ملفات خاصة

 
 
 

3 شخصيات نسائية تقرر مصائرها في مهرجان برلين

ضابطة سجن وشرطية وإيزابيل هوبير تتنزه في مدنية كورية

هوفيك حبشيان

برلين السينمائي

الدورة الرابعة والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

لم يعد نادراً تصدّر المرأة، كبطلة مطلقة، العديد من الأفلام، حتى تلك التي يخرجها رجال، والدورة الحالية من مهرجان برلين السينمائي (15-25 شباط/ فبراير) امتداد لهذه الظاهرة. ولا نتحدّث هنا عن ظهور المرأة كما كانت تظهر سابقاً، إما في دور الضحية أو الأم المهمّشة أو العشيقة التي تجلس في المقاعد الخلفية أو الفتاة اللعوب. المقصود تلك التي تقرر مصيرها (أقله تحاول ذلك) وصاحبة خيار، ولا تحتاج إلى رجل لتفرض حضورها. في أي حال، هذا ما شاهدناه في ثلاثة أفلام عُرضت في الأيام القليلة الماضية داخل المسابقة الرسمية للـ"برليناله"، نستعرضها هنا بالترتيب، من الأفضل فنياً إلى أقلها جودةً على المستوى السينمائي.

في "أبناء" للمخرج الدنماركي غوستاف مولر، البطلة سيدة خمسينية (مارينا بوراس) ضابطة في سجن يُنقل إليه قاتل ابنها (سيباستيان بول). إنه مجرم خطير لا يمكن السيطرة عليه بسهولة. كي تقترب منه تطلب إلى المسؤول عنها ضمّها إلى الجناح الذي يقبع فيه مَن أنهى حياة ابنها. هذا المجرم لا يعلم أنها أم الشاب الذي قتله، وستنشأ بينهما علاقة ملتبسة قائمة على الرغبة في الانتقام من جانب والحاجة إلى الاضطلاع بدور الأم من جانب آخر. المعضلة التي ستعيشها الشرطية، الضائعة بين القيام بواجبها المهني وما تملي عليها غريزة الأمومة التي لديها، ستفجّر الوضع في هذا الثريللر النفسي الذي يمسكه مولر بقبضة من حديد من دون أن يضيع منه خيط التوتر على طول الطريق المؤدية إلى الخاتمة. جملة واحدة في نهاية الفيلم تلخّص نوع السينما الذي يقدّمها: "هناك مَن لا يمكن إنقاذهم وتأهيلهم". إنها سينما واثقة من نفسها ومن الأفكار التي تبثّها وتروّج لها، وما هي الصور سوى ترجمة بصرية لها تتناسل من هذه الثقة بما تريه، هذا مع العلم أن الشخصيات، خصوصاً تلك التي تحرس السجناء، تدور في فلك التردد والتساؤلات.

بعد "المذنب" (2018) الذي دارت أحداثه حصرياً داخل مركز اتصال للشرطة، هذا فيلم آخر لمولر يحشرنا من خلاله داخل جدران سجن من دون أن يغادره إلا للحظات قليلة. يقدّم الفيلم جردة حساب تختلف قليلاً عن الفكرة التي تكوّنت لدينا عن سجون الرفاهية في البلدان الاسكاندينافية. هذا الانغلاق داخل السجن يلقي بتأثيره في الأحداث وينعكس أيضاً على وجوه الشخصيات المتعبة، وأولها الشرطية التي لا يفسح الفيلم عن بعض ما في ماضيها إلا بالتدريج وبكميات محدودة، فتصبح نتيجة ذلك شخصية لا يمكن اختراقها ولا التسلل إلى ما يخطر في بالها، هناك شيء أشبه بجدار عازل بيننا وبينها. هذا الخيار في بناء الشخصية فيه ما هو مريح وما هو مزعج في آن معاً. هل يعقل مثلاً أن لا أحد في السجن يعلم أن المغدور هو ابنها؟ هل هذا عيب في السيناريو أم أن المخرج وهو أيضاً شريك في كتابة النص، أراد اللعب بهذه الثغرة؟ في أي حال، سيشكّل ذلك عائقاً أمام المُشاهد ليقتنع بالحكاية!

