ملفات خاصة

 
 
 

«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا

أفلام المسابقة تتوالى وفرص الفوز مجهولة

مهرجان فينيسيا السينمائي: سوبرمان عربي يطير ويقع والجريمة مفيدة على الجبهة الغربية

فينيسيامحمد رُضا

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثمانون

   
 
 
 
 
 
 

هناك بيردمان عربي ولا أحد يعلم به. في فيلم محمد بن عطية الجديد «وراء الجبل» شخصية لرجل يلقي بنفسه من أعلى لأنه يستطيع الطيران. يقول في الفيلم: «الإنسان الأول كان يمشي منحنياً، لكن أحدهم سار مستقيماً فهاجموه ومن ثمّ أصبحوا جميعاً يسيرون مثله. كذلك الطيران. الإنسان يستطيع الطيران فعلاً».

ربما استطاع بطل «وراء الجبل» الطيران لكنه على عكس «بيردمان»، في فيلم أليخاندرو غونزاليز أيناريتو، لا يعرف كيف يحطّ، وكلما أراد العودة إلى الأرض سقط وبدا أنه ميّت.

يحكي المخرج بن عطية («لدي»، 2018) قصّة رجل يطير في الأجواء كلما أراد ذلك. لكن بعض طيرانه الأول يبدو كما لو كان محاولة انتحار. وليس واضحاً لماذا يكرر إلقاء نفسه من طوابق عليا لأن الحكاية الفعلية يمكن لها أن تبدأ بعد ثلث ساعة من الفيلم عندما يختطف رفيق (ماجد مستورة) ابنه من المدرسة ويتجه به في سيارته إلى منطقة جبلية بعيدة. هناك يتركه جالساً فوق صخرة ويصعد أخرى بعيدة ويقلع طائراً بين السماء والأرض. لكن سريعاً ما يعود للأرض مغشياً عليه. يتطلب الأمر قيام راعي غنم (سامر بشارات) بحمله على كتفيه وصولاً لداره حيث يُنعشه. رفيق بحالة جيدّة لكنه لا يزال يرتكب أخطاءً من بينها عدم امتثاله لحاجز أمني وانطلاقه بسيارته في دروب وعرة قبل أن تتوقف تلك السيارة تماماً وينطلق رفيق مع ابنه ياسين (وليد بوشوية) والراعي في الجبال. قبل انقضاء النهار يجدون بيتاً تعيش فيه عائلة تتألف من زوجين وأولادهما الثلاثة.

ما يحدث داخل البيت ينقل الفيلم إلى حالة تشويقية بين غزاة ومدافعين. الفريق الأول يسيطر على الثاني، ثم تنقلب الآية فإذا بأصحاب البيت يأخذون زمام المبادرة. يأخذ رفيق ابنه ويحلّق به. يكاد الولد الصغير أن يقع (كما كادت مارغوت كيدر أن تفلت من بين يدي سوبرمان عندما حلق كريستوفر ريف بها في «سوبرمان»، 1978). لكن الأب فطن ويلتقط ابنه قبل فوات الأوان.

ثغرات ومشاكل عدّة في هذا الفيلم. ما الذي يود قوله في نهاية المطاف ليس واضحاً. لن يخرج المشاهد ليقف على سطح منزله ويحاول التحليق في الفضاء. هذا في المفاد. في التفاصيل، فإنه كان من المهم أن نعرف لماذا ترك الراعي غنمه وانضم إليه في تلك الرحلة. هل كان بفعل رغبته الانضمام إلى رجل ليس له مثيل في العالم.

النواحي التقنية لا بأس بها لكن مثل هذا الإنتاج كان يحتاج إلى تمويل كافٍ للخروج من تجربة فيلم خيالي إلى فيلم خيالي ببصريات تناسب النوع.

كما طار وقع

هذا هو أحد الأفلام العربية القليلة في مهرجان «فينيسيا» للعام الحالي. وهو يشترك مع كثير من الأفلام العربية بأنه فيلم مهموم بقضايا أحياناً ما تكون اجتماعية وأحياناً ما تكون ذاتية (كحال هذا الفيلم). على ذلك، يسجّل للمخرج بن عطية أنه عرف كيف يستحوذ على الاهتمام ولو أن الفيلم بدا كما لو أنه يريد السير على الخط نفسه الذي ميّز أفلام المخرج التونسي الآخر علاء الدين سليم الذي ينجز أفلاماً غرائبية كان آخرها «آخر واحد فينا» سنة 2018.

ليس أن مهرجان «فينيسيا» يختار عدم عرض أفلام عربية (وتاريخه مليء بها)، لكن الذي حدث هذه السنة أن المنتجين الذين توجهوا في العام الماضي إلى صندوق دعم المشاريع المسمّى بـ«Final Cut» غابوا عنه العام الحالي بمجرّد انتهاء أفلامهم. بعضهم آثر استغلال فرصة مواتية لعرض فيلمه في مهرجان «كان» (الذي انتهز الفرصة وجمع شمل ما لا يقل عن خمسة أفلام عربية هذه السنة)، وبعضهم الآخر فضّل التوجه إلى مهرجان «تورونتو».

فيلم آخر آت من العالم العربي عرض هنا هو «باي باي تبرياس» للينا سويلم.

فيلمها هو مزج بين وثائقيات وبين دراميات الوضع الذي خلّفته الأوضاع الفلسطينية عبر عقود. تسعى المخرجة للحديث عن فلسطين كما كانت، وعن الفلسطينيين كما أصبحوا شتاتاً في أوطان أخرى. لا تفتعل هذا الحديث لأنها تتناول تجربة شخصية متقصّية أربع نساء يمثلن عدة أجيال توارثت العيش بعيداً عن وطنها الأم.

مدينة على نار

المسابقة التي ينتمي إليها هذا الفيلم (مسابقة تظاهرة «آفاق») تحتوي على الكثير من الأفلام التي تستدعي الانتباه وبعضها يستحق فوزاً مناسباً، كذلك الحال بالنسبة لأفلام المسابقة، علماً بأن الكثير مما كان منتظراً منه أن يقود التوقعات لم يفعل ذلك بل انضم للسائد من الأفلام ذات المستوى الجيد، لكنها ليست فائقة الجودة. هذا ما يجعل المسابقة صعبة المراس وفرص الفوز فيها مجهولة.

