ملفات خاصة

 
 
 

سكورسيزي في «قتلة زهرة القمر»:

أصل الشر الأمريكي!

عصام زكريا

جوائز الأكاديمية الأمريكية للفيلم

(أوسكار 96)

   
 
 
 
 
 
 

ليس مثل الفن في قدرته على التسلل إلى جوهر الأشياء وتفسير ما يعجز العقل الواعي عن فهمه. وليس مثل أفلام مارتن سكورسيزي في قدرتها على الإمساك بتلابيب الروح الأمريكية وفهم طبيعة الشر الذي يتملكها حينا، ويعذبها حينا.

هذه الروح التي ولدت في أحضان الخطيئة، أو “الخطيئة الأولى التي أثمرت هذا البلد”. كما يكتب ديفيد جران، مؤلف كتاب “قتلة زهرة القمر”، الذي اقتبس عنه سكورسيزي فيلمه الأحدث. والذي يحمل الاسم نفسه.

ما أشبه اليوم بالبارحة!

مثل تلميذتها على الجانب الآخر من الأطلنطي، بنيت أمريكا على فكرة المستوطنات الطفيلية التي يتم زرعها بالقرب من، أو داخل، أراضي أصحابها الأصليين. واحدة تلو الأخرى، وتهجير وقتل وسرقة أصحاب هذه الأراضي. بدعوى لم نزل نسمع أصداءها تتردد إلى اليوم: “نشر التحضر في مواجهة البربرية”.

يروي فيلم “قتلة زهرة القمر”، كما الكتاب، واحدة من مئات، أو آلاف الوقائع، حول الجريمة الجماعية الممنهجة. التي قام من خلالها الغزاة البيض باستعمار القارة ونهبها. وهي قصة جرت وقائعها منذ قرن وبضعة سنوات، في مدينة “فرفاكس”، بمقاطعة “أوساج” بولاية أوكلاهوما.

جريمة دافعها النفط، أو الزيت كما يطلقون عليه. بدأت مع اكتشاف الإنسان لإمكانية تحويل هذه القذارة السوداء، المسماة بالذهب الأسود، الصاعدة من باطن الأرض إلى طاقة. والباحثون القدامى عن الذهب في جبال الغرب الأمريكي. حفارو الذهب كما يطلق عليهم، سرعان ما حولوا الاتجاه. وراحوا يحفرون بحثا عن النفط، في بعض الأراضي الأمريكية. ثم في الخليج وبقاع الدنيا الأخرى لاحقا.

هذه الجريمة التي تحمل لون النفط الأسود، التي لم تزل مستمرة إلى اليوم. ليس من المنتظر أن تتوقف في المستقبل القريب.. كما يؤكد “قتلة زهرة القمر” في خلاصته الختامية المبتكرة.

بحثا عن الذهب الأسود

وقبل أن نقفز إلى الخاتمة، نعود إلى “فرفاكس”،هذه المدينة، التي تم تهجير عدد من السكان الأصليين إليها، من المنتمين إلى قبيلة الأوساج. بعد أن تم طردهم وإجلائهم من عدة ولايات أخرى.

بعد سنوات من استقرار السكان الأصليين في هذه الصحراء التي تم طردهم إليها. اكتشف الطاردون، لحسرتهم، أن هذه البقعة من الأرض تعوم فوق حقول من النفط. وبين ليلة وضحاها تحول هؤلاء السكان الفقراء المطرودون إلى أغنى بشر. ليس في أمريكا فقط، ولكن في العالم كله.

حيث وصل إجمالي دخلهم في عام واحد، 1923 إلى 30 مليون دولار. أي ما يعادل 400 مليون اليوم (وفقا لكتاب “قتلة زهرة القمر”). ولكن، كما يقول أحد السكان الأصليين في مشهد من الفيلم: كان يجب أن نعلم أن هذه الثروة ستأتي معها بأشياء سيئة.

التاريخ المنسي يبعث من جديد

تبدأ وقائع القصة التاريخية، التي يرصدها ديفيد جران، معتمدا على وثائق غير منشورة للمباحث الفيدرالية ويوميات وشهادات شخصية. عندما تبدأ واحدة من بنات الأوساج، عقب موت أخواتها الثلاث وأمها، وأفراد آخرون من أبناء القبيلة. بطرق غامضة، دون أن تبدي السلطات المحلية. في حلقة بيضاء جهنمية من التواطؤ، أي بادرة للتحقيق في الأمر.