إذا ما استطعنا صرف النظر عن هذه النقطة، فسنجد إننا أمام فيلم مشغول جيداً على الصعيد السينمائي، ويحاول أن يكون مختلفاً عن مئات الأفلام التي تجري فصولها في السجون من دون أن تأتي بجديد يُذكَر. حضور المرأة في السجن هنا، لا يكسّر جليد ذلك النمط من الأفلام المليئة بالعنف والذكورية، بل يفتح آفاقاً غير متوقّعة. فالسيدة هنا أم وسجّانة يتآكلها الانتقام، وكل هذه التناقضات في الشخصية قادرة على فتح نقاش حول المجتمع. أي مجتمع هو الأفضل: ذاك الذي يدعو إلى الرأفة والتسامح والقائم على فكرة الإيمان بأن الإنسان قابل للتأهيل، أو ذاك الذي يعاقب وينتقم؟ السؤال الأخير يطرحه المخرج في الملف الصحافي، لكنه حاضر طوال الفيلم، وكيف لا والشرطية تأتي من خارج عالم الرجال، أي أنها قادرة على أن ترى الأمور بمنظور آخر. كونها أماً طاش سهمها في الاهتمام بابنها وتربيته كما يجب، فترى في قاتله مناسبة للتكفير عن ذنوبها، على رغم صعوبة هذا الأمر والتحدّي الذي يمثّله. في الآخر، يحررها الفيلم من هاجسها، فتتصالح مع نفسها، والأهم يخرجها من سجنها، باعتبارها كانت سجينة بقدر ما كان المجرمون سجناء ولا يزالون.

في "احتياجات مسافرة" للكوري الجنوبي هونغ سانغ سو، تلعب الممثّلة الفرنسية الكبيرة إيزابيل أوبير دور سيدة فرنسية تدخل من هذا الجانب من الكادر لتخرج من الجانب الآخر منه، بلا أي منطق أو مسوغ درامي. تتسكّع في حدائق مدينة كورية وتحتسي مشروبها المفضّل طوال الوقت وهي جالسة على صخرة. نعلم من خلال العناصر القليلة التي يضعها المخرج في متناولنا، إنها تعلّم اللغة الفرنسية لسيدتين، واحدة شابة والأخرى متزوجة وفي سن قريب من سنها. ثم نتعرف إلى شاب بعمر ابنها، تقيم في منزله، ونراهما يجلسان على حافة السرير. العلاقة ملتبسة بينهما، هل هي قائمة على إعجاب متبادل أم إنها تشعر بصداقة تجاهه؟

لا ينبغي التعويل على سانغ سو، الميّال إلى المينيمالية وترك مساحات غامضة في أفلامه، للحصول على إجابات على كل هذه التساؤلات. كل ما نعرفه أنه يعطي أوبير فرصة لتكون امرأة حرة، لا يقيدها شيء وليست مضطرة إلى إعطاء حساب لأحد، تقوم بما يحلو لها، ولا ينشغل الفيلم لا بماضيها ولا بحاضرها، ولا بمستقبلها. فيلم يتركها تعيش كما تتنفس الأوكسيجين. والأهم أنه يعطي لها فرصة جديدة لإظهار مدى قدرتها على تجسيد سمتي الالتباس واللامبالاة اللتين تجريان في عروقها بالفطرة.

مسار التحرر هذا هو أيضاً ما ينتظرنا في "شهامبهالا" للمخرج النيبالي مين باهادور بهام (أول فيلم نيبالي يشارك في مسابقة المهرجان)، لكن بقدرة إقناع أقل بكثير. تجري الأحداث في قرية واقعة في جبال الهيمالايا حيث يحق للنساء التزوج بأكثر من رجل. تحاول بطلة الفيلم بيما (تينلي لهامو) المتزوجة والحامل تحقيق أقصى استفادة من حياتها الجديدة، لكن سرعان ما يختفي زوجها الأول تاشي (تنزين دلها) على الطريق التجاري إلى لاسا. برفقة زوجها الثاني (سونام توبدن)، تخوض رحلة شائكة في البرية، بحثاً عنه، وسيتطور هذا إلى السعي لاكتشاف الذات والتحرر.

يقول المخرج إن بطلة الفيلم، تتحدّى النمطية وتظهر بصورة عصرية كي تكون قدوة للنيباليات. شخصيتها متجذّرة في الأصالة والمرونة النيباليتين. وهي تتأرجح أيضاً بين التقاليد وتحدّي المعايير التي عفا عليها الزمن، ويتجلى هذا كله في رفضها أن تلتزم الصمت عند الحاجة. رحلتها انعكاس للحقائق المتعددة الأوجه التي تعيشها النساء في النيبال. مرونتها في مواجهة الشدائد وعزمها على شق طريقها الخاص يسهمان في تمكين المرأة النيبالية".