هناك فيلمان عن الجريمة. واحد بإطارها المجتمعي الواسع والثاني ضمن شخصية فرد واحد آل على نفسه القتل مقابل المال. لا يهم على من يطلق النار ولماذا، فهو، كما يقول في الفيلم، لا يتبع إلا مصلحته.

الفيلم الأول «من ريطالا» أخرجه ستيفانو سُليما (هل الأصل سُليمة؟) العائد من هوليوود بعدما حقق فيها فيلمان هما «سيكاريو 2» (2018)، و«بلا ندم» (Without Remorse) (2021). عودة حميدة لأن سينماه الإيطالية تحتاج إليه أكثر من سواها. الفيلم هو «أدجيو» المشترك في المسابقة. ما يكشف عنه الفيلم موهبة سُليما في تأطير الأحداث بمواقعها وديكوراتها الطبيعية. هذا رغم أن الفيلم كان يحتاج لمواقع أكثر لأجل منع تداول الأماكن على نحو متكرر.

لدى سُليما معرفة بالبيئة التي يتحدّث فيها وعمق فيما يطرحه. يتبدى هذا العمق من اللقطة الأولى: لقطة فوقية بعيدة لطريق مزدحمة بالسيارات. في الأفق، وعلى مساحة واسعة، هناك حريق عند أطراف المدينة. بهذا، دمج المخرج القصّة التي سيعرضها بالرمز المتوخى من تلك النار البعيدة ذات الأفق العريض. بذلك أيضاً يؤسس لأجواء الحكاية التي سيعرضها.

القصّة بحد نفسها لا تمتد لتغطي مساحة الفيلم. هي حبكة حول الشاب الذي يلجأ إلى العصابة الخطرة لكي تساعده في مواجهة أفراد شرطة فاسدين يريدون ابتزازه. لكن هذه الحبكة متشعبة بمفارقات وأحداث أخرى تمنحها حياة خارج الخط الرئيسي الذي تنطلق منه. العلاقات بين الشخصيات غير الملتئمة في عالم الجريمة الداكن. كثيرة هي اللقاءات بين أناس ترغب في النجاة بنفسها وأخرى تحاول المساعدة، لكنها مرتبطة بدورها بذلك الوضع السوداوي لما تعنيه كلمة جريمة.

ما كان الفيلم بحاجة إليه هو صياغة مختلفة لهذا السيناريو، كفيلة بجعل المشاهد على معرفة أوثق بما تمثّله تلك الشخصيات ولماذا تأتي رهاناتها خاسرة.

ليس بطلاً ولا ضد البطل

الفيلم الآخر هو «القاتل» (The Killer) للأميركي ديفيد فينشر وحققه لصالح الفيلم الأول «من ريطالا» الذي أخرجه ستيفانو سُليما «نتفليكس» (كحال فيلم «إل كوندو» لبابلو لاران المشترك كحال «أدجيو» في المسابقة الرسمية).

القاتل هنا فردي الشأن لا علاقة له بالعصابات ولا يهتم إذا ما كان الفساد (أخلاقياً أو مادياً) مستشرياً بين الشرطة أو سواهم. كل ما يهمّه هو تنفيذ المهام المسندة إليه بنجاح لكي يقبض أجره وانتظار المهمّة التالية.

شيء مثير للدهشة يحدث هنا: الفصل الأول من المشاهد هي، من تعليق صوتي لهذا القاتل الذي لا نسمع اسماً واحداً له، بل عدة أسماء يستعملها كلّما طار من مدينة لأخرى. يقول صاحب الصوت (مايكل فاسبندر) إن هناك شروط عمل تمنحه ما بلغه من شأن وقوّة في عالم الجريمة. يبدأ بتعدادها... أشياء مثل الانتباه إلى التفاصيل والتركيز على الخطة الموضوعة وعدم السماح بأي تعديل لها.

المهمّة المسندة إليه تقع في باريس حيث سيقوم القاتل بقنص رئيس جمهورية ما. يراه بوضوح. تدخل امرأة لتشكل حاجزاً بينه وبين الضحية. يصبر. تنحني ثم تقف فجأة بعدما أطلق الرصاصة لتقع مقتولة. مشاهد الهرب من فرنسا وكيفية تصرّفه لإخفاء كل معالم الجريمة مثيرة، كذلك باقي الأحداث التي يجد نفسه فيها في سعي للانتقام من قتلة صديقته لسبب لن يعرفه إلا لاحقاً.

الغاية من الفيلم هي تقديم بطل ميكانيكي التفكير. منهجي التصرف. يعرف كل شيء. يضع لنفسه كل تلك الشروط، لكنه لا يتصرّف دوماً بنصوصها. هو شيء متطوّر من شخصية تشارلز برونسون في فيلم مايكل وينر «الميكانيكي» (1972).

ذلك الفيلم كان ركيكاً وفقيراً في جميع نواحيه الفنية، لكنه يشترك مع هذا الفيلم في أن بطله يتبع الـMethod الخاصة لتنفيذ جرائمه. هذه هي نقطة اللقاء الوحيدة كون المخرج فينشر أكثر وعياً من أن يقدّم فيلماً ليس ذا مستوى. على ذلك، تخون بعض التفاصيل النوايا الحسنة. أحد نجاحاته أن الشخصية تبقى رمادية لا تكشف الكثير عن نفسها. هي ليست بطلة ولا يمكن اعتبارها مناوئة للبطولة. شخصية تقودنا بنجاح للحكاية التي تقع معها لكنها لا تكترث إذا ما أعجبنا بها أم لا.

 

الشرق الأوسط في

04.09.2023

 
 
 
 
 

مهرجان البندقية: بونيللو يخلق وحشاً وبولانسكي يغضب النقّاد!