مولي، المتزوجة من رجل أبيض يدعى إرنست بيركهارت، تشعر أيضا أن زوجها ووالد أطفالها، الذي تزوجته عن حب. عندما كان فقيرا معدما عائدا من الحرب العالمية الأولى بخفي حنين، يقوم بتسميمها تدريجيا. تسافر مولي إلى واشنطون، للقاء المسئول عن السكان الأصليين. ثم الرئيس، وتشكو له، فيكلف مكتب تحقيقات كان قد أنشئ حديثا. سيقدر له أن يتحول إلى “المباحث الفيدرالية” لاحقا (يحمل الكتاب عنوانا فرعيا هو “اغتيالات الأوساج ومولد المباحث الفيدرالية”) بالتحقيق في الأمر.

ويتبين أن العقل المدبر وراء هذه الجرائم هو محامي وراعي مصالح قبيلة الأوساج، ويليام هال. الذي يلقب نفسه بـ”الملك”، بمشاركة عصابة مكتملة العناصر، من أبناء أخته. ومنهم إرنست زوج مولي، وقتلة محترفين وأطباء. بل يظهر الفيلم بوضوح لا لبس فيه، أن العصابة تضم مجتمع البيض كله. الذين جاءوا إلى المدينة بحثا عن عمل لدى شركات وأصحاب البترول. ولكنهم، بدافع الجشع والعنصرية، يتواطئون لقتل شعب الأوساج ونهب ثرواتهم.

حدوتة الديك والذئاب

في مشهد مبكر من الفيلم، عندما تنشأ قصة حب بين مولي وإرنست. بمباركة خاله “الملك” الذي يرتب زواج أقاربه ومعارفه من البيض بنساء هنديات ثم قتلهن للحصول على إرثهن. تقول مولي للصعلوك الأبيض الذي يعمل سائقا لديها. في إشارة إلى تجربة سابقة مع رجل أبيض: “عندما فتحت الباب ليدخل الديك.. دخل الذئب!”. غير مدركة أنها فتحت باب بيتها لقطيع من الذئاب.

من المدهش أن سكورسيزي، المغرم بروي حكايات الذئاب، والعصابات. كما فعل في “رفاق طيبون” و”كازينو” و”الراحلون” و”عصابات نيويورك” و”ذئب وول ستريت”. قرر هنا أيضا أن يروي القصة من خلال عيون هذه الذئاب. وأن يسند أدوارها لممثليه المفضلين: روبرت دي نيرو في شخصية ويليام هال. وليوناردو دي كابريو في شخصية ابن أخته إرنست بيركهارت.

ولكن الفارق بين “قتلة زهرة القمر” وأفلام عصابات سكورسيزي الأخرى. أن المجرمين هنا ليس لديهم “كاريزما” القوة والوسامة والذكاء التي يمتعون بها في أعمال سكورسيزي سابقة الذكر. ولكنهم هنا مجرد قتلة وضيعون خبثاء، ينجحون فقط لإنهم جزء من نظام ومجتمع متواطئ.

ومن المدهش أن نرى كلا النجمين المحبوبين في مثل هذين الدورين “الحقيرين”. خاصة دي كابريو الذي يظهر هنا كرجل غبي بلا همة خاضع لنهمه الذي لا يروى إلى المال. ولخاله الذي يقوم في أحد المشاهد بـ”عبطه” على مؤخرته مثل الأطفال. لأنه لا يسمم زوجته بالقدر الكافي!

المال أصل الشرور.. وأمريكا

على عكس الكتاب الذي يمجد في الدور الذي لعبه مكتب التحقيقات الفيدرالية، ويصوغ وقائعه في سرد بوليسي. يكشف سكورسيزي سر الجرائم منذ البداية. ويبين أن معالمها واضحة ومكشوفة، وأن وراءها نظام اجتماعي رأسمالي شره. كان قد كشفه بطرق أخرى في “عصابات نيويورك” و”ذئب وول ستريت”. ليثبت، مرة أخرى، أن حي المال هو أصل كل الشرور، وأن الرأسمالية هي أكبر جريمة منظمة عرفها التاريخ البشري. وأن أمريكا، وإن لم تكن منبع هذا النظام، لكنها قلعته الكبرى ومقر إدارته.

وهو ما يتبين في الخاتمة، التي تكسر الحائط الرابع بين الإيهام القصصي والمشاهد. خاصة الأمريكي، الذي يجد نفسه عاريا، مجبرا على التفكير في ماضيه وحاضره الإجرامي التعيس. الفيلم، من ناحية أخرى، هو تحية دافئة ومحبة للسكان الأصليين وحياتهم وتقاليدهم. وتجسد ليلي جلادستون التي تلعب دور مولي نقطة الارتكاز والتعاطف بأدائها الراقي والجليل والجميل لشخصية مولي. وسكورسيزي لا يهتم هنا بالبعد التجاري للسينما بقدر ما يهتم بسرد قصته ورؤيته بصدق وبإيقاع هادئ بطيء. حيث يصل زمن الفيلم إلى ثلاث ساعات ونصف الساعة.

