ملفات خاصة

 
 
 

«كعكتى المفضلة».. فيلم يتجاوز الصورة المحظورة فى السينما الإيرانية

برلين ــ خالد محمود

برلين السينمائي

الدورة الرابعة والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

* قصة ملهمة لامرأة فى السبعين تقرر إحياء حياتها العاطفية بلا قيود

* مخرجا الفيلم الممنوعان من الحضور للمهرجان: أردنا رسم حياة حقيقية للمرأة الإيرانية ككائنات بشرية كاملة

* أداء ساحر للممثلة ليلى فرهادبور يقربها من التتويج بجائزة

من وقت لآخر، تمنحنا السينما الإيرانية فيلما مدهشا بلمحاته الإنسانية، ومفرداته الفنية، وأفكاره الجريئة والملهمة، التى تتجاوز الهم السياسى وتحرر من القواعد التى تفرضها ما يسمى بـ«شرطة الأخلاق».

وعلى شاشة مهرجان برلين السينمائى الدولى الـ 74، شاهدنا أحد هذه الأفلام بعنوان «كعكتى المفضلة» الذى ينافس بالمسابقة الرسمية، إخراج الثنائى مريم مقدم وبهتاش صناعية، اللذين لم يحضرا المهرجان، بعد أن تعرضا لحظر السفر من قِبَل النظام الإيرانى، ليرا كيف استقبل الجمهور عملهما بإعجاب كبير داخل قاعة العرض، وقد قاما بإهداء الفيلم فى برلين للنساء فى طليعة الكفاح من أجل حرية حياة المرأة.

«كعكتى المفضلة» فيلم فى مدح الحياة وقيمة أن نعيش، يصور قصة مبنية على الحياة اليومية للعديد من نساء الطبقة المتوسطة فى إيران، يقترب بعمق إلى الشعور بالوحدة الذى ينتابهم مع تقدمهن فى السن، تلك حقيقة لا يتم سردها عادة، وهو ما يتناقض مع الصورة الشائعة للمرأة الإيرانية التى لا تعرف البوح، لكنه هنا أيضا يشبه قصص حياة العديد من الأشخاص الوحيدين فى هذا العالم، والبحث عن تذوق اللحظات القصيرة الجميلة فى الحياة.

فى الفيلم وبأداء رومانسى وكوميدى ساحر للممثلة ليلى فرهادبور، تعيش «ماهين» البالغة من العمر سبعين عامًا، بمفردها فى طهران منذ وفاة زوجها من ثلاثين عاما، ورحيل ابنتها إلى أوروبا، حتى جمعهتا جلسة مع أصدقائها السيدات حول طاولة الطعام بمنزلها، يتبادلون الأحاديث مثل المراهقين، لتقودها أجواء تلك اللحظة إلى كسر روتين عزلتها، وحينها تقرر إحياء حياتها العاطفية واستدعاء مشاعر بعدت طويلا.

ولكن كيف يحدث ذلك فى وقت متأخر من السن وربما بعد فوات الأوان؟ إنه سؤال يحير «ماهين»، الممرضة المتقاعدة والتى تنام متأخرًا، وبدأت تتساءل عما إذا كانت وحدتها قد تصبح غير محتملة مع تقدم العمر وأنه آن الأوان لتجاوزها.

نعم هو قرار لن يثير الكثير من الدهشة فى أى مكان آخر، ولكن فى طهران يعد بمثابة «عمل متطرف». تشرع «ماهين» فى رحلة بحرية لطيفة للغاية، بمشاعر تسمح لإحساس الشخصية بالجرأة الواعية بذاتها بإلقاء نظرة خاطفة عليها.. تخرج إلى الشارع ثم إلى الحديقة المحلية، وأخيرًا فى مطعم للمتقاعدين، وتسمع بشكل غير مباشر حوار لشخص يعيش بمفرده، وهكذا عندما يكون أول مرشح مؤهل تقريبًا تتحدث إليه، كان هو سائق التاكسى فارامارز (إسماعيل محرابى) الذى تراه فى المطعم وتسمعه إنه غير متزوج ــ يتبين أنه شريكها المثالى إلى حد كبير، كما شاهدنا بعد ذلك ولمسنا صوت الإحساس، حيث تطلب منه «ماهيتا» أن يوصلها للمنزل كسائق ثم تدعوه للدخول بعد أن تبادلا حديث طويل للتعارف وعن الوحدة طوال الطريق.

وبصورة مدهشة بمفاجآتها، وحبكة سيناريو سلسلة، وحوار مبهج وليد لحظته، عاش الاثنان لحظات إنسانية جميلة ومؤثرة، ظهرت «ماهين» بدون حجاب فى أفخم الثياب ترقص وتشرب مع رجل ليس زوجها، لكنها وجدت فيه روحها وهو كذلك استرد مزاجه وسعادته، فقدا الإحساس بالزمن وعاشا ساعات بأمسية لا تنسى، وما أروع تلك اللحظة على الشاشة بفضل أداء ليلى فرهادبور الرائع تلقائيته وتعبيرات عينيها وهى تجيد لحظة استقبال السعادة، وتصنع كعكتها المفضلة وكأنها ليلة عيد ميلادها الجديد، وربما يتوجها هذا الدور بجائزة التمثيل فى المهرجان، وأيضا كان «محرابى» هو النموذج الأمثل فى الأداء لذلك الرجل ليشكلا معا ثنائيا عظيما وكيميا خاصة، لدرجة إحساسنا كجمهور بالآلم بعدما فاجأ الموت الرجل وهو فى قمة سعادته، أثر تأثير قرص منشط تناوله سرا.

«ماهين» تصرخ وتهدأ.. تنظر إليه طويلا وتتنفس آهة كبيرة، ثم تقوم بتغسيله وتستأجر شخصا يحفر لها مكانا للدفن بحديقة منزلها، وتقوم هى بجرة وتلقى به فى الحفرة ثم ردمه بالتراب.

وكم كان المشهد عظيما.. هى تجلس على كرسى أمامه وتعطينا ظهرها، وكأنها أعطت ظهرها للدنيا تماما.

لم تشفع تلك النهاية القدرية للفيلم بعدم حدوث اللقاء الجسدى بين الرجل والمرأة، من اتهامات السلطات الإيرانية له، بمنع مخرجيه من السفر وأقامت دعوى قضائية ضد الفيلم، بسبب تصويره لـ«ماهين» بدون حجاب، بالإضافة إلى مشاهد لها وهى تتحدى شرطة الآداب، وترقص وتشرب الخمر مع رجل غريب. بالنظر إلى هذا السياق الواقعى كان لا بد من تصوير جزء كبير من الفيلم سرًا، ربما ليس من المستغرب أن يشعر المخرجان بالحاجة إلى تذكير الجمهور بالحقائق القاسية لحياة النساء فى ظل النظام القمعى المتزايد فى البلاد. ويبدو أن هيكلة الفيلم كقصة رومانسية عبثية لطيفة بين اثنين من السبعينيين غير المتزوجين فى طهران، توفر الإطار الصحيح الذى يمكن من خلاله إيصال مثل هذه الرسالة الرصينة.

المهم يبدو أن بطلتنا فى انتظار معاقبتها على جرأتها لتحقيق حلم السعادة فى مجتمع قاسٍ، فحتى لو حصلت المرأة على كعكتها فلن تتمكن أبدًا من أكلها أيضًا.

تم تصوير الفيلم فى الأيام الأولى للاحتجاجات من أجل حرية حياة المرأة، التى اندلعت بعد وفاة مهسا أمينى أثناء احتجازها لدى الشرطة فى سبتمبر 2022.

وهو من أوائل الأفلام التى أظهرت شخصياتها النسائية بدون حجاب داخل المنزل منذ قيام النظام الإسلامى المتشدد عام 1979.

الواقع أنه منذ سنوات عديدة، كان صانعو الأفلام الإيرانيون يصنعون أفلامهم وفقًا لقواعد معقدة للغاية. وهذا يعنى أنه يجب الالتزام بالخطوط الحمراء التى قد يؤدى تجاوزها إلى عدم السماح لهم بالعمل لسنوات. وقد يؤدى ذلك إلى قضايا قضائية معقدة. وبحسب المخرجان فى بيانهم: «إنها تجربة مؤلمة مررنا بها مرات عديدة خلال هذه السنوات.. وفى مثل هذا الوضع المؤسف، نواصل محاولة تصوير واقع المجتمع الإيرانى فى أفلامنا». وتابعا: «إنها حقيقة غالبًا ما يتم فقدانها أو حجبها بطبقات من الرقابة، لقد أصبحنا نعتقد أنه لم يعد من الممكن رواية قصة امرأة إيرانية مع الالتزام بهذه القوانين الصارمة مثل الحجاب الإلزامى. النساء اللواتى تمنعهن الخطوط الحمراء من إظهار حياتهن الحقيقية ككائنات بشرية كاملة. لقد قررنا تجاوز كل هذه الخطوط الحمراء المقيدة ونتقبل عواقب قرارنا».