هوفيك حبشيان

"الوحش" للفرنسي برتران بونيللو، الذي عُرض أمس في مسابقة #مهرجان البندقية السينمائي (30 آب - 9 أيلول) عمل مثير للدهشة لا أعرف من أين أبدأ في الحديث عنه، أو هل ثمة فائدة أصلاً من تناوله في مقال؟ فالتجربة كلها مشهدية، حسيّة، تفاعلية. مهما قلتُ حماستي فيها، لن يعني ذلك شيئاً مقارنةً مع ان تكون قبالة الشاشة لساعتين ونصف الساعة، تتوه فتعتقد انك وجدت طريقك، ثم تتوه مجدداً فتبحث عن طريقك مرة ثانية، قبل ان تتوه ولا تعود تهتم بإيجاد الطريق، ولا يبقى أمامك الا ان تسلّم نفسك كلياً للفيلم ونزواته وأشيائه المتداخلة. وهذا لا يعني استسلام العقل للصور كي تنقض عليه. لا شيء من ذلك في "الوحش". وهل يوجد، بين كلّ أصناف المشاهدة، أجمل من الفيلم الذي يدعك تسلّم نفسك له؟

لبرتران بونيللو القدرة الرهيبة على التلوّن من فيلم إلى آخر والتماهي مع الظروف. فبعد مجموعة أعمال لا يمكن وضعها في اطار محدد، يأتينا بهذا الفيلم المغاير، وهو في الحقيقة أفلام، اذ نخرج من واحد لندخل في ثان. هناك ثلاثة عوالم موازية. 

"الوحش" هو أيضاً تحية للسينما، ولحرفة التصوير والتقطيع التي تغدو أمام كاميرا بونيللو مادة للتأمل. لم أستطع ان أمنع نفسي خلال المشاهدة من أن أفكّر في ديفيد لينتش وراوول رويز. نحن ازاء نص بصري ينتمي إلى مستوى آخر، قد يكون نخبوياً في طرحه، لكن لا بأس، فحتى الملصق الغامض الذي لا يشرح شيئاً، وحيث لقطة قريبة جداً لوجه ليا سايدو، لا يأبه باختراق الجدار.  

هذا الفيلم الذي تبدأ أحداثه في المستقبل القريب، أي بعد نحو عقدين، قبل ان نعبر معه أكثر من قرن ونصف قرن من الزمن موزعين على ثلاثة تواريخ (1910/2014/2044)، هو عن حضور الذكاء الاصطناعي في حياتنا، وكيف سيعدّل هذا الشيء المستجد نظرتنا إلى الحياة، حد ان المشاعر والتعبير عنها باتا من الأمور غير المرغوب فيها. من أجل ان تتخلّص من هذه الأحاسيس التي أصبحت عبئاً على الإنسانية، على غبريال (ليا سايدو) ان تنقّح حمضها النووي، وان تتخلّص من التروما التي تفسد لاوعيها! هذا ما يُطلب منها. لذلك، يجب عليها ان تعود إلى حياتها السابقة ولقاء لوي (جورج ماكاي)، حبّها الأعظم. يبدو ان الذكاء الاصطناعي هيمن على كلّ شيء وفرض على غبريال ان تختار بين عمل ومشاعرها. إلى هنا، يوفّر الفيلم بعض العناصر التي يمكن ان تُروى بالكلام، لكن بعد ذلك، يطلق بونيللو العنان لمخيلته المجنونة (الفيلم اقتباس حر جداً لـ"وحش الغابة" لهنري جيمس)، جاعلاً المستقبل قريبا جداً، إلى درجة يمكن ان يلمسه المُشاهد ويلقي بجسده فيه. 

هناك صقيع في هذا الفيلم الأشبه برحلة نفسية وجسدية نحو المجهول المعلوم، وهو صقيع يتسلل إلى كامل التفاصيل، ليلفّ المشاعر وأماكن التصوير ومسرح الأحداث، ولينتهي في النحو الذي تُنطق الكلمات. وهذا يعطي الفيلم شخصية خاصة. في المقابل، يتفادى بونيللو كلّ مطبّات فيلم علم الخيال وجمالياته المستهلكة.

يقول بونيللو انه عندما كتب السيناريو قبل فترة، لم يكن يعلم اننا على قاب قوسين من تحوّل الذكاء الاصطناعي إلى واقع، لذلك اختار عام 2044، لكن الأشياء التي نراها كخيال باتت حقيقة اليوم. "لعل هذا أكثر جانب سياسي في الفيلم. أخيراً، سمعتُ البروفسور جفري هينتون، أحد رواد الذكاء الاصطناعي، يقول انه ندم على اختراع هذا الذكاء ويخشى ان يكون قد خلق وحشاً، وتأتي خشيته من ان تصبح النسخات المقبلة لهذا الاختراع خطراً على البشرية. وهذا ما يقوله الفيلم، لكن بطريقة وفرضية مختلفة. الكارثة انه ما عادت هناك كارثة. هناك توجه نحو محو فرادة الإنسان. اذا جعلنا الخوف يختفي من هذا الإنسان، فسيختفي أيضاً الإحساس بأننا أحياء". 

"الوحش" فيلم حزين، لا يخضع للمنطق السائد، يأخذ وقته ليتشكّل، قطعة بعد قطعة. "تحتاح إلى الوقت كي تسافر، والا لن ترى شيئاً ولن تشعر بشيء"، يقول بونيللو مبرراً طول الفيلم الذي لا نشعر به فور انطلاقه. 

***

يوم الجمعة الفائت، كان يوم رومان بولانسكي في البندقية، اذ عرض فيلمه المبهج، "القصر" (خارج المسابقة)، في صالة مكتظة بأهل الصحافة. لكن ما إن خرج النقّاد من الصالة، وحان الوقت المسموح به للحديث عن الفيلم في الصحف المطبوعة والمواقع الإلكترونية، حتى كالوا الشتائم له، مستخدمين تعابير كلها سخط. أجمعت الصحافة السينمائية على تفاهة فيلم المخرج الذي وقف خلف الكاميرا وهو في التسعين من العمر، ليقدّم عملاً يتحامل على الجميع أو يشتم الجميع أو يسخر من الجميع (اعتبرها ما تشاء)، بدون أي اعتبار لشيء، محوّلاً الشخصيات إلى دمى في يد كاتب السيناريو (يرجي سكوليموفسكي) الذي لم يجد، على ما يبدو، أي داع لبناء حبكة وبلورة الشخصيات والوصول معها إلى ذروة درامية، الخ. لكن، شخصياً، أعجبني الفيلم كثيراً، سلاّني وأضحكني، وما وجده الآخرون عيوباً وجدته ميزات.  