بيد أن مشكلة الفيلم أنها تمتد لساعتين ونصف الساعة، وثمة الكثير من التطويل واللحظات التأملية التي لا تعبّر إلا عن طموح المخرج في صناعة إبهار من لا شيء. طبعاً، هناك ما يكفي من انغماس في التقاليد المحلية والثقافة النيبالية كي يغوي الغرب ويتم ترشيحه لمسابقة برلين، ويبدو أن المخرج راهن على هذا الجانب، فقدّم ملحمة اغتراب سينمائي، تخرجنا من الزمن الذي نعيش فيه لتدخلنا في تعقيدات اجتماعية من نوع آخر.

 

الـ The Independent  في

22.02.2024

 
 
 
 
 

رسائل البرلينالي: "شاي أسود"

سليم البيك/ محرر المجلة

انتظر أحدنا عشرة أعوام منذ الفيلم الأسبق للمخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو "تمبكتو"، ليترك أخيراً الصالة بخيبة لم يرِدها. فالقصة وهي علاقة حب قلقة بين امرأة من ساحل العاج ورجل من الصين، واللقطات الجميلة كما بيّنت الصور المتاحة قبل المشاهدة، أمكن لها أن توحي بفيلم رقيق وجديد في طرحه. لكنها لم تفعل.

"شاي أسود" (Black Tea) المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي، فيلم تائه في ذاته، منغمس في شكله وحسب. لا معنى لقصته ولا معاني لحواراته. خرجتُ من الصالة بفكرة أن سيساكو لو اكتفى بإدارة التصوير، السينماتوغرافي الرائعة في الفيلم، ومنحَ الفيلم كمشروع لغيره، لأنقذه.

القصة كما طرحتُها أعلاه، علاقة الحب القلقة بين آسيوي وإفريقية، يمكن أن تكون أساساً لفيلم حب يتوازى مضمونه مع جماليات شكله كما أتت هنا.

الفيلم، في النهاية، خرج بوصفه ميلودراما مؤسفة، لم أُرد لفيلم لعربٍّي وصل إلى المسابقة الرسمية أن يكون بهذه السطحية، خاصة أنه جاء إثر انتظار طويل بعد فيلم بديع. تترك امرأة بلدها وعريسها مهاجرة إلى الصين لتعمل في متجر شاي، تقيم علاقة مشوشة ومجتزأة، لا لأنه حال الشخصيتين بل لأن السيناريو كما قدّمه الفيلم ناقص.

لا شيء محورياً يحصل أمامنا، لا عناصر تشد السرد هنا أو ترخيه هناك. رتابة عامة تسود على طول الفيلم، تخفّف من وطأتها، نسبياً وحسب، اللقطات الجميلة، في التصوير المكثر من خلف زجاج وبانعكاساته، وتداخل الألوان الآسيوية والإفريقية في الأزياء والديكورات، بينها وبين بعضها ومع الإنارات. ما دون ذلك كان درساً أخلاقياً مباشراً وساجذاً في انفتاح الأعراق على بعضها.

أقول ذلك بأسف لأن في الفيلم عنصر بصري يستحق الثناء. لكن السينما ليست لقطات وحسب. وليس الخلل هنا في التفاوت الثقافي، لعباس كياروستامي فيلم "ياباني" أُنتج قبل ١٢ عاماً، وكذلك لفيم فيندرز العام الماضي، وكلا الفيلمين أبدع في تصوير هذا البلد وأهله من عدسةٍ خارجية أظهرت الحب على أنواعه برقّة الغريب. خلل فيلم سيساكو أتى من المقاربة التلقينية التي وقع بها الفيلم في مسألة التفاوت الثقافي وضرورة التقارب العرقي، ومن خَلاء المعنى للحوارات المرفقة، كأنه أراد ملء الصور الجميلة بأيٍّ يكن، فقط كلام وتهيؤات وكلها مفكفكة.

كأنّ الفيلم صور مسبقة أريد لها كلامٌ ما، لا حوارات مبنية تُصوَّر جيداً.

 

####

 

رسائل البرلينالي: "ماء العين"

سليم البيك/ محرر المجلة

يسأل أحدنا "لمَ وصل هذا الفيلم أو ذاك إلى المسابقة الرسمية للمهرجان؟".  الإجابة في حالة "ماء العين" للتونسية مريم جوبر واضحة من أوّل الفيلم، وتشتدّ وضوحاً مع تقدّمه.