وقالا إنهم يريدون رسم صورة حقيقية للمرأة الإيرانية، وهى صورة قالوا إنها محظورة فى السينما الإيرانية منذ الثورة الإسلامية.

كانت هناك آمال حتى اللحظات الأخيرة فى رفع الحظر حتى يتمكن المخرجان من حضور العرض العالمى الأول فى برلين، لكن المؤتمر للعمل بدأ بمقعدين فارغين وصورة مشتركة أمسك بها فريق الفيلم، بينما قرأت الممثلة ليلى فرهادبور، التى سُمح لها بالقيام بالرحلة، رسالة منهما وجاء فيها: «نشعر وكأننا آباء ممنوعون حتى من النظر إلى طفلهم حديث الولادة.. نحن حزينون ومتعبون، لكننا لسنا وحدنا. هذا هو سحر السينما.. السينما تجمعنا. إنها نافذة تفتح وقتًا ومكانًا يمكننا أن نلتقى فيه».

*(السينما الإفريقية تبحث عن نفسها خارج الحدود)*

تترك السينما فى إفريقيا بصمتها فى مهرجان برلين السينمائى لهذا العام، مع وجود قوى لصانعى الأفلام من القارة بثلاثة أفلام فى المنافسة الرئيسية، وهى؛ «الشاى الأسود» للمخرج الموريتانى عبدالرحمن سيساكو، و«داهومى» للمخرجة السنغالية الفرنسية ماتى ديوب، وكلاهما يشاركان فى المسابقة الرئيسية، إلى جانب فيلم «Pepe» لنيلسون كارلوس دى لوس وسانتوس أرياس، وهو إنتاج مشترك بين جمهورية الدومينيكان وناميبيا وألمانيا. وفى الوقت نفسه، يترأس لجنة التحكيم الممثلة لوبيتا نيونجو، التى نشأت فى كينيا والتى يعد صعودها إلى القائمة A فى هوليوود مصدر فخر وإلهام للعديد من المواهب الإفريقية الصاعدة.

ولكن كيفية إطلاق العنان لإمكانات القارة التى لا تزال غير مستغلة كانت سؤالا فى أذهان الكثيرين فى مؤتمر استضافته سوق السينما الأوروبية على هامش المهرجان.

جمع الحدث بين المتخصصين فى الصناعة من القارة مع نظرائهم فى أوروبا وخارجها، مما يؤكد على الوسائل التى رفعت بها صناعات الشاشة الإفريقية المهمشة فى كثير من الأحيان صورتها الدولية.

قال كو لونج المتخصص فى الصناعة السينمائية إنه تم إطلاق منصة AfroBerlin لإعطاء مساحة لصانعى الأفلام من إفريقيا ودول الشتات ولإيجاد مكان يمكنهم فيه مشاركة القصص والخبرات والاستماع إليهم.

وأضاف: «عندما نتحدث عن سوق الأفلام العالمى، نحن بالطبع جزء من المناقشة.. الناس متعطشون لمعرفة المزيد عن القصص الإفريقية».

سلطت جلسات المؤتمر الضوء على ديناميكية الإنتاج السينمائى والتلفزيونى فى إفريقيا والشتات، فضلا عن التحديات التى يواجهها صانعو الأفلام فى وقت هزت فيه الأزمات العالمية والرياح المعاكسة الاقتصادية المتغيرة صناعات الشاشة فى جميع أنحاء العالم.

وقالت جاكلين نسياه، عضو لجنة اختيار قسم اللقاءات بالمهرجان: التمويل يمثل مشكلة لأننا لا نملك البنية التحتية على هذا النحو فى القارة.

فيما قال واين بورج المدير الإدارى للصناعات الإعلامية والترفيه والثقافة فى نيوم: «ليس لدينا هيئات التمويل التى لديكم فى أوروبا والأمريكتين».

وتابع قائلا: «التحدى الأكبر هو إيجاد طريقة لإنشاء شبكات لخلق فرص تمويل فى القارة.. يحاول المنتجون إيجاد طرق للاستفادة من المستثمرين من القطاع الخاص والشركات الخاصة، وأعتقد أن هذا يجب أن يحدث أكثر».

فى السنوات الأخيرة، كان الدواء الشافى للعديد من المبدعين الأفارقة زيادة فى الإنفاق على التكليف من منصات البث العالمية، على الرغم من أن هذا التفاؤل قد تضاءل فى ضوء قرار أمازون الشهر الماضى بالضغط على التوقف مؤقتا على إنتاج المحتوى الأصلى فى القارة، وأسئلة أوسع حول ما إذا كان عمالقة البث ملتزمين تماما بإفريقيا.

ومع ذلك، شدد بورج على أن «هناك الكثير من الحركة فى الاتجاه الآخر» فى المنطقة، مضيفة أن قوتها الإنتاجية السعودية المتنامية «تحرص على الانخراط بشكل أكبر فى الصناعة الإفريقية». «بالنسبة لنا، السوق الإفريقية، السوق الهندية، مهمة بنفس القدر بالنسبة لنا». وقالت إن ما نحرص على القيام به هو إنشاء الوصفة المناسبة، والمكونات المناسبة، للقيام بذلك. «نحن منفتحون على العمل».

اعتمد العديد من المتحدثين مصطلح «الأفروبى» ــ وهو مزيج من الهويات الإفريقية والأوروبية ــ فى حين مثل آخرون الشتات الأوسع فى أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبى والولايات المتحدة.

قال الممثل فيلكيت بونجيه الذى يدير مؤسسة فى صناعة السينما متعددة الجنسات الإفريقية: بالنسبة للعديد من الشباب الأفارقة ــ سواء كان أطفال الآباء المهاجرين فى أوروبا والولايات المتحدة أو مستهلكى المحتوى العالمى على الأراضى الإفريقية ــ لم تعد الحدود القديمة سارية. من المرجح أن يعكس نمو صناعات الشاشة فى القارة هذا الاتجاه: فى حين قدم نيوم بورج عرضا قويا لـ«البيز» السعودى ــ الذى أصبح بسرعة، مع أدوات التمويل مثل صندوق أفلام البحر الأحمر، لاعبا رئيسيا فى السوق الإفريقية ــ أوضح المؤتمر أيضا أن هناك مجالا لمزيد من التعاون عبر المحيط الأطلسى بين البلدان فى الجنوب العالمى.

أكد لويس توليدو من سبسين البرازيلية، وهى مدينة السينما والتلفزيون فى ساو باولو، التى وقعت اتفاقية إنتاج مشترك مع المؤسسة الوطنية للأفلام والفيديو فى جنوب إفريقيا العام الماضى، أن البرازيل هى موطن لثانى أكبر عدد من السكان السود على هذا الكوكب ــ مما يجعلها جاهزة للإنتاج المشترك والتعاون الآخر مع الشركاء الأفارقة.

على مدار اليوم، سلط المتحدثون الضوء على حاجة المبدعين الأفارقة إلى السيطرة على رواياتهم الخاصة. قال تايرون ريكيتس، أحد أنجح الممثلين السود فى ألمانيا، الذى أنتج سلسلة «سام ــ ساكسونى» لشركة ديزنى بلس: «من أجل سرد قصتنا بشكل صحيح، ثلاثى الأبعاد، مع تأثير.. نحن بحاجة إلى أن نكون فى مواقع السلطة فى كل خطوة من العملية».

لم تنتج إفريقيا بعد فيلما أو سلسلة تحاكى نموذج على مستوى «لعبة الحبار» فى كوريا الجنوبية، ولكن فيلم الإثارة الانتقامى «الكتاب الأسود» لإديتى إيفيونج أصبح أول فيلم نيجيرى على الإطلاق فى العام الماضى يصل إلى المرتبة الثالثة على مخططات أفلام نتفليكس فى جميع أنحاء العالم، محطما قائمة أفضل 10 أفلام فى أكثر من 69 دولة.

فيما عاد نيوم بورج ليقول: لا يوجد ما يمكن قوله إن المحتوى من القارة الإفريقية، من الشرق الأوسط، لا ينبغى أن يجد جمهورا عالميا. «ستسافر القصص الرائعة».

وعلى الرغم من التمثيل الإفريقى القوى فى برلين لهذا العام، هناك دائما مجال للمزيد.

