ملفات خاصة

 
 
 

فينيسيا 2023..

هل يزيح Dogman فيلم "الجوكر" عن عرشه؟

فينيسيا -رامي عبد الرازق*

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثمانون

   
 
 
 
 
 
 

ثمة ما يمكن أن يجعلنا ندرك لماذا راهن مهرجان فينيسيا السينمائي على أن فيلم Dogman (مربي الكلاب) للمخرج الفرنسي ذو النزعة الهوليودية لوك باسون (صاحب أفلام  Taxi و Taken و The Fifth Element)، يمكن أن يصمد أمام منافسة أفلام لمخرجين مثل صوفيا كوبولا، ويورجس لانثيموس، وديفيد فينشر، ومجموعة من لا تقل عن 15 مخرجاً آخرين ضمن المسابقة الرسمية الـ80 في عمر المهرجان الأعرق.

أولاً: يمكن اعتبار فينيسيا منذ سنوات هو بمثابة مهرجان كان بالنسبة للأفلام الأميركية، والمتابع لمسابقته الرسمية يمكن بسهولة أن يربى قناعة بأن المهرجان الإيطالي هو الفرع الأوربي للأوسكار، فالعديد من الأفلام التي فازت بتمثال الرجل الصغير خلال العقد الأخير، انطلقت عروضها الأولى من قاعات الليدو التاريخية.

وباستثناء مهرجاني صندانس وتريبيكا، فمن الواضح أن هوليود كانت ترغب أن يكون لها موطئ قدم ضمن نطاق المهرجانات الأشهر في عالم الضوء السحري، فختم الأسد المجنح على عناوين أي فيلم هو علامة جودة مفروغ من هيبتها، حتى لو كانت غير مستحقة في بعض الأحيان، ويمكن أن نضيف أيضاً تساهل فينيسيا مع المنصات الرقمية، سواء في شروط العرض أو الإنتاج عكس مهرجان كان.

ثانياً: ثمة توجه واضح ضمن مهرجان فينيسيا  هذا العام للتأكيد على أن الحالة الهوليوودية لديها من الرسوخ والتأثير والتمدد ما يضمن بقاء كعبها عالياً حتى في قارة السينما نفسها، وأفلام بالمسابقة مثل الإيطالي Adagio، والألماني The Theory of Everything (نظرية كل شيء) يلوحان بهذا علانية، فالأول مصنوع حسب الخريطة الأميركية لأفلام الإثارة البوليسية، والثاني ينتمي لنوعية الخيال العلمي التي يحتكر الأميركان سر جاذبيتها.

السجن والكلاب

يبدأ كل شيء من إشارة للبوليس، أن هناك شخصاً ثلاثينياً لا ندري هل هو رجل أم امرأة؟، مشتبه في كونه مسلح يجول في عربة مصفحة، وحين تتوقف العربة في كمين الشرطة نكتشف أن من يقودها رجلاً مصاباً، في فستان على هيئة مارلين مونرو، بينما حمولة العربة المصفحة هي أغرب ما قد يمكن تصوره، مجموعة هائلة من الكلاب.

وينتهي الفيلم بنفس الرجل بعدما استعاد هيئته الذكورية -فهو ليس مثلياً أو متحولاً- تحيط به نفس المجموعة من ذوي الذيول بعدما حررته، فنراه يرقد في ظل الصليب المنتصب فوق أحد الكنائس، ينام على الأرض فاتحاً ذراعيه كمسيح ينتظر أن تأخذه السماء إليها كي يستريح من عناء البشر.

وما بين سجن الإنسان والتحرر على يد الكلاب يتحرك دوجلاس -تبدو دلالة الاسم أوضح بالإنجليزية DOG/LASS- في سردية تُمجد من فطرية الغريزة غير الملوثة أو مدفوعة الأجر، وبين ضحالة النفس البشرية التي فقدت نخوة الضمير وباقات المحبة غير المشروطة.

يلتزم الفيلم بثنائية (السجن والكلاب) في محطات العلاقة ما بين دوجلاس والبشر، أولها هي القفص الذي يحبسه فيه أباه، مربي الكلاب الوحشي الذي يعدها للقتال عبر زيادة جرعة الشراسة في أنيابها، والذي يحرره منه كلب صغير حين يطلق أباه النار عليه عقاباً على إطعامه للبضاعة الحية التي يتم إعدادها بالتجويع المميت.