هو أولاً عن "داعش"، مفردة واحدة تكفي لينال الفيلم فرصة إتاحةٍ أكبر من غيره، هو ثانياً أقرب ليكون نظرةً سطحية غربية تجاه هذه الـ "داعش". تُرسِّخ مشروعيةَ التساؤل رداءةُ الفيلم المنتشرة على طولة، لتنحصر الإجابة في الكلمة ذات الإيقاع الشديد لدى الغرب، "داعش".

تعبير "راكب موجة" مبتذل ومتسعمَل كفاية، لكنه، لابتذال الفيلم، الأنسب له، وهو في ذلك امتداد لما بدأته المخرجة في فيلمها القصير الأسبق "إخوان". موجة إسلاموفوبيا تعمّ ألمانيا وأوروبا، قدّمها الفيلم بشهادة زور عربية. التركيز على المرأة المنقّبة في الفيلم، بلقطات شديدة القرب، أثارت شعوراً بالانزعاج لديّ، و -لا بدّ- بالذّعر لدى عموم جمهور المهرجان البرليني.

الفيلم إسلاموفوبيّ كما يمكن لعنصريٍّ جاهل أن يخرج به. هو تنميطيّ سياحيّ ممتلئ بالمغالطات الأساسية، كأن يرتدي مقاتلو داعش حطّات بيضاء\سوداء (تلك التي يرتديها من قاتلَ داعش)، أو أن يشير إليه مقاتلوه بهذه المفردة، "داعش". تفصيلان لا يلتقطهما أهل المهرجان وجمهوره لخصوصيتهما العربية ثقافياً، لكنهما يشيران إلى خلوّ الفيلم من مصداقيته، خلوٌّ يمتد على طوله وفي تفاصيله، ليزداد الفيلم زيفاً مع كل مشهد جديد.

يحكي الفيلم عن شاب عاد مع امرأة من سوريا، كان ترك بيت أهله في القرية التونسية للالتحاق بداعش. لا شيء يدور هنا سوى السرد ملتفّاً على نفسه. يتقدم الفيلم كأنه في دوّامة علق فيها من مَشاهده الأولى ويزداد التورّط كلّما تقدّم الفيلم، فيصعب، أكثر، الخروج للوصول إلى نهاية ما.

هذا ما يجعل الفيلم الرّتيب والبطيء، يدخل فجأة في حالة تشويق مفتعلة وجريمة مفاجئة، في ما بدا تقيّؤاً لما حاول الفيلم هضمه، عبثاً، على طول ثلثيه. كأنّ الفيلم تعب من الالتفاف على نفسه فقدّم استنتاجاته كيفما يكن.

الفيلم مكوّن من مجموعة أشياء ناقصة، حوارات مقطوشة ومشاهد مقتطعة، ليكون أخيراً ناقصاً في شكله ومضمونه. يخرج أحدنا بعدة أسئلة، غير ذلك الذي بدأت به المقالة ووجد إجابته. كأنّ الفيلم عبارة عن ارتجال في المحاولات علّ إحداها تربط بين هذه النواقص أو تجعل للفيلم منطقاً أو منطلقاً يكون غير "رهاب الإسلام" بوصفه هوايةً لليمين المتطرف.

محزنٌ أن يكون الفيلم العربي الوحيد في المسابقة الرسمية بهذا المستوى، وأن يكون بمقاربة استشراقية توسّلية ورخيصة.

الانطباع الأولي مع نهاية الفيلم كان بأنه فيلم "خيال علمي"، في حواراته غير المقنعة على أرضها، وفي معطياته الزائفة، وفي لقطاته التي تعمّدت شاعريّة ما وخرجت أخيراً بمَشاهد "كيتش" لوناً ورمزاً. الفيلم الميلودرامي سياحةٌ أوروبية يمينيّة إلى عوالم داعش والتطرف الإسلامي عموماً.

يحوم الفيلم حول نفسه، تائهاً في سرديته، وذلك مع صور مقرّبة جداً، زادت الخناق السردي بخناق بصري، وهذا خطأ كارثي آخر في الفيلم. الانسداد في القصة جاورها انسداد في الصورة، ولم يسعف لا هذا ولا ذاك الأداءُ الحسن للممثلين.

الفيلم نموذج جيّد لما يتوجّب تجنّبه في الصناعة السينمائية العربية ولقضايا عربية. ناقص مصداقيةً وموثوقيةً ضروريتين، ولا سيناريو يخفّف من هذا النقص، ولا تصوير يشوّش على هذا النقص. الفيلم متكامل في نواقصه.