 

الشروق المصرية في

21.02.2024

 
 
 
 
 

مهرجان برلين يطرح سؤال المراهقة في أوروبا اليوم

تكريم مارتن سكورسيزي حدث شعبي والفتاة الإفريقية تشرب شايا أسود في الصين

هوفيك حبشيان

يوم احتفالي طويل عاشه أمس مهرجان برلين السينمائي (15- 25 الجاري) ، على وقع تكريم المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي. عشرات المئات تجمهروا أمام قصر الـ"برليناله" لالقاء التحية على صاحب "سائق التاكسي" والمطالبة بتوقيع يحمل خط يده، خلال وصوله إلى السجّادة الحمراء لاستلام "الدب الفخري" عن مجمل أعماله. الأفلام ضاعت قليلاً وسط هذه البهرجة التي صنعها أحد أبرز السينمائيين الذين لا يزالون أحياء. بدا "مارتي"، كما يلقّبه أصدقاؤه، في ذروة ألقه الذهني رغم انه تجاوز الثمانين، وهذا ما أوضحه المؤتمر الصحافي الذي عقده. 

مساءً، عاينت الصحافة في برلين "شاي أسود" (مسابقة) للمخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو، على ان يُعرض رسمياً هذا المساء. عمل آخر يلفّه الغموض من بين كم وفير من الأعمال التي بدت بمثابة ألغاز وأحجية هذا العام في المهرجان. كثر خرجوا من الصالة ولم يفهموا ما جرى على الشاشة، لضعف السيناريو وعيوبه وشوائبه الكثيرة. باختصار هذا عمل ضعيف بمضمون ضحل يعود به مخرج "تمبكتو" بعد عشر سنوات من الغياب، لعله من أسوأ ما شاهدناه في المهرجان حتى الآن. 

بطلة الحكاية آية (نينا ميلو) التي، بعدما تقول "لا" في يوم زفافها للرجل الذي من المفروض أن تتزوجه، تغادر بلادها (دولة أفريقية لا يحددها الفيلم) بحثاً عن حياة جديدة في "مدينة الشوكولا" (نسبةً لوجود الجالية الأفريقية فيها) في الصين. هناك تعمل في متجر للشاي، يملكه رجل صيني يُدعى كاي (شانغ هان). يبدأ كاي في تعليم آية كيف يُحتفى بالشاي والطقوس المرتبطة به. من محض مهنية، تتحوّل علاقتهما إلى حب رقيق. لكن الماضي يطلّ فجأة. باختصار، انها قصة حب بين مهاجرة افريقية وبائع صيني، من منظور مخرج أفريقي يحاول مساءلة الهوية، وتجديد صلته بها، لا بل يحاول بث دم جديد في سينماه. النية حسنة، والمحاولة تحمل في طياتها الكثير من الجهد، لكن النتيجة مخيبة، لا تفعل فعلتها في المُشاهد، بل نخرج من الصالة مع احساس بأننا أضعنا ساعتين من حياتنا.  

إلى الصين بلا مبرر

حزم سيساكو حقائبه وترك البيئة الأفريقية التي اعتاد أن يموضع فيها حكاياته وذهب إلى الصين (جزء من الفيلم صُوِّر في تايوان)، حيث ثقافة غريبة عنه، وهذا الاغتراب السينمائي ملحوظ بوضوح في هذا العمل المفتعل، غير الأصيل، الذي يعجز علينا فهم منطقه وأهدافه. سيساكو الذي كثيراً ما سقط في فخ الأفلام الإكزوتيكية المهمومة بمخاطبة الغرب، يضع نفسه أمام حالة هي جديدة عليه، شكلاً ومضموناً، رغم أنه يراها امتداداً لأعماله السابقة، إذ يقول في مقابلة منشورة في الملف الصحافي: "كانت هناك أولى تمظهرات "شاي أسود" في أحد أفلامي السابقة، "في انتظار السعادة"، فنرى مهاجراً صينياً يتناول العشاء مع أفريقية ثم يبدأ بالغناء. لقد تناولتُ فيه ما أعتبره موضوعاً أساسياً: اللقاءات التي نقوم بها في حياتنا. أما بالنسبة للهوية الثقافية، فأنا لم أستكشف الشخصيات يوماً وفق التعريف التي لها بسبب انتمائها إلى مجموعة معينة من الناس. لديّ شعور بأن أولئك الذين يتركون كل شيء ويغادرون، قد غادروا معنوياً قبل وقت طويل من رحلتهم الفعلية. الرحيل الطوعي والنفي يستحضران كلاماً كثيراً عن الهوية. وبالنسبة لي، السينما هي وسيلة للتعبير عن ذلك".

هناك عيب في الفيلم يصعب علينا تجاوزه: الانتقال من أفريقيا إلى الصين، وهذا يحدث خللاً في الفيلم، ولا نفهم لماذا حدث ذلك وكيف، والفيلم لا يحاول أن يأتي بأي شرح حتى لحظة النهاية. لكن لسيساكو رؤية أخرى للموضوع، اذا فهو يقول: "يستنتج المُشاهد أنه في أفريقيا، ولكن من دون أن يتمكّن من تحديد أين بالضبط. هذا ينطبق أيضاً على المشهد الإنتقالي: تنتقل آية من شارع أفريقي إلى شارع صيني دفعة واحدة. ما يهم ليس الموقع، بقدر الرغبة في التأكيد أن مشية المرأة تبقى نفسها. هذا  يؤكد على الحرية التي لا يمكن حصرها في بلد واحد. في الواقع، من خلال مراقبة محيطها، تخلق آية العالم الذي تعيش فيه. وانطلاقاً من هذا، لا يعود المكان الذي تجري فيه أحداث الفيلم، مهماً. ما كان يهمّني هو تصوير التشابه بين إيماءات آية وإيماءات كاي لإظهار القواسم المشتركة بينهما".

اذا كان فيلم سيساكو يتحدّث عن الانتقال بين بقعتين جفرافيتين إحداهما بعيدة من الأخرى، ويفعل ذلك بطريقة رعناء تترك المُشاهد في حالة سلبية، فالعكس يحدث وعلى كل المستويات، في "لغة أجنبية" للمخرجة الفرنسية كلير بورجيه التي قدّمت واحداً من أقوى المقترحات السينمائية في مسابقة برلين هذا العام.

شباب أوروبا

سبقت العرض الرسمي للفيلم مساء الإثنين الماضي، حفلة توزيع جوائز المواهب الأوروبية الشابة، من ممثّلين وممثّلات لا يزالون في مقتبل تجربتهم. فتيان وفتيات في بداية العشرينات، على قدر عال من الحماسة، يشكّلون نواة السينما الأوروبية. لم يكن تزامن هذه الحفلة مع عرض الفيلم مصادفة، فالفيلم يدور بشكل أساسي حول معنى أن يكون الإنسان شاباً أو شابة في أوروبا اليوم، وهذا من خلال حكاية صبيتين، واحدة فرنسية تعيش في ستراسبور (ليليت غراسموغ)، والثانية ألمانية (يوسيفا هاينسيوس)، تقيم في لايبزيغ. كلتاهما في عمر تكتشفان فيه كلّ شيء، من الأحاسيس الناشئة والمفاجئة حيال الجنس والحب، إلى الوعي على أحوال السياسة والعالم الذي يحيط بهما. ما تعيشانه يكون أشبه بحصّة تدريبية لهما، أكثر من أي مدرسة أو جامعة. درس في كيفية إحداث توازن بين التكيف مع الواقع والتمرد عليه، مع ما يحمله هذا الدرس في داخله من سذاجة وسطحية وتهافت يميز هذه المرحلة العمرية. 

"لغة أجنبية" فيلم حسيّ جداً، من النوع الذي يميل إليه محبّو السينما الأوروبية، تأتي فيه المشاعر على رؤوس الأصابع. يمكن القول إنه نسخة عائلية لـ"حياة أديل" لعبد اللطيف كشيش، من دون إفراط في مشاهد الجنس، ومن منظور محض نسائي، أي مدرك لحاجات الفتيات. في دورة يتكرر فيها تناول موضوع اللغة وتعقيداتها، تقدّم بورجيه فيلماً شبابياً عصرياً طازجاً عن الحدود والمعابر الافتراضية والثقافات القريبة البعيدة والتاريخ القريب البعيد، بلا مساومات وكلام معسول، بل من خلال سلسلة صدمات. هذا كله يحدث في ظل الأم وحرصها الأبدي على أولادها. 

