً منذ "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، وحرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة، دليلٌ على الخضوع الألماني (رسمياً على الأقلّ) المخيف للوبي اليهودي ـ الصهيوني ـ الإسرائيلي، مع أنّ هناك أصواتاً يهودية (وألمانية) ترفض الحرب، لكنّها غير مؤثّرة كفاية.

قصص من التاريخ تحضر في أفلامٍ، وبعض القصص مُثقلٌ بجرائم متنوّعة"أشياء صغيرة كهذه"، للبلجيكي تيم مَيْلان ("الدب الفضّي لأفضل أداء في دور ثانٍ" للممثلة البريطانية إيميلي واتسون)، يستعيد فصولاً سوداء في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية في أيرلندا (عشرينيات القرن 19، واللاحق عليها)، معروفة بـ"مغاسل المجدلية": مصحّات عقابية مروّعة، بإدارة راهبات تابعات للكنيسة نفسها، بهدف ظاهريّ يقول بتقويم شابات "ساقطات"، أو مراهقات "منحرفات"، والعمل على "إصلاحهنّ".

أيُعتبر الفيلم إدانة متأخّرة، أمْ استعادة سينمائية لجُرمٍ تعرفه البشرية في عصور ظلاميّة قديمة؟ الإدانة غير ظاهرة بفجاجة، والاستعادة طاغية أكثر، في حكاية رجل (كليان مورفي) يعمل في تجارة الفحم، في ثمانينيات القرن 20، يكتشف صدفةً هذه الـ"مغاسل". هذا (لا إدانة فاقعة، بل استعادة سينمائية لفعلٍ ومرحلة وبيئة) يُشبه الحاصل في "حمّام الشيطان"، للنمساويين فيرونيكا فرانتز وسِفِرن فيالا (جائزة "الدبّ الفضّي لأفضل مساهمة فنية" لمارتن غيشْلاغْت، مدير التصوير النمساوي): عنف تربية جماعية يؤدّي إلى ارتكاب جرائم قتل، للخلاص من قسوة حياةٍ، تنزعان (الحياة وقسوتها) عن المرأة تحديداً كلّ حسّ إنساني ـ بشري فيها.

جمالية تصوير تنكشف في مزيج بصري رائع بين تفكيك نفسٍ بشرية، فردية وجماعية، وطبيعة غارقة في لون رماديّ، يميل إلى العتمة غالباً، إشارة إلى ليلٍ مديدٍ لامتناهٍ. أداء النمساوية آنيا بْلاغْ دور أغنس، الشخصية النسائية الأساسية، كفيلٌ بفهم مناخٍ عام، ومسارٍ حادٍ من انهيار فردٍ وخلل بيئة واجتماع، بفضل ملامح وتعابير صامتة غالباً، وحركة جسدٍ تقول أكثر من كلّ كلامٍ آخر. أغنس تتزوّج وولف (دافيد شايد) الذي تحبّ، لكنّها تكتشف، منذ الليلة الأولى، عدم قدرته على ممارسة دوره كزوج، فتبدأ رحلة في عمق جحيمٍ، تغرق فيه تدريجياً، إلى لحظة ارتكابها جريمة قتل مراهق، كي تُعدَم بقطع رأسها، بعد فشلها في الانتحار.

اختزال الحبكة غير حائلٍ دون تساؤلات جمّة، يطرحها "حمّام الشيطان"، لكنّها مترابطةٌ في سياق سينمائي متماسك ومُشوّق، وجميل رغم عنف حالة وأناس واجتماع. فالفيلم يستحقّ قراءة نقدية مستقلّة، لما فيه من تفاصيل ولقطات وأحوالٍ، تعاين أصل العنف، أو أحد أصوله، في مجتمعاتٍ تنبذ العنف راهناً، بعد تاريخٍ مليء به. فـ"حمّام الشيطان" مرتكز على وقائع موثّقة، عن نساءٍ يرتكبن جرائم قتل لتُقطع رؤوسهنّ، بعد عذابٍ غير مُحتَمل، تعشنه في مناطق نمساوية، عام 1750.