 

مجلة رمان الثقافية في

22.02.2024

 
 
 
 
 

فيلم «داهومي» لماتي ديوب… وقضايا الهوية بعد التحرر من الاستعمار

نسرين سيد أحمد

برلين ـ «القدس العربي»: في عام 2021، بعد نحو ستين عاما على حصول جمهورية بنين الواقعة غربي إفريقيا على استقلالها من المستعمر الفرنسي، أعادت فرنسا 26 قطعة أثرية، من بين آلاف القطع الأثرية المنهوبة، إلى بنين، أو كما كان يعرف اسمها تاريخيا بمملكة داهومي.

تتخذ ماتي ديوب، المخرجة الفرنسية من أصول سنغالية، هذه اللحظة التاريخية نقطة انطلاق لفيلمها الوثائقي «داهومي» المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين في دورته الرابعة والسبعين (15 إلى 25 فبراير/شباط الجاري) متسائلة ماذا لو كان لبعض هذه التراث المنهوب صوتا؟ ماذا لو كان في إمكان تماثيل هؤلاء الملوك الأفارقة الحديث عن انتزاعهم عنوة من أرضهم ونقلهم لمتحف في بلد بعيد بارد غريب؟

بصوت متخيل لتمثال أحد ملوك بنين، بينما تتناقله الأيدي ويوضع في صندوق تمهيدا لعودته لوطنه، يبدأ «داهومي» الوثائقي الذي صنع بذكاء كبير وبتركيز شديد. في الوثائقي الذي تبلغ مدته ساعة وسبع دقائق، تناقش ديوب قضايا ذات أهمية بالغة مثل الاستعمار والإرث الاستعماري، حول هوية الدول بعد حصولها على الاستقلال، ومحاولة بناء شخصية مستقلة، بعد أن فرض المستعمر هويته ولغته على البلاد، التي استعمرها، عن العلاقة المعقدة بين الدول الاستعمارية والدول التي استقلت عنها.

يبدأ الفيلم في المهجر القسري لكنوز مملكة داهومي، التي ازدهرت وأخضعت الممالك المجاورة على مدى ثلاثة قرون، حتى أواخر القرن التاسع عشر، قبل أن تسقط في يد المستعمر الفرنسي. يبدأ الفيلم في قبو أحد المتاحف الباريسية، حيث يخضع تمثال الملك غوزو، أحد التماثيل المعادة إلى أرضها، لفحص دقيق، قبل وضعه في صندوق، تمهيدا لشحنه جوا.

بعد عقود من تحديق الوجوه الغريبة فيه في متحف بارد، يعود تمثال الملك غوزو إلى أرضه، ليس نتيجة لانتصار أهل بلاده، لكن كبادرة على حسن النوايا من المستعمر السابق. إذ وافق الرئيس الفرنسي ماكرون على إعادة بضع قطع أثرية إلى أرضها. ونتابع نحن كما يتابع تمثال غوزو، الذي يصحبنا صوته العميق القادم من الماضي البعيد، رحلة العودة تلك. لكننا لا يسعنا إلا أن نشعر ببعض الحزن والإهانة لهذا التمثال الذي يوضع في صندوقه ووجه إلى الأسفل، يواجه أرضية الصندوق، بدلا من أن يواجه بأنظاره العالم.

لم تكن كلمات تمثال الملك غوزو، بصوته الذي ضخمته المؤثرات الصوتية، والتي قالها بلغته الأم وليس بالفرنسية، لغة المستعمر.. لم تكن كلمات كثيرة، لكنها تلقي بثقلها وعمقها وتأثيرها المهيب على الفيلم بأسره.
إثر ترحيب السلطات في بنين بعودة الثروات المنهوبة واحتفالات الجماهير، يأتي ما هو في نظرنا أهم أجزاء الفيلم. إذ تستضيف جامعة بنين مناظرة وندوة بين الطلاب عن عودة هذه التماثيل، وعن هوية البلاد. آراء تثري الحوار حول مستقبل البلاد ما بعد الاستقلال وكيفية التعامل مع الإرث الاستعماري. نهضت إحدى الطالبات متحدثة بالفرنسية، التي يتحدثها الجميع في البلاد، قائلة إن الاستعمار احتل حتى لسانها لتتحدث بلغته، وإن الشعب سيبقى دوما تحت وطأة الاستعمار، لأن الفرنسية أصبحت هي اللغة الأولى في البلاد.