ثم ينتقل دوجلاس إلى سجن الكرسي المتحرك عقب إصابته بالشلل جراء الطلق الناري، وهنا لا تفلح مدربته في دار الرعاية، والتي تعدّه كي يكون فرد سوي بالمجتمع عبر جرعات من المسرح الشكسبيري الشفاف، فتضرب حوله سجناً جديداً دون أن تدري، سجن الحب الملوث بهستيرية التعلق الأمومي، فهو مهجور من أمه وهي تكبره ببضع سنوات، وناجحة وجميلة حد الروعة.

وفي محاولة جديدة للتحرر، يقرر أن يبحث عن عمل عادي وشريف ونظيف حسب المعادلات الاجتماعية البراقة والزائفة في نفس الوقت، لكن يظل مسجوناً داخل النظرة الدونية التي تلاحقه -عاجز وغير متعلم وخريج دار رعاية- فلا يجد في النهاية سوى العمل في واحدة من محلات الترفيه، والتي يرتدي فيها الرجال زي النساء، -هناك شكوكاً مشروعة حول إضافة حليات الصوابية السياسية- فجسده الذكوري المشلول لم ينصفه في سوق العمل، بينما ملابس المرأة ومكياجها الصاخب جعلاه يقف على أقدامه بمعاونة زملائه؛ لكي يخلب مسامع الزبائن بأدائه لأغنية للمطربة الفرنسية أديث بياف.

ميلاد "جوكر" جديد

من يسجنه البشر تحرره الكلاب.. هكذا ببساطة تسير معادلة "دوجلاس" مع أكثر الكائنات قرباً له وفهماً بحديثه ومشاعره ونظراته، وتذوقها لعاطفته وطعامه وصوته الهادئ، تتعدد مستويات السجن ما بين مادي وجسدي ومجازي، وتظل الكلاب هي المحرر الأساسي لدوجلاس من كل القضبان التي تختنق روحه المسكينة في جسد متداعٍ.

الكلاب نفسها مجاز سبق وأشرنا إليه، هي الفطرة غير الملوثة، هي الإخلاص المطلق والشجاعة القابضة على الرحمة والذكاء الشعوري، وكلها صفات تكاد تخلو منه كل شخصيات الفيلم، ربما باستثناء الطبيبة النفسية ذات الأصول الإفريقية-بالطبع تعود الصوابية لتميز نفسها بنفسها- والتي تسأل دوجلاس في نهاية التحقيق بعدما استعاد معها حكايته "لماذا صارحتني بكل هذا؟"، فيقول لها: "لأن هناك ما يجمعنا سوياً.. إنه الألم".

لا يفوت السيناريو أن يأنسن الطبيبة النفسية -خصوصاً لو في سياق الصوابية- فهي تعاني من أزمة اجتماعية بسبب تعرض طليقها بالسوء رغبة في انتزاع ابنها، وفي نفس الوقت هي أشبه بالراهب الذي يفضي له الرجل الأبيض المعذب بكل الأسرار التي جعلته يحيد عن طريق الرب.

ومن هنا ندرك لماذا استلقى أسفل الصليب في النهاية، بعدما أنهى اعترافه الطويل للطبيبة وكأنه تطهر من حكاياته الدموية أخيراً، هذا فيلم متخم بالرموز والدلالات الدينية التي لا يمكن فصل عظم المجاز فيها عن لحم الدراما.

لكن كل هذا أيضاً لا يمنع بل يؤصل، لما يمكن أن نعتبره إزاحة حقيقية باتجاه أيقونة سينمائية من الصعب أن نخطئ المقارنة معها، وهي شخصية "الجوكر"، التي قُدمت مؤخراً بتوقيع خواكين فينكس، والمخرج تود فيلبس، وجاءت انطلاقتها أيضاً من فينيسيا قبل 4 أعوام.

صحيح أن كيلب لاندري جونز يدرج نفسه بأداء شخصية دوجلاس على رأس قائمة مرموقة تخص عمق الأداء وجاذبيته الآسرة، لكن من الصعب أن ننفلت من تلك الإحالات غير المباشرة مع ابتسامة "الجوكر" الشهيرة التي تقفز إلى شاشات الخيال ونحن نشاهد كيلب دوجلاس يرتدي ابتسامة مارلين مونرو بأحمر الشفاه، الذي يتشوه بينما يدافع عن مخبأه هو والكلاب، ضد ملائكة القيامة، كما يطلق على العصابة التي جاءت تنتقم منه لأنه لطخ كبرياء زعيمها بلعاب كلب صغير من مجموعته، دفاعاً عن امرأة مستضعفة.

