ملفات خاصة

 
 
 

«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا: ارتفاع الإقبال على المشاهدة يدحض التوقعات

فيلم مؤلم عن الهجرة وآخر عن رجل محتال

فينيسيامحمد رُضا

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثمانون

   
 
 
 
 
 
 

أعلن مهرجان فينيسيا في دورته الثمانين المُقامة ما بين 30 أغسطس (آب) الماضي و9 سبتمبر (أيلول) الحالي، عن قفزة كبيرة شهدتها عروض الأفلام في النصف الأول من الدورة، بالنسبة إلى عدد المشاهدين من مشتري البطاقات.

للتنويه، ثمة نوعان من الحضور: المدعوّ للمشاهدة بتذاكر مجانية (سينمائيون وصحافيون ونقاد)، وعشاق السينما من الجمهور العادي، الذي عليه شراء التذاكر.

وفق المُعلَن، ارتفع عدد التذاكر المُباعة 9 في المائة عمّا كان عليه في العام الماضي، إذ بلغ عدد مشتريها 35 ألفاً و375 شخصاً. أما بالنسبة إلى إقبال ذوي التذاكر المجانية، فبلغت الزيادة 17 في المائة عمّا كانت عليه في العام الماضي.

بالجمع بين التذاكر المجانية للمحترفين والمُباعة للجمهور العام، فإنّ العدد الإجمالي هو 114 ألفاً و851 شخصاً، بزيادة 18 في المائة عن إجمالي العدد في العام الماضي. هذه الأرقام ليست نهائية، بل تتوقّف عند اليوم السابع من أيام المهرجان الإيطالي العريق.

هذا، باعتراف مسؤولي المهرجان أنفسهم لدى سؤال ثلاثة منهم، لم يكن مُتوقَّعاً. ذلك لأنّ إضراب هوليوود أشاع نوعاً من التحذير للمهرجان قبل انعقاده، مفاده عدم توقُّع اهتمام كبير بدورة هذا العام من مرتاديه الدائمين، وهم النقاد والإعلاميون، ولا من الجمهور الذي اعتاد استغلال المناسبة لمتابعة بانوراما ثرية من الأفلام الجديدة وبعض الكلاسيكيات.

طرف يؤيّد وطرف يتظاهر

النجاح الحالي ألغى تلك المخاوف، لكنه أيضاً مناسبة للفت اهتمام هوليوود إلى أنّ المهرجانات العالمية (خصوصاً الثلاثة الرئيسية؛ برلين وكان وفينيسيا) لا يمكن تجاهل أهميتها على صعيد تشجيع الصناعة ودفع عجلاتها إلى الأمام. فالمهرجان أصدر بياناً قال فيه إنه يأمل في نهاية مُرضية للأطراف جميعاً فيما يتعلّق بإضراب الممثلين والكتّاب. لم يكن البيان حيادياً، بل وخز خاصرة الاستوديوهات المُمتنعة عن الاستجابة لطلب المُضربين زيادة أجورهم وتحصين مستقبلهم ضد الاستنباطات التكنولوجية التي من شأنها الإضرار بالممثلين (عبر الاستنساخ) وبالكتّاب (عبر الاعتماد على سيناريوهات تنتجها تلك التقنيات من دون جهد بشري).

الوخزة جاءت في نهاية البيان، إذ قال: «يمثّل المهرجان فعل الاحترام والتأييد للفنانين والمؤلّفين المُضربين (خصوصاً) الذين حضروا المهرجان منهم».

المخرجون وبعض الممثلين صرّحوا بتأييد الإضراب وبأنهم يريدون للنقابتين (الممثلين والكتّاب) الإصرار على تحقيق الأهداف التي رفعوها إلى الاستوديوهات. في هوليوود، المحادثات مجمّدة الآن بعد الجولة الأخيرة في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي.

إلى ذلك، فإنّ استقبال فيلم وودي ألن «انقلاب حظ» قبل يومين، عندما قُدِّم في الحفل المسائي، شهد ترحيباً كبيراً من رئيس المهرجان ألبرتو باربيرا، في مقابل مظاهرة نسائية ضد المخرج، قادتها نساء أردن إيصال أصواتهن المعارِضة لاستقباله بسبب تهم جنسية برأته المحكمة الأميركية منها.

