ملفات خاصة

 
 
 

الهند وتركيا في البندقية بفيلمين عن واقعهما المأزوم

هوفيك حبشيان

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثمانون

   
 
 
 
 
 
 

"مسروقة" يحكي مأساة الأطفال الهنود المخطوفين و "خط التردد" عن فساد المستشفيات والمحاكم التركية

أفلام كثيرة تعرض في أقسام موازية وزوايا "مخبأة" تتجاوز تلك التي شاهدناها على مدى الأيام الماضية في مسابقة مهرجان البندقية السينمائي الذي يختتم غداً، جمالاً وابتكاراً وأهمية. 

وهذه هي الحال في كل المهرجانات الكبيرة مثل "كان" و"برلين" وغيرهما، فإذا غامر المشاهد وأراد الخروج من المتن إلى الهامش لإشباع فضوله بعيداً من الدروب المطروقة، فلا بد أن يكتشف اتجاهات سينمائية جديدة ورؤى مختلفة عن السائد في أفلام تأتي من بلدان نامية، حيث السينمائيون يعانون ويجاهدون من أجل صناعة أفلامهم التي تكون أحياناً باهرة، ونلمس فيها بوضوح تلك الجهود التي تنعكس إيجاباً في العمل، خلافاً للاستسهال الذي تقع فيه أفلام غربية عدة تنجز في إطار إنتاجي صناعي مريح لا ينتج سوى الكسل الفكري والتكرار. 

وأحد تجليات هذه السينما الهامشية في مهرجان البندقية هذا العام، هو فيلم "مسروقة" للهندي كاران تجبال الذي عرض في قسم "أوريزونتي" التنافسي، وهو عمل تشوبه شوائب كثيرة أولها أداء الممثلين الضعيف، ومع ذلك فهو يوفر بالنسبة إلى العرب والأوروبيين والغربيين عموماً، تجربة "إكزوتيكية" تحملنا إلى الهند من خلال حكاية خيالية تضرب جذورها في العمق الهندي.

يبدأ الفيلم مع جملة في الجنريك تقول "هناك هندان لا تهتم واحدتهما بالأخرى، لكن في بعض الأحيان تتصادمان". والحكاية التي نتابع فصولها المأسوية والكوميدية في آن معاً هي وليدة هذا التصادم، وهي قصة سرقة طفلة عمرها خمسة شهور من أمها (ميا مالزر) خلال وجودها في محطة قطار ذات صباح رفقة مصور يشهد على الحادثة وشقيقه الرجل الثري الذي يتردد في مساعدة الأم المفجوعة، فهو وأخوه عليهما تلبية دعوة إلى حفل زفاف.

نخوض مغامرة البحث عن الطفلة في أرياف الهند البعيدة والخطرة لنشهد على ما يحدث فيها من مآسٍ، واللافت أن هذه الرحلة التي ستكون استكشافية أكثر من كونها بحثية، تغدو مناسبة لعرض الواقع الهندي المأزوم، ليس فقط أمام المشاهد بل أمام الشقيقين كذلك، لكونهما من طبقة اجتماعية غير معنية بهذا النوع من الأجواء، ولا يعرفان حتى ماذا تعني شبكات سرقة الأطفال.

تنطوي الرحلة على لحظات هرج ومرج وصراعات لا تنتهي بين الشقيقين اللذين يكتشفان خلالها ماضي السيدة التي يحاولان مساعدتها للعثور على رضيعها، وهذا كله يفضي إلى كثير من مشاهد الحركة والعنف على الطريقة الهندية. 

وعن الواقع الذي يصوره يقول المخرج، "في الهند يختفي طفل كل 10 دقائق ولا يتم العثور إلا على عدد قليل منهم، وهؤلاء هم الأوفر حظاً، وانعدام المسؤولية عند الدولة والشعور بالظلم والانتشار غير المحدود للمعلومات المضللة عبر وسائط التواصل الاجتماعي، أدت كلها إلى اتهام أفراد أبرياء ظلماً وحتى معاقبتهم. إني أشعر بالقلق إزاء الأحداث التي انتهت إلى تآكل الثقة في أنظمتنا الاجتماعية الأساس من خلال الشخصيات المتباينة التي في فيلمي، ووددت التطرق إلى القوة التي لا تتزعزع للروح الإنسانية والتي لا تزال تدير شؤون عالمنا، وفيلمي يسعى إلى التقاط مدى تعقيد زمننا المتغير مع غرس شعور بالأمل والتفاهم".

عدد لا بأس به من الأفلام الهندية يحاول الإشارة إلى اتساع الهوة بين الطبقات، و"مسروقة" لا يختلف عن هذه الأفلام ولكن يفعلها على طريقته الخاصة مع حشد كم من المواضيع الجانبية مثل الأمومة وكراهية الأجانب وخيبة الأمل من النظام، إذ إن الشرطة تحاول تلبيس التهمة اعتباطياً إلى أي كان من دون إجراء تحقيق، ويجري هذا كله في خضم الأحداث المثيرة وصراعات البقاء التي نتابعها في الفيلم بإيقاع سريع. هذا فيلم هندي جداً في أدق تفاصيله مثل تعاطي الشخصيات مع بعضها، وطبيعة الحوارات وكيفية التصوير التي تبدو في بعض الأحيان كأن فريقاً ثانوياً من فيلم بوليوودي تولاها، علماً أن المخرج تمرس في بوليوود قبل أن يحلق وحده في الإخراج.

واقع مأزوم

فيلم آخر يجعلنا نطلع على الواقع المأزوم هذه المرة في تركيا وهو "خط التردد" للمخرج التركي سلمان نصار الذي يشارك بعمله هذا في قسم "أوريزونتي"، والفيلم يتعقب خطوات محامية جنائية (تولين أوزين) تائهة بين الاهتمام بأمها المحتضرة والدفاع عن موكلها المتهم بجريمة قتل، وتواجه كانان، وهذا اسمها، أسئلة أخلاقية تتعلق بأمها وموكلها مما يستدعي العودة لضميرها وعقلها وأحاسيسها.  