حتى ولو لم تكن الإحالة باتجاه "الجوكر" مقصودة، لكن التداعي يبدو إلزامياً من قبل لا وعي المتلقي، ولولا تجذر "الجوكر" في الذاكرة الجمعية نتيجة ارتباطه بسردية "الرجل الوطواط" إلا أن دوجلاس "دوجمان" لديه من الشحنات العاطفية والحرارة الإنسانية، بالإضافة لارتباطه هو نفسه بكائن من أحب الكائنات إلى البشر "الكلاب"، ونجاح جونز في السيطرة بمهارة على هدوء الشخصية الصاخب، والهدوء من أكثر الانفعالات صعوبة في السيطرة عليها عند الممثل، لأنه يمكن أن ينزلق للبرودة أو الموات دون أن يدري.

هذه العناصر مجتمعة، أضف إليها حيوية الإيقاع، وسخونة الصراع، وتدرجه، وتصاعد موجاته -تشدنا نحو الجزم بأننا نشهد ميلاد أيقونة جديدة، مستحقة التقدير وكاملة الإشعاع، بل نجزم أن جونز قد ضمن لنفسه ترشيحاً أوسكارياً مرموقاً في حفل الأكاديمية المُقبل.

أخيراً، يمكن أن نشير إلى أن لوك باسون، تمكن بمُكر المتمرس على المعطيات الهوليوودية أن يضمن لنفسه شريحة من محبي الإثارة والحركة، ومشاهد إطلاق النار الدموية، دون أن يبدو أي منها مقحماً أو مدعياً، فالصراع بين البشر والكلاب على المستوى الغريزي يجب أن يصل إلى نقطة صدام مزلزل، تنتصر فيها الكلاب لأسباب تتعلق بفطرتها وشجاعتها وخلو غريزتها من حتمية العنف والقتل التي تلوث البشر.

في مشهد المعركة الأخيرة -الذي يفسر وجود دوجمان مصاباً وعصابته من ذوي الذيول في عربة تجوب الشوارع- هناك نفس هوليوودي ساخن، قادم من صدر المواجهة اللازمة لتفتيت طبيعة الصراع الذي اختاره البشر أنفسهم، ولم تختره الكلاب ولا غيرها من الكائنات التي أصبحت أرقى غريزياً رغم التطور الهائل الذي منحته الحياة للإنسان.

* ناقد فني

 

الشرق نيوز السعودية في

07.09.2023

 
 
 
 
 

الأفرو أميركية آفا دو فرناي تقتحم العنصرية في البندقية

الياباني هاماغوتشي ينزع الشر عن الطبيعة في فيلم بصري متمهل

هوفيك حبشيان

المرأة شديدة الحضور هذا العام في مهرجان البندقية، حتى التاسع من سبتمبر (أيلول)، سواء على الشاشة أو خلف الكاميرا، ومن الأفلام الخمسة التي أخرجتها نساء شاهدنا، أمس "أصل" للأميركية آفا دو فرناي التي هي أول أفرو-أميركية تشارك في مسابقة هذه التظاهرة السينمائية العريقة التي تحتفي هذا العام بدورتها الـ80. في المؤتمر الصحافي الذي عقدته دو فرناي بعد عرض جديدها على الصحافة، كشفت عن أنها تلقت نصائح بألا ترسل فيلمها إلى البندقية لأنه لن يتم قبوله. وأضافت وهي متأسفة: "نحن السينمائيين السود، يقال لنا إن محبي الأفلام في أماكن أخرى من العالم، لا يهتمون لقصصنا وأفلامنا، هذا ما قيل لنا دائماً: لا أحد يأتي لمشاهدة أفلامكم في المهرجانات الدولية، ولا أحد يحضر المؤتمرات الصحافية، حتى المشاركة في هذه المهرجانات لن تحصل على الأرجح، هذا العام حدث شيء لم يحدث في ثمانية عقود: امرأة أفرو-أميركية لأول مرة في المسابقة! فتح مهرجان البندقية الباب، على أمل أن يبقى مفتوحاً".