هذا الموقف كان مُتوقَّعاً، ولن يغيّر في مسيرة المهرجان شيئاً. سيمضي وودي ألن معظم العام المقبل باحثاً عن مموّل مستقلّ، وهو شرطه للاستمرار. في مقابلة لمجلة «فارايتي» قبل أيام، قال: «هذا الفيلم (انقلاب حظ) هو فيلمي الخمسون وبعده لا أدري. قد أتوقّف عند هذا الحد من الأفلام لأنّ البحث عن التمويل بات أصعب من قبل. يتطلّب جهداً استثنائياً وكبيراً في مثل هذه الظروف. إذا وجدت المموّل المستقلّ، فكرتُ بالاستمرار؛ لكن ليس قبل ذلك».

بالنسبة إلى رومان بولانسكي، فإنّ الرجل لن يقدر على العودة إلى مهرجان فينيسيا قبل عامين أو ثلاثة إذا ما أراد بدوره الاستمرار - قال إنّ فيلمه الجديد، «القصر»، هو آخر أفلامه - هذا يضع المخرج الفرنسي لوك بيسون، الذي عرض «دوغمان» ضمن مسابقة الدورة الحالية، في الواجهة. هو قادر على العمل بوتيرة سريعة، لكن عليها أن تكون أسرع من المعتاد، إذا ما أراد الاشتراك في الدورة المقبلة، وهذا مُستبعد.

بين الأفلام الثلاثة، نال «دوغمان» الحظ الأوفر من الترحيب النقدي. «انقلاب حظ» جاء ثانياً، وحلَّ «القصر» أخيراً. لكن عجلة العروض لا تتوقف عند آراء الجمهور أو المحترفين، وسط أفلام تجاوزت الأعمال الثلاثة المذكورة.

حكاية رون الذي هو غاري

أحد الأفلام البديعة التي شوهدت هنا خلال اليومين السابقين، هو «ضارب» للمخرج ريتشارد لينكليتر، الذي عادة ما ينجز أفلامه كمؤلف مستقلّ وينال على غالبيتها مديح النقاد والجمهور المتخصّص.

هذه المرة، يحيد عن درب الاستقلالية، ولو في المبدأ. فيلمه مثل معزوفة جاز تتنوّع مفاتيحها وتتنقّل أنغامها من الكوميدي إلى البوليسي، من دون أن تخفف من درجة حضورها الساخر. في جانب آخر، هو مثال لفيلم «نوار» حديث، إذا لم يكن بسبب أجوائه (وبعض اللقطات السريعة لأفلام «نوار» سابقة)، فبسبب أنّ التيمة تتبع تيمة معظم ذلك الصنف من الأفلام والدراميات البوليسية.

نتعرّف إلى غاري (غلين باول)، يلقي محاضراته في الجامعة حول الفرد والمجتمع من منظور فلسفي. هو ماهر ويعرف عما يتحدّث وكيف يجعل محاضراته مسلّية ومفيدة. سنلحظ أنّ عدد طلابه ارتفع في نهاية الفيلم، فإذا بكل المقاعد ممتلئة ومهتمة بما يقوله.

لدى غاري عمل آخر، فهو يساعد في التنصّت ورسْم صور لشخصيات كل منها ينوي تنفيذ جريمة. لا نزال في مطلع الفيلم عندما يُرشَّح غاري لدور «الهِت مان»، الذي سيقابل (باسم آخر وشخصية مختلفة) أي شخص يتصل به لتنفيذ جريمة قتل. سيستمع إليه. سيعده بتلبية طلبه مقابل المبلغ المُتفق عليه وسينجز المهمّة في أقرب فرصة. كل هذا مسموع لفريق من المساعدين، وبمجرّد خروج غاري (بات اسمه رون)، يقتحم الفريق المكان للقبض على ذاك الذي اعتقد أنه استأجر قاتلاً لتنفيذ جريمته.

بين هؤلاء امرأة متزوّجة تدعى ماديسون (أدريا أرخونا التي تشبه سلمى حايك في شبابها)، تريد من رون قتل زوجها لأنه عنيف. عوض أن يوافقها، بعدها يراها مُكبّلة بالأصفاد وهي تُساق إلى مركز الشرطة، من ثَم إلى المحكمة؛ يقنعها بعدم التفكير بهذه الخطّة وطلب الطلاق والتمتع بحياة خاصة بعيداً عن زوجها. بينما يثير ذلك غضب مسؤولي غاري/ رون، تشعر المرأة بالانجذاب إلى شخصيته ويبادلها سريعاً الإعجاب، فينطلقان في علاقة عاطفية بعد طلاقها من زوجها.

