ملفات خاصة

 
 
 

هجان.. تجربة سينمائية تفجر حلم الانتصار للذات

خالد محمود

البحر الأحمر السينمائي الدولي

الدورة الثالثة

   
 
 
 
 
 
 

عقب مشاهدتي فيلمه الطويل الأول "يوم الدين" بمهرجان كان عام 2018، حيث نافس على جائزة السعفة الذهبية، أيقنت أنني أمام مخرج يملك فكر فنى خاص، عاطفي وعميق من نوع ما، حيث أظهر الفيلم أحد سكان مستعمرة الجذام الذي يصادق طفلًا مهملاً ويشرعان مع حمار في رحلة إلى مدن جنوب مصر بحثًا عن الخلاص والقبول.

بعد خمس سنوات، يعود المخرج أبو بكر شوقي بفيلمه الثاني "هجان"، وهذه المرة في بيئة مختلفة تمامًا ومنغمسًا في الثقافة والأساطير الفولكلور العربي. فمع "هجان" الذي عرض بمهرجان البحر الأحمر السينمائى بدورته الثالثة، يضع شوقي أنظاره على الصحراء العربية، موطن بعض متسابقي الهجن الأكثر مهارة وإصرارًا فى العالم، فى صورة سينمائية مدهشة وحوار يتسرب إلى الوجدان ويجعلك تعيش المغامرة بحس انسانى متفاعلا بكل جوارحك وقد لعبت الموسيقى التصويرية دورا مؤثرا في مسار الأحداث.

في اللحظات الأولى من الفيلم، يصور شوقي، الذي شارك في كتابة الفيلم مع عمر شامة ومفرج المجفل، أنه بالنسبة لهذه الثقافة، يحمل سباق الهجن أهمية أكبر بكثير من مجرد الفوز أو الخسارة. إنها علامة على الشرف والمكانة الاجتماعية والرجولة، وكلها مرتبطة بالقدرة على أن تكون أول من يعبر خط النهاية، وهو إنجاز رائع من شأنه أن يرفع الفائز إلى مستوى البطل المحلي الذي لن تمحى إنجازاته من كتب التاريخ أبدًا.

نحن أمام مطر الذى جسدة باقتدار "عمر العطاوي" فتى شاب نشيط وله علاقة خاصة جدًا مع ناقته التى تدعى "حفيرة" وتعد أكثر من مجرد جمل سباق، فهي صديقته المقربة ورفيقة روحه تتوحد معه وكأنها بشر، عندما يتعرض شقيق مطر لحادث مأساوي حيث يطعنه أحد المتنافسين فى الطريق، يجبر مطر على إعادة النظر في هدف حياته. ينطلق في رحلة محفوفة بالمخاطر للانتقام لمقتل أخيه والحصول على حريته بالفوز.

بعد دخوله عالم سباقات الهجن الذي يبدو ساحرًا ولكنه وحشي بطبيعته وغير عادل في كثير من الأحيان، سرعان ما يصبح مطر فارسًا ويفاجئ الجميع بمهاراته. بعد فترة وجيزة، أصبح جمله حفيرة سلعة رائجة وتم شراؤها من قبل أحد أغنى السكان المحليين "عبدالمحسن النمر" الذي يتوق إلى إضافة الجمل وفارسه إلى فريق السباق الخاص به على أمل التأهل إلى السباق الكبير في البلاد، وهو جمل باهظ الثمن يحظى بمتابعة عالمية. حدث سباق يحصل فيه الفائز على الناموس، وهو أعلى وسام اجتماعي يمكن للمرء أن يأمل فيه. عندما يكتشف مطر في النهاية أن ذلك الرجل الذى يمثل الأنانية والطمع والشر كان وراء وفاة شقيقه، تأخذ الأمور منعطفات أكثر قتامة ويجب على مطر أن يقرر ما إذا كان قادرًا على الانتقام والخلاص وكسب نفسه.

ينبض فيلم "هجان" بالحياة حقًا من خلال مشاهد سباقات الهجن المكثفة، والتي يتم تنفيذها بشكل رائع من خلال التصوير السينمائي الجميل والمونتاج الواعى وموسيقى ملهمة لأمين بوحافة، الذي يقدم هنا واحدة من أكثر الموسيقى التصويرية إثارة للاهتمام لهذا العام متدفقة ورشيقة ومؤثرة بعمق والنتيجة آسرة للغاية لدرجة أنها تعوض فى العديد من لحظات الفيلم الكئيبة والصامتة وغير المثيرة وتعطيه الهزة التي تشتد الحاجة إليها عندما تعود الكاميرا إلى ميدان السباق، مما يسمح لنا مرة للاندماج ليحدث على الشاشة ولمصير مطر.

الفيلم يعرض صحراء السعودية الجميلة وعالم سباقات الهجن الفريد كعنصر ثقافي متكامل، كل مشهد سباق يبعث الحياة لشخصياته من جديد بدراما متفجرة بمشاعرها الإنسانية، وعندما يعود الفيلم إلى الصحراء، فإن سحر الرمال الذهبية والجبال المؤرقة، إلى جانب النتيجة الرائعة، يعيدنا للمشاهدة والبهجة.

"هجان" ينتمي تماما لنوع السينما التى أحبها تلك الأفلام التي تشعرك بالخصوصية أثناء مشاهدتها بواقعيتها وصدام ابطالها بين الخير والشر والمعاناة التى تولد الحلم لدى المستضعفين.

نقطة حيوية مهمة صاغها السيناريو لمأزق الصغار الذين يعيشون مع نظم قاسية وحياة تتطلب الكفاح من الحياة وإثبات الوجود وكيف أن القدر يمكنه أن يقف بجوارك مثلما عاندك وقسى عليك.

إنه فيلم رائع نجح في الجمع بين الرياضة المثيرة والإرث العائلي والانتقام في صورة مميزة ومزهلة وإيقاع محكم ومليء بالإثارة يترك مجالًا للجمهور للتنفس.

اجتمع كل عنصر تقني معًا ليخدم القصة في النهاية بحالة درامية سلسة دون تحذلق أو سخف، راسخة في الماضي الثقافي والحاضر والمستقبل. بعد خروجي من هذا الفيلم شعرت فجأة بالانتقال إلى صباى وكم كان يجب أن أتمسك بالحلم والهدف وأن أوقن بوجود الخير مقابل الشر، والشجاعة أمام الجبن، وأن النزاهة والشرف واجبنا تجاه أنفسنا والآخرين.

تمسك هجان بإيقاعات سردية مألوفة دون أن يكون زائدًا عن الحاجة، وقدم نسخته الخاصة من القصة التي سمعناها جميعًا مرارًا وتكرارًا طوال حياتنا؛ لأن هذه قصة تستحق التكرار.

نعم يسلط هجان الضوء على الجوانب الخالدة للتجربة الإنسانية: الحزن، والعاطفة، والتقاليد، وسرد القصص، ورفضنا العنيد للاستسلام، والانتصار - وأيضًا تكلفة النصر.

الفيلم بالطبع كلاسيكي فى سرده لكنه بمثابة نسمة من الهواء المنعش لتحقيق الذات بمساره الخاص، خارج تلك الضغوط التي تسيطر على صناعة السينما. تركيزه القوي على سرد قصة مطر، وروايتها بشكل جيد، يضفي على الفيلم روحًا وإصرارًا حقيقيين، ويرفعه إلى مستوى الملحمة الجميلة المترامية الأطراف.. مبهرة، ومؤثرة، نعم بكيت فى مقعدى فى بعض اللحظات، نعم أحب الفيلم الذي يجعلني أدمع لكنه يتيح لك الاحتفاظ بنهاية سعيدة.

وأخيرا، كان أداء بطلنا الصغير عمر مطار مدهشا بانفعالاته وصمته والتعبير بعينه التى تعكس كل وجوه الحياة وأتوقع له مستقبل باهر، وكذلك عبدالمحسن النمر الذي جسد الطمع باقتدار.

 

الشروق المصرية في

11.12.2023

 
 
 
 
 

عشرة أيام في "البحر الأحمر السينمائي" وبين المشاهدين:

السعودية انطلقت والمغرب تألّق وكايج أُخرِج من باب الطوارئ!