الفيلم على قدر من الأهمية ويستحق أن يشاهد ويناقش في أماكن مختلفة من العالم، نظراً إلى موضوعه السجالي الذي يمس كل إنسان على هذه الأرض. فيه عيوب كثيرة، نلمسها داخل أجزاء عدة منه، أبرزها سقوطه في فخ الميلودراما والخطابية والمباشرة. بعض خيارات المخرجة تؤكد أنها لم تفلت من التأثير السلبي للسينما الهوليوودية فيها، لكن قوة مضمونه والطابع الطموح للمشروع، يجعلاننا نتمسك فيه من دون أن نتجاهل الهنات العديدة. 

دو فرناي، البالغة من العمر 51 عاماً، سيدة ذكية وطموحة ومتماسكة. "أصل" هو فيلمها الروائي الطويل الخامس، علماً أنها بدأت مسيرتها في مطلع العقد الماضي مع "سأتبع" الذي أنجزته بموازنة 50 ألف دولار، قبل أن تقدم في عام 2014 "سلمى"، فيلمها الأشهر إلى اليوم والذي ترشح لجوائز "أوسكار"، وسمح لها أن تكون أول امرأة أفرو-أميركية ترشح لهذه الجائزة. وكانت تناولت فيه "مسيرات سلمى" في عام 1965 المطالبة بالحقوق المدنية المتعلقة بالأميركيين من أصول أفريقية واضطلع فيها مارتن لوثر كينغ بدور بارز. جديدها، "أصل"، يبقى في إطار القضية نفسها، لكنه مصنوع بنضج أكبر وخطاب أشمل ونظرة أعمق من تلك التي اعتمدتها في "سلمى" الذي يبقى في نهاية المطاف فيلماً كلاسيكياً أنجز في أطر إنتاجية تقليدية. 

سيدة مهمة وباحثة كبيرة هي التي ألهمت الفيلم لدو فرناي: إنها الصحافية والكاتبة إيزابيل ويلكرسون (61 سنة)، التي على غرار دو فرناي، تحمل لقب "أول سيدة أفرو-أميركية"، فازت بجائزة "بوليتزر" المرموقة في عام 1994. "أصل" أفلمة لكتابها "النظام الطبقي الوراثي: جذور امتعاضنا"، هذا الكتاب البحثي الذي يعد العنصرية ضد السود في أميركا من تمظهرات النظام الطبقي الوراثي. تدعم ويلكرسون فكرة أن كلمة عنصرية غير كافية ولا تفي بالغرض، إذ إن المسألة ليست قضية لون بشرة أو عرق، بل قضية طبقية وراثية في المقام الأول. وتضرب المثل بالنظام الطبقي الوراثي في الهند ومحرقة اليهود على يد النازيين لدعم نظريتها.

الفيلم ترجمة حرفية، بصرية سمعية، للكتاب، ولفصول مأسوية من حياة مؤلفته، وفيه يلتقي العام بالخاص وبالحميم التقاء جد متداخل، وتلعب دور ويلكرسون أونجانو إليز، فنراها تسافر إلى الهند لمعاينة ظواهر اجتماعية تستمد منها أفكارها. تدرس حالة المنبوذين فيها، رابطة ما يتعرضون له من تمييز واستبعاد، بحكاية صبي أفرو-أميركي في الخمسينيات، لم يسمح له بالنزول في حوض السباحة مع رفاقه.

ابتزاز عاطفي

بعد نحو 70 عاماً، تعود إيزابيل إلى تلك اللحظة فتنام إلى جانبه على العشب لترد له الاعتبار، ولو معنوياً، في مشهد يسحق القلب، هذا واحد من المشاهد الكثيرة التي تغرق في العاطفية، ولعل خلل الفيلم يكمن في هذا المنحى البكائي الذي يكبح التفكير لمصلحة الغريزة، ليتحول هذا كله في بعض الأحيان إلى "ابتزاز عاطفي" كان يمكن تفاديه. لم أستطع أن أمنع نفسي وأنا أشاهد الفيلم من التفكير بـ"سانت أومير" للمخرجة الفرنسية السنغالية أليس ديوب، الذي عرض هنا في العام الماضي، وتناول العنصرية على نحو معاكس تماماً لأسلوب دو فرناي، أي بطريقة متمهلة ودقيقة وباردة، حيث العقل يسيطر على العاطفة.  