هنا تدخل تيمة الفيلم «نوار»، فالمرأة في هذه الأفلام أداة هدم للبطل الرجل. قد تخونه، قد تدفعه إلى إفلاس أخلاقي أو مادي، أو قد تحاول قتله. في فيلم «نفس مقطوع» (أول أفلام الفرنسي جان - لوك غودار)، عبارة يقولها جان - بول بلموندو مفادها أنّ المرأة التي يقع في غرامها الرجل هي المرأة التي تدمّره. هذا ما يحدث هنا مع فارق أنّ القصّة ستُصوّر الاثنين وقد احتالا على القانون (بعدما قتلت زوجها السابق بالفعل)، وها هما يتزوّجان ويُرزقان بطفل.

مهاجرون بين جحيمين

على بُعد 180 درجة، ثمة فيلم جادّ ومؤلم توفره المخرجة البولندية أغنيشكا هولاند يحاكي معاناة المهاجرين غير الشرعيين في الغرب. تكاثرت الأفلام التي تناولت هذا الموضوع في السنوات العشر الأخيرة تبعاً للهجرة المتواصلة عبر شمال أفريقيا، التي تلت بداية الحرب في سوريا. لكن «الحدود الخضراء» المموَّل من 5 شركات أوروبية خاصة (بولندا، وألمانيا، وفرنسا، والتشيك وبلجكيا) يتجاوز معظمها بحجم حضور الواقع فيه، وبإمعانه تصوير قسوة الشرطة تجاه الهاربين من جحيم الحرب إلى جحيم آخر لم يكن في حسبانهم.

يبدأ الفيلم (المقسّم إلى 5 أجزاء) بفصل عنوانه «العائلة»، عن عائلة سورية مؤلّفة من الجد وابنه وزوجة الابن وأولاده الثلاثة. يتواصلون مع أحد أقاربهم في السويد الذي توقّع مرورهم من أراضي بيلاروسيا إلى تلك البولندية، ومنها إلى السويد. لكن لا شيء من ذلك تم وفق المُتوقَّع.

تزامن وصول العائلة (بينها امرأة مسلمة، لكنها غير عربية) إلى الحدود بين بيلاروسيا وبولندا، مع بدء الضرب الوحشي من شرطة الجانبين. العائلة وسواها من المظلومين يجدون أنفسهم حيناً في بيلاروسيا وحيناً في بولندا. الطرف الأول ينفيها بعد الضرب إلى الثاني، والثاني ينفيها بعد الضرب إلى الأول.

في الأثناء، تقع مآسٍ عدّة: العائلة تفقد طفلاً غرق في مستنقع، الجدّ ينفصل عن العائلة (لا نراه بعد ذلك). الزوجة تفقد طفلها خلال الإنجاب.

تنتقل المخرجة المخضرمة هولاند، بالتناوب، ما يحدث للعائلة وسعي نساء في الريف المجاور إلى مساعدتها قدر الإمكان. ينجحن حيناً ويفشلن حيناً آخر، لكنهن مصرّات على مساعدة من تبقى منهم للجوء إلى السويد بعد كل هذا الشقاء.

الفيلم بالأبيض والأسود، يكاد يفلت من يدي مخرجته في منطقة الوسط، حيث بعض التكرار، لكن ما ينقذه هو صدقه وواقعيته والرغبة المخلصة في عرض الحال كما هي، رغم أنه فيلم مؤلّف، غير مقتبس عن واقعة حقيقية، ولو أن ما يُسرد مُستنتج من حقائق.

ممثلون عرب غير معروفين يتوّجون هذا الجهد: بهية عطية، وجلال الطويل، ونديم سليمان وداليا نعوس. يمكن للمرء أن يتصوّر صعوبة انتقال هؤلاء من حالاتهم إلى تجسيد المرارة التي تعيشها شخصياتهم.

 

####

 

لقاء مع المخرجة أغنيشكا هولاند:

مهاجمتي فرصة لنفي شأن يعرفونه ويسكتون عنه

فينيسيامحمد رُضا

·        يهتم الفيلم بإبراز جانب إنساني لجهة المهاجرين وجانب غير إنساني لجهة شرطة الحدود والجيشين البولندي والبيلاروسي. هل ما تعرضينه حقيقي؟

- بالطبع هو حقيقي وإلا لَمَا ادّعيتُ ذلك. ما أعرضه ليس أكثر من عيّنة. هل تتوقع أنه في وضع كهذا ستهبّ الشرطة لمعاملة المتسلّلين على نحو غير الذي شاهدته؟ الضرب والتعنيف وسرقة المال، أمور تقع بلا حساب، وغالباً على حدود دول أخرى أيضاً.