هوفيك حبشيان

اختُتِمت في نهاية الاسبوع الفائت الدورة الثالثة من #مهرجان البحر الأحمر السينمائي التي أقيمت من 30 تشرين الثاني إلى 9 كانون الأول، وقد حان زمن تقييم مجمل الطبعة انطلاقاً ممّا شاهدناه ولمسناه وعشناه طوال الأيام العشرة، جنباً إلى جنب مع متفرجين من أنحاء العالم كافة. أصر على مفردتي "لمسنا وعشنا" لقطع الطريق على مَن يصدرون الاحكام الاعتباطية، استناداً إلى بعض الصور المتداولة على وسائط التواصل، أو من خلال القاء نظرة خاطفة على البرنامج، أو حتى لدوافع تتعلّق بمواقف إيديولوجية. فأي مهرجان يُعَاش ويُلمَس ولا يصح تقييمه غيابياً. المهرجانات أماكن وناس وأجواء. ولا شك انها أفلام.

هذه الأيام العشرة حوّلت #جدّة إلى وجهة سينمائية جديدة للعديد من المهتمين بالفنّ السابع، أكانوا من سكّان المدينة أم من خارجها، من دون ان ننسى ماذا تعني هذه التظاهرة من "قوة ناعمة" على مستوى ادخال فنّ جماهيري مؤثّر يحمل ذاكرة البشر منذ أكثر من قرن وربع قرن، إلى بلاد محافظة اجتماعياً وثقافياً.

عدد غير قليل من الأفلام شارك في المهرجان. أفلام من القارات الخمس وُزِّعت عروضها بين بقعتين أساسيتين: فندق "ريتز كارلتون" الفخم، وصالات "فوكس" داخل مجمّع "البحر الأحمر" التجاري. احتضن الفندق أفلاماً معينة، عروض الـ”غالا” على سبيل المثل، وبعض الأفلام السعودية والعربية التي كان يتوقع لها جمهور غفير. صالة الفندق الرئيسية استُخدِمت أيضاً لحفلي الافتتاح والختام (لا أحد اكترث إلى "في النيران"، الفائز بجائزة أفضل فيلم)، وهي غاية في الأناقة، مع كراس يحلو النوم عليها. لكن، هذه الأناقة المفرطة من شأنها ان تذكّرنا في كلّ لحظة بأننا داخل فندق لا داخل سينما. البعض يحبّها، شخصياً فضّلتُ عروض مركز "البحر الأحمر" التجاري (نحو ثلث ساعة بالسيارة من مقر المهرجان)، حيث مشاهدون من مختلف الطبقات، الا ان لهذا جوانب سلبية أيضاً، فهؤلاء المشاهدون من الممكن ان يكونوا مزعجين فعلاً، اذ بعضهم لا يمانع من المجيء إلى العرض بعد ساعة من انطلاق الفيلم، فيضايقون الآخرين بالهواتف النقّالة والوشوشة، وغيرها من التصرفات التي ينبغي لادارة المهرجان وضع حدّ لها، أقله عدم السماح للمشاهدين المتأخرين بالدخول، وهذا عرف معمول به في كلّ المهرجانات.

ما عدا هذه الملاحظة العابرة، فإن متابعة بعض الأفلام وفّرت لحظات من المتعة الخالصة، ففي نهاية العام نحن في حاجة إلى التقاط ما فاتنا في العديد من المهرجانات التي شاركنا فيها، وهذا ما ساعدتنا عليه الإدارة من خلال الإتيان بأفلام من كانّ وبرلين والبندقية وغيرها. لكن، كما ذكرتُ في مقال سابق، رغم العديد من الأفلام الجيدة، كان يُمكن للبرنامج ان يكون أكثر تنوعاً وان يردم الهوة بين سياسة المبرمجين وأهوائهم وأذاوقهم من جهة، وما يطلبه المشاهدون من جهة أخرى، خصوصاً ان المهرجان أصبح له مكانة معينة في المنطقة صنعها المال والعلاقات، وبالتالي بات الحصول على الأفلام أسهل. أما الصيت والحضور المتواصل، فهذا ما لا يُمكن شراؤه، ووحده الزمن كفيل بتأمينه.

*****

قدّم البرنامج 36 فيلماً من السعودية، 9 منها روائي طويل. بالدعم الرسمي الذي يلقاه منذ بضع سنوات، استطاع المخرجون السعوديون الوصول إلى هذا العدد القياسي من الأعمال وعرضها داخل مهرجان يمدّ لهم يد العون وهو في الأخير منصّتهم الأولى. السينيفيلي الذي في داخلي، ذاك الذي ينتمي إلى كوكب السينما، لا إلى بقعة جغرافية معينة، قادني إلى أفلام بصرف النظر عن مصدرها، فيما آخرون جاؤوا من الغرب، وجدوا في "البحر الأحمر" فرصة سانحة للغوص في الأفلام السعودية والعربية، ونقل "مشاكلها وقضاياها" إلى القارئ كاكتشافات تحثّ على الفضول، كشيء اكزوتيكي لا أكثر.

أياً يكن، انفتاحي على مجمل الأفلام، بصرف النظر عن الأقسام والهويات، جعلني أشاهد عدداً معيناً من الأفلام السعودية، ويبدو ان حظّي ساعدني في الوقوع على أفضل ما أُنتِج هذا العام سعودياً (بحسب الكثير من الآراء التي سمعتها من حولي)، وأقصد به "مندوب الليل" للمخرج علي الكلثمي. هذا عمل في منتهى الجمال يحملنا إلى ليل الرياض حيث رجل يضطر إلى ان يشتغل عامل توصيلات، لكن أحواله العاطفية وظروفه المادية ومرض والده، هذا كله سيزج به في مغامرات يجد نفسه فيها كالغارق في مستنقع. لا مبالغة في القول ان التاريخ الفعلي للسينما السعودية يجب ان يبدأ بهذا الفيلم الذي يستمد أهميته من قدرته على البوح عن المجتمع السعودي، من دون ان يأخذ في الحسبان المحظورات القديمة، لا بل تحمله جرأته إلى تناول موضوع الكحول الذي يُباع تحت الطاولة بأسعار فلكية. ينطوي الفيلم على كلّ ما يغيب في "هجان" (إنتاج سعودي) للمصري أبو بكر شوقي، الذي سبق ان قدّم "يوم الدين" (عُرض في مسابقة كانّ). هذا الفيلم يعطيك الإحساس بأن المخرج لا علاقة عاطفية أو تاريخية تربطه بالموضوع الذي يصوّره، ولا أعرف ما الفائدة من إخراج دفتر الشيكات من أجل مشروع سينمائي مصنوع بعقلية سينمائية طواها الزمن. لقد ولت هذه السينما المعلّبة، خصوصاً اذا كانت موجّهة إلى مجتمع متعطّش لرؤية نفسه وحكاياته وشؤونه، ولن يسعده هذا العمل البليد والمستهلك التي يفتقر للروح.

فيلم سعودي ثالث قيل فيه الكثير خلال المهرجان: "ناقة" لمشعل الجاسر الذي لم أشاهده بعد، وهو حالياً معروض على منصّة "نتفليكس". بهذه الكلمات يقدّم المهرجان الفيلم على صفحته: "بعد أن يوصلها والدها إلى السوق، تتسلّل سارة بهدوء في موعد على أمل العودة قبل حظر التجول الخاص بها. ولكن ما بدأ كرحلة هادئة بالسيارة في الصحراء، سيتحوّل إلى مغامرة غامضة تتضمن حفلة سرية وسيارة معطلة".

في المركز التجاري، بعد عرض "ناقة"، أوقفني مخرج عربي معروف وعبّر لي عن اعجابه بـ"هجان"، وقال لي إنني سيزيد تقديري له اذا شاهدتُ "ناقة"، لأن "هجان" هو الرواية والثاني "تكسير" لها، أو شيء ما في هذا المعنى.

*****

عربياً، كانت 2023 سنة السينما المغربية. عدد من الأفلام يتراوح مستواها بين الجيد والممتاز عُرض في مهرجانات، بينها كانّ حيث شاهدنا ثلاثة منها. انتبه "البحر الأحمر" لهذه الطفرة المغربية، والنتيجة: خمسة أفلام روائية طويلة في ثلاثة أقسام مختلفة. "كواليس" لخليل بنكيران وعفاف بن محمود (تونسية)؛ "55" لعبد الحي العراقي؛ "أنيماليا" لصوفيا العلوي؛ "كذب أبيض" لأسماء المدير و"عصابات" لكمال لزرق. بسبب تأخّر عرض "كذب أبيض" نصف ساعة، وبالتالي تضاربه مع موعد عرض فيلم آخر نويتُ مشاهدته مهما كلّف الثمن (ولم يخب ظنّي)، اضطررتُ ان أخرج منه بعد 45 دقيقة، وهذا يعني أني غير قادر على تكوين رأي. أما "أنيماليا" و"عصابات"، فمن الأفلام التي تستحق احتفاء أوسع من هذه المقالة، كونهما يحملان نضجاً على كلّ المستويات، وكلٌّ على طريقته.