تنشأ الصبيتان في مناخ متوتّر، حيث صعود الأفكار المتطرفة واللاتسامح من الجانبين (سواء في المعسكر الرافض لكل شيء غريب عنه أو الذي يجد في العنف الحلّ الأمثل)، ليس المشكلة الوحيدة. لكن الفيلم مسكون بهذا التهديد المتوارث من جيل إلى جيل والذي يربط الماضي بالحاضر، ويحاول أن يجد موطئاً لهما في ظلّه.  

أقل ما يُقال إن المخرجة كلير بورجيه تصعد صعوداً صاروخياً مع هذا الفيلم، بعد 15 سنة على بداياتها، يوم فازت بجائزة "سيزار" عن فيلمها القصير "بالمجان للفتيات". يحمل فيلمها المشغول بحس بصري عال، مضموناً سياسياً وإجتماعياً، يحاول اعادة فتح النقاش حول العلاقات الألمانية الفرنسية (تتحدّر بورجيه من منطقة حدودية تقع بين البلدين) في دعوة صريحة لرفض الكليشيهات من الجانبين، وهذا من خلال اللغة. لهذه الأسباب كلها، يبدو الفيلم خياراً مثالياً للـ"برليناله"، الذي طالما سعى إلى تقريب أعداء الأمس بعضهم من بعض، وهو نفسه كان ساهم أيضاً في توحيد الألمانيتين.   

 

الـ The Independent  في

21.02.2024

 
 
 
 
 

برلين 74 - "داهوميه" لماتي ديوب: عندما تنطق الآثار

هوفيك حبشيان

بعد "أتلنتيك"، الفائز بالجائزة الكبرى في كانّ 2019، تعود المخرجة الفرنسية ماتي ديوب إلى ال#سينما، مع "داهوميه"، هذه المرة من بوابة #مهرجان برلين السينمائي (15-25 الجاري) ومسابقته، للحديث عن موضوع ذي أهمية قصوى، اقله بالنسبة اليها ذات الأصول الافريقية: نقل التحف والقطع الأثرية التي كان استولى عليها الاستعمار (الفرنسي في هذه الحالة) ووضعها في متاحفه وعرضها على السيّاح لعقود طويلة.

تفتح المخرجة الأربعينية هذا الملف الشائك، من خلال قضية اعادة 26 تحفة اثرية تعود ملكيتها إلى مملكة داهوميه الافريقية السابقة، المنطقة التي تقع اليوم في جنوب جمهورية بينين. في تشرين الثاني من العام 2021، تكفلت فرنسا اعادة تلك الأعمال إلى منبعها، وذلك بعد سن قانون صدر في عهد ماكرون يجيز ذلك. أحدث نقل التحف بهجة شعبية ورسمية تصوّرها ديوب في هذا الفيلم الوثائقي، الخفيف النظيف، من دون ان تتوسّع في الموضوع كثيراً، الذي يدور على نقطة محددة جداً. فمن خلالها، يمكن تخيّل العلاقة الاشكالية بين أوروبا وأفريقيا، ولكن الفيلم لا يرى أي لزوم لخوضها، بل يتركها رهناً للاجتهاد. كل ما تقوم به ديوب هو الطرق على الباب، لعل الرد يأتي من خلفه.

لكن الفيلم لا يكتفي بهذه الواقعة، بل ربما المسألة الأهم لا كيف يُعاد التراث الأفريقي إلى أصحابه، بل كيف يتم تلقّيه من الجانب المُرسل اليه. سجال طويل ومثمر سيخوضه طلاب احدى الجامعات في بينين، انطلاقاً من هذه القضية. وكأي سجال، هناك مؤيد ومعارض ومن يقف في المنتصف. انه سجال صحي بلا شك، يعكس التحولات التي تطرأ على العالم الحالي، محدثةً قطيعة مع فكرة المهيمِن والمهيمَن عليه، تساهم في تقريب افريقيا من تاريخها. نرى شباباً يواجهون أسئلة جديدة لم يواجهوها من قبل.

تختار ديوب معالجة راديكالية. نتابع على أثرها رحلة التمثال من متحف كيه برانلي في باريس إلى القصر الرئاسي في كوتونو، ونرى ذلك من وجهة نظره (التمثال)، منذ لحظة وضعه في صندوق حتى وصوله إلى وطنه الجديد/القديم، مروراً بصعوده في الطائرة. يتكفّل التمثال نقل قصّته بنفسه من خلال تعليق صوتي يبقى صداه في الرأس. هذا يمد الفيلم أيضاً بصوت وكأنه يأتي من أعماق التاريخ ويربط الحاضر بالماضي. يحمل الصوت في داخله صرخة أفريقيا، حيث يموت الهاربون منها في البحر. وفي حين تحدث الهجرة من الجنوب إلى الشمال، يهاجر التمثال في الاتجاه المعاكس للمنطق.

تقول ديوب ان موضوع الرد أو الاعادة يسري في عملها، مذ بدأت بتصوير أفلام وثائقية في داكار بين 2009 و2019. تقول في الملف الصحافي: "من خلال تكريس فيلمي الروائي الطويل الأول للشباب السنغاليين الذين لقوا حتفهم في البحر أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا، كان الهدف الأساسي هو ترك أثر للمأساة المعاصرة من خلال محاولة تقديم التعقيدات المرتبطة بتلك المأساة بكامل أبعادها الشخصية والوجودية. استعادة التحف المنهوبة خلال فترة الاستعمار الفرنسي، تخص أولاً شباب أفريقيا نفسها، الذين لم تُسمع أصواتهم في هذا الخصوص، بل تم اختطافهم من الأوساط السياسية وعزلهم في المجال الأكاديمي المحض. وكان لا بد من توثيق القضية برمتها من القمة إلى القاعدة، لخلق مساحة قد تسمح للشباب بتحديد هذا الاسترداد كجزء من تاريخها. هذا كله لخلق مساحة حيث يُمكن سماعهم".

 

####

 

برلين 74 - "احتياجات المسافرة": إيزابيل قبالة كاميرا هونغ

هوفيك حبشيان

فيلم جديد لهونغ سانغ سو، "احتياجات المسافرة"، في مهرجان برلين السينمائي؟ هذا ليس بحدث أو بسابقة في تاريخ المخرج الكوري الغزير الذي صوّر أكثر من 30 فيلماً منذ انطلق في منتصف التسعينات، ولا في سيرة الـ"برليناله" الذي يفسح المجال ليكون لسانغ سو محطة شبه سنوية.

جديده المعروض في مسابقة المهرجان (15-25 الجاري)، لا يختلف في شيء عمّا صوره في أفلامه الأخيرة التي بدورها لم تختلف عن سابقاتها: ثرثرة ومواقف باهتة وقصص عقيمة، مينيمالية مملّة تقول القليل عن الطبيعة البشرية، هذا كله يأتي على نحو يمكن لثمانية مليار بشري ان يواصلوا حياتهم من دون ان يعرفوا بوجوده ولن يغير هذا كله شيئاً في وجودهم على الأرض. طبعاً، هناك بعض الاستثناءات، ولكن ليس في الفترة الأخيرة من سجل هذا الرجل الستيني الذي يملك طريقة محددة في العمل، لا يحيد عنها، وهي طريقة قائمة على كتابة السيناريو في اللحظة الأخيرة. وهذا النمط ينعكس على الشاشة. تقول زميلة ان سانغ سو يصوّر دائماً الفيلم نفسه، وهذا صح وخطأ في آن واحد، فعدد من السينمائيين لطالما صوّروا تنويعات لفكرة واحدة، لكن مشكلة سانغ سو انه يبدو كمقلّد باهت لهؤلاء. حلمه ان يكون إريك رومير، ولكنه سانغ سو لسوء حظّه، ومسرح "أحداث" حكاياته شوارع سيول الرحبة لا أزقّة باريس الضيقة. ويكفي القاء نظرة على لائحة أفلامه المفضّلة كي نفهم ان السينما الفرنسية هي الينبوع الذي يرتوي منه.

باختصار، نحن أمام حالة سينمائية، لها معجبوها في أوروبا وفرنسا خصوصاً، لكن كثرا في المقابل لا يمسّهم ما يقدّمه هذا المخرج من تسكّعات، ومع ذلك فهو ضُم هذا العام إلى المسابقة الرسمية، بعدما كان في المقاعد الخلفية في الفترة الأخيرة. كأن المدير الفنّي الخارج كارلو شاتريان أراد تسجيل موقف.