يبدو ان بولانسكي ضاق ذرعاً بكبت هذه الرغبة لديه، أعني الرغبة في الهجوم على الأثرياء وعالمهم السطحي المتصنّع، فما ان قرر عدم الخوف من المجتمع بعد الآن، حتى قرر تقديمهم كشلّة أغبياء سوقيين بشعين، فكانت هذه الكوميديا السوداء التي تحرص على تمريغ الجميع في الوحل بشكل متساو، من دون أي إحساس بالرحمة، بل بشيء من التشفّي المحبب، ذلك ان صاحب الحفل في النهاية هو بولانسكي، واحد من آخر عمالقة السينما.

من أوليغارشيين روس إلى مليارديريين لا يعجبهم العجب، مروراً بنصّابين وأطبّاء تجميل وممثّلي بورنو، "يحبس" الفيلم كلّ هؤلاء في فندق سويسري فخم في جبال الألب، عشية دخول العالم إلى العام 2000، مع ما يعني ذلك من شائعات انتشرت عامذاك تتنبأ بنهاية العالم. أنوفهم وآذانهم ستغرق في الشمبانيا والكافيار، كما "يتوعد" مدير الفندق الذي يركض يميناً ويسراً طوال الفيلم ليلبّي طلبات الجميع. أحد هؤلاء الأثرياء، وهو من أصحاب المليارات، لا يصبح ظريفاً إلا عندما يموت (وهو يمارس الجنس)، وكأن بولانسكي أراد القول ان الثري الجيد هو الثري الميت. 

لا، لسنا في "الوليمة الكبرى" لفيريري، ولا في "مثلّث الحزن" لأوستلوند، فصنف الدعابة هنا ينتمي إلى زمن آخر، حيث الضحك هو فعلاً على الشخصيات وحماقتها التي يدركها الجميع الا أصحابها. وهذا ما أزعج أصحاب الضمائر الحية والأخلاق الحميدة في البندقية، وكأن الشخصيات الكارتونية التي يصوّرها الفيلم حقيقة. يستعين بولانسكي بسلسلة ممثّلين في مقدّمهم ميكي رورك وفاني آردان وجون غليز. 

هناك عالمان يتواجهان في "القصر": الفندق وأقبيته حيث يتم تحضير الطعام وتنظيف الشراشف التي سيضع عليها الأثرياء مؤخراتهم، وغيرها من الأعمال التي تجبر العمّال على البقاء في دوامهم حتى ليلة رأس السنة لخدمة هؤلاء، من دون ان يحظوا حتى بترف التذمّر من تصرفاتهم المهينة. ينتقل الفيلم باستمرار من هذا العالم إلى ذاك، مولّداً المفارقات وكاشفاً الهوة بين الطبقات. يفعل موظفو الفندق المستحيل لإنجاح السهرة، التي سيعترضها عدد من المشاكل والأحداث الطارئة، أما الحفلة نفسها فهي حفلة تفاهة. ولعل أكثر المَشاهد تعبيراً عن هذا هو ذاك الذي يُختتم به الفيلم، اذ يعطي الكلمة الأخيرة لبولانسكي مثلما تعود الكلمة الأخيرة للمال في علاقة موظّفي الفندق بالنزلاء.  

 

النهار اللبنانية في

04.09.2023

 
 
 
 
 

"وحش" الذكاء الاصطناعي يواجه جمهور مهرجان البندقية

"القاتل" الأميركي يقع في فخ الإجرام المتبادل عبثياً

هوفيك حبشيان

يستمر مهرجان البندقية السينمائي حتى 9 سبتمبر (أيلول) في الكشف يوماً بعد يوم عن تفاصيل مسابقته أمام جمهور غفير يملأ الصالات العديدة طوال ساعات اليوم، من الثمانية والنصف صباحاً حتى بعد منتصف الليل. إلى الآن، وبعد انقضاء خمسة أيام على انطلاق "الموسترا"، ودخولنا في الأسبوع الثاني، عرض أكثر من نصف الأعمال التي تتسابق على "الأسد الذهبي" (23 فيلماً في المجموع)، ويمكن القول إن المستوى العام جيد، مع بعض الأفلام التي تتجاوز المعدل، وبعضها الآخر يبقى ما دونه، إلا أننا لا نزال في انتظار التحفة التي قد تحسم كل شيء، علماً أن خيارات لجنة التحكيم نادراً ما تتوافق مع أهواء النقاد وأذواقهم. إلى هذه اللحظة، لا يزال "كائنات مسكينة" للمخرج اليوناني يورغوس لانثيموس هو الفيلم المفضل للنقاد، وهذا ما يتبدى جلياً من الأحاديث السريعة التي يتبادلها بعضنا مع الآخر، في اللحظات بين خروجنا من صالة ودخولنا إلى أخرى. أما النجوم التي يمنحها النقاد، من واحدة للأسوأ إلى خمسة للأفضل، فهي الأخرى مؤشر إلى الأفلام التي تهتف إليها القلوب.

أمس، كان موعدنا مع فيلمين لسينمائيين بارزين: "الوحش" للفرنسي برتران بونيللو، و"القاتل" للأميركي ديفيد فينتشر. عملان أحدهما مختلف عن الآخر جذرياً. "الوحش" هو أحد الأفلام الفرنسية الثلاثة المعروضة في إطار المسابقة. أما "القاتل" فهو واحد من ستة تأتينا من أميركا، البلد الأكثر حضوراً داخل المسابقة هذا العام. وبعد عرض عدد منها، لا نزال في انتظار مشاهدة فيلمين أميركيين من هذه البلاد السينمائية الكبيرة، هما "أصل" لإيفا دو فرناي، و"بريسيلا" لصوفيا كوبولا.

فيلم بونيللو، "الوحش"، مفاجئ على جميع المستويات، وإلى حد بعيد، هذا المخرج المغاير يقدم في جديده رؤية سينمائية حرة ومبتكرة ومتماسكة لموضوع الذكاء الاصطناعي واقتحامه حياة البشر، لكن على طريقته الخاصة جداً التي تستلهم سينما النوع، وهذا يعني أننا يجب ألا نتوقع منه خطاباً مباشراً عن الموضوع. هناك أفلام عدة في "الوحش"، موزعة على ثلاثة تواريخ (1910/2014/2044)، سنبحر بينها باستمرار. واللافت أن بونيللو استوحى بعض الأفكار من رواية "وحش الغابة" لهنري جيمس (الذي اقتبسها بشكل حرفي المخرج النمسوي - اللبناني باتريك شيحا، وعرض في برلين في مطلع هذا العام)، ولكن دعمها بفكره ومشاهداته حول عالم يلجأ إلى الذكاء الاصطناعي، ويعتمد عليه في وقت أسرع مما كان يظنه.