بسبب بدء العروض في ساعات متأخرة نسبياً، محدودٌ هو عدد الأفلام التي يمكن مشاهدتها، ولا يتعدى الـ20 حداً أقصى. الفيلمان اللذان استمتعتُ فيهما بالمعنى الحرفي للكلمة، لا بل شكّلت مشاهدتهما بهجة ونشوة لا يمكن وصفهما، هما "داخل قذيفة الشرنقة الصفراء" للفييتنامي فام تيين أن، الذي نال "الكاميرا الذهب" (جائزة أول فيلم) في كانّ الأخير، و"الجانحون" للأرجنتيني رودريغو مورينو.

في الأول، نتعقّب رحلة شاب إلى الريف من أجل نقل رفات زوجة أخيه المختفي. يرافقه في الرحلة ابن أخيه الذي يطرح العديد من الأسئلة التي تختلط بتساؤلاته. يصعب قول أي كلام يختزل هذه الرائعة البصرية عن الحياة والموت وكلّ شيء يحدث بينهما، يقدّمها المخرج بلغة تأملية واسلوب متمهّل يحمل المشاهد إلى ذروة المعنى من خلال تفاصيل صغيرة. يا لها من تجربة نعيشها!

"الجانحون" مختلف عنه كثيراً، ولو تقاطعا في بعض اللحظات. رجل في منتصف العمر، يقرر ان يسرق المال من المصرف الذي يعمل فيه، لتأمين مستقبل لا يضطر فيه إلى العمل البتة. "يستلف" بالضبط المبلغ الذي سيجنيه لو ظلّ يعمل حتى سن التقاعد، ويسلّمه الى زميله على ان يحتفظ به ريثما ينهي محكوميته في السجن التي تبلغ مدتها الثلاث سنوات ونصف السنة. يبدأ الفيلم على نحو وينتهي بنحو ثانٍ كلياً، ينتقل من كفّ البطل المضاد إلى كفّ زميله المعذّب، ومن فيلم "نوع" إلى عمل حر لا حدود له يحتفي بالحياة والحرية بأبهى طريقة، ولا ينسى القاء تحية على روبير بريسون في مشهد دخول البطل إلى السينما ومشاهدة فيلم "المال" للمخرج المذكور. اللافت ان الفيلم يحمل العديد من مَشاهد التعري وممارسة الجنس، وقد عُرضت بالكامل بلا حذف، أما كيف تلقَّاها بعض المشاهدين، فتلك حكاية أخرى، تنتمي إلى علم السلوكيات الاجتماعية.

*****

أكثر ما تسلينا به هذا العام في "البحر الأحمر" وكان عنصر مفاجأة متواصلة، هو وصول عدد من النجوم من دون سابق إنذار. في حين كان عدد الندوات الحوارية المفترضة 10 لا أكثر، سقطت علينا في آخر يومين أسماء اضافية، من مثل غوينيث بالترو وأندرو غارفيلد ونيكولاس كايج وهالي بيري وأدريان برودي، جاؤوا للقاء الجمهور والحديث عن سيرتهم وتجربتهم. ويبدو ان الاتيان بهم إلى جدّة، بدعم مالي وعلاقاتي، لا يحتاج إلى أكثر من إتصال بالواتس آب، كما لمّح أحدهم لي ممازحاً خلال حديث جانبي. لكن هذا كله كان في الأخير لمنفعة الجمهور الذي حضر للاستماع اليهم. وكان لافتاً الجنون الذي ساد خلال اللقاء مع كايج، اذا تهافت العديد من الهنود، إلى درجة صعب على الرجل الذي غيّر وجهه بوجه جون ترافولتا، ان يشقّ طريقه إلى مخرج الطوارئ في نهاية الحصّة.

 

النهار اللبنانية في

11.12.2023

 
 
 
 
 

شماريخ: البحث عن أب وسط ضباب!

محمد طارق

في سابع أفلامه الروائية الطويلة، يعود عمرو سلامة متعاونًا مع بطل أول أفلامه آسر ياسين، لتقديمشماريخ فيلم الحركة الأول من نوعه في مسيرة سلامة، والذي عُرض عالميًا للمرة الأولى في الدورة الثالثة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي، وطُرح في دور العرض المصرية بعدها مباشرة.

لا يمتلك عمرو سلامة أسلوبًا إخراجيًا مُحددًا، لكن يمكن القول أن موضوع الأبوة الغائبة هو أكثر موضوع يشغله ويُعرف جزء كبير من مشروعه السينمائي. نستطيع ملاحظة ذلك بداية من “لا مؤاخذة” مرورًا بـ”الشيخ جاكسون” و”برة المنهج” حيث الآباء غائبة إما بالموت  أو بعدم أداء أدوارها كآباء فاعلة مهتمة. “شماريخ” تنويعة جديدة على ذات الموضوع، فرغم وجود الأب ومعرفة الابن به وعمله معه، فإن الابن رؤوف/بارود (آسر ياسين) يسعى لاعتراف أبيه سليم العاهل (خالد الصاوي) به بشكل شرعي، ويتضاد ذلك مع رغبة أخيه غير الشقيق (آدم الشرقاوي).

يعتمد هذا الاعتراف هنا، أن يلبي رؤوف طلبات أبيه سليم، أو بمعنى أدق، أن يتحول لصورة من الأب حتى يظفر بذلك الاعتراف، لكن الابن بالطبع يخالف جزء من رغبات أبيه، ومن هنا ينشأ الصراع الدرامي طوال الفيلم. على الجانب الآخر، فإن الدراما المتعلقة بأمينة (أمينة خليل) تتعلق بأبيها أيضًا، الذي على عكس سليم العاهل، كان مُحبًا ودودًا، لكنه قُتل وتسعى هي للثأر ممن قتلوه، تتقاطع خطوط رؤوف وأمينة في رحلة يستكشفان فيها الكثير عن شخصية الأب الحقيقية، وعن ما يريدان تحقيقه بغض النظر عن الهدف الواضح لكلا منهما.

تُغلف الحبكة الأساسية للفيلم بأخرى متعلقة بحرب عصابات، وتعتمد الأخيرة في عملها على الألعاب النارية – ومن هنا اسم الفيلم “شماريخ” – سواء في التغطية على عمليات القتل كنوع من التشويش السمعي البصري، أو باستخدام أنواع مطورة من الألعاب النارية كأسلحة في حد ذاتها. من تلك النقطة ينطلق العالم البصري للفيلم مُميزًا بألوان الألعاب النارية الحمراء والصفراء وغيرها، وبوجود الأدخنة أيضًا، والتي تصور بداخلها المشاهد. تعبر تلك الألعاب النارية بأدخنتها وألوانها الخانقة، عن مشاعر الشخصيات ومدى الاختناق الذي يعيشون فيه وضبابية رؤيتهم، كما تمنح مساحة بصرية جذابة للفيلم. ملاحظة أخرى، أن الألعاب النارية التقليدية، المستخدمة في الاحتفال بالأعياد في الدول العربية، تُستخدم هنا كعنصر فعال في مشاهد القتال، ما يُعد عُنصرًا أصيلًا في العالم الدرامي والبصري للفيلم

على الجانب الآخر، فإن مواقع التصوير المتمثلة في أماكن مثيرة لتصوير المعارك أو المشاهد العادية، لكنها مُجهلة ولا تُشير إلى مدينة بعينها، إضافة إلى مكياج وملابس الشخصيات المشابهة لأـفلام هولييود تُفقد الفيلم جزءًا من أصالته وتجعله يبدو كفيلم تجاري بحت لا يضيف جديدًا. يمكن ملاحظة ذلك في شخصية الأخ، سواء من خلال قصة شعره أو ملابسه الجلدية السوداء والعيون المكُحلة، ما يجعله يبدو كـ”شرير” هوليوودي بشكل ما.

نقطة أخرى قد تكون خلافية بين المشاهدين بشكل كبير، تتمثل في فكرة التحيات السينمائية البصرية لأفلام أخرى مصرية أو أجنبية وبينها “عودة الابن الضال” و”جنينة الأسماك” واللص والكلاب” و”أولد بوي” و”ماتريكس” و”جون ويك”. بعض هذه التحيات السينمائية يظهر كما هو كمشهد على شاشة تيلفزيون، مثل ظهور شكري سرحان في شخصية سعيد مهران وهو يحاول الهروب في فيلم “اللص والكلاب”، وهنا تناص سينمائي يدخل في الدراما ويضيف إليها تشابه الشخصيتين في هروبهما من غدر رفاقهما. إلى جانب ذلك، فإن التناص البصري مع مشهد الغروب من “عودة الابن الضال” ليوسف شاهين هو أيضًا مناسب للدراما، إذ تتشابه قصة رؤوف مع قصة إبراهيم مدبولي، في كونهما أبناء ضالين يحاولون إثبات أنفسهم في وسط أسرة أبوية عنيفة.