·        كيف ترين موقف وزير العدل وبعض الصحف اليمينية في بولندا من فيلمك؟

- أراه تجنّياً لا معنى له. الهجوم علي فرصة لنفي شأن يعرفونه تماماً ويسكتون عنه. لا يحتملون الحقيقة ولا يريدون النقد. معيب جداً وصف فيلمي بأنه بروباغندا نازية.

·        هو فعلاً أمر غريب لأنّ أحد أفلامك («أوروبا، أوروبا»، 2011) عرض لاضطهاد اليهود خلال الحقبة النازية!

- ليس هذا فقط. إنْ شاهدت أفلامي، تجد عنايتي بتقديم وجه حقيقي وواقعي لما أعرضه. لكن شكراً للملاحظة. كلا الفيلمان قريب من الآخر، لأنهما يتحدّثان عن واقع مؤلم. كلاهما يتحدّث عن أوروبا التي هي محض حضارة ثقافياً وفنياً وعلى مستوى القوانين من جهة، ومن أخرى يقع فيها ما يقع من تعسّف جماعي.

·        هل واجهتِ مصاعب عندما بحثتِ عن التمويل؟

- ليس أكثر من أي مرة سابقة. هناك دائماً ذلك الوقت المبذول للبحث عن التمويل. هذا طبيعي.

·        تعرضين الوجه الإيجابي للمرأة البولندية التي تحاول فعل شيء لمساعدة اللاجئين العالقين في تلك الغابات الخطرة.

- طبعاً. هذا بدوره واقعي. لم أكتب سيناريواً مبنياً على الخيال. هناك بالفعل بطلات يحاولن المساعدة في حالات كهذه. إنها مأساة.

 

####

 

شاشة الناقد: Hit - Man

فينيسيامحمد رُضا

Hit - Man

****

إخراج: ريتشارد لينكليتر | بوليسي | الولايات المتحدة | 2023

يبتعد المخرج ريتشارد لينكليتر قليلاً عن وجهته المعتادة مُخرجاً مستقلاً، ليقدم فيلماً يمكن قبوله من جمهور مختلط من هواة الفن والترفيه. «هِت - مان» مثل معزوفة جاز تتنوّع مفاتيحها وتتنقّل أنغامها من الكوميديا إلى البوليسي، من دون أن تخفف من درجة حضورها الساخر على الدوام. في جانب آخر، هو مثال لفيلم «نوار» حديث، إن لم يكن بسبب أجوائه (وبعض اللقطات السريعة لأفلام «نوار» سابقة)، فلأنّ التيمة تتبع تيمة معظم ذلك الصنف من الأفلام والدراميات البوليسية.

نتعرّف إلى غاري (غلين باول) خلال إلقائه محاضراته في الجامعة حول الفرد والمجتمع من منظور فلسفي. هو ماهر ويعرف عمّا يتحدّث وكيف يجعل محاضراته مسلّية ومفيدة. سنلحظ أنّ عدد طلابه ارتفع في نهاية الفيلم، فإذا بكل المقاعد ممتلئة وسط اهتمام الطلاب بما يقوله.

لكنَّ غاري يمارس عملاً آخر، فيساعد على التنصّت ورسْم الصور الشخصية للواقعين في قبضة الشرطة للبوح بالجريمة التي ينوي القيام بها. لا نزال في مطلع الفيلم عندما يُرشَّح غاري ليلعب دور الـ«هِت مان» الذي سيقابل (باسم آخر وشخصية مختلفة) أي شخص يتصل به لتنفيذ جريمة قتل. سيستمع إليه. سيعده بتلبية طلبه مقابل المبلغ المُتفق عليه، وسينجز المَهمّة في أقرب فرصة. كل هذا مسموع لفريق من المساعدين، ولمجرّد خروج غاري (الذي بات اسمه رون)، يقتحم الفريق المكان للقبض على ذاك الذي اعتقد أنه استأجر قاتلاً لتنفيذ جريمته.

بين هؤلاء امرأة متزوّجة تُدعى ماديسون (أدريا أرخونا التي تشبه سلمى حايك في شبابها)، تريد من رون قتل زوجها لأنه عنيف. عوض أن يوافقها ويوقعها في فخ الشرطة، يُقنعها بعدم التفكير بمثل هذه الخطّة والاكتفاء بطلب الطلاق والتمتع بحياة خاصة بعيداً عن زوجها. بينما يُثير ذلك غضب مسؤولي غاري- رون، بكونه لم يقبل عرض ماديسون للقبض عليها بتهمة التخطيط لجريمة قتل، تشعر المرأة بالانجذاب إلى شخصيته ويبادلها سريعاً الإعجاب، فيدخلان في علاقة عاطفية بعد طلاقها.