بعد 50 عاماً على ذلك (1800)، يروي "غلوريا"، للإيطالية مارغريتا فيكاريو، حكاية فتياتٍ مراهقاتٍ يعشن في "كلية القديس إغناطيوس (Sant Ignazio)". هذا معهد موسيقيّ قديم متهالك، في مكان ما قريب من "فينيسيا". الحكاية غير عنيفة، رغم تسلّطٍ يُمارَس عليهنّ، من رجال يستغلّون مواقع لهم في السلطات الكنسية والاجتماعية والسياسية والإقطاعية لمصالح مختلفة. هذا مرويّ بنَفَسٍ يقترب من الكوميديا المبطّنة، رغم أنّ مصائب عدّة تحلّ في المراهقات، مع جانبٍ أساسيّ من الموسيقى والغناء.

نماذج سينمائية قليلة، مُنتَجَة حديثاً (2024)، تقول شيئاً من تاريخٍ عنيف لشعوب وجماعات، وإن تكن الكوميديا ـ الموسيقى أسلوب مقاربةٍ في بعضها. بعض تلك النماذج، خاصة "حمّام الشيطان"، يؤكّد أنّ للجماليات السينمائية وحِرفية الاشتغال البصري، وإن يكن عددها أقلّ، حضوراً في مسابقة الـ"برليناله 2024"، إلى جانب أفلامٍ غير ملائمةٍ لها.

 

####

 

"شاي أسود": مُنجَزٌ بصري يُخالف الهدف

نديم جرجوره

لن تكون أول مرّة في تاريخ السينما، وطبعاً لن تكون الأخيرة: أنْ يُنجز مخرجٌ عملاً أقلّ بكثير من أدنى مستوى جمالي يُمكن تحقيقه، وللمخرج أفلامٌ رائعةٌ، تأثيرُ بعضها (على الأقلّ) في المشهد السينمائي، فنّاً وجمالياتٍ وأسلوب اشتغال، فاعلٌ طويلاً. هناك من يُخرج فيلماً أقلّ أهمية من سابقه، لكنّ "الجديد" يمتلك، أحياناً، شيئاً من مقوّمات فنّ الصورة وتقنياتها وتفاصيلها، في مقابل خللٍ في المعالجة الدرامية، أو في اختيار قصة صالحةٍ لترجمة بصرية مفيدة وممتعة، أو في جمالية الترجمة نفسها، أو في انتقاء ممثلين وممثلات يصلحون لدور أو لآخر.

الموريتانيّ عبد الرحمن سيساكو (1961) أحد هؤلاء. فيلمه الأخير، "شاي أسود" ـ المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة 74 (15 ـ 25 فبراير/شباط 2024) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)" ـ مثلٌ على ذلك، رغم أنّ رغبته في أنْ ينفتح على ثقافات وحضارات، وفي أنْ يعثر على خطّ تواصل بينها، ماثلةٌ في خلفية صُور غير متمكّنةٍ من إبراز عمق التواصل والعلاقة، لفقدانها جمالية مُنجز بصري متكامل المعالم والمفردات.

ثقافات وحضارات مُدرجةٌ في النصّ السرديّ، وبعضها غير مُقنع لإقحامه عمداً، وبالقوة، في مسار ذاك النصّ السردي نفسه، كأنّ تظهر شخصية رجل خليجي، سيكون سعودياً بسبب مِنَح سعودية في تمويل الفيلم (مهرجان البحر الأحمر السينمائي)، من دون أنْ يكون لتلك الشخصية أي تأثير أو فعالية أو حاجة. شخصية باهتة، مفروضة بقوة مالٍ غير كافٍ، أصلاً، لإنتاجٍ، تُشير لائحة جهاته إلى كمٍّ هائل منها، يصبّ كلّه في فيلمٍ ركيك ومُضجر وفاقدٍ لأي معنى مُفيد، سينمائياً ودرامياً وفنياً وجمالياً وتأمّلياً. شخصية تاجرٍ يبحث عن بضاعة (بعضها ملابس داخلية نسائية، يُصوَّر بطريقة نافرة بصرياً)، في سياق خارج كلّياً عن السرد الأصلي.