في أي حال، يواصل سانغ سو تصوير الأشياء التي يعرف كيف يقولها ولماذا يقولها، وهذه المرة يستعين بإيزابيل أوبير، في ثاني تعاون بينهما، واضعاً اياها في رداء سيدة تبدو أحياناً تائهة وغامضة، وتصبح حسّاسة وشفّافة ورقيقة في أحايين أخرى، كلّ شيء يتعلّق بمن تلتقي. وهذه السيدة يُطلب اليها تعليم اللغة الفرنسية، وهذا ما ستفعله، كون لا شيء يشغلها أصلاً، سوى الجلوس على حافة صخرة أو التجوّل في الحدائق، أو احتساء شرابها المفضّل.

هذا هو فيلم سانغ سو. لكن حضور أوبير فيه هو، للأمانة، الشيء الوحيد الذي يجعله قابلاً للتحمّل في أي حال. صحيح، أن مشاركتها دائماً ما تمدّ الفيلم بمذاق خاص، ويمكن ان تكون مثيرة حتى اذا جسّدت دور مكنسة كهربائية، لكن لامبالتها وسينيكيتها الفطرية تأخذان أمام كاميرا سانع سو بُعداً آخر ومستوى غير مسبوق. وينعكس ذلك في طريقة نطقها للكلمات أو انتظارها لشريكها في التمثيل كي ينهي جملته لتدلو بدلوها. هذا كله، عدا انها تبدو أصغر من عمرها بكثير وكأنها في أربعيناتها. أوبير هي شمس هذا الفيلم، علماً ان سانغ سو مشغول بالقمر أكثر، الذي لن يطل، ومن هذا التفاوت يولد فيلم يعطي الممثّلة الأثيرة واحدا من أجمل الأدوار التي تجسّد معنى اللامبالاة.

 

النهار اللبنانية في

21.02.2024

 
 
 
 
 

«السيد قشطة» يجبر الجمهور على مغادرة دار العرض غاضبًا!

طارق الشناوي

مع كلمة النهاية تعالت الأصوات الغاضبة داخل دار العرض، ولم تكن المرة الأولى التى يخترق فيها أذنى هذا الصوت الذى يستخدمه البشر وبكل لغات العالم للتعبير عن الاستهجان، أكثر من فيلم- حتى كتابة هذه السطور- لاقى نفس المصير، إلا أن تلك المرة ربما كانت الأعلى والأكثر مباشرة فى الإعلان.

دعونا أولا ننتقل من النهاية إلى البداية، شاهدت مساء أمس الأول الطابور الطويل قبل بدء العرض، وأخذت دورى فى الانتظار، الطابور دلالة إيجابية قطعا لأى فيلم، وعامل جذب، خاصة أنه يعرض فى المسابقة الرسمية التى يتقدم إليها عادة آلاف الأفلام من مختلف دول العالم ويتم انتقاء 20 فقط.

الشريط يحمل عنوان (فرس النهر) إنتاج مشترك يجمع بين أكثر من دولة: الدومنيكان ونامبيا وألمانيا.

الزمن يمتد نحو ساعتين، ويقع فى إطار الفيلم التسجيلى، ووصل عددها حتى الآن فى المسابقة الرسمية إلى نحو أربعة أفلام، وهى نسبة تقترب من 25 بالمائة، بالمقارنة بكل النوعيات الأخرى، أراها هى الأكثر بين أغلب المهرجانات الكبرى.

مهرجان برلين بالمناسبة كثيرا ما منح الفيلم التسجيلى أرفع جوائزه (الدب الذهبى) وآخرها العام الماضى وكانت من نصيب (سور لادامنت) الذى تدور أحداثه فى سفينة تصبح مستشفى العلاج النفسى بفرنسا، وعلى المسرح سخر المخرج الفرنسى لأنه لم يكن متوقعا حصوله عليها، فقط كان سقف أحلامه لا يتجاوز المشاركة فى (برلين)، وبالمناسبة كان من أقوى وأهم الأفلام المشاركة فى التسابق فى الدورة السابقة التى حملت رقم 73.

ويبقى السؤال: كيف يتنافس فيلمان من نسيج فنى مختلف على جائزة واحدة، أدوات التعبير للمخرج تتباين بين التسجيلى والروائى، الأول يسقط الخيال بمعناه العام ويتحول إلى توثيق والثانى يضع الخيال كأول سلاح له فى التعبير، ورغم ذلك فإن هناك مساحة من الخيال لصانع الفيلم التسجيلى، تمنح الشريط خصوصية فى التعبير، بالإضافة إلى أن الفيلم الروائى لا يخلو من هامش وثائقى، كما أن معيار الجمال الفنى من الممكن لأى لجنة تحكيم أن تستند إليه ولا يفرق بين الروائى والتسجيلى.

بطل الفيلم هو (فرس النهر) الذى نطلق عليه فى مصر اسما شائعا وهو (السيد قشطة)، ويقال إن حارس حديقة الحيوانات هو الذى نعته بهذا الاسم الذى يحمل دلالتين، فرط السمنة وفرط الاحترام، القشدة هى أغلى مستخرجات اللبن، و(السيد) دلالة على المكانة الرفيعة التى حققها هذا الحيوان ضخم الجثة، والذى يحظى بحب الجميع وأولهم الأطفال، ويقال إن أول فرس نهر جاء إلى حديقة الحيوان كان يفضل أكل القشدة، ومن هنا ظل الاسم لصيقا به، فهو ليس من أكلة اللحوم مكتفيا بالأعشاب التى يلتهمها طازجة من أعماق النهر، وهذا الحيوان المسالم يمتلك أسلحة خاصة للحماية، لا تستطيع حتى التماسيح الاقتراب منه لأن جلده صلد يشكل له درعا، فهو حائط الدفاع الأول ولا تخترقه أسنان التمساح الحادة.

هذا الحيوان البرمائى رغم أنه لا يمتلك خياشيم، لكنه يستطيع العيش تحت الماء نحو 16 دقيقة، مهدد بالانقراض، وهذا الفيلم أقرب إلى إنذار للعالم كله، يطالب الجميع بحماية هذا الحيوان من غدر البشر، الذين يبيعون كل شىء، جلده وقرونه وغيرها.

المخرج نيلسون كارلوس دى لوس سانتوس درس كل التفاصيل حتى يقدم فيلما توثيقيا لا يخلو من هامش مقنن من الخيال.

واللغات المستخدمة الإفريقية والإسبانية والألمانية، البطل هو صوت صناعى يروى من خلاله (السيد قشطة) حكايته مع البشر وخداعهم له، إلا أنه كان من الممكن اختصاره على الأقل إلى نصف المدة.

يبدو أن إدارة المهرجان كانت فى الأسابيع الأخيرة وقبل بدء الفعاليات تتحرك على سطح صفيح ساخن، بسبب ضعف الاختيارات الفنية وكذلك تناقضات القرارات التى يختلط فيها الفنى بالساسى، الإدارة سوف تتغير فى العام القادم، وهذا قطعا يؤثر سلبا على صانع القرار التعامل مع مسؤول يغادر موقعه بعد أيام قلائل، يفرض على كل قراراته حالة من الهوان وهكذا تعددت الأفلام محدودة المستوى بداية بفيلم الافتتاح (أشياء صغيرة كهذه).

لدى مبدأ أطبقه على نفسى فى الداخل والخارج وهو أى عمل فنى مهما بلغ مستواه على أن أكمله حتى النهاية، وكثير من الأفلام المصرية أدخل دار العرض ولا أجد فى الصالة أكثر من أربعة أشخاص، ومن الممكن فى الاستراحة أن أكتشف أن العدد لا يتجاوز فقط (العبد لله)، ورغم ذلك أكمل المشاهدة حتى كلمة النهاية.

بينما فى فيلم (السيد قشطة)، استمر التناقص العددى، داخل دار العرض، تقريبا نصف المشاهدين غادروا القاعة، بينما النصف الآخر استمر متشبثا بالكرسى حتى يتمكن فى نهاية العرض من إعلان احتجاجه كنوع من التنفيس على ضياع الوقت، وأيضا يحمل إنذارا للمهرجان لعله يصل للمسؤول القادم فى الدورة رقم 75.

 

المصري اليوم في

21.02.2024

 
 
 
 
 

مارتن سكورسيزى بعد تكريمه بالدب الذهبى من برلين: السينما تتطور ولا تموت

وداد خميس

حرصت إدارة مهرجان برلين السينمائى الدولى فى دورته الـ74 على تكريم المخرج الأمريكى الكبير مارتن سكورسيزى، ومنحه جائزة الدب الذهبى الفخرى تقديرا لإنجازاته على مدار حياته.

وخلال خطاب تكريمه قال المخرج فيم فيندرز إن سكورسيزى كان يناضل دائما من أجل استقلاله وأفكاره الفنية، وأنه تمكن من خلال أفلامه من تطوير أسلوبه الفريد على مدار نصف القرن الماضى.