مناقشات نخلص منها إلى أن التعامل مع الإرث الاستعماري والبحث عن هوية البلاد ليس بالأمر اليسير، الذي يمكن أن يتحقق باستعادة بعض الكنوز المسلوبة.

في المناظرة يقول أحد الطلاب إن إعادة التماثيل مجرد محاولة من فرنسا لتحسين صورتها في العالم. بينما تقول طالبة إن كتب المستعمر تشير إليها على أنها ابنة عبيد، لكنها تنحدر من سلالة من المحاربات والمحاربين. هذا الفخر القومي تنظر إليه ديوب أيضا ببعض التشكك، إذ تركز على أحد القطع الأثرية المعادة، وهو عرش الملك غوزو، الذي يرتكز على تماثيل صغيرة لعبيد مقيدين بالأصفاد، في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، حين حققت مملكة داهومي ثراء كبيرا من تجارة العبيد.

نستمع إلى آراء قوية من شباب مفعم بالحماس ويفكر حقا في مستقبل البلاد، لكن ربما ما يثير الشجون في نقاشات هؤلاء الطلاب أنها لا تخرج عن حيز الكلمات. إذ لم يكن القرار لبنين في استعادة كنوزها، بل جاء ذلك كهبة ومنحة من المستعمر السابق.

ربما يرتكز التأثير القوي للفيلم على رؤيته التعددية للهوية القومية وللبلاد ما بعد الاستعمار. ما يقدمه «داهومي» حقا أنه يجعلنا ننظر بوعي للتأثير الواسع للمستعمر على هويتنا ولغتنا وحياتنا.

 

القدس العربي اللندنية في

22.02.2024

 
 
 
 
 

«متل قصص الحب» يرصد مرحلة «حرجة» في تاريخ لبنان

الوثائقي يُعرض ضمن «برنامج البانوراما» في مهرجان برلين السينمائي

برلينأحمد عدلي

عُرض الفيلم الوثائقي اللبناني «متل قصص الحب» ضمن «برنامج بانوراما» في الدورة 74 من مهرجان «برلين السينمائي الدولي»، وهو الفيلم الذي يوثّق لأربع سنوات وُصفت بأنها «حرجة» في تاريخ لبنان المعاصر، بداية من 2018 حتى 2022، عبر ثلاث شخصيات رئيسية هم: جمانة حداد الإعلامية والناشطة السياسية اللبنانية، وبيرلا جو معلولي الفنانة والناشطة الشابة، وجورج مفرج وهو أحد المنخرطين السابقين في الحياة السياسية.

على مدار 110 دقائق، تصحبنا المخرجة اللبنانية ميريام الحاج في رحلة مع ثلاث شخصيات يُعبّرون عن ثلاثة أجيال لبنانية مختلفة، بدايةً من جورج مفرج الذي أطلق الرصاصة الأولى التي تسببت باندلاع الحرب الأهلية، مروراً بجيل الوسط الذي تعبّر عنه جمانة حداد الإعلامية والناشطة السياسية، وصولاً إلى الجيل الشاب الذي تُعبّر عنه بيرلا جو معلولي.

على مدار السنوات الأربع التي يتناولها الفيلم، نشاهد قصص وحكايات الشخصيات الثلاث وتحولاتها. في حين يتميز كل منهم برؤيته المغايرة التي يراها الأنسب لتغيير الواقع اللبناني، لكن من دون التقاء بينهم، وسط تباين كبير حمل انعكاساً لجزء من أسباب الأزمة السياسية في لبنان.

جورج، الرجل الذي أطلق شرارة الحرب الأهلية بإطلاق النار على الحافلة عام 1975، يروى جانباً من حياته التي يعيشها اليوم، بعيداً عن الانخراط في الحياة السياسية ومشكلاتها، وجمانة حداد الإعلامية التي تحاول إحداث خرق للنظام الطائفي عبر الترشح في الانتخابات النيابية عام 2018، لكنها تخسر الفوز بالمقعد النيابي، وهو ما أرجعته لتزوير النتائج.

أما البطلة الثالثة للأحداث فهي بيرلا جو معلولي، الناشطة الطموحة، والفنانة الشابة التي تملأ الحياة زخماً، أملاً في التغيير السياسي، خصوصاً بعد انطلاق أحداث 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، ونضالها وتحركها في الشارع مع القوى الشبابية المختلفة، التي تحاول إحداث تغيير في الحياة السياسية اللبنانية.