يروي بونيللو أنه سمع البروفيسور جفري هينتون، وهو أحد مطوري الذكاء الاصطناعي، يصرح بأنه ندم على هذا الاختراع، ويأتي ندمه من خشيته أن تتحول النسخ اللاحقة لهذا الاختراع إلى خطر على البشرية، هذا الخوف هو ما يرويه "الوحش"، مستعيناً بطريقة وفرضية خاصتين باللغة السينمائية التي يرغب فيها المخرج الذي يعلق قائلاً: "الكارثة أنه ما عادت هناك كارثة. هناك توجه نحو محو فرادة الإنسان. إذا جعلنا الخوف يختفي من هذا الإنسان، سيختفي أيضاً الإحساس بأننا أحياء".

من الصعب أن نروي حبكة الفيلم ونعطيها حقها، فالتجربة التي يوفرها للمشاهد بصرية في المرتبة الأولى، لا يمكن حصرها في كلمات. يقدم بونيللو سينما حسية تخترق العقل والإحساس، نتفاعل معها، ونشعر بها في مسام جلدنا. في أية حال، هي قصة غابريال (ليا سايدو في أداء مدهش) التي تعيش في عالم، حيث المشاعر والتعبير عنها أصبحا من الأشياء غير المرغوب فيها، لا بل باتا يعدان من العوائق على طريق تطور البشر، ولذلك يتعين على غابريال، بهدف التأقلم مع هذا الواقع الجديد، أن تعود إلى ماضيها وتنقح حمضها النووي، لتتخلص من التروما التي تسللت إلى داخل لا وعيها! وهذا يعني أيضاً العودة إلى علاقتها مع حب حياتها.

هذا هو الفيلم باختصار شديد، لكن المشاهدة أمر مختلف تماماً، وتضمن متعة عالية سببها الضياع في الدهاليز، فبونيللو يطلق العنان لمخيلته المجنونة المتفلتة من كل القيود السينمائية التقليدية، مجدداً نفسه وذاهباً إلى أبعد حدود في التلاعب بالمشاهد وتوقعاته. المستقبل الذي يخشاه يجعله الفيلم قريباً جداً منا، لدرجة يمكن أن نلمسه ونشارك فيه. "الوحش" هو أيضاً تأملات في مهنة صانع الصورة السينمائية، وماذا تعني هذه الصورة ونحن في حضن الذكاء الاصطناعي.

"القاتل" لديفيد فينتشر المقتبس من قصة مصورة للكاتب الفرنسي ألكسيس نولان أكثر كلاسيكية من "الوحش"، لكن الكلاسيكية التي يتقنها الأميركيون ويجيدون صناعتها من دون أن تبدو أكاديمية، مع براعة سردية وأسلوب ممتاز لا يمكن أن ينكرهما عاقل. صحيح أن الإخراج هنا هو نقطة القوة الأهم، لكن هناك غياباً فاضحاً للروح ينسحب على كل جوانب العمل. يتركنا "القاتل" لا مبالين نوعاً ما، على رغم كل العناية والأناقة اللتين يستعين بهما مخرج "سبعة" لتناول موضوعه. أما الطول فهو محسوس في هذا الفيلم أكثر من غيره، خصوصاً أن الأجواء سوداوية. ساعتان و20 دقيقة ونحن نتعقب قاتلاً مأجوراً (مايكل فاسبيندر)، ونبقى أقرب ما يمكن له ولأفكاره وضربات قلبه. تلخص الحبكة بالآتي: بعد مهمة لم تجرِ كما يجب، يقرر مكلفوه قتله، وهو بدوره سيقرر قتلهم، هذا كل ما ينطوي عليه الفيلم الذي يحملنا من مكان إلى آخر، بصحبة شخص ينتقل من موقع إلى موقع حفاظاً على حياته.

الفيلم مقسوم إلى فصول، في كل واحد منها نرحل إلى مكان جديد (باريس، الجمهورية الدومينيكية، نيو أورليانز، فشيكاغو)، وتفاصيل جديدة. يقدم فينتشر تنويعة أخرى عن مهنة القتل، تسيطر عليها السخرية والنيهيلية، أو العدمية. يدرك القاتل أنه قاتل، ويعي مدى محدوديته في عالم واسع، ويفصح عن فلسفته حيال مهنته، في تعليقات طويلة تأتي من خلال التعليق الصوتي (في نوع من اعترافات داخلية)، الذي ربما هو الخطأ الأبرز في الفيلم، إذ يضعف بعض الشيء من اللجوء إلى الصورة، هذا القاتل له رأي في كل ما يجري، وهو يعاني قبل أي شيء آخر، الملل، الذي يعتبره أكبر تحدٍّ له خلال قيامه بعمله. نراه في مطلع الفيلم ينتظر اللحظة المناسبة لقنص الشخص المستهدف، من غرفة باريسية مستأجرة لهذا الغرض، ثم يلوذ بالفرار في سلسلة مشاهد إيقاعية تصر على عضلات فينتشر الإخراجية. وعلى رغم محاولاته الصريحة للإتيان برؤية جديدة لفيلم "النوع" (الجانر)، يصعب على فينتشر أن يبقى حراً تماماً، إذ عليه التعامل مع كل المفردات والأدبيات التي تصنع "فيلم القاتل المأجور"، من خدع واحتيالات ليبقى القاتل شخصاً بلا هوية، يختفي خلف أسماء مستعارة وجوازات مزورة وسلاح ذي حدين.

 

الـ The Independent  في

04.09.2023

 
 
 
 
 

مهرجان البندقية (3): جنس وميلودراما ومقاومة إيرانية

محمد صبحي

معروف أن كل فنان أميركي يلعب دور البطولة في فيلمٍ ضمن مهرجان البندقية، سيصبح شخصية يصعب نسيانها. حدث هذا مع آدم درايفر في دور إنزو فيراري في "فيراري"، مثلما حدث بعدها بيومٍ واحد مع مواطنته إيما ستون في فيلم "كائنات مسكينة" لليوناني يورغوس لانثيموس، الذي أظهر نفسه كأحد المنافسين الأقوياء على الجائزة الكبرى للمهرجان.