هذا واحد من أهم وأفضل أفلام العام. ومن أفضل أعمال المبدع الكبير الذي لا يزال قادرا على إثارة التفكير والشغب رغم تجاوزه الثمانين.

 

موقع "باب مصر" في

31.10.2023

 
 
 
 
 

"وداعاً جوليا".. يدٌ تعزف ويدٌ تحمل السلاح

القاهرة-رامي عبد الرازق*

هذا فيلم مشغول بعناية على مستوى المتن والتفاصيل، بلا زخارف بصرية ولا حليات بالنور والظل، مهموم بأكثر من قضية لا فرار من لسعاتها الموجعة، دون افتعال أو مزايدة فجة، باستثناء مواضع المباشرة التقليدية في الأعمال الأولى، وهي سمة من الصعب التخلص منها في التجارب البكر.

دعونا نبدأ من نهاية فيلم "وداعاً جوليا"، بمشهد الطفل الجنوبي دانيال، وهو يحمل سلاحاً، ويجلس في سيارة بجانب الضابط الجنوبي الذي رأى فيه بذرة مقاتل، لا بسبب رغبته في القتال أو الدفاع عن فكرة انفصال الجنوب السوداني عن الشمال، عام 2010، ولكن لأن الطفل يحمل في داخله حقداً مستحقاً، وغضب مخلوط بالرغبة في الثأر، والشعور بالحرمان الطويل، نتيجة لاكتشافه أن العائلة الشمالية (عائلة منى زوجها)، التي تربى بينهم طوال 5 سنوات من اختفاء أبيه، هي السبب وراء هذا الاختفاء، وأن الرجل (زوج منى) الذي علمه النجارة، وكان شبه أب بديل، هو نفسه من انتزع روح أبيه ذات يوم أسود بحجة الدفاع عن بيته، وقت المظاهرات التي قام بها الجنوبيون عقب مقتل زعيمهم جون جرنج عام 2005.

هذه اليد الصغيرة القابضة على السلاح، هي نفسها اليد التي كانت ترغب في تعلم التصوير بالكاميرا، نظراً للتأثر بمهنة الأب الراحل، والتي وجدت نفسها فيما بعد تتقن خرط الخشب وتكوينه، وهي التي كانت تجر دلو الماء في الطريق؛ مما تسبب في اصطدام سيارة منى به، ومطاردة الأب لها وقتله على يد الزوج.

سياقات ومجازات

اختار محمد كردفاني كاتب ومخرج فيلم "وداعاً جوليا" عدة سياقات تعتبر الأيدي فيها مجازات مؤثرة لما يريد حكيه، إن أول ما يطالعنا من منى مثلاً هو وقوفها في مطبخ منزلها ساهمة، بينما يداها تقلب الطعام، لكنها تنسى البيض على النار فيحترق وتلقيه، وفيما بعد سوف نعرف أن منى كانت تعمل كمطربة وعازفة محترفة في فرقة غنائية، وأن زوجها المتدين المحافظ ابن العائلة الميسورة منعها من ممارسة شغفها الحقيقي، وأصر على أن تلقي الجيتار من يدها، وتمسك بأدوات الطبخ.

والزوج الشمالي المحافظ التقليدي نفسه يعمل كصاحب مصنع للأثاث، ويملك ورشة نجارة احترافية في منزله، الورشة التي سوف يتعلم فيها دانيال الصغير أصول التعامل مع الخشب قبل أن يلقي بالمطرقة، ويمسك السلاح في نهاية الأمر، واختيار مهنة وهواية النجارة اختيار عميق، ويستحق ضمه في زمرة التفاصيل المهمة بالفيلم، فهي مهنة الأنبياء، والزوج رجل متدين ومصلي، ولكنه التدين الشرقي الذكوري السلطوي، وفي جانب منها كمهنة تحمل ملمح فنياً، فهي صناعة وفن، ولكن هذا الشغف الفني لا يمس روح الزوج أو هويته الذكورية العنصرية، بل ويرى في موهبة وهواية وشغف زوجته ما يناقض كل تصوراته على الحياة الزوجية، وأفكار الخضوع للبيت والرجل والعرف الاجتماعي.