في رحلة الفيلم، رصدٌ للحظات فارقة في تاريخ لبنان المعاصر، بدايةً من انتخابات 2018 التي جاءت بعد غياب الانعقاد الدوري مروراً بأحداث 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، وجائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت في أغسطس (آب) 2020) وصولاً إلى مرور الوقت بعد انفجار المرفأ من دون محاسبة أو توقيف أيٍّ من المسؤولين عن الحادث ورغبة أهالي الضحايا في القصاص.

ويرى الناقد الفني المصري أندرو محسن أن «الفيلم حمل متابعة للتطورات السياسية والاقتصادية في لبنان خلال السنوات الماضية، ويقدَّم في إطار نوعية من الأفلام التي تحاول مواكبة الثورات، لكنه افتقر إلى الاختلاف في التناول بعيداً عن النمط التقليدي، لا سيما مع عدم الشعور بالتوحد مع الأبطال الثلاثة الذين قدمتهم المخرجة في العمل».

ويعتقد محسن وفق حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أن اختيار الإعلامية اللبنانية جمانة حداد لم يكن موفقاً، لاعتيادها الوقوف أمام الكاميرا مما جعلها تظهر بإدراك أكثر من اللازم أمامها، وتتحدث بشكل مرتب ومبالغ فيه، مما أفقد العمل جزءاً من مصداقيته التي يُفترض أن يعبر عنها.

كاتبة الفيلم ومخرجته ميريام الحاج، ترى أن أكثر صعوبة واجهتها خلال العمل عليه هي تسارع تغير الأحداث، واعتقادها في البداية أنها ستقدم عملاً يُظهر تغييراً واختلافاً حقيقيين في الأحداث المستقبلية، قبل أن تُفاجأ بصدمة تغيّر الواقع الذي تصوِّره واتجاه الأمور من سيئ إلى أسوأ، لافتةً إلى أنها صورت أكثر من 300 ساعة على مدار السنوات الأربع التي عملت فيها على المشروع.

وتؤكد الحاج لـ«الشرق الأوسط»، أنها استغرقت أكثر من عام في اختيار الطريقة التي ستُقدم بها فيلمها للجمهور، سواء فيما يتعلق بالربط بين الشخصيات، أو اختيار طريقة تقديمه للجمهور ليظهر بشكل مترابط على الرغم من عدم التقاء الأبطال الرئيسيين الثلاثة.

لكنّ أندرو محسن يرى أن طول مدة الفيلم مسألة لم تكن في صالحه على الإطلاق، خصوصاً أن اختصار بعض المشاهد كان يمكن أن يدعم العمل وفكرته بشكل أكبر من الصورة التي عُرض بها، وفق تعبيره.

 

الشرق الأوسط في

22.02.2024

 
 
 
 
 

التفاصيل الكاملة لليلة منح سكورسيزى جائزة الدب الذهبي الفخرية بمهرجان برلين

خالد محمود

إنها حقا لحظة إخلاص حقيقية للسينما الجميلة، تلك التى منح فيها مهرجان برلين السينمائى المخرج الكبير مارتن سكورسيزي، جائزة الدب الذهبي الفخرية لإنجازاته مدى الحياة، والتى سلمها له المخرج فيم فيندرز.

واستقبل مارتن سكورسيزي بهتافات عالية، عندما نزل من سيارته في قصر برلينالة، وبدأ في التوقيع للجمهور المتجمع في هذه الليلة الباردة في برلين.

مارتي!! مارتي!! غنى الجمهور، بينما وقف سكورسيزي أمام المصورين قبل أن يجيب على أسئلة الصحافة ويحيي حراس المهرجان، محميًا من الطقس القاسي فقط ببدلته السوداء الأنيقة. وبمجرد دخوله القاعة، جلس الرجل البالغ من العمر 81 عامًا أخيرًا بعد حوالي 25 دقيقة من وصوله، بعد تصفيق طويل.

كانت الموسيقى الحية من الموسيقى التصويرية لفيلم Killers of the Flowers Moon مصحوبة بمقاطع يتم تشغيلها على الشاشة. ألقت المديرة التنفيذية للمهرجان، ماريتا ريسينبيك، والمدير الفني كارلو شاتريان، بضع كلمات تقديرا للمخرج العظيم، مما جعل سكورسيزي يضحك ويبدو وكأنه يبكي مع ابنته فرانشيسكا بجانبه.