ويقول المخرج في كلمة ضمها الملف الصحافي، "كنت مهتماً بشدة بمفاهيم الجريمة والعدالة والأخلاق منذ أعوام دراستي المحاماة، فقررت في هذا الفيلم استكشاف هذه المواضيع، علماً أن فصوله تحدث خلال أقل من 24 ساعة، وتدور خلال جلسة استماع مركزاً على تفضيلات كانان الأخلاقية التي تلقي بظلالها على حياتها الشخصية والمهنية، وعلى رغم أنني فضلت تصوير الفيلم من منظور كانان الشخصي فتركيزي لم يكن على نتيجة اختياراتها بل على عواقب محاكمتها".

ويحاول الفيلم، وهو الطويل الثاني لمخرجه، البحث عن لغة سينمائية تنسجم مع الفكرة، ولكن للأسف يغرق بين حين وآخر في الدراما التلفزيونية على رغم القصة المثيرة التي كان من الممكن أن تعطي عملاً أنضج وأكثر تماسكاً.

وينتمي الفيلم إلى سينما الواقع الاجتماعي التي تصور شخصيات في صراعها مع محيطها ونفسها أيضاً، وهو صنف أبدع فيه بعض الأتراك، ويحرص المخرج في عمله هذا على فصل الخيوط بين الحقائق وما يبدو أنها كذلك، كما أن نصه ممعن في الهاجس الأخلاقي ويهمين على البطلة كانان التي تواجه الشك وعذاب الضمير بإرادة صلبة. 

يقدم المخرج من خلال الذهاب والإياب بين مؤسستين تمثلان النظام، أي المستشفى والقضاء، "بورتريهاً" لبلاد بعيدة جداً عن صورتها السياحية المستهلكة التي ارتسمت في الأذهان، فما نراه هو "تركيا الأخرى" عبر نظرة من الداخل على الواقع التركي المضطرب، وما هو إيجابي فيه أن مسرح الأحداث مدينة صغيرة بعيداً من المتروبول التركي، حيث تتواجه نساء ورجال من طبقات وقيم ومفاهيم مختلفة، وهذا كله يلتقطه المخرج ببعض النجاح هنا وبعض الإخفاق هناك.

 

الـ The Independent  في

08.09.2023

 
 
 
 
 

البندقية 80 - "كائنات مسكينة": انبعاث امرأة وتحررها

هوفيك حبشيان

أصبح يورغوس لانثيموس "قيمة" في مجال الفنّ الصوري الذي يفتح أبوابه على فكرة ان المستحيل ليس سينمائياً. بعد سلسلة أفلام تحرض المُشاهد على نبذ المعتاد والمكرور، بدأ هذا اليوناني يبحر في محيط أوسع من ذلك التي كان مجاله في بداياته، واللافت انه لم يخسر شيئاً من حسّه الابتكاري، خلافاً للعديد من أسلافه الذين خسروا شيئاً ما، عندما انتقلوا من الهامش إلى المتن. سُرق لانثيموس من بلده اليونان، لكن لم يُسرق من نفسه وهواجسه التي لا يزال يمارسها بحرية وبموازنات ضخمة وممثّلين كبار من الذين يمتلكون حسّ المغامرة. الموهبة خلف الأطلسي، تُعتبر منجم ذهب، لا عاقل يفرط فيه.

لا يُمكن ان نجزم ان جديده، "كائنات مسكينة"، الذي يتنافس حالياً على "الأسد الذهب" في #مهرجان البندقية السينمائي الـ80 (30 آب - 9 أيلول) يذهب أبعد من أي وقت مضى، في بثّ مشاعر الاضطراب والقلق والسقم التي عوّدنا عليها في أعماله السابقة. نكتفي بالقول انه مختلف، يمدّنا بإحساس ان مخرجه ينبعث من جديد، خصوصاً في ضوء النسوية التي اكتشفها.

جنس وعمليات جراحية، مَشاهد عنف وتوحّش وأشكال مخيفة، جلود ولحوم بشرية ودم… هذا بعض ممّا جاء في "كائنات مسكينة" الذي نال تصفيقاً حاراً لدى عرضه الصحافي، وذلك فور صعود الجنريك وظهور اسم المخرج (بات له العديد من الهواة حول العالم)، وبدا هذا التصفيق الأقوى على مدار المهرجان. لم يتوقف الحضور عن الضحك طوال مدة العرض التي تجاوزت الساعتين وعشرين دقيقة. يجب التوضيح ان هناك ما يُضحك في الفيلم، ضحك ينبع من أماكن عبثية. أما المقالات التي أثنت على الفيلم، مشبّهةً إياه بـ"فرنكنشتاين" نسخة نسائية، فهي تأكيد إضافي اننا أمام عمل يملك مقومات الاغواء.

اقتبس لانثيموس فيلمه هذا من رواية للكاتب الاسكتلندي ألازدير غراي، وفضلها كبير في نجاح الفيلم وتفوقّه. فنحن أمام عمل فانتازي علمي-خيالي سوريالي مشغول بالسرد وبقول حكاية، بقدر اهتمامه بالتعليق والإضافة، وربط هذا كله بتاريخ سينما معينة، هي سينما الكائنات المشوهة والغامضة من ذوات القلب الكبير. يأتينا لانثيموس بحكاية يرويها بشكل خطي، واضح، محترماً عقل المُشاهد، فنغرق حتى الرأس في تفاصيلها الكثيرة والمثيرة، ولا فكاك من تأثيرها الضاغط علينا حتى بعد الخروج من الصالة. لا فذلكات ولا تعقيدات! وبالتأكيد، لا مصادفة، إذ ثمّة تشابه كبير بين الرواية والأجواء والتفاصيل والأفكار التي قدّمها لانثيموس في أفلامه الماضية.