أما التحيات السينمائية الأخرى المتعلقة بأفلام الحركة، فإنها مقتبسة بشكل واضح، يشير فيه المخرج إلى الاقتباس ولا يحاول تغييره، وهنا يبدو الأمر كنوع من “سينيفيلة” المخرج ذاته، ولا تعدو تلك المشاهد كونها تحيات إلى مخرجين يحبهم هو. هنا ربما يجد بعض المشاهدين أن تلك المشاهد وكأنها “مسروقة” أو لا وجود لأصالة فيها، ولكن في حالتي استحسنت وجودها، كنوع من حبي لتحيات المخرجين لآخرين ممن صنعوا أعمالًا سينمائية أيقونية.

شماريخ” فيلم حركة رومانسي مُمتع، يلتزم ببناء كلاسيكي متماسك للحبكة، ويقدم عالمًا بصريًا به بعض التفاصيل الأصيلة والجديدة على فيلم حركة، ويُقدم تحيات بصرية إلى العديد من مخرجي السينما الكبار، سواء الفنية أو التجارية، ما يجعله فيلمًا يستحق المشاهدة بالتأكيد، ويستحق مخرجه ذات التحية التي قدمها لصناع السينما!

 

موقع "فاصلة" السعودي في

11.12.2023

 
 
 
 
 

أمينة خليل: السينما السعودية حققت تطوراً ملحوظاً في وقت قياسي

سيدتي - عمرو رضا

جددت الفنانة أمينة خليل اعتزازها بتجربة المشاركة في لجنة تحكيم المسابقة الرسمية للدورة الثالثة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، وأعادت نشر عدة صور لها برفقة أعضاء لجنة التحكيم من حفل الختام، ووجهت رسالتين الأولى باللغة العربية عن تجربتها "الثرية" في اللجنة، والثانية باللغة الإنكليزية وجهت فيها الشكر لإدارة المهرجان الذي تطور بسرعة وأصبح منصة سينمائية عالمية راقية.

أمينة خليل نشرت الصور عبر حسابها في موقع إنستغرام، وكتبت أولاً باللغة العربية قائلة: انتهت الدورة الثالثة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي، استمتعت بأفلام عالية المستوى وكانت تجربتي كعضوة في لجنة التحكيم ثرية إلى أقصى حد، شكراً لإدارة المهرجان على حسن الضيافة والتنظيم، وكل الأمنيات بالتوفيق للسينما السعودية التي حققت تطوراً ملحوظاً في زمن قياسي.

وأضافت أمينة خليل في رسالة باللغة الإنكليزية موجهة لكل من الأستاذة جمانا الراشد الرئيسة التنفيذية للمجموعة السعودية للأبحاث والإعلام SRMG ورئيسة مجلس أمناء مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، والأستاذ محمد التركي الرئيس التنفيذي لمؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي: شكراً لإنشاء منصة أصبحت معترفاً بها ومحترمة للغاية في غضون سنوات قليلة فقط.. الأفضل لم يأتِ بعد، وكان شرفاً لي أن أكون جزءاً منها.

وتابعت أمينة خليل قائلة: تهانينا لجميع صانعي الأفلام الرائعين الذين قاموا بإنتاج 17 فيلماً رائعاً أتيحت لنا الفرصة لمشاهدتها.. وشكراً جزيلا لأعضاء لجنة التحكيم الرائعة، لقد كان الأمر ملحمياً.

وسبق أن أبدت النجمة أمينة خليل سعادتها بالمشاركة في فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، سواء كعضو لجنة تحكيم المسابقة الرسمية أو عرض فيلميها "شماريخ" و"أنف وثلاث عيون"، وقالت إنها اكتسبت الكثير من الخبرة أثناء تواجدها في لجنة التحكيم برئاسة الممثل السويدي الأمريكي جويل كينمان.

أمينة خليل: مشاهدة 17 فيلماً من كل أنحاء العالم منحني المزيد من الخبرة

وتابعت أمينة خليل من السجادة الحمراء لحفل توزيع جوائز الدورة الثالثة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي: خبرة مشاهدة 17 فيلماً من حول العالم كبيرة جداً، وتعلمت منها الكثير.

وأكدت أمينة خليل في حديث خاص لكاميرا "سيدتي": ممتنة بشكل كبير لاختياري عضواً في لجنة التحكيم وأحس أنه أمر مميز بالنسبة لي أن أتواجد في اللجنة العريقة والهامة وأشعر بالحماس لمشاهدة الأفلام مع اللجنة وأن أسمع آراءهم بالأفلام لأن كلامهم من الممكن أن يفتح أمامي آفاقاً مختلفة من مختصين وخصوصاً أنهم عاشوا في بيئة مختلفة ويفكرون بطريقة مختلفة.

السينما مرآة الحياة

وشددت أمينة خليل على أن السينما هي مرآة الحياة وأضافت في حديثها لـ"سيدتي": "وجود مؤسسة البحر الأحمر أمر هام جداً لإيصال صوتنا من خلال السينما ونحن دائماً نقول إن السينما هي مرآة الحياة وأتمنى أن نستخدم السينما لتكون وسيلة لإيصال صوتنا للعالم كله".

أكثر فيلم تحبه

وفي ردها على سؤال عن أكثر فيلم تحبه قالت أمينة: "The Great Gatsby " من إخراج باز لورمان وهو الذي يرأس لجنة تحكيم مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي بدورته الثالثة وقالت مازحة: "الزميل باز لورمان الذي سأجلس برفقته على نفس طاولة لجنة التحكيم".

وعن أول فيلم شاهدته في السينما في حياتها أضافت أمينة: "تيتانك".

 

سيدتي نت السعودية في

11.12.2023

 
 
 
 
 

«البحر الأحمر»... منصة وطنية وعربية وعالمية

طارق الشناوي

يمتلك مهرجان «البحر الأحمر» رؤية عميقة تتجاوز الحدث اللحظي وترنو بثبات وثقة للغد، وهكذا تمسك من البداية (البحر الأحمر) بموعده، واعتبر ميثاق شرف مع كل عشاق السينما في العالم إعلان الحداد بشأن مجزرة لا يعني أن الوجه الآخر له إلغاء الأنشطة الثقافية والفنية والترفيهية، لأنها تظل أسلحة قادرة على التعبير، تعرف طريقاً للوجدان، ويصدقها العقل.

لم يفكر الرئيس التنفيذي المنتج العالمي محمد التركي في التأجيل؛ إذ أدرك التركي أن هذا هو دوره، وأن التعاطف الإيجابي تستطيع أن تحققه بوسائل متعددة أثناء الفعاليات.

عاصرت المهرجان وهو مجرد فكرة امتلكتها وزارة الثقافة السعودية، بقيادة الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، حيث كان من المفترض أن تعقد الدورة الأولى عام 2020، إلا أن فيروس «كورونا» الملعون فرض سطوته على العالم، وحال دون عقد كبرى المهرجانات واقعياً مثل «كان» و«برلين» و«فينسيا»، التي استجارت بالعالم الافتراضي، بينما «البحر الأحمر» لم يكن من المنطقي عقد دورته الأولى افتراضياً، لينطلق بقوة منذ 2021، وفي كل عام يضيف إلى رصيده فيضاً من الثقة التي اكتسبها، لأنه يمتلك رؤية استراتيجية أبعد من مجرد التفكير في اللحظة الراهنة.

زمن المهرجان - أي مهرجان - لن يتجاوز عشرة أيام، وبعدها يخفت وهج الضوء. منذ البداية كان الرهان على السينما السعودية ما هو موقعها وأين مكانتها؟

الهدف الحقيقي من المهرجان يبدأ مع اليوم التالي بعد إسدال الستار، حيث يجب أن تصبح النظرة أبعد من مجرد عرض الأفلام الهامة في العالم، ولكن العمل على وجود صناعة السينما، في الوطن، وفي كل دورة للمهرجان تزداد دائرة حضور السينما السعودية، كماً وكيفاً، يشعر المواطن أنه لا يشاهد فقط ما ينتجه العالم من أفلام، ولكن يشارك أيضاً بأفلام تحمل اسم الوطن. وهو الخطأ الذي لم يدركه عدد من المهرجانات الأخرى التي سبقت «البحر الأحمر»، والتي حققت الوجود والوهج، إلا أنها لم تتجاوز أيام المهرجان، بينما ظل المواطن يكتفي بالمشاهدة ولا يقدم للعالم سينما تحمل بصمته الخاصة. هذا العام شاهدنا أكثر من فيلم سعودي يمتلك رؤية حديثة، ويشاغب اجتماعياً فيما كان يوصف قبل سنوات قليلة بأنه «مسكوت عنه». الهدف الثاني، أن يتبوأ المهرجان مكانة المنصة الأولى لعرض أهم الأفلام العربية في قسمي «المسابقة الرسمية» و«روائع عربية».