تراهن الممثلة الفائزة بجائزة أوسكار عن فيلم "لا لا لاند" (2016) على أدوارٍ قوية وطازجة وجريئة. في جديد المخرج اليوناني، نراها تجسّد شخصية بيلا باكستر، الشهوانية والمشوَّهة، شابّة حامل تقفز في مياه نهر التايمز من فوق جسر وتغرق وتموت. لكن جرّاحاً (غودوين باكستر، الذي يلعبه ويليام دافو) يعثر عليها، وينقذها، ويعيدها إلى الحياة. كيف؟ حسناً، لقد أخرج مخّها ووضع مكانه مخّ الطفل الذي في رحمها. تواصل بيلا حياتها، لكن ليس لجسدها أي علاقة بدماغها، لذا يجب عليها أن تتعلّم من جديد التحدّث والتواصل والتعرّف على ما هو صحيح سياسياً واجتماعياً. الأمر ليس سهلاً، خاصة عندما تكون محاطة برعاية باكستر، ذي الوجه المشوّه الذي أنشأ/ خلق من حولها أيضاً مجموعات مختلفة من الحيوانات (رأس خنزير، وجسم أوزة، من بين أشياء أخرى).

بيلا، على سبيل المثال، تتعلّم معرفة المتعة الجنسية عن طريق إدخال الفاكهة في مهبلها. باكستر، الذي أجرى والده جميع أنواع التجارب عليه عندما كان طفلاً، يستأجر طالباً لمساعدته. نعم، هناك الكثير من روح حكاية فرانكشتاين في هذا الفيلم المقتبس من رواية للكاتب الإسكتلندي ألازدير غراي صدرت في العام 2013.

لطالما كانت السينما مكاناً أليفاً لمخلوقات الليل؛ بنهمها ومأساويتها اللذين يجلبان رغباتنا ومخاوفنا إلى السطح. انتقل استوديو يونيفرسال إلى الأفلام الناطقة في أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين من خلال مخلوقات الرعب: دراكولا، فرانكشتاين، المومياء، الرجل الخفي. في فيلم الرعب، اجتمعت عوامل الجذب في السينما والدراما المبكرة؛ ولم تميّز الصور المتحركة بين الجميل والوحشي. يتمتع مهرجان "البندقية" أيضاً بقلبٍ مفتوح على الوحوش، على الأقل منذ فاز غييرمو ديل تورو بجائزة الأسد الذهبي هنا في العام 2017 عن فيلم "شكل الماء". ويمكن للمخرج المكسيكي أن يجد خلفاً يفوقه هذا العام ممثلاً في يورغوس لانثيموس، الذي تستفيد نسخته الفرانكنشتاينية "كائنات مسكينة" أيضاً من عمران وأدوات "الرعب العالمي"، في قصة معاصرة عن الإرادة الحرّة (الأنثوية) في مجتمعٍ أبوي، قصّة لا تتوقف عن التلوّي والاضطراب بشكل مثير للدهشة في مسارات جانبية متعرّجة.

بيلا باكستر، المولودة من جديد على يدّ طبيب عبقري وغريب، تنتقل من كونها "موضوعاً بحثياً" إلى كائن يملك وعياً خاصاً ورغبة جنسية لا تشبع. يعمل الجنس، إلى حد ما، كنظام مكافأة لكي تصبح ذاتاً، كما تعلّمت من الرجال في حياتها (وأبرزهم مارك روفالو، في دور "مفترس جنسي" غبي ومخادع). إلا إنها تبدأ باكراً في الشكّ في أنه خارج حدود التحكّم الذكوري، ثمة عالم جديد ينتظرها. متعطشةً للدنيوية التي تفتقر إليها، تهرب بيلا مع دنكان ويديربيرن (مارك روفالو)، المحامي التقدمي والشرير، في مغامرة عاصفة عبر القارات. متحرّرةً من الأحكام المسبقة لعصرها، تصبح بيلا ثابتة في تصميمها على الدفاع عن المساواة والتحرّر.

صحيح أن الفيلم مستوحي من نصّ لم يكتبه المخرج، لكن لانثيموس يغربله بكل ما يعرفه ويُنادى به ويُنتقد عليه. من الناحية الجمالية، تصميم المواقع والتصوير (بالأبيض والأسود والألوان) مذهل حقاً. ومن الناحية الأسلوبية، فهو، مثل "المفضلة" - حيث عملت ستون مع لانثيموس - أو "جراد البحر" أو "قتل غزال مقدّس" أو "ناب الكلب". وهذا يعني: عوالم سوريالية مصغّرة (المدن تقع في مكان ما بين المستقبلي والماضي) وذوق مائل صوب المروّع والغريب، سواء من الناحية الجنسية أو الدرامية. حتى الواقع الأبيض والأسود للندن الفيكتورية (حيث تدور الأحداث)، بعيداً من تأثير والد بيلا بالتبنّي، يتحوّل إلى فيلم ملوّن فائق الجودة لم يكن من الممكن أن يتخيّله ويس أندرسون والشابّ تيم بيرتون بشكل أكثر جمالاً.

لانثيموس، المتوّج هنا في "البندقية" بجائزة الإخراج لعام 2018 عن فيلم "المفضّلة"، تفوَّق على نفسه مرة أخرى بفيلمه "كائنات مسكينة". بدورها، تثبت إيما ستون أيضاً من جديد أن روح الدعابة الجافة والوجودية للمخرج اليوناني - أحياناً غريبة الأطوار، وأحياناً أخرى عميقة - تستخرج تعبيرات وأداءات من النوع الفاخر: سواء كانت تمارس الجنس مع خيارة أو في لحظة إدراكها أن القسوة والجمال في الحياة يعتمدان على بعضهما البعض. لم يُر على الشاشة من قبل وحش سينمائي مثل بيلا باكستر، وبهذا الدور تضع إيما ستون نفسها في لائحة الفائزات المحتملات بجائزة التمثيل، سواء في ختام المهرجان أو في موسم الجوائز الأميركية المرتقب.