باكستر (ويلَم دافو في دور يبرع فيه) هو دكتور غريب يعاني تشوّهات في وجهه تحوّله مسخاً. تبدأ الحكاية مع انتشاله جثّة سيدة (إيما ستون في ذروة عطائها) ألقت بنفسها من أعلى الجسر هرباً من زوجها. تتمّة القصّة من أغرب ما يكون: سيبدل الدكتور مخ مَن سيسمّيها بيلا، بمخ جنينها، وفي النتيجة سيعيدها إلى الحياة. من متخلّفة عقلياً، بعد خضوعها للجراحة العجيبة، ستغدو بيلا تدريجاً، وهي خلاصة اختراع علمي مجنون، إنسانة جديدة لها قرارها الخاص وحرة في اختياراتها الحياتية، ممّا سيجعلها تنتقل إلى باريس حيث ستسلّم نفسها لرغباتها الجنسية. وكلّما تحررت، تحرر الفيلم معها، إطاراً وألواناً وعلى المستويات كافة، فتخلّى عن الأسود والأبيض لمصلحة الألوان الفاقعة المبهجة. وهذا يغدو مناسبة للانثيموس ليؤكد مرة جديدة هوسه الشكلاني. الارث البصري لكوبريك حاضر كثيراً في سينماه، خصوصاً في استخدامه الزوم.

العالم الذي تجري فيه الأحداث يتناسل من مخيلة لا تنضب، بألوانه وجمالياته وارتباطه الوثيق بالقصص الخرافية أو حتى بالقصص المصوّرة، وإنْ أُعطيت بعض الأماكن أسماء كلندن أو الإسكندرية، لشبونة أو باريس، وهي المدن التي ستحط فيها بيلا. أما النبرة التي صاغ بها لانثيموس فيلمه، فهي تلك المترددة بين الكوميديا والسوريالية وصنفٍ من الأفلام يحرص على تصوير أحشاء الإنسان وتقطيع الأطراف وإجراء أغرب العمليات الجراحية من دون أي اعتبار لأصحاب القلوب الضعيفة. من هذا الكونتراست بين مستوى هزلي وآخر أكثر سوداويةً في مقاربته للطبيعة البشرية، يستمد الفيلم جماله ورونقه، فهو مزيج من هذا وذاك، وأغلب الظنّ ان هذا النهج هو سبب إعجاب النقّاد به، خصوصاً انه غير معلَّب ولاخطابي ويأتي بروح مختلفة.

في النهاية، هذا فيلم عن امرأة، كيف تموت وتنبعث من جديد، وكيف تبني نفسها من حطام وبقايا ما كانته، وكيف تستعيد ادارة حياتها، وكيف تتعرف الى السعادة والرغبة. لكن، بدلاً من ان يذهب لانثيموس إلى الترويج للنسوية على نحو مبتذل، وجد السبيل إلى ان يجذبها إلى عالمه ليتحدّث بمفرداته هو. أما إيما ستون، التي نكتشف لها هنا طاقة كوميدية غير متوقعة (هي أيضاً منتجة الفيلم)، فتتحرر كممثّلة بقدر تحرر شخصيتها. قدرتها على المزج بين طفولة في أولى مراحل اكتشافها للحواس، مقابل تحررها الجنسي كامرأة، ستبقى "مدرسة".

 

####

 

البندقية 80 - "القصر" لبولانسكي: الثري الطريف هو الثري الميت!

هوفيك حبشيان

جلسنا، ناقدان وأنا، إلى طاولة أحد المقاهي في جزيرة الليدو، نهنئ بعضنا بعضا على اعجابنا الشديد بفيلم #رومان بولانسكي، "القصر"، الذي عُرض خارج المسابقة في #مهرجان البندقية السينمائي (30 آب - 9 أيلول) ونال أحط الشتائم وأشرس أنواع الهجوم من الصحافة والنقّاد. بدت التهنئة، والحال هذه، في محلّها، كوننا من النادرين جداً الذين أبهرهم هذا العمل الساخر والمثير للجدال. مَن أحب هذا الفيلم، أو على الأقل مَن اعترف بحبّه له، عددهم ليس أكثر من أصابع اليد الواحدة. هناك شبه اجماع بأنه عمل منحط وسافل وركيك وبغيض وقبيح، ويكفي ادراج كلمة "القصر" مع اسم مخرجه في محرك بحث "غوغل" كي تطالع ما أبدعته أيادي النقّاد من أوصاف لواحد من أكثر الأفلام التي أضحكتنا وسلّتنا هذا العام في "الموسترا".

مازحتُ الزميل، ليس من دون بعض الجدية، بأن الفيلم سيبصح Cult بعد عشرين عاماً حداً أقصى، ففوجئتُ بأنه يؤمن، ليس من دون بعض السخرية، بأن الفيلم أصبح "كولتاً" منذ الآن. في النهاية، اتفقنا ان بولانسكي، أعد نسخة "تراش" لـ"مثلّث الحزن" لروبن أوستلوند الذي نال "سعفة" كانّ العام الماضي.

لم يخفِ مدير المهرجان الفنّي ألبرتو باربيرا، في أول تصريح له من هذا النوع أدلى به لمجلة "سكرين دايلي"، امتعاضه من النحو الذي تم الحديث فيه عن هذا الفيلم والتعاطي معه، قائلاً بأنه يحق لأي شخص ان يعبّر عن رأيه بحرية، لكنه وجد انه كان هناك قلّة احترام لواحد من أعظم معلّمي السينما. وأضاف: "من غير الجائز التعامل مع الفيلم بهذه الطريقة المتسرعة".