هنا تدخل تيمة الفيلم «نوار»، فالمرأة في هذه الأفلام أداة هدم للبطل الرجل. قد توهمه بحبها من ثَم تخونه، قد تدفعه إلى إفلاس أخلاقي أو مادي، أو قد تحاول قتله أو ربما كل هذه الاحتمالات معاً. في فيلم «نفس مقطوع» (أول أفلام الفرنسي جان - لوك غودار) عبارة يقولها جان - بول بلموندو مفادها أنّ المرأة التي تدمّر الرجل هي نفسها التي يقع في حبها. هذا ما يحدث هنا مع فارق يهيئ الفيلم لمفاجآت متتالية في ربع الساعة الأخير.

الفيلم جيد، يبدو مثل لعبة لا تعرف كيف ستنتهي، والمخرج يحافظ على وحدة عمله، فإذا به يحاذي الكوميديا والبوليسي معاً.

عروض مهرجان فينيسيا (المسابقة).

 

Making Of

***

إخراج: سيدريك كوهن | دراما | فرنسا | 2023

في عداد ما يُنتَج من أفلام حول صنع أفلام، ينضمّ المخرج الفرنسي سيدريك كوهن إلى مَن سبقوه في هذا الصدد. القائمة طويلة، تضم جان - لوك غودار وفرنسوا تروفو وأورسن وَلز وفيديريكو فيلليني، بين آخرين. ما يقوم به كوهن هو الجمع بين فيلم يدور عن إضراب عمال مصنع، وآخر يدور حول احتمال إضراب الفنّيين الذين يعملون على إنجاز فيلم عن الإضراب الأول.

نقطة اللقاء هي التذمّر من وضع اقتصادي في المجالين (المصنع والفيلم)، كما لو أنّ الغاية هي التذكير بأنّ ما قد يحدث في مصنع ما قد يحدث يوماً لفيلم لا يتمتع بميزانية كافية ليوافق العاملون فيه على الاستمرار في عملهم.

يُحسن المخرج الانتقال بين الحالتين.

لا يصل «مايكينغ أوف» إلى ما حققه فرنسوا تروفو في «ليلة أميركية» (1973)، من رهافة في عرض المشكلات التي تحيط بالمخرج حين يجد نفسه وسط مشاغل كثيرة تعرقل سير العمل وتهدّد بإيقافه. لكنه يعرض بعض تلك الجوانب التي صاغ منها تروفو فيلمه، مثل العلاقات العاطفية الجانبية. ما يختلف فيه هو أنّ المشكلات المُثارة في «مايكينغ أوف» لا تضل طريقها نحو تشكيل خطر حقيقي على إنجاز الفيلم الذي يقومون به. التركيز هنا على مخرج يسمع ويرى ويخشى، لكن الشخصيات (في معظمها) تريد للفيلم أن يستمر.

يخلّف ذلك الوضع ركاكة. هل الفيلم عن صعوبة العمل التي قد تؤدي إلى توقف التصوير أو الصعوبة التي لا تؤدي إلى إيقافه. هذا على عكس المعروض حيال إضراب عمال المصنع الجادّين ورغبتهم في احتلال المكان لمنع الشركة التي تملكه من نقله إلى بلد آخر هرباً من غلاء التكاليف.

هذا ليس للتقليل من نجاح المخرج كوهن في رصد مشكلات إنجاز فيلم ما. من البداية، يصطدم بالعقبات عندما يزوره منتجون طالبين منه تغيير النهاية. هي نهاية حزينة بالنسبة إليهم. في البداية يرفض المخرج ذلك، من ثَم يوافق تبعاً لمشكلات أخرى مُستجدّة. في مجمله، نظرة واقعية على حال سينما اليوم بعد 40 عاماً من فيلم تروفو.

عروض مهرجان فينيسيا خارج المسابقة.

 

Richland

**

إخراج إرين لوشتيغ | تسجيلي | الولايات المتحدة | 2023

تلفت المخرجة لوشتيغ (المولودة في بريطانيا قبل انتقالها للعيش في الولايات المتحدة) النظر إلى تلك الحقول والأراضي الشاسعة التي كانت الحكومة الأميركية قد بَنَت عليها مختبراتها النووية وأجرت فوقها تجاربها في الأربعينات، من ثَم تركتها وما عليها موبوءةً، حدّ أنّ بعضاً من سكان البلدات القريبة يتفادون السباحة في النهر الذي يمر بها أو صيد السمك منه.