وصعد المخرج الألماني فيم فيندرز إلى المسرح وقدم لمحة عامة عن مسيرته المهنية، مستخرجًا عشرات الألقاب من 7 عقود من صناعة الأفلام التي قضاها سكورسيزي، وتحدث عن المهنة التي قال سكورسيزي لاحقًا على خشبة المسرح إنه لا يستطيع القيام بها بنفسه، وقال: "نصف قرن من رحلة سينمائية غير عادية"، قبل أن يتذكر أول لقاء له مع سكورسيزي على طريق وحيد في ولاية يوتا عام 1978، بعد مهرجان تيلورايد السينمائي، عندما خرج سكورسيزي من تحت سيارة بإطار مثقوب يحاول إصلاحه مع إيزابيلا روسيليني.

وأشاد فيندرز بمؤسسة سكورسيزي للأفلام ووصفها بأنها سفينة نوح للتراث السينمائي، فقد ساعدت على ترميم أكثر من 1000 فيلم وجعلها في متناول الجمهور.

عندما صعد سكورسيزي أخيرًا إلى المسرح لتسلم جائزته، شكر "الجميع في برلين" قبل أن يضيف رسالة امتنان شخصية لفيندرز: "فيم، لا أعرف ماذا أقول بعد هذه المقدمة والتاريخ الجميل للعمل الذي قمت به على مر السنين، وللمتعاونين معي. إنه عمل صعب المتابعة".

واصل سكورسيزي حكاية تيلورايد عن لقاءات المواهب السينمائية في ذلك اليوم من عام 1978، وتحدث عن أعمال فيندرز بقدر ما تحدث فيندرز عن أعماله، مظهرًا كرمه تجاه الآخرين ومعرفته الموسوعية بالسينما.

وقال سكورسيزي: "فيما يتعلق بأفلامي، لا أعرف ما يمكنني قوله عن 50 أو 60 عاماً من العمل، لا أستطيع أن أفعل ذلك دون الحديث عن المكان الذي يتم فيه الاحتفال بالفيلم وهو المهرجانات. أشعر حقًا بالسعادة لأنني كنت جزءً من المحادثة طوال معظم حياتي. لا أستطيع أن أتحدث عن عملي. ربما يستطيع فيم ذلك".

ليس غريبًا على برلينالة أن العديد من أفلام سكورسيزي عُرضت هنا، بما في ذلك فيلم Raging Bull الذي عُرض خارج المنافسة عام 1981، وفيلم Cape Fear الذي عُرض في المنافسة عام 1992. وفيلم Gangs of New York الذي عُرض خارج المنافسة عام 2003، وSutter. Island خارج المنافسة في عام 2010. افتتح فيلمه الموسيقي Shine a Light لرولينج ستونز مهرجان برلين في عام 2008.

وأكد سكورسيزي للصحافيين في برلين أنه يعمل على فيلم عن حياة المسيح.

"أنا أفكر في ذلك الآن. ما هو نوع الفيلم، لست متأكدا تماما. لكنني أريد أن أصنع شيئًا فريدًا ومختلفًا يمكن أن يكون مثيرًا للتفكير، وآمل أن يكون مسليًا أيضًا. لست متأكدا بعد من كيفية القيام بذلك».

الفائزون السابقون بجائزة الدب الذهبي للإنجازات مدى الحياة هم ستيفن سبيلبرج، وهيلين ميرين، وإيان ماكيلين، بالإضافة إلى فيندرز.

تم ترشيح فيلم Killers of the Flower Moon لـ10 جوائز أوسكار، بما في ذلك أفضل فيلم. بعد حفل برلينالة، عرض المهرجان فيلم سكورسيزي الحائز على جائزة الأوسكار لعام 2006 The Departed.

شاركت مؤسسة سكورسيزي للأفلام على مر السنين في العديد من الأفلام المعروضة في قسم كلاسيكيات برلينالة.

وقال سكورسيزي للصحفيين يوم الثلاثاء قبل الحفل: "كنا نبحث عن نسخ (من الأفلام القديمة) ولكن كان من الصعب للغاية العثور على نسخ جيدة. كان هناك غموض حول الفيلم بما في ذلك الأشخاص الذين صنعوا الفيلم، لذلك كان هناك سحر في اكتشاف شيء جديد في الفن والسينما كفن. يمكن أن يكون فيلمًا لجون فورد أو أي شخص مثل ساتياجيت راي".

 

الشروق المصرية في

22.02.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004