يمكن هنا ان نشير أيضاً إلى أن منى يوم أن صدمت دانيال، وطاردها أبوه المغدور كانت مصابة بالإحباط، نتيجة عنصرين شديدي  الحيوية ومندمجين عضوياً مع بناء علاقتها بزوجها وبنفسها وبالعالم، مدينة الخرطوم تحديداً، الأول هو خفوتها النفسي؛ بسبب اكتشاف أن حفلة الفرقة التي ارتدت نقاباً من أجل أن تحضرها قد ألغيت بسبب أحداث 2005، عقب تفجير "جرنج"، والثاني هو تأكدها من حقيقة أنها لن تنجب أبداً بسبب إصابتها بانقطاع الطمث المبكر، وهو اختيار مجازي شعري لفكرة أن كبت الشغف يمكن أن يؤدي إلى عدم قدرة الشخص على توليد الحياة بداخله، فالمخرج لم يختر عيباً خلقياً أو مرضاً وراثياً، ولكنه اختار فكرة انقطاع الطمث المبكر، ليرسم به جانب مهم من شخصية منى على المستويين الشخصي والدلالي.

شخصية عادية

غالبا ما يقترن الوداع بإشارة أو تلويح من اليد، من طرف واحد أو كلا الطرفين المفارقين، وهنا تبدو جوليا الأرملة الجنوبية الجميلة، بوداعتها الروحية ورقة حالها النفسي والاجتماعي، هي الطرف الذي يلوح له الجميع، بينما هي في الحقيقة لا تريد أن ترحل، لا عن الخرطوم أو مني أو مدرسة الأحد التي صبغتها بالمعرفة، أو الكنيسة التي استمعت فيها لغناء منى وقت بروفات حفل الكريسماس.

تبدو جوليا شخصية عادية وسط صراع غير عادي، هي محور الأزمة وهي حلها في الوقت ذاته، لا ترى نفسها جنوبية، ولا ترى معنى لفكرة التقسيم نفسها، في 3 مراحل متفرقة نتابع يديها، وهي تدق الويكا بعد أن غاب الزوج، واضطرت إلى العمل، ثم بعد سنوات وهي تذاكر بجد وشغف، على اعتبار أن العلم هو المكون الأكثر أهمية في حياة تشبه حياتها الملوثة باضطرابات قدرية، ثم وهي تدون بياناتها لتوقع بـ(لا) على الانفصال.

ويمكن أن نمد خطاً ما بين يد جوليا التي ترفض الانفصال شكلاً ومضموناً، رغم أنها تعلم أن العائلة الشمالية هي التي قتلت زوجها، ويتمت ابنها لكن رجاحة عقلها ترى في التعايش أفضل وسيلة للحياة والمستقبل، وبين يد منى التي تحاول أن تعزف على الجيتار من وراء النقاب يوم أن ذهبت مع جوليا، لتستمع إلى الفرقة التي كانت مطربتها الأولى.

هكذا ببساطة وعمق ودون صراخ، يقدم لنا كردفاني تصوره عن الحلول الممكنة لهذه القضية الدموية، ليس فقط في السودان، ولكن في كل بؤر الصراع الطائفي أو الأيديولوجي أو العرقي، لقد فشلت يد منى في أن تعزف يوم الحفلة، وهي ترتدي النقاب، وتخشى أن يفتضح أمرها أمام فرقتها القديمة أو أن يصل الخبر لزوجها، لكنها حين تترك نفسها للروح الحلوة والشغف والحميمية في الكنسية وتغني، فإن الحدود والفوارق العنصرية والسياسية تتلاشى تماماً، ويندمج الجميع مع الفن كلغة جمعية جامعة، ولو أن اليد الأخرى هي يد جوليا التي تتعلم وترفض أن توقع على بـ"نعم" على الانفصال، لتغيرت خرائط كثيرة، ولبقي الآلاف على قيد الحياة والمستقبل.

ولما وصل السلاح في نهاية الأمر إلى يد داني الصغير، صحيح أن منى تعود إلى الغناء متحررة من قفص الزواج الجامد، والعقر وكآبة انتظار ما لا يدفئ الروح، لكن رحيل جوليا إلى الجنوب ضمن هيستيريا الترحيلات عقب إعلان دولة الجنوب، ثم حمل داني للرشاش في اللقطة الأخيرة، يجعلنا ندرك أنه بدون اليد التي ترفض الانفصال، فإن اليد التي تعزف للجميع أغنية السلام لن تحول دون أن يظل الدم عادياً في الشوارع في نزيف لا ينتهي، وهو ما حدث بالفعل خلال الشهور الأخيرة، وفي الخرطوم نفسها.