أعزائي القراء، في حال لم تفهموا حتى الآن عمّا يتحدّث باربيرا، فالأجدر مصارحتكم بكلّ بساطة: فيلم بولانسكي، 90 عاماً، واحد من آخر عمالقة السينما، مخرج "تشايناتاون" و"عازف البيانو" وتحف سينمائية أخرى، نُعت بـ"الخراء" تحت أقلام بعض الصحافيين، وهذا لا يحدث كلّ يوم، أقله لا يحدث مع سينمائي من طرازه.
اكتشفنا "القصر" يوم الجمعة الماضي، في صالة مكتظة بأهل الصحافة، لكن ما إن خرج النقّاد منها، وحان الوقت المسموح به للحديث عن الفيلم في الصحف المطبوعة والمواقع الإلكترونية، حتى كالوا الشتائم له، مستخدمين تعابير سوقية في بعض الأحيان. وطبعاً، معظم المقالات استعاد حكاية الاغتصاب، رغم ان لا علاقة لها بالفيلم. أجمعت الصحافة السينمائية على تفاهة فيلم المخرج الذي وقف خلف الكاميرا وهو في التسعين من العمر، ليقدّم عملاً يتحامل على الجميع أو يشتم الجميع أو يسخر من الجميع (اعتبرها ما تشاء)، بدون أي اعتبار لشيء، محوّلاً الشخصيات إلى دمى في يد كاتب السيناريو (يرجي سكوليموفسكي) الذي لم يجد، على ما يبدو، أي داع لبناء حبكة وبلورة الشخصيات والوصول معها إلى ذروة درامية، الخ. لكن، شخصياً، أعجبني الفيلم كثيراً، وما وجده الآخرون عيوباً وجدته ميزات.

يبدو ان بولانسكي ما عاد يطيق كبت هذه الرغبة لديه، أقصد الرغبة في الهجوم على الأثرياء وعالمهم السطحي المتصنّع، فما ان قرر عدم الخوف من المجتمع بعد الآن، حتى قرر تقديمهم كشلّة أغبياء سوقيين بشعين، فكانت هذه الكوميديا السوداء التي تحرص على تمريغ الجميع في الوحل بشكل متساوٍ، من دون أي إحساس بالرحمة، بل بشيء من التشفّي المحبب، ذلك ان صاحب الحفل في النهاية هو بولانسكي.

من أوليغارشيين روس إلى أصحاب مال لا تحرقه النيران، مروراً بنصّابين وأطبّاء تجميل وممثّلي بورنو، "يحبس" الفيلم كلّ هؤلاء في فندق سويسري فخم في جبال الألب، عشية دخول العالم إلى العام 2000، مع ما يعني ذلك من شائعات انتشرت عامذاك تتنبأ بنهاية العالم.

"أنوفهم وآذانهم ستمرغ في الشمبانيا والكافيار"، يتوعد مدير الفندق الذي يركض يميناً ويسراً طوال الفيلم ليلبّي طلبات الجميع. أحد هؤلاء الأثرياء، وهو من أصحاب المليارات، لا يصبح ظريفاً إلا عندما يموت (وهو يمارس الجنس)، وكأن بولانسكي أراد القول ان الثري الجيد هو الثري الميت.

لا، لسنا في "الوليمة الكبرى" لفيريري، فصنف الدعابة هنا ينتمي إلى زمن آخر، حيث الضحك هو فعلاً على الشخصيات وحماقتها التي يدركها الجميع الا أصحابها. وهذا ما أزعج أصحاب الضمائر الحية والأخلاق الحميدة في البندقية، وكأن الشخصيات الكارتونية التي يصوّرها الفيلم ببدائية، حقيقية.

هناك عالمان يتواجهان في "القصر": الفندق وأقبيته حيث يتم تحضير الطعام وتنظيف الشراشف التي سيضع عليها الأثرياء مؤخراتهم، وغيرها من الأعمال التي تجبر العمّال على البقاء في دوامهم حتى ليلة رأس السنة لخدمة هؤلاء، من دون ان يحظوا حتى بترف التذمّر من تصرفاتهم المهينة. ينتقل الفيلم باستمرار من هذا العالم إلى ذاك، مولّداً المفارقات وكاشفاً الهوة بين الطبقات. يفعل موظفو الفندق المستحيل لإنجاح السهرة، التي سيعترضها عدد من المشاكل والأحداث الطارئة، أما الحفلة نفسها فهي حفلة تفاهة.

لعل أكثر المَشاهد تعبيراً عن هذا، هو ذاك الذي يُختتم به الفيلم، اذ يعطي الكلمة الأخيرة لبولانسكي مثلما تعود الكلمة الأخيرة للمال في علاقة موظّفي الفندق بالنزلاء.

 

####

 

البندقية 80: بلجيكية تقدّم تجربة انفصامية والياباني ينظر في عيون الناجين من الحرب

هوفيك حبشيان

بعد تسعة أيام من المشاهدة، باتت الأفلام التي تتسابق على "أسود" #مهرجان البندقية السينمائي (30 آب - 9 أيلول) محدودة جداً ولا يتخطّى عددها أصابع اليد الواحدة، أما الصورة الشاملة لمسابقة هذه الدورة فارتسمت في الأذهان بشكل شبه نهائي، ومن المفروض العودة إليها تحليلاً ومعاينة، وذلك بشكل أوسع، في الأسابيع المقبلة. من المثير دائماً القاء نظرة على التقاطعات بين هذه الأفلام، لنعي ما هي المواضيع التي تشغل السينمائيين غرباً وشرقاً، وكيف تتوحّد هواجسهم أحياناً، رغم اختلاف ثقافتهم والبيئة التي يعيشون فيها والبقع الجغرافية التي يأتون منها. الاتجاهات الجديدة في السينما مسألة أخرى ينبغي ان تؤخذ في الاعتبار، هذا هو جوهر النقد عموماً، الذي لا يكتفي بسرد حكاية الأفلام واعطاء علامات لمستواها الفنّي. الا ان المشاهدة الكثيفة في المهرجان، لا تفسح الكثير من المجال لهذا النوع من الدراسات، فاللحظة الآن هي لحظة آراء ملخّصة تأتي بفكرة عامة وسريعة، أو بانطباع شخصي عمّا يدور في الصالات المظلمة الواقعة على جزيرة الليدو التي ستشهد غداً (السبت) توزيع جوائز الدورة الثمانين، على يد لجنة تحكيم المخرج الأميركي داميان شازيل.