استطاع المهرجان أن يقتنص أكثر من 80 في المائة من أهم أفلام السينما العربية التي أنتجت هذا العام، ولم يكن السبب هو إلغاء أو تأجيل المهرجانات المنافسة، ولكن في عز الصراع على الأفلام الذي بدأ منذ شهر فبراير (شباط) الماضي في مهرجان «برلين»، تمكن المبرمجون المحترفون في «البحر الأحمر» من عقد اتفاقات مع منتجي هذه الأفلام ليصبح لهم السبق في العرض.

الرؤية الثالثة وهي الأفلام الهامة عالمياً، وجزء معتبر منها سنكتشف مع مطلع هذا العام أنها الأوفر حظاً في الترشيح لـ«الأوسكار»، حيث استعانت إدارة المهرجان بأفضل العناصر الناشطة من أصحاب الخبرة، في انتقاء الأجمل.

من يعتقد أن المهرجان ينجح لتوفر القوة الاقتصادية يظلم الحقيقة والمنطق. الوفرة المادية لا تستطيع تحقيق نجاح راسخ، فقط تشعل وهجاً لحظياً، وهكذا تم توجيه القوة الاقتصادية بعقل قادر على الانتقاء واختيار الخطوة التالية.

لا أفصل المهرجان عن الرؤية العميقة التي تعيشها المملكة في العديد من التفاصيل، إنها أوانٍ مستطرقة، تسير وفق خطة، برؤية متكاملة، يضع كل تفاصيلها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.

مهرجان «البحر الأحمر» أهم الأسلحة الناعمة التي امتلكتها المملكة العربية السعودية، وفي ثلاث دورات فقط تمكن من تحقيق ثلاثة أهداف عزيزة المنال على المستوى الوطني وكذا القومي والعالمي، ولا يزال يترقب القادم، بعقل يقظ... يكفي أن أذكر لكم أنه قد بدأ الاستعداد للدورة الرابعة مع لحظة إسدال الستار عن الدورة الثالثة.

 

المصري اليوم في

11.12.2023

 
 
 
 
 

«كذب أبيض» فيلم الأفلام

طارق الشناوي

فى المهرجانات لا يستطيع أحد مشاهدة كل الأفلام، ولن تتمكن أيضا من تناول كل الأفلام التى تعاطيت معها، لن يتبقى فى الذاكرة إلا القليل من كل ما شاهدت، وهو فقط الذى يستحق البقاء.

إنه الفيلم الذى ما إن ينتهى عرضه على الشاشة، إلا وتكتشف أنك تعيد عرضه لا شعوريا فى وجدانك، وقد تضيف أو تحذف، إلا أنه يبقى بداخلك وكأنه بالضبط ما شاهدته.

لى حكاية مع الفيلم المغربى (كذب أبيض) لأسماء المدير، عرض لأول مرة فى مهرجان (كان) مايو الماضى، داخل قسم (نظرة خاصة)، تضاربت المواعيد ولم أستطع مشاهدته، إلا قبل أيام فى مهرجان (البحر الأحمر) فى قسم (روائع عربية)، رأت إدارة المهرجان، ولها كل الحق، أن الفيلم أتيحت له المشاركة فى (كان) وحصد أيضا جائزة أفضل إخراج، ولا ينبغى أن يزاحم الأفلام الأخرى.

هذه المرة فى (البحر الأحمر) حرصت أن أقتنصه قبل نهاية المهرجان بأربع وعشرين ساعة وكان هو (فيلم الأفلام).

الشريط لا يتوقف فقط أمام لحظة تاريخية فى المملكة المغربية، وهى ما عرفت بانتفاضة الخبز عام 1981 فى زمن ولاية الملك العاشق للفن والموسيقى تحديدا الحسن الثانى، والد الملك (محمد السادس).

تلك هى الخلفية السياسية المباشرة، إلا أن العمل الفنى يبحث عما هو أبعد، يعود أكثر من أربعين عاما، لنرى المشهد من خلال الجدة، والحفيدة، الجدة عاشته، الحفيدة تسعى لتوثيقه، ونتوقف أمام الحكاية وكيف نرويها، ويدخل الزمن كطرف فاعل فى كل التفاصيل، الحفيدة تبحث عن صورة من طفولتها وسط بقايا جدتها، من خلال تلك الصورة نعيش الزمن، إنها حكاية المخرجة أسماء المدير. الفيلم التسجيلى يتكئ على حكايات تختلط من أجل أن تتسق، تروى تفاصيل لتلك الحقبة، الجدة لم تعترف بأن حفيدتها مخرجة سينمائية، فهى ترى أن السينما مثل الكباريه، لا ترضى لحفيدتها الذهاب إليه، لكنها تراها صحفية، تحظى باحترام أدبى.

الجدة الملكة المتوجة فى هذا المنزل، هكذا يراها الجميع، فهى عمود البيت الذى يضم الأجيال الثلاثة، وتستعيد الحكاية من خلال بناء ديكور للزمن بكل تفاصيله، وتظل صورة الحسن الثانى تزين المكان، وهى فى القلب عند الجدة، بينما تنتقد الحفيدة ما حدث وأدى لتلك الانتفاضة التى اندلعت بسبب رغيف الخبز، لكن لماذا وصفها بالكذب الأبيض؟ لأنه لا يضر، بل أحيانا مباح، وفى ظل ظروف محددة ضرورى.

هل الجدة وهى تروى الأحداث تكذب أم أن الصحيح أنها تروى ما تعتقد أنه حدث، المخرجة تنتقل بين تسجيل الحدث إلى اللعب بالعرائس، التى تشبه الدمى الروسية تفتح عروسة لتخرج منها واحدة أصغر، وهكذا، وقد نرى العكس أيضا العروسة الصغيرة تخرج منها عروسة أكبر.

الديكور الذى تقدمه لشقة الجدة وديكور آخر أشبه بلعب الأطفال يعيدنا مجددا للزمن القديم.

الجدة، الملكة المتوجة، ولها كلمة نافذة على الجميع، بها كل المميزات: ذكاء وخفة ظل وكاريزما، شخصية زادها الزمن حضورا ووهجا، إلا أنها أيضا متسلطة فى قراراتها، تعتقد فقط أنها تملك الصواب. لا توجد ذاكرة فوتوغرافية وحتى لو وجدت ستكتشف أن اختيارك للزاوية التى تطل منها على الحدث هى التى تفرق بين إنسان وآخر عاشا نفس اللحظة، وقد يتناقضان فى الرؤية 180 درجة. الفيلم يقدم مخرجة تتعامل مع الشريط السينمائى بروح الطفل الذى تحركه فطرته، وهكذا حرصت أسماء المدير فى تعاملها العفوى وهى تروى لنا الحدث، تمتلك كل أدوات التعبير من حركة الكاميرا والإضاءة والموسيقى، كما أنها حافظت على أن تظل الجدة فى تلك الحالة المتوهجة القادرة على التعبير، الحفيدة تقف على الجانب الآخر فكريا وسياسيا، رغم أن كل تفصيلة تؤكد عشقها الفطرى لجدتها.

الرقابة المغربية تستحق التحية بهذا الهامش الذى يتسع ويمنح السينمائى هناك القدرة على التعبير والتحليق، بينما لاتزال رقابتنا الميمونة تنفخ فى الزبادى، ونشارك جميعا بعدها فى النفخ!!.