وإذا كان "أصل" فيلماً يحمل نقاشاً وفيه ما هو إيجابي وسلبي وأحياناً في اللقطة نفسها، فلا يمكن قول الكلام نفسه عن بعض الأعمال المسطحة والبليدة التي عرضت في هذه الدورة من "الموسترا"، ومن بينها "الشر غير موجود" للمخرج الياباني روسوكيه هاماغوتشي، الذي كان أبهر محبي السينما في العامين الماضيين بفيلمين، "دولاب الحظ والفانتازيا" و"قودي سيارتي". وهذا الأخير فاز بجائزة "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي. بدأ "الشر غير موجود" كفكرة لمشروع عمل استعراضي بالتعاون مع مؤلفة موسيقى فيلمه السابق أيكو إيشيباشي، وانتهى فيلماً روائياً طويلاً بعدما أدرك المخرج أن المادة التي في حوزته تكفيه لذلك. 

تجري الأحداث في قرية محاصرة بالغابات، غير بعيدة من طوكيو، حيث نشهد على طريقة تعاطي سكانها مع قرار إحدى الشركات بناء منتجع سياحي فيها، ستكون آثاره الصحية والبيئية كارثية على سكان القرية، وستضر حتماً بنمط عيشهم المتناغم مع الطبيعة، لكن الحياة مهددة في كليتها، حتى من دون هذا المشروع، ونرى آثارها ماثلة في يوميات رجل وابنته.

بقية الفيلم هي تداعيات هذا المشروع، لكن الفيلم لا يكتفي بها بل يبتعد عنها ليخوض مغامرات أخرى في أماكن قريبة، لا تقدم بالضرورة خدمة كبيرة للعمل. يحاول هاماغوتشي أن يؤلف قصيدة بصرية بإيقاع متمهل، على خلاف فيلميه السابقين، وذلك من خلال تصويره الطبيعة التي يقول عنها إنها غير شريرة، على خلاف الإنسان الذي يحل الشر معه أينما حل. يتلذذ الفيلم ببث شعور الغموض الذي يجرجره خلفه خلال ساعة ونصف الساعة، لينتج، أخيراً، عملاً ينتصر للبيئة من دون أن يطمح بالضرورة إلى ذلك. 

"الشر غير موجود" مطعم ببعض الميثولوجيات اليابانية التي عندما قابلت هاماغوتشي، أمس، علمت منه أنها لم تكن مقصودة، بل ربما ظهرت نتيجة تشربه من تلك الثقافة. واللافت أنه لا يضع نفسه في معسكر أبناء القرية وبناتها، بل يكتفي بتصوير تناقضات النفس البشرية، من دون أي أحكام مبرمة وبملل شديد، رغم أن فيلمه هذا واحد من أقصر الأفلام المشاركة في المسابقة.

 

الـ The Independent  في

07.09.2023

 
 
 
 
 

محمد بن عطية يرسب في امتحان الإثارة

رسالة البندقية/ شفيق طبارة

البندقية | صحيح أنّ لا مشاركات عربية في الدورة الحالية من «مهرجان البندقية السينمائي» المستمرّة حتى التاسع من الشهر الحالي، إلا أنّ المخرج التونسي محمد بن عطية حاضر بفيلمه الجديد «وراء الجبل» ضمن مسابقة «آفاق». كنا في انتظار فيلمه الجديد، وخصوصاً أنّه من السينمائيين التونسيين الموهوبين. باكورته الطويلة «نحبك هادي» شاركت في «مهرجان برلين» عام 2016، وحصدت جائزة أفضل عمل أول، وممثله مجد مستورة نال جائزة «الدب الذهبي» لأفضل ممثل. أما فيلمه الثاني «ولدي» (2018)، فقد شارك في تظاهرة «أسبوعي المخرجين» ضمن «مهرجان كان». وها هو يشارك في «البندقية» بـ «وراء الجبل»، الذي لا يختلف في موضوعه العام عن أفلامه السابقة. هو يعرف جيداً كيف يبتكر شخصيات غامضة ذات رغبات جامحة، عادة ما تنتفض ضد الأعراف والقيود المجتمعية. لكنّ «وراء الجبل» جاء مخيباً للآمال، بل لعله أسوأ أفلامه حتى الآن. إذ حاول المزج بين الفانتازيا والإثارة النفسية لكنه خرج خالي الوفاض من الاثنين. فيلمه مزيج من أشياء كثيرة عملت ضده تقريباً. يلفّ عطية فيلمه وبطله رفيق (مجد مستورة) بالغموض. يبدو الأخير رجلاً عادياً، لكنه في أحد الأيام يفقد أعصابه ويدمّر مكان عمله في نوبة غضب عنيفة. لا نعرف السبب، ولكن هذا الفعل يؤدي إلى سجنه لمدة أربع سنوات، قبل أن يخرج، ويسعى لرؤية ابنه ياسين (وليد يوشيوة)، ويأخذه إلى الجبل ليريه كيف يمكنه الطيران!