أمس، شاهدنا أحد آخر أفلام المسابقة: "هولي" للبلجيكية فيين تروش. أقل ما يُقال عنه انه عذب وجذّاب ومغاير، فيه مادة سينمائية دسمة، والمعالجة تبرزها كما يجب، وذلك من خلال لمسة فنّانة تمتلك نظرة طازجة وحادة، ولديها ما تقوله، وتعرف كيف تقوله. هذا أحد أفلام المراهقين الجدية، الذي يتناقض جذرياً مع كوميديات المراهقين التي - رغم طرافة بعضها - سخّفت هذه المرحلة العمرية واختزلتها بالتنكيت والمقالب والمواعدة والاكتشافات الأولى. "هولي" نقيضها، يموضعنا في اطار جمالي مختلف، حيث واقعية تُعالَج بأسلوب يغرق في فنّ السينما، مع دور كبير للموسيقى التي تنتشلنا من المكان، لتحلّق بنا في أجواء تبرع المخرجة في اشاعتها طوال المدة. الفيلم ذكّرني بعض الشيء بـ"كلوز" للوكاس دونت الذي عُرض في مهرجان كانّ العام الماضي، وكلاهما من بلجيكا.

هولي ابنة الخامسة عشرة عاماً تتعرض لحالات تنمر متكررة في المدرسة التي ترتادها. ذات يوم، تقرر مقاطعة الصف لشعورها بأن حادثة مأسوية ستحلّ بها، وهذا ما سيحدث فعلاً بعد ساعات معدودة. جو من الحزن يخيم على المدرسة والأهالي، بسبب الخسارة في الأرواح، لكن إحدى المدرّسات، آنا، ترى في هولي ما لا يراه غيرها، فتقترح عليها التطوع مع الفرقة المسؤولة عنها لإقامة نشاطات، لتلاحظ مع الوقت بأنها تمتلك قدرات استثنائية على بثّ الراحة والطمأنينة في نفوس الآخرين، مما يجعلها نوعا من "شفيعة" تحيّر الجميع. لكن، ما يبدأ كمعجزة، يتحول سريعاً إلى عبء على أكتاف الفتاة النحيلة. فكلّ مَن حولها سيحاول امتصاص طاقتها، من دون ان تنال شيئاً في المقابل.

من التنمّر إلى تحميل المراهقين أعباء أكبر من قدرتهم على التحمّل، فإلى الأمومة وصعوبة الإنجاب، تقارب المخرجة مواضيع عدة متداخلة يصعب الفصل في ما بينها، لشدة انصهار بعضها ببعض. هذا لا يعني ان الفيلم "يسقط" تحت ثقل القضايا، بل على العكس، هناك استخدام ذكي لكلّ منها، رغم قلة الفترة المخصصة لكلّ واحد منها.

الفتاة هولي وهم. ما يحدث لها يفضح محيطها أكثر مما يروي عنها. معظمهم عابر في الفيلم، لكن هولي تبقى لمداواة الجروح بإمكاناتها. مجموعة الناس الذين يتحلّقون حولها، يرون فيها تجسيداً لـ"احتياجاتهم ومعتقداتهم"، كما تقول المخرجة في الملف الصحافي للفيلم، وتضيف: "دينامية المجموعة كانت جدّ مهمة لي في عملية بناء الفيلم. وددتُ خلق تجربة فيلمية انفصامية مع المزيج من الحداد والجنون الذي تنتجه الشخصيات والظروف، ويتمظهر ذلك في إيقاع السرد. يبدأ الفيلم بهدوء، قبل ان يغرق في الفوضى الخالصة عندما يشرف على نهاية. هناك لحظات واقعية جداً، ثم هناك عناصر صوفية تطفو على السطح، حين يساور المُشاهد الشك حول موهبة هولي الإستثنائية".

***

ضمن أجواء بعيدة تماماً من عالم المراهقة في بلجيكا المعاصرة، يحملنا المخرج الياباني شينيا تسوكاموتو، إلى اليابان، غداة الحرب العالمية الثانية لنعيش معه تجربة نفسية عميقة وصعبة. فيلمه هذا، "ظلّ النار"، عُرض في مسابقة "أوريزونتي"، وكانت صالة "بالا بينالي" ذات المقاعد غير المريحة، كاملة العدد تقريباً عند عرضه، وقد صفّق الحضور عند ظهور اسم المخرج الذي سبق ان شارك في "الموسترا" بأفلام عدة، وهو أحد رواد حركة "بانك السيبرانية" في اليابان، على غرار ديفيد كروننبرغ في القارة الأميركية. بدأ يُصوّر الأفلام في عمر الـ14، يوم أهدى اليه والده كاميرا 8 مم. مثّل في عدد من أفلامه وكذلك في أفلام زميله تاكيشي ميك.

الفيلم قاسٍ جداً، يرهق الأعصاب ويتلفها، ويؤكد المؤكد: تسوكاموتو واحد من أهم السينمائيين الآسيويين في العالم، يعرفه مَن يعرفه، لكنه لم ينل الاعتراف الدولي المطلوب، ربما بسبب طبيعة أفلامه. نرحل برفقته إلى اليابان المنكوبة (التي لا تشبه بتاتاً ما هي عليه اليوم)، غداة الحرب، لنرى بلداً يحاول ان يقف على قدميه قليلاً قليلاً. البطلة امرأة شابة تدير حانة وتحاول كسب بعض المال من خلال ممارسة البغاء. أفراد عائلتها قضوا جميعاً. تبدأ الحكاية عندما يتسلل إلى حانتها صبي يتيم الأهل، ثم يأتي جندي يريد الجنس معها. سيتشارك الثلاثة مساحة الحانة الضيقة والعتمة التي تغرق فيها. الأفق مسدود والعيش مأزوم والنفوس جائعة إلى حياة أفضل. وفي الحقيقة، كيف يمكن الافلات من الحرب وذكرياتها الأليمة والتروما التي تسببت بها للناجين الذين أصبحت مأساتهم انهم نجوا؟