الفجر، أخيراً

بالإضافة إلى فيلم "كائنات مسكينة"، عُرض فيلمان آخران يتنافسان على جائزة الأسد الذهبي. الأول، إيطالي بعنوان "وأخيراً الفجر"، للمخرج سافيريو كوستانزو، وهو عبارة عن دراما مطوّلة وأسئلة لا تنتهي. حبكته مألوفة لكن سخيفة، تماماً مثل الفيلم. في روما في الخمسينيات من القرن الماضي، عندما كانت تصوّر العديد من إنتاجات هوليوود في إيطاليا، ذهبت شقيقتان إلى ستديوهات سينيسيتا في اختبار أداء للمشاركة في دور صغير ضمن أحد تلك الأفلام.

لا يقع الاختيار على ميموزا (ريبيكا أنتوناسي) في البداية، لكنها عندما التقت في ردهة الاستوديو مع جوزفين إسبرانتو، النجمة الأميركية التي أعطتها ليلي جيمس وجهها وخلوها من الكاريزما، طلبت أن يتمّ تضمينها في فيلمها الذي تصوّره حالياً والدائرة قصّتة حول فرعون مصري قديم. لا مجال للسؤال عن كيف أو لماذا فعلت ذلك، لكنها في نهاية التصوير تعطيها فستاناً وحذاء، وتذهب ميموزا لقضاء ليلة جنونية في حفلة بعيداً عن روما، مع جوزفين وممثل آخر (جو كيري) وويليام دافو (في دورٍ باهت للاسف). ما سيلي ذلك: اعتداء جنسي، وكوكايين، وأكاذيب وخيانات، واكتشاف للذات؛ كل ذلك يأتي مرفوقاً بحواراتٍ تسبّب الضحك أكثر من أي شيء آخر.

في نهاية العرض، كانت صيحات الاستهجان المسموعة من جمهورالصالة صادقة وملائمة.

أحلام بسيطة وعنيفة

ردّ الفعل كان مختلفاً بعد الفيلم الدنماركي "أبناء الزنا" (أو "الأرض الموعودة" في العنوان الإنكليزي)، للمخرج نيكولاي أرسيل، وبطولة مادس ميكلسن الذي يلعب دور لودفيغ كالين، عسكري سابق فقير انطلق في العام 1755 لغزو البرية الدنماركية القاسية وغير المضيافة بهدف يبدو مستحيلاً: إنشاء مستعمرة باسم الملك، يزرع فيها البطاطس. وفي المقابل، سيحصل على تشريف ملكي يتوق إليه بشدة.

إلا إن الأمور لن تكون سهلة بتاتاً، بدءاً من الموقع المختار الذي يطاوله الجفاف في كلّ جانب. أيضاً، حاكم المقاطعة، فريدريك دو شينكل، رجلٌ متغطرس لا يعرف الرحمة؛ بما في ذلك اغتصاب الخادمات، وإحراق مَن يهربون من العمل أحياء، وادّعاء أن الأرض ملك له. في النتيجة، يحيل الحياة بؤساً بالنسبة إلى لودفيغ كالين ومَن حوله. وتأتيه الفرصة الكبيرة حين يعلم أن خادمته آن باربرا وزوجها (كلاهما من عبيده) قد هربا للاحتماء لدى كالين، يقسم على الانتقام ويعد ببذل كل ما في وسعه لإبعاد الرجل. لكن كالين لا يخشاه ويخوض معركة غير متكافئة لدرجة تعريض حياته للخطر، وحتى حياة عائلة المهمّشين التي تشكلت من حوله.

الفيلم مبني على قصة حقيقية، قاسية جداً في بعض الأحيان، إذ يقدّم مزيجاً من الأكشن والعنف، وخيانة القصر، والرومانسية، والميلودراما العائلية؛ مزيجاً محسوباً بعناية لإرضاء أكبر عدد ممكن من الجمهور، ويجب الشهادة بفضل أرسيل، المخرج العائد للعمل في وطنه، في إنجاز هذا الفيلم الذي يملك رائحة تشبه رائحة الأوسكار. هو مثال نموذجي لتلك السينما الأوروبية الصلبة، بإنتاجٍ فعال وسيناريو ملتزم. فيلمٌ يعرف ما يريد، ويحقّقه بالمناجل.

أيضاً، يجب الإشادة بأداء مادس ميكلسن، أحد أفضل الممثلين الأوروبيين في جيله. يعود الممثل الذي تحوَّل من لعب دور الرجل السيئ في فيلم "إنديانا جونز" الأخير إلى الانضواء في جلد شخصية لا يملك المتفرّج سوى التعاطف معها، كما هو الحال في الأفلام التي يصوّرها في بلده الأمّ. يتوق كالين إلى تحقيق حلمٍ بسيط، هو الذي لم يحصل على أي شيء منذ أن كان طفلاً (وهو أحد "أبناء الزنا" المُشار إليهم في العنوان الأصلي). مثلما يؤكّد الفيلم، المثابرة ستؤتي ثمارها، كما يقول المثل، وفي واحدة من تلك المحاولات ربما ينتهي الأمر بهذا الفيلم متوّجاً بإحدى الجوائز يوم السبت 9 أيلول/سبتمبر.

ويس أندرسون، باختصار

من ناحية أخرى، قال ويس أندرسون، الحاضر هنا بفيلمه القصير "القصة الرائعة لهنري شوجر"، المأخوذ عن قصة للكاتب روالد دال، في المؤتمر الصحافي لفيلمه الذي تبلغ مدته 37 دقيقة، إنه سيقوم بإنجاز ثلاثة أفلام قصيرة أخرى مأخوذة من قصص قصيرة للكاتب البريطاني. وقال المخرج الذي اصطحب في أيار/مايو الماضي فيلمه الطويل "مدينة الكويكب" إلى مهرجان "كانّ": "إنها جميعها حكايات غريبة للغاية. لدي بعض الأشياء في طور الإعداد".