وخلال مؤتمر صحفى على هامش تكريمه من المهرجان أشار مارتن سكورسيزى إلى أن السينما لا تموت لكنها تتطور، حيث تغيرت التكنولوجيا بشكل سريع، موضحا أنه فى نشأته كانت السينما وقتها تظهر بشكل واحد، وهو إذا أراد شخص مشاهدة فيلم عليه الذهاب إلى صالة العرض، وكانت المشاهدة دائما تجربة جماعية.

كما أكد سكورسيزى أنه لا يجب أن نخاف من التكنولوجيا، بل ينبغي توجيهها في الطريق الصحيح، فضلا عن حديثه عن أجدد أعماله الفنية.

يذكر أن أسطورة السينما الشهير يعود إلى مهرجان برلين بعد غياب عن الحضور لسنوات طويلة لتكريمه بالجائزة الأكبر في المهرجان وهي Golden Bear والتي تعد أعلى وسام في برليناله.

وسبق وذهب سكورسيزى إلى برلين عدة مرات من قبل، مع أفلامه Raging Bull وGangs of New York وShutter Island، والتي تم عرضها جميعًا خارج المنافسة، ومع دخول مسابقة برلين Cape Fear في عام 1992، ويأتي سكورسيزي إلى الدورة الرابعة والسبعين من مهرجان برلين في وقت يشهد فيه الحدث تغيرًا مستمرًا.

 

####

 

مارتن سكورسيزى.. فلسفة أنا الجمهور وشغب الحى الإيطالى يصنعان مجده

محمود ترك

"عندما أصنع فيلما، أنا الجمهور" مقولة شهيرة للمخرج مارتن سكورسيزي صاحب العديد من الشرائط السينمائية المميزة، والفائز بالعديد من الجوائز السينمائية المرموقة، توضح هذه الجملة فلسفته في صنع أفلامه، وكيف تعبر عن ذاته، وتتجمع فيها خزائن ذاكرته السمعية البصرية لصياغة قصص وحكايات تعرض على الشاشة الكبيرة، ويتعلق بشخصياتها الجمهور.

نتيجة النجاح الكبير والمسيرة الفنية الممتدة لـ سكورسيزي، حرصت إدارة مهرجان برلين السينمائي على تتويجه، بمنح المخرج جائزة الدب الذهبي الفخري، ضمن فعاليات الدورة الـ74 للمهرجان السينمائي الشهير، في اعتراف وتقدير من المهرجان بإنجازات المخرج البالغ من العمر 82 عاما، والذي عشق الفن السابع، منذ طفولته في الحي الإيطالي Little Italy بمدينة نيويورك، ذلك الحى الذى وصفه بعد ذلك بأنه كان مصدر إلهامه فى العديد من الأفلام.

مارتن سكورسيزى ذو الأصول الإيطالية ولد عام 1942، وجاءت عائلته من باليرمو، صقلية، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتعلق بفن السينما، وحرص على دراسته، وحصل على درجة البكالوريوس في الاتصالات السينمائية عام 1964، ثم حصل على درجة الماجستير في نفس المجال عام 1966 من كلية السينما بجامعة نيويورك.

عرف المخرج الشاب وقتها طريقه إلى الجوائز منذ بدايته إذ أنتج وقتها العديد من الأفلام القصيرة الحائزة على جوائز منها The Big Shave (1967)، وأخرج فيلمه الطويل الأول Who's That Knocking at My Door (1967).

 

اليوم السابع المصرية في

21.02.2024

 
 
 
 
 

هاجس أوروبا المهدّدة يخيّم على مهرجان برلين السينمائي

هوفيك حبشيان

مر اسبوع على انطلاق الدورة الرابعة والسبعين ل#مهرجان برلين السينمائي، ولا يزال البحث جارياً من الساعة التاسعة صباحاً حتى ما بعد منتصف الليل عن الفيلم الذي يستحق ان يُسند اليه "الدبّ الذهب". فالطقس المعتدل في المدينة هذا العام قد لا يكون ملائماً للدببة، اذ من بين ما شاهدناه إلى الآن، لا يوجد ما هو أهل لهذه الجائزة المرموقة التي تُعد أحد أهم التكريمات في مجال السينما. لكن، الأقرب اليها: "الأمبرطورية" لبرونو دومون و"لغة أجنبية" لكلير بورجيه، وهما الفيلمان الفرنسيان اللذان انقسم حولهما النقّاد. هناك أيضاً "ان نموت" للمخرج الألماني ماثياس غلاسنر، ثلاث ساعات، الذي لم أشاهده بعد، ولكن مَن عاينه كال له المديح. كثر أيضاً أحبّوا الفيلم الإيراني "كعكتي المفضّلة" لمريم مقدّم وبهتاش صناعي. أما أكثر الأفلام التي خيبت التوقّعات، فهو "شاي أسود" للمخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو الذي جاءنا بعمل باهت مفكّك غير مفهوم، رغم مرور عشر سنوات على عمله الأخير. أما الكوري هونغ سانغ سو وجديده "احتياجات مسافرة"، فهل ثمة مَن كان يأمل ان يأتيه بنصّ يختلف عمّا سبقه؟ فهذا الفنّان المينيمالي، حشر نفسه في مساحة، ولا يتوقّف عن الدوران فيها، من دون ان يضيف ولو شيئاً بسيطاً أو مختلفاً مع كلّ دوران جديد.  

******

لحسن الحظ، لا تزال أمامنا بضعة أفلام سنكتشفها بين مساء اليوم ونهاية المهرجان الموافقة يوم الأحد 25 الجاري، على أمل التعويض عمّا فاتنا في الأيام الأولى، لا على صعيد الكمّ فقط بل النوع أيضاً. طبعاً، هذا التقييم العام يشمل المسابقة فقط وأفلامها الـ20 التي تعاينها لجنة تحكيم برئاسة الممثّلة المكسيكية لوبيتا نيونغو، أما الأقسام الأخرى، فهي مهرجانات في ذاتها، يحتاج الحديث عنها إلى مشاهدة أوسع وأعمق، لا تسمح بها الأيام الأحد عشر للـ"برليناله". 

وسط هذه الأعمال المتفاوتة من حيث القيمة والاتجاهات، لا بد من التوقّف عند "لغة أجنبية" لكلير بورجيه، الذي شاهدته في عرضه الرسمي، مسبوقاً بحفل توزيع جوائز المواهب الأوروبية الشابة ("شوتينغ ستارز"). لم أدخل الفيلم بتوقّعات عالية، ذلك أنني لم أشاهد لبورجيه أي عمل سينمائي من قبل، رغم ان فيلمها الحالي هو الثالث لها، بعد انطلاقة بعمل قصير في العام 2009، لفت الأنظار ونال "سيزاراً". حفل توزيع الجوائز الذي سبق العرض واستغرق نحو ساعة، أثار استيائي في البداية، لأن نظام حجز التذاكر لا يذكره، ففوجئتُ به مثل كثيرين، لكن بعد مشاهدة الفيلم الذي تلاه، أدركتُ ما الرابط بينهما. في الواقع، كلاهما يتحدّثان عن أوروبا التي تستمد حاضرها من ماضيها، وتخطط لمستقبلها. 

بعنوانه الجامد الذي يعطي الانطباع بأننا إزاء فيلم وثائقي للمتخصصين، يعرّفنا "لغة أجنبية" إلى مراهقتين، الأولى فرنسية (ليليت غراسموغ) والثانية ألمانية (يوسيفا هاينسيوس). تقيم الفرنسية بضعة أيام عند الألمانية في اطار تبادل لغوي، فيتحوّل لقاؤهما لحظة تكوينية حاسمة. من خلال احتكاك الواحدة بالأخرى وبثقافتها وبنمط تفكيرها، ستكتشفان الكثير: الحبّ، الأحاسيس، الغضب، التمرد، النضال… هذا كله في المناخ الحالي الذي يسيطر على أوروبا، بحيث تحتاجان إلى الكثير من الاصرار للبقاء على ما هما عليه من حماسة والتزام تجاه ما تعتقدان بأنه الصواب. فصول هذا كله ستدور تحت العيون الساهرة والمتعبة لأمّهيما (نينا هوس وكيارا ماستروياني) اللتين تحاولان التدخّل في حياتهما الشخصية والعامة. 