كلاكيت أول مرة 

تمنح مشاركة المخرج بعمله الأول في أكبر مهرجان بالعالم (مهرجان كان 2023) ضمن فعاليات مسابقة نظرة ما، وحصوله على جائزة دولية من المهرجان نفسه (جائزة الحرية)، كل هذا يمنح ثقة هائلة تحتاج إلى السيطرة عليها، في مقابل ضرورة أن تكون أعماله القادمة أكثر صعوداً نحو النضج والحساسية الفنية، التي ليس لها سقف معروف.

وفي "وداعاً جوليا"، يمكن أن ندرك أن محمد كردفاني يملك الأدوات كلها التي سوف تجعله قادراً على تحفيز حساسيته تجاه صناعة الأفلام بشكل سريع وقوي، لكن تظل ثمة عناصر خافتة إبداعياً تخص تجربة الفيلم الأول، وهي عناصر شائعة في غالبية الأعمال الأولى، أبرزها المجازات المستهلكة، مثل إحضار الزوج لمنى قفصاً يحتوي على عصفورين زينة من أجل أن تتسلى بهم، بدلاً من عدم قدرتها على الإنجاب، لتقوم منى، بفتح القفص وتحرير العصفورين في اللحظات التي بدأت فيها قبصة التمرد تدق على باب الخروج، من أجل أن تنقلت من هذا القفص الكبير العلاقة الزوجية.

ويزيد الزوج من نمطية المجاز عندما يقول لها "اتركي القفص مفتوحاً فقد يعودون، لقد تعودوا الحياة السهلة والطعام الميسر، ولن يستطيعا أن يعيشا فوق الأشجار، ويفتشا عن رزقهم في مقابل الحرية المجانية التي منحتيها لهم".

وفي مقابل عشرات التفاصيل التي تصيغ البناء الدرامي بعمق ومهارة، يتوقف السرد في لحظات غير مطلوبة عند مشاهد حوارية، كتلك التي بين الزوج ومنى، حين يحاول أن يهدم لها الشعور بالاطمئنان النفسي، تجاه أنها تعامل جوليا معاملة خالية من العنصرية، مذكراً إياها بالأطباق التي لونتها من أجل أن تستعملها جوليا وابنها فقط، حتى لا يأكلوا جميعا من طبق واحد، مما يدفعها إلى محو تلك العلامات ومحاولة الاندماج بصورة أكثر إنسانية، وبوعي كامل لأن يكون موقفها من جوليا بلا شوائب راكدة، من أثر التربية أو الواقع أو الوضع السياسي والتركيبة الاجتماعية السائدة.

هذا الحوار على سبيل المثال، لا يكاد يضاهي قوة وتأثير فعل بسيط يقوم به الزوج، عندما يلاعب دانيال في بداية إقامته مع أمه بمنزله، في محاولة لتعويض منى عن تسببها في مقتل الأب، وهي مداعبة جميلة توحي بأن الرجل أكثر سواء وأقل عنصرية مما نعتقد، وهو الذي ينعت الجنوبيين بالعبيد طوال الوقت، مما يستدعي في المقابل أن يطلق الجنوبيين على الشماليين الجلابة أي تجار العبيد، وحين يركب الزوج سيارته الفخمة، بعد أن لاعب الصغير بالكرة، نجده يرش بعض المطهر على يده، ويمسح بفوطة الموضع الذي لمسته يد الصغير أثناء لعبهم القصير بالكرة، كأنه يطهر نفسه من لمسة نجسة لحيوان، وليس يد وديعة لطفل صغير، لولا أنه حرمه من أبيه بحجة الدفاع عن البيت والشرف، لما حملت اليد السلاح في نهاية الأمر

* ناقد فني

 

الشرق نيوز السعودية في

30.10.2023

 
 
 
 
 

فيلم سودانى فى 12 دار عرض بمصر وداعـًا جوليا..

حينما ترتبط مصائر الشخصيات بمصير الوطن

كتب هبة محمد على

قبل أيام بدأ عرض الفيلم السودانى «وداعا جوليا» فى القاهرة كأول عاصمة عربية يعرض فيها الفيلم بعد جولة كبيرة خاضها فى مهرجانات عالمية عديدة، بدأها بمهرجان كان الذى حصل من خلاله على جائزة الحرية، بالإضافة إلى إشادة واستحسان كبيرين على المستوى النقدى والجماهيرى، ليحصل بعدها على عدة جوائز دولية، وصل عددها إلى ثمانية بعد فوزه مؤخرا بجائزة (روجر إيبرت) ضمن فعاليات النسخة الـ59 من مهرجان شيكاغو السينمائى، بالإضافة إلى اختيار السودان له لتمثيلها فى الحفل الـ96 من جوائز الأوسكار للمنافسة على أفضل فيلم دولى لعام 2024.