نتعرّف إلى بلدة ريتشلاند غير البعيدة عن حقل التجارب النووية، وعلى عمال البيئة وهم يحاولون تنظيف التربة من الأضرار. في حين يشجّع الفيلم هذا الفعل، يستمع إلى خبير يقول إنّ الأمر يحتاج إلى 30 ألف سنة قبل أن تعود التربة إلى طبيعتها السابقة.

يحمل الفيلم نقده للخطر الذي لا يحتمل النوم على وسادة ناعمة. هو ضد المصانع النووية (بعضها لا يزال قائماً في واشنطن حيث تقع الأحداث)، لكنه غير مستقر على مسائل أخرى تبدو كما لو أنها تناقض ذلك النقد. مثلاً، هناك مَن يقول متحدّثاً إلى الكاميرا (نسمع صوت المخرجة الشابة ولا نراها): «لو لم تُلقِ الولايات المتحدة قنبلتها النووية، لغزتنا اليابان واحتلّت أميركا». هذه نظرية سادت سابقاً لتبرير الهجوم النووي على هيروشيما وناغازاكي، ومن الغريب أن يتاح لها التردّد هنا من دون أن تواجه المخرجة، عبر فيلمها، القول بردّ مختلف.

عروض: مهرجان «تريبيكا» المنتهي مؤخراً.

ضعيف* | وسط**| جيد ***| ممتاز**** | تحفة*****

 

الشرق الأوسط في

07.09.2023

 
 
 
 
 

«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا قبل ساعات من إعلان الجوائز

أفلام الهجرة نحو الأحلام الكبيرة بينها «الأوسكار»

فينيسيامحمد رُضا

ساعات قليلة تفصل إعلان الدورة الثمانين من «مهرجان فينيسيا السينمائي» عن أسماء الأفلام والسينمائيين الفائزين بجوائز هذا العام. توقّعات النقاد والجمهور المُتداوَلة منذ يومين مثيرة للاهتمام، لكنها مجرّد احتمالات مبنية على حفنة أفلام أعجبت كل فريق، ومن المُحتمل جداً ألا تعجب لجنة التحكيم. وإذا حدث، فليس بمقدار واحد.

قليلة المرات التي يُجمِع فيها النقاد والجمهور ولجان التحكيم في المهرجانات الرئيسية على اختيارات مشتركة. ما يعجب هذا الطرف قد لا يعجب سواه، وغالباً لن يفعل. لذلك، ترخي النتائج إعجاباً متفاوتاً، من الموافقة الكلية إلى الرفض المُطلق. لكن لا شيء يغيّر واقعاً مكرّراً ومعتَمداً وواضح الأسباب.

الجمهور يودّ ما يسرّه، ويودّ النقاد ما كتبوا عنه إيجاباً، ولجنة التحكيم (بإدارة المخرج الأميركي داميان شازيل هذه المرة) لا تكترث عادة بما يرشّح الطرفان، متّخذة قراراتها بمنأى عن الجميع، وتتحمّل نتائجها تبعاً لذلك.

هجرة أولى

المؤكد أنّ المهرجان الإيطالي العريق الذي يحتفل هذا العام بميلاده الثمانين بات منصة انطلاق الأفلام المعروضة (أو بعضها على الأقل) نحو ترشيحات «الأوسكار».

لا ننسى أنه في مطلع هذا العام، انتقلت من فينيسيا إلى «الأوسكار» حفنة لا بأس بها من الأفلام التي فاز بعضها في الاحتفال السنوي الأميركي العتيد. من بينها فيلم أليخاندرو غونزاليز إيناريتو «باردو... مفكرة زائفة عن حفنة الحقائق»، وفيلم تود فيلد «تار»، وفيلم دارن أرونوفسكي «الحوت»، بينما حظي فيلم «أرواح إنيشيرين» لمارتن ماكدونا بـ9 ترشيحات، تلاه «تار» بـ6 ترشيحات، وكلاهما كان مرشّحاً لـ«أوسكارَي» أفضل فيلم وأفضل مخرج.

هذا، رغم أنّ الفيلم الفائز (كل شيء كل مكان في وقت واحد) لم يعرض في أي مهرجان رئيسي، بل شهد العرض الأول له في مهرجان أميركي صغير، هو «ساوث باي نورث وست».