 

المصري اليوم في

12.12.2023

 
 
 
 
 

بنات ألفة يقفز بالسينما الوثائقية إلى عالم جديد

خالد محمود

يجىء فيلم «بنات ألفة» للمخرجة التونيسية كوثر بن هنية والذى عرض على شاشة مهرجان البحر الاحمر السينمائى، ليكشف عن رؤى جديدة لشكل السينما الوثائقية التى تتناول تداعيات قضايا التطرف سياسيا واجتماعيا، حيث حمل رغم موضوعه الجاد دفئا وتعاطفا إنسانيا نافذ الروح والمشاعر، فالشخصيات يضحكن ويبكين فى آن واحد خلال النقاش والحوار، وكأنها الحياة بتعدد فصولها تجتمع بمشهد واحد.
نحن هنا أمام القصة الحقيقية التى شغلت وسائل الاعلام لسنوات لامرأة تدعى «ألفة الحمرونى» وبناتها الأربع «آية»، و«تيسير»، و«رحمة»، و«غفران»، والتى طرحت بسيناريو يقدمها بطريقة فريدة ومؤثرة وممتعة فنيا فكريا، فـ«ألفة» امرأة عصامية تتولى رعاية بناتها؛ وتنقلب حياتها رأسا على عقب حينما تختفى ابنتاها الكبيرتان «رحمة» و«غفران»، واللتان اختطفهما الذئب الإرهابى «داعش» بليبيا فى ظروف غامضة، وكأنه نداهة، لتقعا فى مستنقع التطرف وينتهى بهما المطاف إلى السجن
.

أصبحت الأجواء العائلية كارثية.. غابت الضحكات واللعب البرىء وأصبح الهم الشاغل للأم كيف تستطيع تخليص بناتها من أنياب التطرف، وإعادة الألفة إلى عائلتها، فكانت تتحدث بصوت عال عبر المحطات الفضائية وكانت صرخاتها أشبه بناقوس الخطر الذى يهدد جيل الشباب الباحث عن مخرج لأزمة بلاده السياسية.

تقرر «كوثر بن هنية» المخرجة وكاتبة السيناريو مساعدة «ألفة»، وذلك من خلال تجربة فنية فريدة تعيد فيها تجسيد الحكاية، وتروى تفاصيل ما حدث للاسرة بالضبط، والذى لم يتم الكشف عنه إلا فى الفيلم؛ وتؤسس نظاما سينمائيا استثنائيا من أجل رفع الحجاب عن قصة «ألفة وبناتها»، وبدلا من مجرد التحدث مع العائلة عن الأحداث التى أدت إلى الاختفاء، واستدعت أيضا ممثلات محترفات لتجسيد بعض الأحداث الدرامية.

سارت المخرجة فى اتجاه جديد، تمزج بين المقابلات الوثائقية التقليدية والمحادثات الحية لأبطال الحكاية والتى تلعب دورها «ألفة» وابنتاها الأصغر سنا مع مشاهد معاد تمثيلها من حياة الأسرة، تقدمها الممثلتان نور قروى وإشراق مطر، اللتان تلعبان دور «رحمة» و«غفران»، وهند صبرى التى تجسد شخصية «ألفة» عندما تكون المشاهد مزعجة وقاسية للغاية للأم الحقيقية، لندخل إلى عمل فنى آسر تماما يقفز بالأفلام الوثائقية إلى مستوى جديد فى الطرح؛ يركز على معنى الأسرة والأنوثة والعار والتطرف. «ألفة» تبدو أما قاسية مع بناتها، فقط لأنها مرت بنفس الشىء قبل أن تنجب أطفالها، دافعت عن نفسها فى مواجهة الرجال الظالمين، ونرى مدى صعوبة الحياة التى عاشتها، لكنها استمرت فى الوقوف شامخة، كما بدا فى مشهد اعاد تمثيل ليلة زفافها القاسية أمام عينيها ومثل فيه الممثل مجد مستورة دور زوجها، حيث وقفت تراقب المشهد وتسترجع الذكريات.

قد يكون من المدهش للغاية أن تمر أمامك لحظات مختلفة من حياتك بصدماتها الهائلة، حيث تروى الأختان «آية» و«تيسير»، الليالى التى كان فيها والدهما يعود إلى المنزل وهو فى حالة سكر، ويبدأ فى إزعاجهن جميعا، ومرة اخرى بدأت «ألفة» فى رؤية شخص (يلعب دوره مستورة أيضا) وهو يعتدى جنسيا على بناتها، وفى أحد المشاهد الصعبة، يقول «مستورة» إنه لا يستطيع مواصلة المشهد بسبب طبيعته الوحشية وغير المريحة، فيما ترى المخرجة إنه ممثل ويجب أن يعلم أنه مجرد مشهد فى فيلم، ولكن على مستوى أعمق، فهو بمثابة وسيلة للفتيات للانتقال من هذا الفصل المظلم فى حياتهن وتجاوزه.

الواقع ان هناك دائما معضلة أخلاقية فى الأفلام الوثائقية عندما يتعلق الأمر يجعل شخوصها تعيش الصدمات مرة اخرى، وهذا هو الجانب الأكثر صعوبة فى هذا الفيلم، عندما ترى «ألفة» وبناتها الأصغر سنا «قروى» و«مطر» فى دور «رحمة» و«غفران» المختفيتان تغمرهما الفرحة باحتمالية تصوير الفيلم وكأن الجميع بخير، لكن بعد لحظات، يسيطر عليهن الحزن الشديد عندما يتذكرن ما حدث قبل سنوات عند هذه النقطة، من المهم الكشف عن أن «رحمة» و«غفران»، المراهقتين فى ذلك الوقت، تركتا عائلتهما للانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية فى ليبيا، وكان هناك قلق من انضمام أخواتهن الأصغر سنا أو احتمال تعرضهن للاختطاف، مما دفعهن فيما بعد إلى البقاء فى مركز للأحداث لحمايتهن.

من الصعب مشاهدة الفيلم ورؤيتهن يسترجعن لحظات محورية، مثل عندما بدأت «رحمة» و«غفران» فى ارتداء الحجاب أو النقاب أو كيف كانتا تتصرفان، من القسوة رؤيتهم وهم يعانون فى مشاهد معينة، وأحيانا يقولون إنهم لا يستطيعون النظر إلى من يمثل لأنه يذكرهم كثيرا باحداث جسام.

هناك سؤال رئيسى يأتى من مشاهدة «بنات ألفة».. لماذا قررت بن هنية أن تصنع الفيلم بصيغته الفريدة؟.. نعم كان من الممكن أن يكون وسيلة لمساعدة هذه العائلة على الشفاء والانتقال من الفصول المظلمة بالحكى، لكن الفيلم ربما جعلهن يشعرن بالكثير من الألم والتسبب لهن باضطراب عاطفى، كما رأينا فى مشاهد عديدة.

صورت المخرجة حالات التناقض والفوضى بين الخير والعنف الذى لا يمكن تفسيره، ومشاهد إعادة البناء الخيالية لإفساح المجال لذكريات عائلية ومقابلات أمام الكاميرا حيث تتبادل هؤلاء النساء ذكرياتهن وانطباعاتهن هو ما يجعل هذا الفيلم الوثائقى محببا وفريدا من نوعه.

فى النهاية «بنات ألفة» الذى حصل على جائزة الشرق لأفضل فيلم وثائقى بمسابقة روائع عربية بمهرجان البحر الأحمر من أفضل الأفلام الوثائقية، تحافظ بن هنية على صدقها طوال فيلمها، سواء كانت المشاهد مكتوبة أو غير مكتوبة، هو فيلم لا يشبه أى شىء اعتدت رؤيته، فهو يثير مزيجا جديدا تماما من المشاعر والمعلومات، ويمزج بين التقاليد والتحرر، ويستدعى تاريخ البلد والعلاقة الحميمة بين الأسرة.

وقد خلق نقاشا مفتوحا حول الإرهاب وبقاياه وعن خلاياه النائمة، والأسلوب الدرامى الوثائقى الذى دعم بكل تأكيد قصة الفيلم وكيف استطاعت المخرجة أن تمزج الواقع بالخيال عبر قصة داخل قصة عرضتها المخرجة بن هنية وكشفت معاناة الأم مع الإرهاب واستطاعت أن تشرك المشاهد بخوض تجربتها التى باتت تهدد جيلا بأكمله، وبات حاجز الكاميرا مختفيا بين المتلقى ومخرجة الفيلم وأصبحنا نعيش فى خندق واحد والعمل مع الأم لتخليص فلذات أكبادها من خطر التطرف.

 

الشروق المصرية في

12.12.2023

 
 
 
 
 

ناقة مشعل!..

عبدالله الزيد

مرت أيام، ولا تزال حسابات ومساحات التواصل الاجتماعي المختصة بالسينما السعودية تغلي إثر أحد الصراعات القليلة في مجتمع فني جديد على المواجهات المباشرة مع جمهوره مقارنة بالدراما التلفزيونية أو المسرح! هذه المواجهة الساخنة تأتي بعد عرض فيلم «ناقة» للمخرج الشاب مشعل الجاسر، والقصة في هذه المقالة ليست عن هذا الفيلم تحديدًا، إذ سيكون لي بخصوصه عودة – فنية – بعد هدوء المشهد، إنما حديثي هنا عن القضايا الاجتماعية والفكرية الجدلية المصاحبة له.