هذا يكشف مأزقين، يُعبَّر عنهما بسؤالين: ما سبب انحدار مخرجٍ كعبد الرحمن سيساكو إلى هذا البؤس السينمائي؟ ما هدف اختيار فيلمٍ كـ"شاي أسود"، فارغ ومُملّ وغير نافعٍ (رغم القليل الجميل والمهمّ فيه)، في مسابقة رسمية لمهرجان مُصنَّف فئة أولى؟

طرح السؤالين طبيعي، لكنّ الإجابة عنهما صعبةٌ، إنْ لم تكن مستحيلة، فانحدار مخرجٍ ربما يكون غير واعٍ، أو ربما ينبثق من حاجة إلى إنجاز، أياً تكن نتيجته السينمائية. والاختيار متأتٍ من عجز عن الحصول على الأهمّ والأفضل والأجمل، أو من "قناعة" لدى الإدارة الفنية للمهرجان، بـ"انفتاح على ثقافات وحضارات"، من دون تفكيرٍ بجودةٍ مطلوبة في فعل الاختيار.

لكنْ، كي تستقيم كتابة نقدية عن "شاي أسود"، يُفضَّل الابتعاد عن كلّ تفكير مرتبطٍ بسبب الانحدار وآلية الاختيار. جديد سيساكو، باختصار، مهلهلٌ ومرتبك، يتّضح أنّ إنجازه غير متوافق مع المعنى الذي يُريده المخرج في قراءة علاقاتٍ بين ثقافات وحضارات، وأنّ المُنجز النهائي خاضعٌ لنزوات إنتاجية غير مهتمّة بتحويل المشروع إلى فيلمٍ سينمائي.

لأنّها غير مرتاحة في بيئتها، الجغرافية (مدينة في ساحل العاج) والاجتماعية والحياتية، ما يدفعها إلى رفض الزواج ممن يطلبونه منها، وإنْ تُعلِن الرفضَ أمام الجميع، لحظةَ العرس، تُغادر آيا (نينا مِلو) مدينتها، وتسافر إلى "غوانْجو" (عاصمة مقاطعة "غْوِنغْدونغ"، في جنوبي الصين)، وتختار حيّاً يُقيم فيه أناسٌ من بلدها، وتعمل في محلّ لبيع الشاي، يملكه الصينيّ كاي (تشانغ هان). علاقة عاطفية تنشأ بينهما، بسلاسة وخفّة، قبل أنْ تنكشف أمورٌ عدّة، تحول دون إتمامها. كاي (45 عاماً) منفصلٌ عن زوجته، وله ابنة غير عارفٍ شيئاً عنها منذ سنين، وله ابنُ يلتقيه دائماً، وإنْ تكن بينهما مسافة. آيا (في منتصف ثلاثينياتها) تريد حياة هادئة ومُريحة مع من تُحبّ. فيها شيءٌ من حيوية عيشٍ، وعلاقاتها مع "ناس الحيّ"، أفارقة وصينيين، طيّبة وجميلة. كاي يريد، بدوره، هناءً وصفاء، ويرغب في حَلّ أمور عالقة في ماضيه. لكنْ، هناك مانعٌ يزداد حدّة، ومع ازدياد حدّته، تجد آيا نفسها مُرغمة على العودة إلى بلدتها.

ما يُفترض به أنْ يكون حكاية رومانسية بين اثنين، ينتمي كلّ واحدٍ منهما إلى ثقافة واجتماع وأنماط تفكير مختلفة (إنْ لم تكن متناقضة) عن ثقافة الآخر واجتماعه وأنماط تفكيره، يُراد له، أقلّه تنظيراً من مخرجٍ له نتاجٌ سينمائي مهمّ، أبرزه "تيمْبَكتو" (2014)، أنْ يُصبح قراءة بصرية عن حوار ثقافات وحضارات، لن يتمكّن (الحوار المرغوب فيه) من إظهار مفرداته، سينمائياً، بما يُقنع مُشاهداً مهتمّاً.