الأفلام الحالية، التي يؤمَل قفزها فوق المحيط الأطلسي لتحطّ في ترشيحات «الأوسكار» للعام المقبل، كثيرة، من «قائد» الذي افتتح هذه الدورة، إلى «مايسترو» لبرادلي كوبر، و«برسيليا» لصوفيا كوبولا، و«أشياء مسكينة» ليورغاس لانثيموس، وصولاً إلى «الحدود الخضراء» لأغنيشكا هولاند، و«هِت مان» لريتشارد لينكليتر.

لهذه الأفلام حوافز وعناصر فنية ودرامية تجعلها قابلة للعيش في رغد الأيام الفاصلة بين الاحتفالين.

في فينيسيا، لم يبخل الجمهور من إسداء التحيات وقوفاً عند نهاية أفلام عدّة؛ 8 دقائق في نهاية فيلم «أوريجن» للأميركية أفا دوفرني، و6 دقائق عندما أُسدلت الستارة عن فيلم «هِت مان» للينكليتر.

الخيبات حضرت بدورها، منها فيلم رومان بولانسكي «القصر»، وفيلم بابلو لاراين «ألكونت»، و«دوغمان» للوك بيسون. حول الأخير، تختلف الآراء. بعض النقاد عدَّه رائعاً، لكن آخرين تحفّظوا عليه، مع ثنائهم على الحبكة والتمثيل.

كل هذا يؤكد صعوبة التوقّعات بالنسبة إلى جوائز هذه الدورة، ولو أنّ المرء يجرؤ على طرح اسم المخرجة الأفرو أميركية أفا دوفرني مرشحةً أساسية، إذا لم يكن لأفضل فيلم، فلأفضل إخراج أو أفضل سيناريو.

يؤيّد هذا الاحتمال، ولو على نحو محدود، حقيقة أنّ المخرجة هي أول سينمائية سمراء البشرة يَعرض لها المهرجان فيلماً في المسابقة. بادرة قد لا تعني كثيراً لآخرين، لكنها تكشف عن تقدير مُتبادل من المهرجان للمخرجة، والعكس.

احتمال قوي

بعد عرض «حدود خضراء»، ومواجهة مخرجته أغنيشكا هولاند رياحاً ساخنة من حكومة بلادها واليمين البولندي، لتصويرها عنف شرطة الحدود وتعسّفهم ضد اللاجئين غير الشرعيين، بات من المتوقَّع أن يخرج هذا الفيلم بذهبية المهرجان (المسمّاة بـ«الأسد الذهبي»)، لا لموقفه فحسب، بل لجودته. في أسوأ الحالات، قد تُصيب المخرجة عين الأسد على صعيد أفضل إخراج. ويؤازر هذا التوقُّع ما واجهته من رد فعل اليمين البولندي الذي انتقد فيلمها، ووصفه بالبروباغندا النازية.

بعد عرضه، نجد المخرج الإيطالي ماتيو غاروني قد تصدّى لتقديم حكاية أخرى عن الهجرة غير الشرعية، موجّهاً اهتمامه نحو تلك الآتية من السواحل الأفريقية تحديداً.

«أنا كابتن»، بدوره، حكاية مؤثرة، لكن على جانب مختلف. بداية، هناك حقيقة أنّ البطولة منفردة وليست جماعية كما الحال في فيلم هولاند. الممثلون ليسوا محترفين، بينهم البطل سيدو سار، الذي سيقطع آلاف الأميال من موطنه من غرب أفريقيا للالتحاق بمجموعة أفارقة في مركب كبير ينطلق بهم نحو الجنوب الأوروبي. ينطلق الفيلم من هذا الشاب الذي قرر تحدّي الصعوبات، ليثبت أنها ليست مستحيلة.

الواضح أنّ الهجرة تؤرق فريقاً كبيراً من السينمائيين، تطرّقوا في السنوات العشرين الأخيرة إليها في أفلام فرنسية ومجرية وبولندية وألمانية وبريطانية وإيطالية. المخرج غاروني نفسه سبق أن قدّم عام 1996 (قبل تحوُّل الموضوع إلى موجة) فيلماً عن الهجرة، عنوانه «الأرض الفاصلة»، الذي يختلف عن هذا الفيلم في أنّ السابق تابع حدث الوصول إلى أوروبا من دون دخولها.