هذا فيلم عن أوروبا الراهنة، يتجوّل بين ستراسبور ولايبزيغ، فيلم عن الهاجس والخوف وشبح الماضي الذي يخيّم على جيل الشباب المثقل بالأعباء، وعن أزمة التواصل بين أصحاب القرار ومَن يتلقّى هذه القرارات ويعاني منها، وعن صعوبة قبول الآخر مهما يكن… باختصار، انه فيلم عمّا يعني ان تكون مراهقاً في فرنسا وألمانيا، وهما بلدان يتشاركان تاريخاً من العنف والعداء، ثم المصالحة والاستقرار، مع كلّ ما يترتب على هذا من تحديات اجتماعية واقتصادية وسياسية، في ظلّ اللجوء الذي يشهدانه! 

******

أسئلة كثيرة تخوضها بورجيه بجرأة، فتخرج وفي جيبها المزيد من التساؤلات البعيدة من الأجوبة الجاهزة. قد لا تعرف الصبيتان ان الفيلم عنهما، وهذا ما هو لافت في اسلوب المخرجة، لأنها لا توظّف التجارب الفردية لخدمة قضية، بل تضع القضية في خدمتها. الكثير يحدث في الفيلم: تظاهرات وخلافات عائلية وجنس وخيانات زوجية ودروس لغة وخلافات بين طلاب، والمراهقتان جزء من هذا المشهد العام، جزء من أوروبا المليئة بالقضايا، وبشباب لا يجدون غير تبنّي بعضها لإثبات وجودهم. قل لي لمَن تنتصر، أقل لك مَن أنت! تُنسَب مقولة "اذا لم تكن اشتراكياً في العشرين فأنت بلا قلب، واذا بقيتَ اشتراكياً في الأربعين فأنت بلا عقل" إلى أشخاص عدة، لكن الفيلم ترجمة حرفية لها. ففاني ولينا لديهما كلّ الوقت لتتمردا على كلّ شيء وأي شيء، لكنهما في النهاية ستعودان إلى الحظيرة، على غرار أهلهما، لتنعما باستقرار لا بديل منه، وتخدما المنظومة القائمة.

من بين حطام الأفكار والنضالات الممزوجة بالتجارب الشخصية والمعاناة، يطل هاجس المستقبل الذي يغدو الهم الأساسي للفيلم. بورجيه "أروفيلية" بلا شك، تدعو إلى توحيد أوروبا للوقوف في وجه كلّ ما يهددها، من الشعبوية وصعود النزعات القومية إلى كلّ ما يأتي من الماضي ليعرقل مواجهة الشعوب لعدوها المشترك، وهو لا يتجسّد بالضرورة على هيئة بشري. 

المثير ان الفيلم ينقل هذا كله، بلا خطاب، وبالوسيلة الوحيدة التي يملكها: لغة الصورة. اللغة الأجنبية التي في العنوان، ليست فقط اللغة المنطوقة، بل هي أيضاً الصور التي تتصادم مع الواقع، تأتي بما لا يحلو له، بل تتجاوزه حتى.  

يذعن الفيلم للحسية بلا تردد. كلّ هذا البحث في السابعة عشرة من العمر لا بد ان يفضي أيضاً إلى البحث عن الجنس والميول المرتبطة به، خصوصاً ان كلمة Langue تعني أكثر من "لغة" في الفرنسية، بل هي مرادف للسان كذلك، وما أدراكم ما اللسان في لغة الحبّ! لكن الفيلم متمهّل في هذا المجال، يفضّل اللحظات الهاربة على الإيروسية الواضحة، وليس من المبالغة القول ان الفيلم بأكمله ذكّرني بـ"حياة أديل" لعبد اللطيف كشيش، انه بالأحرى نسخة "سوفت" عنه، مصوَّر من منظور محض نسائي. 

******

"احتياجات المسافرة” (مسابقة) لهونغ سانغ سو، لا يختلف في شيء عمّا صوره في أفلامه الأخيرة التي بدورها لم تختلف عن سابقاتها: ثرثرة ومواقف باهتة وقصص عقيمة، مينيمالية مملّة تقول القليل عن الطبيعة البشرية، هذا كله يأتي على نحو يمكن لثمانية مليار بشري ان يواصلوا حياتهم من دون ان يعرفوا بوجوده ولن يغير هذا كله شيئاً في وجودهم على الأرض. طبعاً، هناك بعض الاستثناءات، ولكن ليس في الفترة الأخيرة من سجل هذا الرجل الستيني الذي يملك طريقة محددة في العمل، لا يحيد عنها، وهي طريقة قائمة على كتابة السيناريو في اللحظة الأخيرة. وهذا النمط ينعكس على الشاشة. تقول زميلة ان سانغ سو يصوّر دائماً الفيلم نفسه، وهذا صح وخطأ في آن واحد، فعدد من السينمائيين لطالما صوّروا تنويعات لفكرة واحدة، لكن مشكلة سانغ سو انه يبدو كمقلّد باهت لهؤلاء. حلمه ان يكون إريك رومير، ولكنه سانغ سو لسوء حظّه، ومسرح "أحداث" حكاياته شوارع سيول الرحبة لا أزقّة باريس الضيقة. ويكفي القاء نظرة على لائحة أفلامه المفضّلة كي نفهم ان السينما الفرنسية هي الينبوع الذي يرتوي منه. 

باختصار، نحن أمام حالة سينمائية، لها معجبوها في أوروبا وفرنسا خصوصاً، لكن كثرا في المقابل لا يمسّهم ما يقدّمه هذا المخرج من تسكّعات، ومع ذلك فهو ضُم هذا العام إلى المسابقة الرسمية، بعدما كان في المقاعد الخلفية في الفترة الأخيرة. كأن المدير الفنّي الخارج كارلو شاتريان أراد تسجيل موقف. 

في أي حال، يواصل سانغ سو تصوير الأشياء التي يعرف كيف يقولها ولماذا يقولها، وهذه المرة يستعين بإيزابيل أوبير، في ثاني تعاون بينهما، واضعاً اياها في رداء سيدة تبدو أحياناً تائهة وغامضة، وتصبح حسّاسة وشفّافة ورقيقة في أحايين أخرى، كلّ شيء يتعلّق بمن تلتقي. وهذه السيدة يُطلب اليها تعليم اللغة الفرنسية، وهذا ما ستفعله، كون لا شيء يشغلها أصلاً، سوى الجلوس على حافة صخرة أو التجوّل في الحدائق، أو احتساء شرابها المفضّل. 

هذا هو فيلم سانغ سو. لكن حضور أوبير فيه هو، للأمانة، الشيء الوحيد الذي يجعله قابلاً للتحمّل في أي حال. صحيح، أن مشاركتها دائماً ما تمدّ الفيلم بمذاق خاص، ويمكن ان تكون مثيرة حتى اذا جسّدت دور مكنسة كهربائية، لكن لامبالتها وسينيكيتها الفطرية تأخذان أمام كاميرا سانع سو بُعداً آخر ومستوى غير مسبوق. وينعكس ذلك في طريقة نطقها للكلمات أو انتظارها لشريكها في التمثيل كي ينهي جملته لتدلو بدلوها. هذا كله، عدا انها تبدو أصغر من عمرها بكثير وكأنها في أربعيناتها. أوبير هي شمس هذا الفيلم، علماً ان سانغ سو مشغول بالقمر أكثر، الذي لن يطل، ومن هذا التفاوت يولد فيلم يعطي الممثّلة الأثيرة واحدا من أجمل الأدوار التي تجسّد معنى اللامبالاة.

 

النهار اللبنانية في

22.02.2024

 
 
 
 
 

"برلين السينمائي"... 4 أفلام تخوض رحلة البحث عن الهوية

من كوفيد19 إلى الهجرة ودلالات الإرث الثقافي

فراس الماضي

برلينحظي الفيلم الأيرلندي البلجيكي "أشياء صغيرة كهذه" Small Things Like These، من بطولة نجم "أوبنهايمر" كيليان مورفي، إلى جانب إيميلي واتسن ومن إخراج تيم ميلانتس، والذي افتتح دورة هذا العام من "مهرجان برلين السينمائي"، بقدر لافت من الإعجاب، مقارنة بأفلام افتتحت فعاليات المهرجان في نسخه السابقة، وستكون لنا عودة لاحقة إلى هذا الفيلم، إذ أن قياس المستوى في هذا النوع من المناسبات يحتاج إلى قدر من التأنّي، فأفلام الافتتاح هي طبق الضيافة الأول، وتترافق مع اللقاءات الترحيبية والاحتفالات القصيرة بكبار الشخصيات الذين يقصدون المناسبة للحفل لا لمشاهدة الفيلم.

رويزبالاسيوس و"المطبخ"

أول أفلام المسابقة الرسمية هو "المطبخ" أو "لاكوزينا" للمخرج المكسيكي ألونزو رويزبالاسيوس أحد أكثر المخرجين إخلاصا للمهرجان من المشاركين في هذه النسخة، والذي قدم قبلها ضمن المسابقة الرسمية أفلاما بارزة مثل "مويسو" في 2018، و"فيلم رجل الشرطة" في 2021.