المسار السرديّ طويل (111 دقيقة)، قياساً إلى المضمون، الدرامي والحكائي والجمالي والفني. الفراغ يحلّ بين حين وآخر، كما الثرثرة (البصرية والكلامية). رتابة في التقاط مشاهِد عدّة (تصوير أيمِريك بيلارْسْكي)، رغم أنّ في بعضها جمالاً طبيعياً؛ بُطءٌ في الإيقاع غير مُريح في متابعة حكايةٍ، يُمكن اختصارها كثيراً لخلوّها من مُفيد وممتع (سيناريو كِسِن فاتوماتا تال وسيساكو)؛ انتقالٌ غير مُبرَّر، سينمائياً، من واقعية سردٍ إلى ما يُشبه مزيجَ الفانتازيا بالمغامرة، في لقاء كاي بابنته مثلاً.

هذه أمثلة. "شاي أسود" غير مُقنع في مفاصل عدّة من سرده الحكاية. الأداء عاديّ، وبعضه بطيء ومملّ. الموضوع يُناقَش، لكنّ قوله سينمائياً مرتبكٌ.

 

العربي الجديد اللندنية في

18.03.2024

 
 
 
 
 

"حمّام الشيطان": صُنع العنف سينمائياً بقسوة ومتعة

نديم جرجوره

أحد الأوصاف الممنوحة لـ"حمّام الشيطان (Des Teufels Bad)"، للنمساويَّين فيرونيكا فرانتز وسِفِرن فيالا، يقول إنّه "فيلم رعب ودراما"، وإنّه إنتاج نمساوي ـ ألماني مشترك (ويكيبيديا الإنكليزية). مُشاهدته تُلغي صفة رعب لمصلحة دراما، رغم أنّ مَشاهد عدّة فيه تعكس مناخاً يُثير رعباً، بالمعنى السينمائي التقليدي العادي (ربما)، المتعارف عليه، لكنّ الرعب غير متمكّن من إحكام سيطرته، مع أنّ تصويراً لحالاتٍ مختلفة تُثير شيئاً من رعبٍ (لعلّه قرف وغضب وقهر، أكثر منه رعباً) إزاء عنفٍ كامنٍ في نفسٍ وروحٍ بشريّين، قبل خروجه إلى العلن، بكلّ ما فيه من وحشية ودموية.

مداخل عدّة مُفيدةٌ في معاينة "حمّام الشيطان"، الفائز بجائزة "الدبّ الفضي لأفضل مساهمة فنية"، ينالها مارتن غيشْلاغْت، مدير التصوير، في المسابقة الرسمية للدورة 74 (15 ـ 25 فبراير/شباط 2024) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)". مداخل يُمكن استخدامها، أو استخدام أحدها على الأقل، لولوج عالمٍ مليءٍ بالعنف والقسوة والتسلّط والبطش، وإنْ يظهر هذا كلّه مباشرة أحياناً، ومُبطّناً أحياناً أخرى. والمبطّن جوهر سينمائي، درامياً وفنياً وجمالياً، يُمهِّد، أو بالأحرى يحتاج لاحقاً إلى المُباشر، ليكتمل المشهد.

مشهد العرس يجمع أناساً، سيكونون هم ـ هنّ أنفسهم في مشهد الإعدام (الخاتمة). التحوّل من فرحِ عرسٍ بين حبيبين إلى نشوةٍ، تقترب من الرعشة، في اللاحق على إعدام أغنس (آنيا بْلاغْ)، وبـ"فضل" هذا الإعدام، مخيفٌ لشدّة وحشيّته الواقعية، وجماليته السينمائية، ودلالاته المخبّأة فيه: الوحش كامنٌ في الفرد والجماعة، والأخيرة سببٌ أصيل في تغذية العنف في الفرد. احتساء الخمر في حفل العرس، بعد لحظات على بداية "حمّام الشيطان" (في اللحظات تلك تأسيسٌ للاّحق الذي يبلغ، في النهاية، ذروة الوحشية الفردية ـ الجماعية)، يُصبح احتساءً لدم المقتولة إعداماً بقطع رأسها (أغنس)، لأنّها رافضةٌ حياة بائسة، عنفها (أي عنف الحياة البائسة) لن يكون أقلّ حدّة وقسوة وخراباً من كلّ عنفٍ آخر.