في عام 1966م، أصدرت الأنثروبولوجية وعالم الاجتماع الإنجليزية «ماري دوجلاس» كتابها الذي حمل عنوان «الطهر والخطر» قسمت فيه المجتمعات البشرية إلى أنماط بناء على قيمهم الثقافية، وفيه كلام طويل يهمنا منه أن السيدة «دوجلاس» رأت في المجتمعات التي تقوم في تماسكها على البناء الهرمي «Hierarchical society» مثل المجتمع السعودي؛ بأنها تتعامل – غالبًا – مع المتغيرات من حولها بشكل متشابه. إذ التقاليد في هذا المجتمع محددة ولا مجال للتلاعب فيها، وكل مؤسسة لديها مكانة معروفة في السلم الاجتماعي، وكل شخص ملتزم بأدواره التقليدية ويعد الخروج عليها انحرافًا اجتماعيًا. وبالتالي، فإن الفن الذي يخرج في مثل هذا المجتمع عن معايير المجتمع يعد ملوثًا «لا يمثلنا»؛ لأنه مخل بالنظام الاجتماعي الصلب والمتماسك. وهذا ليس للفن فقط؛ بل في كل مناحي الحياة. ففي مثل هذه المجتمعات الفن يعد مؤسسة اجتماعية تمثل الضمير الجمعي الذي يتقاسمه غالب المجتمع؛ وعلى الفنان أن يعي هذا الجانب حتى لو لم يتقبله!

الإشكالية الأخرى تأتي من أن الفن بطبعه ذاتي «فردي» والفنان هو حالة وجودية مهمتها أن تولِّد «To generate» رؤية تساعد الإنسان على احتمال تراجيديا هذه الحياة. وهذا الشكل الفردي من التعبير الإنساني من الصعب جدًا تقبله في المجتمعات التدرجية، ولهذا يعاني الفنانون من حالة اغتراب اجتماعي وتوحد، ولو كنت فنانًا حقيقيًا في مثل هذه المجتمعات، فهذا – في رأيي – فرصة غير سعيدة. لا أعلم إذا لاحظتهم أنني قلت الفنان الحقيقي؛ لأن هنالك نماذج من الفن يستوعبها المجتمع التقليدي ولا يعترض عليها. وهو ذلك الفنان «الموظف» الذي يقوم بمهام عمله النسقية على أكمل وجه. وهذا الفنان بالمناسبة محبوب في المجتمعات التقليدية! وأحد هذه النماذج ذلك الذي لا يتوقف عن ترداد عبارة «الفن مجرد ترفيه وليس له رسالة»، ترديد هذه الجملة هي محاولة – واعية أو غير واعية – لنزع مهمة الفن وذاتيته من الوجود البشري، وجعله مجرد «وظيفة» تغمس صاحبها في حالة اغتراب استهلاكية الطابع. بينما الحقيقة، شئنا أم أبينا، لا يوجد فن دون رسالة مضمنة! والفنان الذي يقول إن عمله الفني بلا رسالة؛ فمعنى ذلك أن عمله بلا شخصيات واضحة ودون صراعات! أو أن هذا الفنان يصنع فنًا “وظيفيًا سريع التحضير بهدف الإنتاج والمال؛ وهذا أخطر أنواع الرسائل وأشدها على الذاتية الفنية! وله طابع أخباري، فكل ما يقوم به هو أنه يعيد تكرار ما يحدث في الشارع؛ تحت مسميات «تسليكية» مثل الواقعية أو غيرها!

لقد جاءت «ناقة مشعل» بصراعاتها وفي وقت مبكر من مسيرة تطور السينما السعودية لتقول لنا عدة أمور: أولها ضرورة أن يفهم الفنان السعودي مجتمعه المستهلك وقيمه الثقافية جيدًا. وهو أيضا كفنان جزء من هذا المجتمع، ولا أدل على ذلك من قيم «النخوة والفزعة» التي تلبست السينمائيين وأخذوا يدافعون باستماتة عن الناقة وصاحبها! ثم إننا يجب أن نفصل الخطاب الفني عن الخطاب التجاري. لا تصدقوا من يقول لكم إنه سيأتي حالة للجمهور المستهلك «ككتلة ضخمة» يفهم فيها الفن ويتقبله كحالة تعبيرية وجودية! هذا لم يحدث ولن يحدث مطلقًا منذ أيام اليونان وحتى اليوم، إلا أن يكون الفن تجاريًا، أو بعبارة أوضح أن يكون هنالك منتج استهلاكي يسوق تحت بند الفنون! وهذا تحديدًا هو الشكل الذي يقول عنه أخونا الفنان العزيز «إن الفن مجرد ترفيه».

وأخيرًا، أخي السينمائي السعودي أتمنى أن تعلمك «ناقة مشعل» التواضع والتقليل من الغرور الفني؛ فلا تصدم بردود فعل الجمهور الطبيعية! وكما يقول أبو صقر «ترا تو ما شفتوا شيء».

 

####

 

«ناقة».. إما أن تحبه أو تكرهه

إيمان الخطاف

هناك أفلام لا تقبل الحياد، إما أن تحبها أو أن تكرهها، وهذا الحاصل مع فيلم «ناقة»، فهو لم يمر بهدوء كعادة الكثير من الأفلام السعودية، بل أحدث ضجيجًا وجدلًا لا ينتهي، منذ صدوره على منصة «نتفليكس» وحتى اليوم؛ مما يجعل سؤال «شفت فيلم ناقه؟» قد يكون الأكثر تداولًا بين أوساط الشباب والفتيات بعد سؤال «كيف حالك؟».

في «ناقة»، شاهدنا الكل يدلو بدلوه، المعلق الرياضي والكاتب السياسي والأستاذ الجامعي وسائق الأجرة.. فجأة أصبح الجميع مهتمًا بالسينما السعودية وضليعًا بتقييم الأفلام، حيث تداخلت أصوات التصفيق مع صرخات الاستهجان في حالة قلما تتكرر محليًا، وتحذر صُناع الأفلام من أن الجمهور السعودي ليس سهل الإرضاء، بل هو شرس تجاه ما لا يعجبه، متشبع سينمائيًا، ومتطلّب فنيًا، ولديه فضول يدفعه لمشاهدة الأفلام الجديدة والمثيرة للجدل.

ولأن النجاح الجماهيري لأي فيلم يُقاس من تصدر شباك التذاكر، فيمكن اعتبار تصدّر «ناقة» لقائمة أكثر الأفلام مشاهدة على نتفليكس في السعودية ودول أخرى، بعد يوم واحد من نزوله؛ أنه مؤشر على نجاح الفيلم من حيث قوة الانتشار، إلا أن الجمهور استقبله بالكثير من الانتقاد، ومع ذلك شاهدوه وتحدثوا عنه، وأشبعوه تحليلًا، بداية بالمخرج وحتى أصغر كومبارس.

وهنا يأتي السؤال: هل كان الجمهور قاسيًا تجاه «ناقة»؟ وهو سؤال طرحته على إحدى منصات التواصل الاجتماعي، والصادم أن نحو 60% من الإجابات كانت «نعم»، مقابل 9% فقط ممن قالوا «لا». أما النسبة المتبقية، فهي لمن لم يشاهدوا الفيلم حتى الآن، وهذا يعني أن كثيرين يرون أن هناك مبالغة في تفاعل الجمهور مع الفيلم الذي استفزهم بشكل مقصود أو غير مقصود.

ينسجم «ناقة» مع أفكار المخرج مشعل الجاسر الخارجة عن المألوف، وهو أيضًا من كتب القصة التي ضعفت حبكتها أكثر من مرة، إلا أن تقنياته الإخراجية صنعت المتعة في مشاهدة العمل الذي يمزج ما بين الرعب والكوميديا والإثارة، ويبدأ بتحذير المشاهدين الذين لديهم حساسية من الضوء بسبب السرعة القصوى للكاميرا في بعض المشاهد.

ويحمل الفيلم اكتشافًا للجاسر في تقديمه لنجمة سعودية جديدة، وهي أضواء بدر التي لعبت دور «سارة» الشخصية الرئيسية في العمل، بعفوية وإقناع عاليين، وبوجه طبيعي بعيد عن حقن الفيلر والبوتكس وأطنان المكياج. كانت سارة تشبه في مظهرها أي بنت عادية في المجتمع، إلا أنها كانت متمردة، تدخن سرًا، وتخلع الحجاب بعيدًا عن أهلها، وتقابل حبيبها خلسة. ورغم أن هناك مئات من أمثال سارة على كوكب الأرض، فإنها شخصية استفزت الجمهور إلى حد كبير، ممن اعتبروها جريئة وخارجة على الأعراف الاجتماعية.