في "المطبخ"، يترك رويزبالاسيوس الأسوار المكسيكية ليستكشف نيويورك، لكنه يحافظ على الروابط الثقافية بين شخصياته. هذه المرة تطوف الكاميرا بين المهاجرين المحاصرين في مطبخ خلفي صغير ملحق بأحد مطاعم نيويورك.

يبدأ الفيلم مع طفلة مكسيكية تبحث عن رجل يدعى بيدرو في مطعم يدعى "الشواية" في نيويورك، لتتقدم لوظيفة. وبمجرد وصولنا إلى هذا الطاهي "بيدرو"، أحد العاملين خلف كواليس هذا المطعم الفاخر، ندخل في أجواء فيلم يغوص في أعماق فوضى المطبخ وصخبه، والأجواء المشحونة بين الرؤساء والطهاة الذين جلّهم من المهاجرين غير النظاميين. ومن هذه النقطة تتحول القصة لتكون عن حب بين بيدرو والنادلة الأميركية جوليا، لنعبر رفقة هاتين الشخصيتين دهاليز الكفاح والطموح الحالم داخل مأساة بطلها بيدرو.

يطفح فيلم رويزبالاسيوس بضعف الحبكة وتخبطها وسطحيتها، مقابل السعي الفارغ لإثارة الدهشة

إلا أن الفيلم يجسد بجدارة الإشكالية المشتركة للمخرجين المكسيكيين خارج المكسيك، إذ يطفح الفيلم بضعف الحبكة وتخبطها وسطحيتها، مقابل السعي الفارغ لإثارة الدهشة.

ذلك الابتذال في السعي نحو إحداث المستحيل في خلق مشهدية الفيلم، لا يخدم أي شيء سوى رفع النغمة على مستوى الصورة من دون أن يجد ذلك صدى في المضمون الذي يخلو إلا من إلحاح في التعبير عن الهامش من دون النجاح في هذا المسعى.

تتجلى هذه المشكلة بوضوح في كيفية حضور المطبخ في السيناريو من دون أن يكون فاعلا في تطوير الحبكة، فالأحداث نفسها يمكن أن تدور في أي مكان آخر، مما يفقد عنوان الفيلم والمكان المختار لتدور فيه الأحداث أي قيمة مضافة، فلا نشهد تطورا في النسيج داخل أسوار المطبخ، وكأن الدوافع والأحداث الحقيقية تقع خلف الكاميرا، لا أمامها ضمن ما يراه المشاهد.

أساياس "خارج الزمن"

فيلم آخر ضمن المسابقة، يأتي من مخرج ذي مكانة عالية في عالم المهرجانات، الفرنسي أوليفييه أساياس، الذي يعود بعد غياب طويل مقارنة بمسيرته الحافلة التي تضم أكثر من عشرين فيلما.

استغرق الأمر خمس سنوات حتى يعود أساياس أخيرا بفيلمه الأحدث "خارج الزمن"  Hors du Temps الذي يروي فيه قصة المخرج إيثان، الذي نشاهده أثناء فترة حجر كوفيد19 في مكان مغلق يشاركه فيه عشيقته وأخوه وزوجة أخيه، لنشهد في هذا المكان المغلق، حفرا شخصيا وتأملا في نظرة إيثان نحو تاريخه وتفكيره وعلاقاته، بما في ذلك علاقته المتوترة بأخيه.

ما نراه في صميم الفيلم هو تجسيد واضح لصنعة السينما لدى أوليفييه أساياس، في الحفر الذي يسعى من خلاله إلى فهم عشقه للسينما والتاريخ، بالإضافة إلى تاريخه الشخصي، وذلك من خلال تصوير ينحو نحو الذاتية بقدر أفلام زوجته السابقة ميا هانسن لوف. لكنه هنا يُظهر تأملا شخصيا بجودة أقل بكثير من أفلام لوف، فتظهر النرجسية والذاتية المسرفة والاعتماد على المفارقات الشخصية مثلما تظهر في أفلام وودي آلن، إنما بطابع فرنسي. وفي عودة أساياس هذه، نرى المشكلة الفنية الناشئة من انطلاق المثقف في تداع ذاتي مطوّل يفرغ من خلاله أفكاره على نحو عشوائي، فتكون النتيجة عند المشاهد إحباط سينمائي لا أكثر. وهو إحباط يستدعي إلى الذهن نرجسية مخرج آخر هو أليخاندرو غونزاليس إناريتو الذي تورط الورطة نفسها في فيلمه "باردو " (2022) من دون أن يصل بفيلمه إلى ما يحفز اهتمام المشاهد.

نيلي فولاتز و"نم بعينين مفتوحتين"

أما أجمل أفلام المهرجان حتى الآن، فلعله يكون فيلم "نم بعينين مفتوحتين" للمخرجة الألمانية المولد واللاتينية الثقافة نيلي فلاوتز، الذي عُرض ضمن قسم "لقاءات".

تدور أحداث الفيلم في البرازيل، وتبدأ القصة بالفتاة كاي، الآتية من تايوان إلى البرازيل محطمة القلب بسبب انفصال حبيبها عنها قبل رحلتهما المقررة إلى أكبر دول أميركا الجنوبية. ومع وصول كاي تلتقي عديدا من الشخصيات المهاجرة والمستقرة في البرازيل، وتأخذ المصادفات والتقاطعات دورا في تشكيل حكايات أخرى، يتصدرها العمال الصينيون المستقرون هناك.

يتميز الفيلم بطابع الكوميديا الهادئة وحضور المكان كعنصر مؤثر في توجيه الأحداث بشكل شعري للغاية.

تثير ديوب أسئلة الإرث الثقافي والتاريخ الأفريقي والهوية المتأرجحة في مجتمعات ما بعد الاستعمار

يذكرنا ثالث أعمال فلاوتز (42 عاما) بفيلم "قطار الغموض"1989  Mystery train  لجيم جارموش، إذ نجد فيه شعورا بالاشتياق إلى زمن مضى داخل هذه التقاطعات، ولمحة عن الانتماء تمتزج مع التناقض الجميل النابع من محاولة التكيف مع كل التغيرات والخصوصيات الجديدة، وعلى الرغم من أن تصوير الزمن يبدو ملتبسا، فإن ما يبقي إيقاع الفيلم متماسكا هو المحافظة على التسلسل المشهدي والتدفق الطبيعي في سرد الأحداث، وهو ما يتبدّى بجلاء سواء في البداية مع كاي، أو في العمق الذي يستند إليه الفيلم في منتصفه مع إبحاره مع شخصيتي وانغ وتشين ونويل باسكيارت في العمارة السكنية.

ماتي ديوب و"داهومي"

بعد فيلمها الطويل الأول "أتلانتيكس" 2019، تعود المخرجة الفرنسية السنغالية ماتي ديوب بفيلم طويل آخر بعنوان "داهومي"، وهو وثائقي يحمل حسّ  التجريب بقدر عملها القصير السابق "ألف شمس" (2013) لكنها تتجه هنا أكثر نحو الخيال السحري الذي يفرض منطقه على الفيلم ليتحرك بمعنى السحر ونسيجه تحت الأثر الواقعي والاجتماعي.

يتناول الفيلم عودة 26 قطعة من آثار مملكة داهومي في بنين إلى موطنها الأصلي بعد قرن من الغياب في ظلمة المتاحف الفرنسية، مما يثير مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالإرث الثقافي والتاريخ الأفريقي، والهوية الثقافية المتأرجحة في مجتمعات ما بعد الاستعمار.

هذه الأسئلة تؤشر إلى جانبين يسيران بالتوازي، الأول عند شباب تلك المجتمعات في بحثهم عن هويتهم ومستقبلهم وخصوصيتهم، ومن جهة أخرى تتردّد في صدى صوت شبحي، من خلال تمثيل يتجاوز الصورة تقوم به هذه القطع الأثرية التي تحمل في طياتها الزمن والتاريخ دون المكان، حيث تكون القطع الـ26  هي صوت الراوي.

وتضبط ديوب من خلال هذين الخطين المتوازيين نسيجا سرديا واسع النطاق وتخلق متنا لهذه الأسئلة، مستعينة بموسيقى تصويرية رائعة تخلق غموضا أعقد يحيط بمستقبل لا يقلّ غموضا عن الماضي.

ولربما يكون فيلم ديوب هو أفضل أفلام المسابقة الرسمية حتى الآن.

 

مجلة المجلة السعودية في

22.02.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004