الفيلم ثالث جزء من الثلاثية الحربية التي انطلق بها تسوكاموتو قبل نحو عشرة أعوام مع فيلم "نوبي، حرائق في السهل" وواصلها مع "زان". تتمحور هذه الثلاثية على تداعيات الحرب في نفوس البشر الذين عاشوها. من البديهي ان يتحدّث تسوكاموتو عن بلاده اليابان، كونها تعنيه شخصياً، تاريخياً واجتماعياً، لكن كأي مخرج كبير، استطاع اعطاء الأحداث والشخصيات دويا كبيرا، يتردد عند المشاهدين الذين يأتون من كلّ أصقاع الأرض. يقول تسوكاموتو: "وجّهتُ انتباهي الكامل إلى الأشخاص الذين يعيشون في الظلّ. كان عنوان نسخة العمل للفيلم "مشروع ما بعد الحرب". شعرتُ بأنني مضطر الى إنجاز هذا الفيلم كنوع من صلاة، في حين يشهد العالم تراجعاً كبيراً على مستوى تحقيق الأمن والسلام".

***

فيلم ثالث يستحق التوقّف عنده، ليس لأنه من أفضل ما شاهدناه في "الموسترا" هذا العام، بل لأنه يكشف مدى التنوع الذي ينطوي عليه البرنامج، والاختلاف في الأولويات لدى فنّانين يأتون أحياناً من بلد واحد. الفيلم المُشار اليه هو "لا يوجد شر" للمخرج الياباني روسوكيه هاماغوتشي الذي ذاع صيته العام الماضي مع "قودي سيارتي"، فيلم مقتبس من موراكامي نال عنه "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي. من فكرة كان ينوي استخدامها لعمل استعراضي، تحوّل "لا يوجد شر" إلى فيلم روائي طويل عُرض في مسابقة المهرجان، وهو في رأيي أحد أضعف الأفلام وأكثرها غرقاً في الادعاء. هناك سينمائيون آسيويون أصبحوا أسياد التصوير في الطبيعة ومخاطبتها بلغة تكاد تكون صوفية قبل ان تكون سينمائية، من هؤلاء التايلاندي أبيشاتبونغ فيراسيتاكول، لكن أغلب الظنّ ان هاماغوتشي ليس واحدا من هؤلاء، أقلّه حتى الآن.

تقع الأحداث في قرية محاصرة بالغابات، على مقربة من طوكيو. مشروع جديد قيد الدراسة، سيغير حياة سكّانها ويبثّ فيهم القلق: انشاء منتجع سياحي ذي تأثير سلبي على بيئة يعيش فيها الناس الذين سيتلقونه كضربة لعيشهم الهانئ مع الطبيعة. لكن هناك هواجس أخرى أيضاً، تتجاوز المشروع وامكان تحقيقه، ونرى انعكاساتها على رجل وابنته وواقعهما اليومي. ما يصوّره هاماغوتشي هو ما سيولّده هذا المشروع من ردود على الأصعدة كافة، لكن الفيلم لا يكتفي بهذا الحدّ، بل يدخل في "متاهات" أخرى، لا تكون دائماً لمصلحته.

يسعى المخرج إلى كتابة قصيدة صوتاً وصورة، إيقاعها متمهّل وصوتها خافت، لكن هناك شيء لا يتطور وانفعال لا يحضر. حتى النحو الذي يلتقط فيه الطبيعة، لا يفضي إلى نتيجة مرضية على المستوى الجمالي. أما مقاربته لها فهي مبسّطة، اذ يجرّدها من قسوتها، ليلقى هذه القسوة على عاتق الإنسان، مصدر كلّ الشرور على ما يبدو.

 

النهار اللبنانية في

08.09.2023

 
 
 
 
 

وودي آلن: الحياة «ضربة حظّ»

رسالة البندقية/ شفيق طبارة

البندقيةإذا كان الأسلوب هو تقليد وتكرار نفسك ومواضيعك، فوودي آلن ملك هذا الأسلوب. منذ سنوات طويلة، علّمنا أنّ الكون لا يبالي بمصائرنا، ونحن كبشر تعساء، علينا تقبّل ضربات الحظ والمصادفة، على أمل أن تسير الأمور على ما يرام. في «ضربة حظ» الذي عُرض خارج المسابقة في «مهرجان البندقية السينمائي» الحالي، يكرر المعلّم الأميركي مفاهيمه بأسلوبه المعتاد والساخر، مقدّماً لنا ملخصاً عن المواضيع التي أثارت اهتمامه على مر السنين، ولا تزال تشكّل مادةً للتفكير. في «ضربة حظ»، المواضيع هي نفسها، الحظ والقدر والخطيئة، مضيفاً إليها سؤالاً: هل يمكن أن تتحول المصادفة إلى خطر حقيقي؟ يعتقد آلن ذلك، وهذا انعكاس يحمله معه منذ شبابه وشغفه بدوستويفسكي.

بعد «منتصف الليل في باريس» (2011)، يعود آلن في فيلمه الخمسين «ضربة حظ» إلى عاصمة الأنوار، مع كوميديا مبهجة وغادرة، وللمرة الأولى يتحدث بالفرنسية. منذ المشهد الأول، نعرف أننا أمام قصة لسيد مدينة نيويورك، الذي يحب الأرصفة والمشي والأحاديث. يبدأ الفيلم على رصيف شوارع باريس، حيت يلتقي آلان (نيلز شنايدر) مصادفةً بفاني (لو دو لاج) صديقته السابقة في المدرسة الثانوية التي كان يحبّها بالسرّ. هو الآن كاتب، وهي متزوجة من جان (ميلفيل بوبو)، البورجوازي الذي تقضي مهنته بـ «جعل الأغنياء أكثر ثراءً». من أجل المتعة والصداقة تبقى لقاءات الآن وفاني مستمرة، فهي التي وضعت حلمها وميولها الفنية وطبيعتها المتمردة في الخزانة، وتعمل اليوم في دار مزادات فخم. لقاءاتها مع صديقها القديم الجديد تخلط الأوراق، وتكتشف فاني من جديد مشاعر المراهقين، فهي سئمت قضاء عطلات نهاية الأسبوع في الفيلا الريفية، حيث تُصطاد الغزلان، والثرثرة العقيمة في المطاعم الفخمة. المصادفة بدأت تصبح عادةً، واللقاء تحول إلى حبّ، والنهاية أصبحت معروفة، أو لنكن واضحين، النهاية غير معروفة أو متوقعة لأنّ القصة خارجة من خيال وودي آلن.