لكن فى عرضه فى القاهرة فى هذا التوقيت بالتحديد دلالتان كبيرتان، إحداهما تتعلق بالنطاق الواسع الذى يعرض الفيلم من خلاله، حيث يعرض فى إثنى عشرة صالة عرض، كأول فيلم سودانى يحظى بهذا الانتشار فى السينمات المصرية، وهو ما يشير إلى المكانة الكبيرة التى حظيت بها السينما السودانية فى السنوات الأخيرة، وتحديدًا منذ عرض فيلم (ستموت فى العشرين) لـ«أمجد أبو العلاء» الذى صنع أرضية لما تلاه أصبحت الآن أكثر رحابة بفعل جيل من السينمائيين السودانيين أصحاب الفكر الجرىء والمختلف، والذين لا يتورعون عن مناقشة كل المسكوت عنه لسنوات طوال بمنتهى الإنصاف، والرغبة فى تطهير الجروح بشكل حقيقى علها تندمل يومًا ما، أما الدلالة الأخرى فتتعلق بالزمان، حيث بدأ «محمد كردفانى» تصوير فيلمه الروائى الأول قبل ثلاث سنوات فى أوقات عصيبة فى الخرطوم، واكبت انقلابًا عسكريًا، وحركات احتجاجية واسعة النطاق شكلت صعوبة بالغة أمام فريق الفيلم من أجل إتمام مهمته، ثم صادف خروجه للنور فى مهرجان «كان» السينمائى اندلاع حرب أليمة فى العاصمة السودانية، لاتزال السودان تعانى من ويلاتها حتى كتابة هذه السطور، واليوم يبدأ عرض الفيلم فى مصر، بينما يشهد العالم كله مأساة غزة التى تدمى القلوب، ليقدم الفيلم دليلاً عمليًا على كون السينما سلاحًا قويًا نقاوم من خلاله كل محاولات التزييف من خلال قدرتها على تحليل الأحداث، والبقاء شاهدًا على وقوعها.

وفى (وداعا جوليا) يبدأ المؤلف والمخرج «محمد كردفانى» قصته من عام 2005، وتحديدًا من اليوم الذى سقطت فيه مروحية زعيم الجبهة الشعبية لتحرير السودان «جون قرنق» وينهيها عام 2011 بعدما تم التصويت على انفصال الجنوب السودانى عن الشمال، وما بين هذين الحدثين السياسيين وقعت الكثير من الأحداث المأساوية التى تكشف عن الوجه القبيح للعنصرية والتهميش فى المجتمع السودانى اللذين أورثاه حربًا قاسية يعانى منها منذ سنوات.

وفى سياق تلك الأحداث الملتهبة تظهر سيدة تنتمى لشمال السودان تعمل كمطربة سابقة، وتعانى من تحكمات زوجها، لتتسبب فى مقتل رجل من الجنوب المضطهد، حيث قتله زوجها ظنًا منه أنه يحاول التهجم عليها، بينما هى من صدمت ابنه وفرت هاربة، وبسبب سوء الفهم هذا، والتسرع فى إطلاق الرصاصات من بندقية الزوج لشعور كامن بداخله بأن الجنوبى لا دية له تعيش هذه السيدة وهى تعانى من عذاب الضمير، وأمام حاجتها للتكفير عن ذنبها، تبحث عن أسرته حتى تلقاهم، فتقرر أن تتقرب من أرملته، وتدعوها لأن تعمل كخادمة فى منزلها، وتهتم لأمرها وأمر ابنها، فتنشأ صداقة عميقة بينهما، لتكتشف من خلال تلك السيدتين «منى» من شمال السودان والتى أدت دورها «إيمان يوسف» و«جوليا» من جنوبه والتى قدمتها «سيران رياك» أن مصيرهما يتماهى تمامًا مع مصير الوطن الذى دفع ثمن التشتت والانقسام ولا يزال.