ألن يكون في هذا التحوّل، من احتساء خمرٍ (لعلّه النبيذ؟) إلى احتساء الدم، إسقاطاً دينياً يُحيل، ضمناً، إلى ثنائية الدم ـ الخمر في الرواية المسيحية؟ "اشربوا منها (كأس الخمر) كلّكم، لأنّ هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يُسفَك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا" (متى 26: 26 ـ 28)؟ أيكون احتساء الدم، في ختام "حمّام الشيطان"، إنهاءً لمرحلة، وتحضيراً لحالة أخرى، أي لحياة ـ عهدٍ جديد؟ أينبثق الخلاص من دمٍ، أي من قتلٍ وعنفٍ، كي يكتمل (الخلاص)؟ أمْ أنّ التحوّل في "حمّام الشيطان" غير مرتبطٍ بأي إسقاطٍ ديني، ربما يكون (الإسقاط) أخلاقياً أيضاً، لاكتفائه بتعرية فرد ـ جماعة، وفضح حجم العنف المولود فيه ـ فيها منذ ما قبل تكوّن الجنين في رحم الأم ـ المرأة؟ والمرأة، "الممنوع عليها" أنْ تكون أمّاً في "حمّام الشيطان"، ألنْ تختار العنف (قتل مراهقين ـ مراهقات) درباً إلى خلاصٍ منشود عبر الجماعة وقوانينها، بعد فشلها الفرديّ في إنهاء حياتها (محاولة انتحار)، رحمةً بها، وخلاصاً لها من جحيم الأرض؟

أتكون أغنس مسيحاً آخر، يمنح الجماعة دمه لخلاصٍ من بؤسٍ وقهرٍ وعذابٍ، وكثيرون ـ كثيرات في الجماعة غير منتبهين وغير مدركين وغير آبهين، والخلاص يأتي مصادفةً، وإنْ يحصل عليه قليلون ـ قليلات؟ لا حاجة نقدية إلى تحليل أكثر من هذا. لكنّ "حمّام الشيطان"، المستند إلى وقائع حاصلة في "النمسا العليا" عام 1750، يُحرِّض، ثقافياً وتأمّلياً وانفعالياً، على تفكير ـ تحليل كهذا، من دون تجاوز مسألتين فيه: وقائع تُروى، وبحثٌ في كيفية صُنع العنف في ذات فردية، وإنْ بشكلٍ غير مباشر. أغنس نفسها لن تكون الأولى أو الوحيدة، ففي المشهد الافتتاحي، امرأةٌ "تخطف" رضيعاً يبكي، وترميه في منحدر شاهقٍ، ثم تذهب سيراً على قدميها إلى قلعةٍ، تُشبه ديراً، وتعترف بارتكابها جريمة قتل، فتُعدم بقطع رأسها.

المرأة نفسها تُصبح "شاهداً" على واقع، يتمثّل (الشاهد) بـ"مزارٍ" يتضمّن جسدها جالساً على كرسيّ، ورأسها المقطوعة واقعةٌ على الأرض قربها، وتفاصيل عنفية أخرى حاصلةٌ فيها. تعثر أغنس على الـ"مزار"، مصادفةً ربما (إيحاء سينمائيّ رائع)، فتعثر، في الوقت نفسه، على خلاصها المتأخّر وقتاً غير كثير، من دون أنْ توحي بذلك (إيحاء سينمائي رائع، أيضاً). مُصاب أغنس متمثّل بعجز ـ رفض زوجها وولف (دافيد شايد) مضاجعتها. هذا أوّل مُصابٍ تشعر به. بل هذا تأسيس فعلي لخرابٍ، تكتشفه أغنس تدريجياً. والعجز أكثر طغياناً من الرفض، فالرفض ربما يكون غطاءً لعجز الرجل في مجتمع ذكوري خانق، يصنع انفصالاً، ويُعرّي فرداً، ويكشف سوء حياةٍ في بيئة ضاغطة، بعض نسائها (الأم مثلاً، ووالدة وولف تحديداً) مساهمٌ فعليّ ومباشر في تفشّيه (العنف، سوء الحياة، إلخ).