يبدأ الفيلم بتترات البداية المعتادة الأنيقة باللون الأبيض على الخلفية السوداء، علامة أصلية لمخرج «مانهاتن» (1979) و«آني هول» (1977). ومن ثم تبدأ الثرثرة التي تظهّر النفاق الاجتماعي يقابلها صدق المشاعر والأحاديث لأشخاص آخرين. تستمر القصة بالإيقاع المعتاد اللطيف، ويأتي آلن بالمفاجآت والصدمات والموت الذي يخيّم على القصة، تاركاً أيضاً المجال لعبثية الفوضى للتحكّم بالأمور. كأن آلن غير آبه تقريباً بمستقبل شخوصه، وهمه الأساسي هو فكرته التي يريد تقديمها من خلالهم، وما يحدث معهم خلال رحلة الفيلم هو مجرد وسيلة لإيضاح ما يريد قوله. لذلك، لا يبقى للشخصيات إلا العيش في الحاضر، وتجنّب خطط المستقبل أو محاولة الفوز باليانصيب، وترك الأمور للمخرج لأخذهم حيث يشاء. عبر مزيج من الإثارة والتحقيقات البوليسية، يشكّل «ضربة حظ» انعكاساً لمعاني الحبّ والحياة والموت، على ثقل المصادفات والقدر، ويترافق هذا كله مع الكوميديا الرومانسية المحبّبة لآلن.

يعود المصور السينمائي الكبير فيتوريو ستورارو («القيامة الآن»، و«الإمبراطور الأخير»، و«التانغو الأخير في باريس») الحائز جائزة الأوسكار ثلاث مرات للعمل مع آلن للمرة الخامسة. كالعادة يتحول معه الضوء إلى شخصية في «ضربة حظ»: كل حيّ وكل موقف له لونه الخاص، بينما اختار آلن الموسيقى التصويرية الجازية لمايلز ديفيس. هذا المناخ الذي يجمع خريف باريس والجاز وألوان المصور ستورارو، يجعل الفيلم مثل رائحة الكرواسون الطازجة.

«ضربة حظ» هو ضربة معلم لأحد أعظم المخرجين في تاريخ السينما. رؤية الصالة وهي تصفّق مع بداية الفيلم وخلاله وبعده دليل على الحب الهائل تجاه وودي آلن، وفيلمه الذي يجب الاستمتاع به، فهو يشبه الحياة التي تكون دائماً قصيرة لا يمكن التنبؤ بها.

 

الأخبار اللبنانية في

08.09.2023

 
 
 
 
 

مراجعة Memory | أداء ممتع من جيسيكا تشاستين وبيتر سارسجارد

فينيسيا ـ خاص «سينماتوغراف»

ازدواجية الذاكرة هي مفهوم اضطر البشر إلى التعامل معه منذ أن عملت أدمغتنا لأول مرة حتى مع أدنى إشارة إلى التماسك، حيث تكون ذكرياتنا بمثابة بنك تتراكم فيه تجارب الحياة الفريدة التي تجعلنا أفرادًا مميزين، للأفضل أو للأسوأ.

في زيارته الثالثة لمهرجان فينيسيا السينمائي خلال السنوات الأربع الماضية، يحاول المخرج المكسيكي ميشيل فرانكو استكشاف الجوانب الأخيرة الأكثر ضعفًا في ذاكرة التخزين المؤقت الدماغية الموجودة في أعماق جماجمنا.

وكما أكد أندريه تاركوفسكي أن "الذاكرة شيء معقد للغاية بحيث لا يمكن لأي قائمة بجميع سماتها أن تحدد مجمل الانطباعات التي تؤثر علينا من خلالها"، وخلص إلى أنها "مفهوم روحي". تكون هذه هي الأسس الدقيقة لـ الذاكرة العمل الأحدث من الاستفزازي الدائم ميشيل فرانكو.

يسلط فيلم (الذاكرة ـ Memory) الضوء على سيلفيا (جيسيكا تشاستين)، وهي مدمنة على الكحول في مرحلة التعافي، خلال اجتماع احتفالي غير تقليدي لمدمني الخمر المجهولين في الذكرى الثالثة عشرة لامتناعها عن التعاطي.

ويوم سيلفيا العادي، يكون دائماً عباره عن اصطحاب ابنتها المراهقة آنا (بروك تيمبر) إلى المدرسة، والعمل كمقدمة رعاية في مركز رعاية نهارية للكبار، والتسكع مع أختها الصغرى أوليفيا (ميريت ويفر) وعائلتها.

وعندما تحضر الأخوات اجتماعًا لم شمل المدرسة الثانوية، يتبع شاول (بيتر سارسجارد) سيلفيا إلى المنزل، وعلى الرغم من أن الاثنين لا يتحدثان، إلا أنه يظل خارج شقتها حتى صباح اليوم التالي، وينام على كومة من الإطارات.

بعد العثور على معلومات الاتصال الطارئة في محفظته، تكتشف سيلفيا من شقيقه إسحاق (جوش تشارلز) وابنة أخته سارة (إلسي فيشر)، أن شاول يعاني من الخرف المبكر. ولأنها تعرضت لكميات كبيرة من الصدمات في الماضي منها الاغتصاب في عمر 12 عاماً، ترفض سيلفيا في البداية عرضًا قدمته سارة حيث سيتم الدفع لها مقابل رعاية شاول، ولكن بعد اكتشافها أن شاول لم يكن جزءًا من تجربتها المؤلمة في المدرسة الثانوية، تغير رأيها، ويبدأ الإثنان في الارتباط مبدئيًا.