وإذا كان البناء الدرامى المحكم والمتصاعد للفيلم يحسب لـ«كردفانى» كمؤلف قادم بقوة، فإن تفوقه فى التعبير بصريًا عن انحيازه للحرية يقدمه كمخرج سيصبح فى السنوات القادمة واحدًا من أهم المخرجين العرب، ولا سيما أنه قد أبدع فى استخدام الرمزيات المعبرة عن فكرته دون إفراط، أو تقعير، ومنها على سبيل المثال سقف منزل «منى» وزوجها «أكرم» الذى يعانى من شروخ تتساقط منها المياه، ومع ذلك اكتفى «أكرم» بوضع صحن لتجميع تلك القطرات دون التفكير فى إصلاح الشرخ الذى يشبه كثيرًا الشرخ الذى يعانى منه فى علاقته بزوجته، ويعانى منه السودان أيضًا من جراء الطبقية المذمومة، وكما تغافل «أكرم» الذى لعب دوره الفنان «نزار غوما» عن إصلاح السقف، تغافل المسئولون عن تفشى تلك الأفكار العنصرية بين أبناء الوطن الواحد، بل أضفوا عليها شرعية حينما نجا «أكرم» من تهمة القتل العمد، وقيدت الوفاة بسبب أعمال الشغب والمظاهرات.

بقى هنا أن نشيد بفريق عمل الفيلم من السودان، ومصر، وتونس، وجنوب أفريقيا الذين استطاعوا إنجاز هذا الفيلم فى تلك الظروف العصيبة، وبفريق الإنتاج الذى استطاع توفير الدعم لهذا الفيلم، وعلى رأسهم المخرج السودانى «أمجد أبوالعلاء».

 

مجلة روز اليوسف المصرية في

29.10.2023

 
 
 
 
 

يسرى نصر الله يعلق على "وداعاً جوليا":

السينما في أبسط وأعمق أشكالها

سيدتي - عمرو رضا

واكب المخرج الكبير يسري نصر الله النجاح الكبير للفيلم السوداني "وداعاً جوليا" في دور العرض المصرية، وتحقيقه المركز الأول بقائمة الأكثر تحقيقا للإيرادات، ووضع تعليقاً محفزاً لدعوة متابعيه لمشاهدة الفيلم، مؤكداً أن القصة العادية لأحداث الفيلم تم تقديمها بأبسط وأعمق اشكال السينما.

وأضاف يسري نصر الله عبر حسابه الشخصي على موقع الفيس بوك: نجح كردفاني في أن يحكي حكاية امرأة وزوجها عاديين من الطبقة الوسطى، هي كانت تريد أن تغني وهو جعلها تتنازل عن حلمها، قصة تبدو عادية، وفجأة تجد الشخصيات نفسها وسط جرح وطن بأكمله، السينما في أبسط وأعمق أشكالها عن ناس يكتشفون مكانهم في العالم ما أجمله.

"سيدتي" رافقت صناع "وداعا جوليا" في الخطوة الأولى نحو العالمية

ورافقت "سيدتي" صناع فيلم "وداعا جوليا" في خطوتهم الأولى نحو العالمية، مع العرض الأول في قسم «نظرة ما» ضمن فعاليات مهرجان كان السينمائي الدولي، واحتفلت بتتويج الفيلم بـ "جائزة الحرية"، بحوار خاص وجلسة تصوير حصرية مع بطلتي الفيلم، الممثلة والمغنية السودانية إيمان يوسف، التي تجسد دور «منى» في الفيلم، و الفنانة سيران رياك ملكة جمال إفريقيا في ماليزيا.

وكشفت إيمان يوسف للزميل "معتز الشافعي" موفد سيدتي في كان، عن كواليس اختيارها للمشاركة في بطولة الفيلم قائلة: أنا في الأساس مطربة، وفي أحد الأيام كنت أقوم بالغناء في إحدى «الكافيهات»، وانتشر مقطع مصور لي وأنا أغني، شاهده مخرج الفيلم محمد كردفاني، وتواصل معي من أجل الدور من خلال بعض الأصدقاء المشتركين، لكن المفارقة أنه قبل عامين من ذلك الموقف كانت إحدى صديقاتي قد أخبرتني أن محمد كردفاني يقوم بعمل فيلم عن انفصال الجنوب، وأنها – صديقتي - رشحتني له في دور «منى»، وأنني كنت إحدى مرشحات ثلاث للدور، ولكن لم يتواصل معي أحد بعد ذلك حتى يئست واعتقدت بأن الدور تم إسناده إلى ممثلة أخرى، لأكتشف بعد ذلك أن المشروع قد توقف لبعض الوقت إلى أن تواصل معي كردفاني، وطلب مني الحضور من أجل إجراء تجربة تمثيل أمام الكاميرا.