طغيان الحكاية لن يحول دون تنبّهٍ إلى جماليات فنّ وتقنيات. تصوير الطبيعة والجماعة لن يمنع تصوير فردٍ وانهياراته وخرابه واهترائه. تصوير الفرد يتجاوز الحرفية المهنية إلى إبداعٍ، يرتكز على مفردات عِلْميِ النفس والاجتماع، والفكر والتاريخ أيضاً. فالتصوير يخترق موانع، ويعتمد الرماديّ، غالباً (وليلٌ يسيطر على كلّ شيءٍ وكل أحد، مع نور خفيف منبثق من شمعة ما، أحياناً)، وينبش أهوال ذات بشرية، مخبّأة في زوايا عدّة منها.

فالتصوير سردٌ بصريّ أجمل وأهمّ من كل كلامٍ ولقطة وتفصيل، وهذا كافٍ، رغم تفاصيل جمّة تصنع فيلماً، يتوغّل في نفسٍ وروحٍ، أولاً وأساساً.

 

العربي الجديد اللندنية في

20.03.2024

 
 
 
 
 

"برلين السينمائي 74" ينطلق اليوم: نهاية عصر الاستكشافات؟

مشاركة عربية وسكورسيزي مكرما

فراس الماضي

برلينتنطلق مساء اليوم، الخميس 15 فبراير/ شباط، أنشطة الدورة 74 لمهرجان برلين السينمائي الدولي، وتستمر حتى 25 من الشهر نفسه، ويبدأ معها موسم المهرجانات الكبرى لهذا العام، إذ يليه مهرجان "كان"في مايو/ أيار ثم فينيسيا- البندقية في أغسطس/ آب. وتُفتتح دورة هذا العام بفيلم "أشياء صغيرة مثل هذه" للمخرج الأيرلندي تيم ميلانتس، من بطولة كيليان ميرفي وإميلي واتسون وكلير دون.

دورة هذا العام من المهرجان، وكالعادة، لا تأتي هادئة. إذ بدأت أحداثها وأخبارها مبكرا جدا بالإعلان المفاجئ عن تغييرات هيكلية، أعلنتها إدارة المهرجان في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بدأت بتقليل الأفلام المختارة بنسبة الثلث ليصبح عدد الأفلام المشاركة 200 فيلم فقط، انخفاضا من 300 فيلم شاركت في دورة العام الماضي. وأرجعت إدارة المهرجان قرارها إلى خفض التكاليف، في اتجاه معاكس لما تُقدِم عليه المهرجانات الدولية الشبيهة التي تسعى إلى زيادة أقسامها الموازية للمسابقة الرئيسية وكذلك زيادة الأفلام المختارة للعرض والتنافس في الأقسام المختلفة وتنويعها. إلا أن قرار مهرجان برلين يمكن تفسيره بما تمر به ألمانيا - أقوى اقتصادات أوروبا من انكماش.

آثار الهيكلة

وبعيدا من الضغوط الاقتصادية، تمتد آثار الهيكلة التي قررتها إدارة المهرجان لتشمل تغييرا غير معلن في الرؤية، إذ تنتهي بهذه الدورة فترة عمل المدير الفني الإيطالي كارلو تشاريتيان الذي شهد المهرجان منذ توليه المنصب تغييرا استراتيجيا ملحوظا، تمثل في اتجاهه إلى خلق خصوصية سينمائية للمهرجان تميزه عن المهرجانات العالمية الأخرى.