الفيلم مليء بالرموز والاستعارات، لكن من دون توظيف ذكي من قبل بن عطية، فجاءت عبئاً على الفيلم نفسه. عندما وصل رفيق وولده إلى الجبل، تحول الفيلم من الفانتازيا إلى فيلم رعب وإثارة نفسي، وخصوصاً عندما دخل بيت عائلة غريبة وهدّدها. هنا حاول بن عطية أن يجعل من فيلمه شبيهاً بمناخات سينما مايكل هانيكي، وخصوصاً فيلم Funny Games، لكنه لم يصل أبداً إلى المستوى المطلوب من التشويق، وخصوصاً أن كل شيء كان متوقعاً. لم يرمّم بن عطية مشاهده ولم يربطها، فجاء فيلمه مليئاً بالفجوات: لا نعرف شيئاً عن رفيق، لا بأس، لكن أيضاً لا نعرف شيئاً عن الشخصيات الأخرى التي كانت أفعالها غامضة لا مبرّر لها. فخلق إثارة نفسية يتطلّب من جميع عناصر الفيلم والشخصيات العمل معاً، لكن في فيلم بن عطية كل شيء جاء فقيراً. عناصر الشريط ليست موجودة والشخصيات غير منسجمة على الشاشة، والمشكلة الكبرى أنّ بن عطية لم يتقن استخدام المساحة. في مشهد البيت الذي يستحوذ على كامل الفيلم تقريباً، لم تعرف الشخصيات كيف تتحرك فيه وكيف يحرك بن عطية الكاميرا أو حتى حدود وغرف البيت، وهذا شيء ضروري في مشاهد الإثارة ذات المساحة الواحدة الضيقة.

ما بدأ بطريقة ممتازة، انحرف ليكون شيئاً باهتاً ومملاً وغير مقنع على الإطلاق. ترك بن عطية قصته الأساسية التي كان ممكناً البناء عليها كثيراً، وذهب نحو شيء لم يخدم قصّته ولا الفيلم، وانتهى بسقوط حرّ من السماء بلا أي معدات حماية.

 

الأخبار اللبنانية في

07.09.2023

 
 
 
 
 

خاص "هي" رسالة مهرجان فينيسيا 2023 ـ

فيلم "وراء الجبل".. محاولة غير موفقة للطيران

أندرو محسن

ثلاثة أفلام عربية طويلة تشارك في مهرجان فينيسيا (البندقية) خلال هذا العام، واحد منها فقط يشارك في مسابقة رئيسية وهو "وراء الجبل" إخراج التونسي محمد بن عطية، والمعروض ضمن مسابقة آفاق. الفيلم هو الثالث الطويل لمخرجه، بعد "نحبك هادي" (2016) و"وِلدي" (2018). لفت بن عطية الأنظار إليه منذ فيلمه الأول، الذي حصد جائزة أفضل ممثل (مجد مستورة) في مسابقة مهرجان برلين، وفي فيلمه الأحدث يعيد المخرج التعاون مع مستورة، وبينما يمكننا أن نرصد بعض الملامح الواضحة لتجربة بن عطية في هذا الفيلم، فإنه ربما يكون ابتعد نسبيًا عن بعض ما ميز عمليه السابقين. تتابع الأحداث رفيق (مستورة) الذي يُسجن نتيجة اعتدائه على مقر عمله. يخرج من السجن بعد أن اكتشف في نفسه أنه يجيد الطيران، وهو ما يحاول أن يقنع أسرته به، وسط مقاومة ورفض منهم فيختطف ابنه ليعرفه على موهبته الجديدة.

بعد الانتهاء من مشاهدة هذا الفيلم، سنجد أنفسنا نتساءل، ما الذي يريد المخرج أن يقوله؟ أي فيلم يود صانعه أن يقدم شيئًا ما، وأحيانًا عدة أشياء، الفكرة هي في مدى قدرته على إيصال فكرته بالفعل إلى المتلقي. في جملة تبدو تنويرية داخل الأحداث، يفسر رفيق اكتشافه للطيران قائلًا "إن البشر في البداية كانوا يسيرون على أطرافهم الأربعة، إلى أن جاء شخص وقرر المشي على ساقيه فقط، لاقى مقاومة في البداية قبل أن يقلده الجميع. ربما كان البشر يجيدون الطيران لكن لم يجرب أحد ذلك!"