جمال فيلم الذاكرة ينبع من النص الضمني الموجود في قصته. تختلف سيلفيا وشاول اختلافًا جذريًا، لكنهما متشابهان في نفس الوقت. عندما تكون سيلفيا عاجزة بسبب الذكريات التي تطاردها، يتحرر شاول من العبء ويخفف من تذكر المواقف المؤلمة التي يتعرض لها عن غير قصد. ومع ذلك، فهما وحيدان ومحرومان من ترف الذكريات السعيدة. نتيجة لذلك، عندما تبدأ حياة أسرهم في المعاناة، يجدان أنفسهما متكئين على بعضهما البعض.

ربما تكون هذه الألفة قد خلقت قلقًا متأصلًا بالفعل، والذي يبقينا أيضًا على مسافة من سيلفيا وشاول. لكن علاقتهما عبارة عن علاقة تدور أحداثها في برميل بارود، وكلاهما محدد بقسوة ماضيهما.

وكما تفعل في كل دور، ترتكز جيسيكا تشاستين على سيلفيا باقتناع مثير للإعجاب، مما يساعد في التغلب على مدى الحفاظ على مظهرها جيدًا في ظل هذا التاريخ المشحون. سيلفيا هي شخصية قد يجدها البعض في البداية مثيرة للاشمئزاز، وهو تأثير تميل إليه جميع النساء الصريحات لأنه يتحدى التوقعات حول الطريقة التي من المفترض أن يتصرفن بها. وكما يتبين، فإن إصرارها كان له ثمن باهظ. والأكثر من ذلك أنها تتمتع بروح كريمة ومتعاطفة.

وكما يبرع سارسجارد دائمًا في لعب شخصيات ذات حافة تنذر بالخطر، فهو اختيار جديد للعب دور شاول، الذي ينتهي به الأمر إلى أن يكون غصن الزيتون المكسور الذي تحتاجه سيلفيا.

وبالعودة إلى تاركوفسكي، الذي أشار أيضًا إلى أن الضعف كان وجهًا من وجوه "نضارة الوجود"، ويؤكد أن "الصلابة والقوة رفيقان الموت"، يبدو أن "ذاكرة فرانكو" تجلب هذا السيناريو على الأقل إلى شفا الأمل، وهو ما يثير الدهشة. عشاق متحمسون يتغلبون على قيود مواقفهم رغم الصعاب.

 

####

 

مخرج إيطالي في «فينيسيا السينمائي»: المهاجرون ليسوا مجرد أرقام

فينيسيا ـ «سينماتوغراف»

في ظل عودة وتيرة وفود المهاجرين على إيطاليا للارتفاع، شارك المخرج ماتيو غاروني في مهرجان فينيسيا السينمائي بفيلم يروي فيه تفاصيل رحلة محفوفة بالمخاطر من أفريقيا إلى أوروبا، من خلال أعين شابين ساذجين من السنغال لكنهما يتحليان بالشجاعة.

وبعد العرض الأول لفيلم "ماي كابتن"، قال غاروني: "اعتدنا في هذه الأعوام على فكرة أنهم مجرد أرقام ونسينا أن وراء هذه الأرقام أناسا، وهؤلاء هم عائلات، لهم أحلام وأرواح".

وأضاف غاروني، الذي تشمل أفلامه السابقة فيلمي الجريمة "غومورا" و"دوغمان"، أنّ فكرة الفيلم "وليدة الرغبة في تغيير وجهة النظر".

يتتبع "ماي كابتن" رحلة الشابين السنغاليين وهما يغادران منزلين فقيرين لكن يملؤهما الحب، ويتوجهان في رحلة بالصحراء الكبرى قبل أن يصلا أخيراً إلى ليبيا، وهي نقطة الانطلاق للعديد من عمليات العبور إلى أوروبا، حيث يأملان في العثور على الثروة والشهرة.

فهي رحلة محفوفة بالمخاطر إذ اعترض طريقهما قطاع طرق في ليبيا انتزعوا منهما ثمناً باهظاً قبل أن يتمكنا من الوصول إلى الساحل. غير أن الرحلة الطويلة تُظهر جسارتهما وإصرارهما على التغلب على أي صدمات والمضي قدما.

وقال غاروني: "إنها بالفعل رحلة ملحمية، قصة رحلة بلوغ سن الرشد، تبدأ بحال وتنتهي بحال آخر... صبي يصير رجلاً".

بعد رحلة من بحث غاروني على نجمي الفيلم في إيطاليا وفرنسا، وجد ضالته في النهاية بالسنغال، حيث اختار ممثلين اثنين غير محترفين هما سايدو سار ومصطفى فال ليلعبا دور البطولة.

صُور الفيلم بالترتيب في السنغال والمغرب ولم يكن الممثلان يطلعان على السيناريو إلا عند بدء التصوير في كل يوم. وقال غاروني إن الغرض من ذلك أن "يعيش البطلان الرحلة بشكل فعلي، دون معرفة ما سيحدث في اليوم التالي. وأعتقد أن ذلك ساعدهما أيضاً".

وصل ما يقرب من 115300 مهاجر بالقوارب منذ بداية العام الحالي إلى إيطاليا مقارنة مع 61870 في الوقت ذاته من 2022. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن 2066 شخصاً ماتوا في البحر أثناء العبور، فيما لقي عدد غير معروف حتفهم في الصحراء أو على أيدي جماعات مسلحة ليبية حتى قبل وصولهم إلى القوارب.

"ماي كابتن" هو ثاني فيلم يتناول موضوع الهجرة ضمن أفلام مهرجان فينيسيا السينمائي هذا العام بعد فيلم "غرين بوردر"، الذي يصور المآسي التي تنتظر المهاجرين عند العبور بين بولندا وروسيا البيضاء.

ويتنافس الفيلمان مع 21 فيلماً آخر على جائزة الأسد الذهبي التي ستقدم للفيلم الفائز في نهاية المهرجان غدٍ السبت.

 

موقع "سينماتوغراف" في

08.09.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004