هنا يحيط بخلفية بطله، فنراه في عاصمة السنغال، داكار، يستعدّ للهجرة. لن يكون وحيداً، بل سيرافقه قريبه. كلاهما وفّر أقصى ما يستطيع من مال لتحقيق حلم اللجوء إلى أوروبا. لكن هذا المال يبدأ بالتبخُّر قبل اعتلاء الحافلة لنقلهما عبر الحدود إلى نيجيريا. إنهما، أسوة بآخرين، عرضة لأسماك قرش بشرية عند كل منعطف. في مشهد يحمل قدراً من التأثير، يقع رجل من الحافلة، وهي تدخل الصحراء، من دون توقُّف سائقها رغم نداء سيدو. لقطة للرجل وقد أصبح وحيداً فوق الرمال الشاسعة.

كل هذا وسواه يؤلّف الجزء الأكبر من الفيلم. هي رحلة موت، وفي أحسن الأحوال رحلة مجهول وخطر. بذلك، يُكمل الفيلمان («أنا كابتن» و«حدود خضراء») أحدهما الآخر، ومن دون موعد مسبق.

هارب من الحياة

يحضر لجوءٌ مختلف تماماً، يمثّل حياة رجل هارب من المجتمع بحثاً عن مكان يريحه وقد يموت فيه. هو مصاب بطلق ناري ومُنهَك، والمكان الوحيد في تلك الأرض الممتدة نحو الأفق العريض، كناية عن كنيسة.

يردُ هذا في فيلم «في أرض القديسين والخاطئين» للمنتج السابق روبرت لورنز، من بطولة ليام نيسُن وعدد من الممثلين الآيرلنديين، لكون الأحداث تقع هناك. لا يبدأ الفيلم بالمكان المذكور، بل بتقديم شخصية فنبار (نيسُن) رجلاً محبوباً في بلدة صغيرة هادئة، يعيش فيها (أجمل قليلاً من تلك التي ظهرت في «أرواح إنيشيرين» لمارتن ماكدونا). وجوده هناك نوع من اللجوء، فبعد تركه الخدمة العسكرية امتهن القتل المنظَّم، والبلدة تجهل ذلك. لا يتخفّى بقدر ما يُخفي. وما يخفيه، بجانب حقيقة عمله، هم ضحاياه، عندما يفرض عليهم حفر قبورهم قبل إطلاق النار. يعرقل هذا السياق، خطٌ آخر، حين يدرك أنّ عليه مساعدة فتاة رأى علامات العنف على وجهها. هنا بداية تعقيدات ستشرح لماذا هو الآن مصاب ولاجئ إلى كنيسة، لعله يرتاح لبعض الوقت أو إلى الأبد.

الفيلم الذي حصد إعجاباً شديداً في الساعات الأخيرة من هذه الدورة هو «أصل» (Origin)، الذي يسحب من فيلم مخرجته آفا دوفرني السابق «سلمى» (2014) الحديث عن الصراع العنصري بين البيض والسود في أميركا اليوم. لا تفعل ذلك على نطاق تصوير حالات اجتماعية عامة، ولا وفق وقائع حقيقية، كما في ذلك الفيلم، بل تَحبِك قصّة عاطفية حول زوجين. هو شاب أبيض (جون برنثال) وهي شابة سمراء (أونجانيو إليس - تايلور)، ومن خلالها موقف المجتمع بين قبول قليل وممانعة واسعة. كل شيء يبدو عادياً في البداية، إلى أن تتطّور الحكاية تبعاً لمحاولة بطلة الفيلم تحقيق بعض طموحاتها الأدبية. نقطة الفصل هي عندما يطلب منها ناشرٌ وَضْع رواية مستوحاة من جريمة قتل رجل أسمر البشرة. قبل الشروع بذلك، تبدأ بالنظر حولها فاحصةً ما تحت رماد العلاقات الاجتماعية. ثم تغوص أكثر فأكثر (كما الفيلم) في واقع العنصرية، مدركة أنّ جذورها عميقة.

يقارن العمل بين عنصرية تشهدها الولايات المتحدة، وتلك التي شهدتها الحقبة النازية. لكن ذلك لا يقودها إلا إلى توسيع بحثها ليشمل نماذج وأمثلة وبلدان أخرى.

طموح دوفرني يأخذها بعيداً عن الحقائق، فالعنصرية لم تبدأ مع النازية، ولا يستطيع أحدٌ تحديد أي شعب مارسها قبل سواه. ومن الصعب أيضاً القول إنها نجحت في إنجاز عمل سيتبلور ليكون مرجعاً لموضوعه. ما يمنح الفيلم أهم علاماته هو التمثيل الجماعي والعاطفة الإنسانية التي تحرّك بطلته.

 

الشرق الأوسط في

08.09.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004