تجعلنا هذه الجملة نقرأ أحداث الفيلم بصورة أوضح، إذ أن البطل يحاول بشكل ما إعادة اكتشاف نفسه وقدراته خارجًا على ما يضعه المجتمع ككل من قواعد وشروط، ونتيجة لهذا فهو يصطدم بشكل حاد بكل المحيطين به. يمكن أن يكون هذا هو التفسير الأوضح لشخصية البطل في هذا الفيلم، لكن الأزمة هي أننا لا نجد ما يبرر بقية تصرفاته وتحركاته طوال الأحداث في ضوء هذا التفسير.

في حقيقة الأمر فإن المخرج يوضح لنا حقيقة أن البطل يمكنه الطيران بعد انتهاء الفصل الأول تقريبًا، قبل هذا لا نعرف عن البطل شيئًا غير اسمه كونه عنيفًا ما تسبب في سجنه 4 سنوات، لكننا لا نعرف السر الحقيقي وراء هذا العنف، ولاحقًا عندما يختطف ابنه ليُعلمه بقدرته على الطيران، لا نستطيع أن نتعاطف مع البطل أو نفهم دوافعه الحقيقية لأن يأخذ ابنه إلى منطقية جبلية بعيدة حتى يريه أنه يستطيع الطيران، لأن ما يظهر بالأكثر على السطح هو الطريقة العنيفة التي نراه يتعامل بها مع ابنه.

يمتد الغموض الذي يحيط بدوافع البطل وقرارته إلى بقية الشخصيات خاصة التي تظهر لاحقًا. فهناك راعي الغنم الذي يشاهد البطل في محاولته للطيران، والتي تبدو بمثابة سقوط بطيء أكثر منها طيران، لكن هذا الراعي -الذي لا نعلم أي شيء ذو قيمة حقيقية عنه حتى نهاية الفيلم- يقرر أن يترك كل شيء ويتبع رفيق، دون حتى أن يشرح لماذا يتبعه! لا يبدو أن بن عطية قد نجح هذه المرة في التواصل بشكل كبير مع مشاهديه، عكس ما فعل في فيلميه السابقين، لكن هذا لا يعني خلو ”وراء الجبل“ من عناصر أخرى تنتمي بقوة إلى سينما هذا المخرج. الأسرة غير المثالية، أو التي تعاني من صراعات داخلية، من المظاهر المتكررة في أفلام المخرج التونسي، ظهرت في ”نحبك هادي“ وأيضًا في ”وِلدي“ من خلال موقف الأب والأم المضطرب حيال ابنهما الذي انخرط في إحدى الجماعات المتطرفة. في فيلمه الأحدث، نجد حضورًا ليس لأسرة واحدة بل اثنتين، الأولى هي أسرة رفيق نفسه، والتي نشاهد بشكلٍ مُبرر رفضها له (زوجته ووالديها) بعد خروجه من السجن، لكن هذا لا يمنع رفيق من التمسك بأملٍ أخير وهو ابنه، ليحاول أن يكشف له قدرته الخاصة. الأسرة الأخرى هي التي يذهب إليها رفيق في النصف الثاني من الفيلم ليبيت لديهم الليل، لكن الأحداث تتطور لصراعٍ بينه وبينهم. تبدو هذه الأسرة أقرب للشكل التقليدي الذي يمكن أن نشاهده في أي بيت، طرف يقود الدفة والآخر يسير خلفه، طرف حاد وآخر هادئ، إلى آخره. رغم وجود بعض الملاحظات أيضًا على طريقة توظيف هذه الأسرة داخل الأحداث وكيفية تفاعلها مع بطل العمل الأساسي، فإن الأداء المقدم من طرفيها، حلمي دريدي وسلمى زغيدي، جعل الأمر أكثر تقبلًا. ربما كانت لدى محمد بن عطية محاولة لصناعة فيلم عن الأشخاص المغايرين أو الذين يحاولون كسر القواعد الصارمة للمجتمع، لكنه لم ينجح في النهاية في صناعة قواعده الخاصة بشكل موفق داخل الفيلم

 

مجلة هي السعودية في

07.09.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004