  غدا المهرجان تطبيقا حرفيا لقيمة المهرجانات ومسؤوليتها في الكشف عن الاتجاهات السينمائية الجديدة والمغايرة

تجسدت تلك الخصوصية في تنوع المهرجان في اختياراته الفيلمية، وفاعلياته التي صنعت فارقا في اكتشاف المواهب السينمائية الجديدة، لتتألق عبر المهرجان - عبر السنوات الأربع الماضية- أسماءعدة واعدة، أحدثها ليلا أفيليس مخرجة "طوطم"، ولويس باتينو في "سامسارا" وكلاهما عرض خلال الدورة الماضية 2023.

وتألقت على مدار السنوات الأربع الماضية كذلك أسماء أليكساندر كبردزه، وروث بيكرمان، وأندرياس فونتانا، وسوي شيانغ وغيرهم. هذا النهج رسمه كارلو من قبل في مهرجان لوكارنو على مدار 9 أعوام قبل انضمامه إلى برلين، اكتشف خلالها مواهب لا نبالغ إن قلنا إنها اليوم تقود سفينة الأفلام في المهرجانات الكبرى الأخرى، مثل راوسكي هاماغوتشي، وماتياس بينترو، وبي جان، وغابرييل ماسكارو.

اتجاهات سينمائية

لعب مهرجان برلين السينمائي خلال السنوات الأخيرة دورا مهما في هذا المضمار، وغدا تطبيقا حرفيا لقيمة المهرجانات ومسؤوليتها في الكشف عن الاتجاهات السينمائية الجديدة والمغايرة، وإبراز أفلام العالم غير المعروف لدينا بأروع الطرق. ويمكن أن نستشهد في هذا المقام بما أوجده المهرجان من مساحة لإبراز أسماء وأفلام مهمة عربيا، مثل صهيب الباري في الفيلم السوداني الرائع "الحديث عن الأشجار"، وما قدمه المهرجان العام الماضي من رواج للفيلم اليمني "المرهقون"، ليبرهن من خلال أولئك المخرجين وغيرهم من المبدعين المُكتَشَفين، عن ما يمكن أن تحدثه الاختيارات السينمائية لدول ليست بالضرورة ناجحة سينمائيا أو (لا تملك إنتاجا حقيقيا)، من أثر في دفع ظهور المواهب من تلك الدول، وقدرتها على الخروج - عبر برلين- إلى العالم، بأفلام قوية وحقيقية.

إلا أن هذا المنهج الشغوف بفن السينما، الصحي والحقيقي، يبدو أن المهرجان يبحر بعيدا عنه من خلال استراتيجية جديدة تعطي الأولوية لبريق السجادة الحمراء لا لقاعات السينما، على عكس ما كان عليه في سنوات قيادة كارلو الأربع الماضية. فالمهرجان يتجه في المستقبل للبحث عن النجوم والأضواء، وهو ما يجعل هذه النسخة مميزة باعتبارها الأخيرة لهذا الفريق المخلص للسينما، قبل الاتجاه إلى نموذج المهرجانات الاعتيادي الذي يُخشى أن يجعل مهرجان برلين شبيها بسواه، غير قادر على خلق أية قيمة مضافة يحتاجإليهاالمشهد السينمائي بشدة.

 وعود للمستقبل

الدورة الجديدة هذه هي دعوة لذواقة السينما- نرجوألا تكون الأخيرة- يعلن المهرجان من خلالها العديد من الأسماء الجديدة على الساحة، فبالطبع معظم الأفلام هي هدايا مغلفة، لا نعرف عن مخرجيها إلا أسماءهم، لكنّ هناك أعمالا قد نجزم بأنها ستكون ضمن أفضل الأفلام مع حلول نهاية العام، وهو ما يصنع الفرق دوما.