أما الممثل الشاب يزيد المجيول «سعد»، فكان حضوره طاغيًا في النصف الأول من الفيلم، بأداء هادئ، بعيد عن الافتعال والصراخ ونوبات الهلع التي يبالغ بها عدد كبير من الممثلين تجاه الأحداث المرعبة. إذ يأتي «ناقة» ليقدم لنا نجمًا جديدًا للسينما السعودية، يجمع ما بين الكوميديا والتراجيديا، ويحتاج فقط إلى بعض الوقت لتنضج تجربته وتتطور أدواته.

ومهما اختلفت الآراء تجاه فيلم «ناقة»، فإنه استطاع تحريك المياه الراكدة، ودخول منطقة جديدة أثارت حماسة وفضول الجمهور، بما يطمئننا إلى أن الأفلام المحلية قادرة على شد انتباه المشاهد السعودي، والالتفاف حولها للتفكير والتحليل، وهذا يتطلب فقط أن يكون الفيلم مختلفًا وغير تقليدي.

 

####

 

مراجعة نقدية لفيلم «ناقة»

سلطان القثامي

يتمحور فيلم «ناقة»، من تأليف وإخراج مشعل الجاسر، حول مغامرة الفتاة «سارة» في نطاق مخيمٍ صحراوي، ذهبت إليه في موعد مع صديقها السري «سعد»، دون علم أهلها، وكانت قد أخبرت والدها برغبتها في الذهاب للسوق على أن يعود إليها في تمام الساعة التاسعة مساء عند الانتهاء من التسوق. وفور وصولها للمجمع التجاري، ذهب الصديقان مباشرة إلى المخيم وسط مخاوف سارة من عدم قدرتها على العودة في التوقيت المناسب. وفي طريقهم إلى المخيم قامت بتعاطي مادة عبر تذويبها في الشاي، يبدو لنا أنها أثّرت في صحتها وقدراتها العقلية. وهنا يجعلنا المخرج في مواجهة شخصية مضطربة، بحيث التبست علينا الأحداث، فلا ندري إن كان ما سيحدث لاحقًا حقيقيًا أو من تخيلاتها. ولا ندري إن كان علينا الوثوق بمنظورها عما تعرضت له في المخيم من أذى نفسي وجسدي.

فبالنظر إلى السياق الاجتماعي والأسري للشخصية الرئيسة في هذا الفيلم، يمكن استنباط عدة حقائق أبرزها أن سارة ناقمة على المجتمع الذي ترعرعت فيه. فهي نشأت في أسرة متشددة ونظام أبوي متسلط. فهي بالأساس ليست على وفاق مع محيطها وثقافته ولا تنتمي إليه فكريًا. لذلك، فالمنظور الذي نتعرف من خلاله على ثقافة ابن الصحراء هو منظور الضحية، وهو منظور جدير بالثقة، ولكن، ومن منظور نفسي، لا يمكن أن نعتد به كرأي وحيد في لحظات النزاع النفسي. في طريقهم نحو المخيم، تصطدم سيارتهم بناقة على وشك الولادة. فتصبح هذه الناقة ناقمة عليهم كما نشاهد في خاتمة الفيلم، لكنها لم تصب أحدًا بأذى.

ما بعد هذا الحادث تتعاقب لقطات مختلفة في الصحراء تعكس عبثية المكان الذي لا يخضع لقوانين. على سبيل المثال، تقف سارة أمام سيارة لبيع الآيس كريم، ثم ترى مجموعة شباب يقودون الدبابات قاموا بالاعتداء على العامل الأجنبي في سيارته، وهو مشهد يجسد فوضى وخطورة المكان على مرتاديه. في المخيم، حيث الوجهة، كان هناك «شاعر نجد» الذي يشتري القصائد بالمال ويقيم الاحتفالات عقب فوزه في مسابقة الشعر، وهناك عالم واقتصاد خفي، فيه عشرات الرجال وبضع نساء.

انتهى بهم المطاف إما إلى الاعتقال أو الفرار عقب مداهمة أمنية للموقع. كانت سارة قد نجت من المداهمة، ولكن نفدت سيارة سعد من الوقود. فقبض عليه، وبقيت سارة وحيدة في مواجهة جديدة مع الناقة الغاضبة. وتتحمّل سارة مخاوفها وهي تتذكر مقولة ذكرتها في بداية الفيلم أن الجمل حقود ولا ينسى عدوه. تحاول سارة التواصل مع صديقتها لإنقاذها لكن تبوء محاولاتها بالفشل. وتستلقي تحت السيارة المتعطلة خوفًا من الناقة الغاضبة. ولكي تنتقم منها، قامت بإعطائها العشب المخلوط بمادة تبدو مخدرة عثرت عليها في رمال الصحراء، ثم تسببت في إجهاض الناقة لمولودها وموتها على الفور.

تعكس لنا تجربة سارة أننا كبشر لسنا سادة عقولنا ولا يمكننا التحكم فيها في كل الأوقات، وبالذات في اللحظات النفسية المؤلمة. كما أظهرت لنا مغامرتها أن الظروف الإنسانية والأفكار والأفعال لا يحركها عقلنا الواعي حصرًا، بل في كثير من الأحيان هي نتاج قوى خارجة عن وعينا. تلك القوى يمكننا فهمها أحيانًا عبر التعبير الفني المتقن. والسينما تبدو في هذا الفيلم كالعملية العلاجية التي تساعدنا على إدراك القوى الخفية التي تموّل صراعاتنا اليومية مع أنفسنا والمجتمع وتحدد مواقفنا من الأحداث. أجاد الفيلم في شكله عدة عوامل أهمها التشويق، ومن عناصره في هذا الفيلم الصراع مع الزمن، حيث تحاول سارة تخطي مصاعب العودة للسوق لتجنب غضب أسرتها. ثم الصوت والإضاءة، حيث تمكن المصور من توثيق الفضاء الليلي في الصحراء وتمايزه بين الهدوء والعنفوان، ولحظات الترقب والخوف المرتبطة به. فيجعلك كمشاهد في حالة قلق كالذي تعيشه الشخصية الرئيسة، وترقب لما سيحدث في النهاية، والتساؤل المستمر إن كانت قادرة على العودة في الوقت المناسب. لذا يمكن القول إن العمل كان متفوقًا في هيكله أكثر من محتواه، إذا أخذنا في الاعتبار أنه تجربة المخرج الأولى مع الأفلام الطويلة.

بالإضافة إلى عدم وجود إرث سينمائي طويل في مجتمعنا يساعد المخرجين في الاستفادة من تجارب سابقة في المجال. لكن عند الخوض في بنية العمل، بالذات في قصته وتصويره لابن الصحراء، يمكن أن نرى بتجلٍّ كيف وقعت قصة المخرج في فخ الاستشراق الغربي من خلال المنهجية التي اتخذتها في تمثيل ثقافة وحياة ابن الجزيرة العربية. فمن بديهيات الاستشراق التي وقع فيها العمل، بوعي أو بغير وعي من صنّاعه، هي إظهار ابن الجزيرة العربية في مظهر الكائن الهمجي أو العنيف الذي يتبع غرائزه فقط ولا يكترث بحقوق الآخرين. وإظهار الجمل، وهو الكائن الأليف لابن الصحراء، بصورة بشعة حقود لا ينسى عدوه يتغاضى عن حقيقة أن الجمل قد يكون أيضًا ودودًا ولا ينسى صديقه. إن الشيطنة المطلقة للجمل هي أحد أساليب المستشرقين في تشويههم للثقافات المختلفة عن ثقافتهم. عندما تأكل سارة من لحم الإبل في إحدى المناسبات تصبح متوحشة. وهذه النظرة للجمل امتداد لنظرة المستشرق الغربي للبدوي، أو ابن الجزيرة العربية بشكل عام. فعندما كره الأوروبيون السكان الأصليين لأميركا الشمالية قاموا بازدراء جواميسهم المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بثقافتهم، ثم قاموا بإبادتها. رمزية الجمل الحقود هي إسقاط على ثقافة عريقة ذات جماليات لا متناهية لم ينصفها الفيلم، ولم يحصر بعضًا منها في مشاهده الكثيرة.

 

موقع "سوليوود" في

12.12.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004