إيمان يوسف: الفيلم رسالةٌ للنظر فيما يحدث في السودان

وحول صعوبة الشخصية التي تجسدها قالت إيمان يوسف: شخصية «منى» كانت صعبةً فعلاً ففي كل مشهدٍ، كانت هناك مشاعرُ مختلفةٌ. هي ليست امرأةً سيئةً، لكنها لا تعلم ماذا تريد، فتارةً تجدها تضحك، وأخرى تراها تصرخ حتى يأتي اليوم الذي تصادق فيه سيران، وتقدِّم لها خدماتٍ كثيرة، وتساعدها في إيصال ابنها للمدرسة، لكنها في مراتٍ أخرى تكذب عليها! الدور بالنسبة لي كان صعباً جداً، خاصةً أنني لا أملك خبرةً كافيةً في التمثيل، وأشكر كردفاني الذي ساعدنا جميعاً، حيث كان يشرح لنا المشاهد بشكلٍ مسبقٍ، ويجهزنا لتقديمها، ويساعدنا كثيراً في الربط ما بينها، وإخراج المشاعر والأحاسيس المتعلِّقة بها، والاندماج مع أجواء الفيلم تماماً.

وحول تزامن توقيت عرض الفيلم في مهرجان كان مع اندلاع الاشتباكات في السودان قالت إيمان: كأن توقيت الفيلم رسالةٌ للنظر فيما يحدث في السودان، ورسالةٌ تعكس ما لدينا من أحلامٍ وطموحاتٍ.

وتابعت: الفن دائماً ما يكون له دورٌ كبيرٌ في دعم الشعوب، وأكبر دليلٍ على ذلك تمثيلنا نحن الفنانين لوطننا السودان في مهرجان كان، وفوز أول فيلمٍ سوداني بجائزةٍ في الحدث العالمي على الرغم من ظروف الحرب، التي لا نعرف متى ستضع أوزارها، ومتى سنعود آمنين لنلتقي أحبابنا.

وأشارت سيران التي تجسد شخصية "جوليا" داخل الفيلم إلى جانب مشترك بينهن وهو الانتماء إلى جنوب السودان وأضافت: «جوليا»، بطلة الفيلم التي أمثّل شخصيتها، كانت من جنوب السودان، وأنا فعلياً من جنوب السودان، والمخرج كردفاني تعمَّد ذلك، لأنه كان يرغب في أن تكون الشخصية واقعيةً، وعاشت تفاصيل الحياة في السودان على الأرض، وقادرة على التعبير عن إحساسها.

وداعاً جوليا يحصد الجوائز العالمية

جدير بالذكر أن مسيرة الفيلم مع الجوائز حافلة، إذ انطلقت من مهرجان كان السينمائي الدولي، حيث فاز بجائزة الحرية وشهد عرضه العالمي الأول، ومؤخراً حصد 3 جوائز دولية جديدة، وذلك ضمن فعاليات النسخة الـ21 من مهرجان Paysages de Cinéastes في فرنسا، إذ فاز بـجائزة لجنة تحكيم الصاعدين، وجائزة الجمهور، وجائزة لجنة تحكيم المرأة، ليرتفع رصيد الفيلم من الجوائز الدولية إلى 4 جوائز دولية.

7 ترشيحات لفيلم وداعاً جوليا

كما تلقى وداعاً جوليا 7 ترشيحات ضمن جوائز سبتيموس الدولية التي تُقام فعالياتها في العاصمة الهولندية أمستردام يوم 25 سبتمبر، والترشيحات هي: أفضل فيلم إفريقي، أفضل مخرج، أفضل سيناريو، ترشيحين أفضل ممثلة إفريقية (إيمان يوسف وسيران رياك)، أفضل تصوير سينمائي وأفضل موسيقى تصويرية.

أحداث فيلم وداعاً جوليا

تدور أحداث وداعاً جوليا في الخرطوم قبيل انفصال الجنوب، حيث تتسبب منى، المرأة الشمالية التي تعيش مع زوجها أكرم، بمقتل رجل جنوبي، ثم تقوم بتعيين زوجته جوليا التي تبحث عنه كخادمة في منزلها ومساعدتها سعياً للتطهر من الإحساس بالذنب.

أبطال فيلم وداعاً جوليا

الفيلم من إخراج وتأليف محمد كردفاني الحائز على العديد من الجوائز، وبطولة الممثلة المسرحية والمغنية إيمان يوسف وعارضة الأزياء الشهيرة وملكة جمال جنوب السودان السابقة سيران رياك، ويشارك في بطولة الفيلم الممثل المخضرم نزار جمعة وقير دويني الذي اختارته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين سفيراً للنوايا الحسنة عن منطقة شرق إفريقيا والقرن الإفريقي.

 

سيدتي نت السعودية في

30.10.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004