نأمل أن يأتي الاحتفاء بقدر قيمة سكورسيزي التي كانت ولا زالت مساهمة في عالم الأفلام

عربيا هناك أسماء وأفلام واعدة يستقبلها برلين هذا العام، أبرزها الفيلم التونسي "ماء العين" الذي يشارك في المسابقة الرسمية لمخرجته مريم جعبور في أول فيلم طويل لها، بعد فيلمها القصير الرائع "إخوان" (2018)ويهدينا المهرجان كذلك الوثائقي "مذكرات من لبنان" للمخرجة مريم الحاج في قسم بانوراما، وفيلم المخرج هشام قرداف "في تبجيل البطء" في قسم فورم، والفيلم الأردني "سكون" لدينا ناصر، المشارك في قسم أجيال.

يقف فيلم "ماء العين" في مواجهة أفلام لأسماء عالمية كبرى عادة ما تنحصر المنافسة في المسابقة الرسمية بينها، يتصدرها فيلم المخرج الكوري هونغ سانغ سو "احتياجات المسافر" من بطولة الفرنسية إيزابيل هوبير في ثالث تعاون بينهما بعد فيلم "في بلاد أخرى" (2012)و"كاميرا كلير" (2018). وفيلم "دوهيمي" للسنغالية الفرنسية ماتي ديوب (ابنة الموسيقي الشهير واسيس ديوب، شقيق المخرج السنغالي العملاق جبريل ديوب مامبيتي)، ويشارك أفريقيا أيضا الموريتاني عبدالرحمن سيساكو، صاحب "تومبكتو" (2014)والرائع"باماكو" (2006).يعود سيساكو هذا العام مع الفيلم الذي طال انتظاره وعمل على إنتاجه منذ 2019: "شاي أسود".

أما السينما الأوروبية، فيمثلها في برلين هذا العام عديد من الأسماء الفرنسية التي تشغل اهتماما كبيرا وتحوز شهرة غير هينة، وأبرزهم برونو دومونت في فيلم الخيال العلمي "الإمبراطورية" وأوليفييه أسياس بفيلم "وقت مستبعد".

أما السينمائيون التجريبيون، فإنهم كذلك يحتلونحيزا لا بأس به هذه الدورة، ابتداء من بن راسل مع فيلمه "فعل مباشر" في القسم المفضل لدي شخصيا "تقاطعات".

وبعد اعتزال تساي مينغ ليانغ مع "كلاب ضالة" (2012) ثم عودته في برلين بعدها في"أيام" (2020)، يقدم هذا العام في قسم "نظرة خاصة" فيلما طويلا آخر من سلسلة أفلام "الماشي"، عن الراهب الذي يمشي ويجول العالم بخطواته الساكنة، هذه المرة في واشنطن مع فيلم"abiding  nowhere  أو لا يدوم في أي مكان.

وتأتي لجنة التحكيم في المنافسة الرئيسية هذا العام بقيادة شابة كما جرى العام الماضي، ترأسها الممثلة الأميركية لوبيتا نيونغو، والتي تتضمن كذلك المخرج الإسباني ألبرت سيرا، الأميركي برادي كوربت، والمخرجة الهونغ كونغية آن هوي، والألماني العريق كريستيان بيتزولد، والمخرجة الإيطالية جازمين ترينكا، والكاتبة الأوكرانية أوكسانا زابوتشكو.

وفي سياق مشاركتها في المحافل السينمائية الدولية، تشارك المملكة في هذه الدورة عبر جناح خاص بهيئة الأفلام، بالشراكة مع فيلم العلا، والصندوق الثقافي، ومبادرة "استثمر في السعودية"، ومهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، ومركز إثراء، وذلك بهدف التعريف بجهودها في دعم صناعة الأفلام وتطوير الإنتاج السينمائي، وتنمية المواهب المحلية عبر تشجيعهم للمشاركة في المهرجانات العالمية.

وختاما، يحتفي المهرجان هذه الدورة بمارتن سكورسيزي، المخرج الهائل صاحب المسيرة الكبيرة، ونأمل أن يأتي الاحتفاء بقدر قيمة سكورسيزي التي كانت ولا زالت مساهمة في عالم الأفلام، ورمزا من رموز عشاق السينماالذينيحتفلون بنوادرها ويعملون دوما على إعادة إحيائها.

 

مجلة المجلة السعودية في

15.03.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004