يلعب رالف فينيس، وبن كينجسلي، وبينديكت كومبرباتش، وروبرت فريند، وديف باتل، وريتشارد أيواد أدواراً مختلفة في الفيلم القصير، الذي يحافظ على الأسلوب المميّز لمخرج "فندق بودابست الكبير"؛ مع حوارات تدور على السرعة القصوى، وأجواء الخمسينيات، وشخصيات تتحدث غالباً إلى الكاميرا. وليست هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها أندرسون باقتباس أحد أعمال مؤلف "تشارلي ومصنع الشوكولاتة"، إذ استعان به سابقاً في فيلمه الكوميدي "مستر فوكس الرائع"، وحقق ترشيحاً لجائزة الأوسكار عن فئته.

وفي ما يتعلق بالجدل الأنغلوأميركي الذي نشأ بعد إعادة تحرير وتنقيح أعمال دال لإزالة اللغة التي اُعتبرت "مسيئة"، كان المخرج واضحاً: "لا أريد حتى أن يقوم الفنان بتعديل عمله. أنا أفهم الدافع وراء ذلك، لكنني واحد من أولئك الذين، عندما يكتمل العمل ويقبله الجمهور، أستقبله كما هو. أعتقد أن ما حدث قد حدث... وبالتأكيد، لا ينبغي لأحد غير المؤلف أن يعدّل عمله؛ وقد مات دال". ومن المقرر عرض فيلم "القصة الرائعة لهنري شوجر"، في "نتفليكس" يوم 27 أيلول/سبتمبر الجاري.

إيرانيون أحرار

في مقلبٍ مختلف تماماً، وفي افتتاح قسم "أيام البندقية" (Giornate degli Autori)، والذي يحتفل بالذكرى السنوية العشرين لتأسيسه هذا العام، ظهرت في الشاشة مقاومة معاصرة مهمة. هذا العام، اختار القسم الجانبي والمستقل لبرمجته ثيمة الرحلة بحثاً عن الهوية، والتي غالباً ما تكون خارج منطقة الراحة الشخصية للفرد، لكنها ضرورية للنمو ومحاولة تغيير العالم وربما جعله أفضل. يحدث هذا لمخرج إيطالي يذهب إلى كوبا لتصوير فيلمه الأول (توماسو سانتامبروجيو وفيلمه المعنون "المحيطات هي القارات الحقيقية")، ويحدث أيضاً لفنّان إيراني يعود من ألمانيا (حيث يعيش) إلى وطنه الأمّ لينجز فيلماً فيجد نفسه منغمساً في الواقع الحالي للبلاد.

الفيلم بعنوان "ستشرق الشمس"، وهو إنتاج فرنسي إيراني مشترك، ويمكن تعريفه بوصفه "سينما سياسية تجريبية" تتجاوز التصنيفات المعتادة؛ فهو عمل مبتكر، وربما صعب، لكنه غني جداً بأبعاده المسرحية والاجتماعية والسياسية والفلسفية. وفيه يصحبنا المخرج آيات نجفي (1976) إلى مسرحٍ في إيران، وتحديداً إلى بروفات مسرحية يحاول تقديمها مع ممثلات إيرانيات شابّات. شرع المخرج والممثلون في تكييف مسرحية أريستوفانيس الهزلية "ليسستراتا"، المكتوبة قبل حوالى 2500 عام، والتي تدور حول تمرّد نساء قرّرن معاقبة أزواجهن المحاربين العنيفين بالإضراب عن ممارسة الجنس معهم؛ لتتواءم مع النضال المعاصر للنساء الإيرانيات. مظاهرات الشوارع التي تندلع أثناء التدريبات المسرحية (بعد مقتل مهسا أميني) ستجبر المخرج والممثلات (اللائي لا نرى وجوههن أبداً في أي مشهد من الفيلم) على مساءلة أنفسهن ومناقشة موقفهن. يتشابك المسرح مع الحياة الواقعية، ويبدأ الجميع في مناقشة مكانتهم ودورهم في المقاومة الاجتماعية...

نجفي، القادم بالأساس من عالم المسرح، مثال جيّد على السينما الإبداعية المقاومة في نسختها الإيرانية. فيلمه التسجيلي يدعو الجمهور للتورّط في معايشة ما يضطر الإيرانيون (والفنانون منهم بالأخصّ) لمكابدته تحدت وطأة شرطة الأخلاق، والعنف والقمع المتزايدين لنظام الملالي المحافظ. يقول نجفي في المؤتمر الصحافي للفيلم: "هناك أفلام تتمنى ألا تضطر إلى إنتاجها أبداً. وهناك أفلام تظلّ دائماً في أحلامك. "ستشرق الشمس" على حدّ سواء بالنسبة إلي. لقد صوّرناه في ظروف صعبة جداً. من ناحية أخرى، كنت تمتعت بحرية كبيرة لم أحظ بها من قبل، وهذه الحرية مُنحت لي من قبل مجموعة من الأشخاص الرائعين الذين يقفون وراء هذا الفيلم ومن المحزن جداً أنني لا أستطيع حتى أن أقول أسمائهم [لحماية سلامتهم]. لكنهم ناس أحرار، وهذا الفيلم أصبح ممكناً بفضل رغبتهم في الحرية".

 

المدن الإلكترونية في

04.09.2023

 
 
 
 
 

إلفيس وبريسيللا يطلان بحياتهما الحميمة في البندقية

صوفيا كوبولا كشفت نزوة ملك الروك في اختيار زوجة طاهرة تلبّي حاجته الأبوية إلى التملّك

هوفيك حبشيان

من بين السير الذاتية العديدة التي تقدّمها الأفلام الأميركية هذا العام في مسابقة مهرجان البندقية السينمائي (حتى 9 سبتمبر/ أيلول)، واحدة عن بريسيللا بريسلي، ابنة عائلة تقليدية تزوجت المغني إلفيس بريسلي طوال عقد من الزمن (من مطلع الستينيات إلى بداية السبعينيات) وأنجبت منه طفلته الوحيدة، لايزا ماري، التي توفيت في مطلع هذا العام.

الفيلم أخرجته صوفيا كوبولا وعنونته باسم الشخصية التي تتحدّث عنها ("بريسيللا") في رؤية حميمة، "من الداخل"، للعلاقة التي ربطت الشخصين، بعيداً من الحياة العامة. لا نرى إلفيس يؤدي أغانيه الشهيرة، إلا مرة واحدة في البداية، وبعد ذلك يصبح السرير مسرح الأحداث الأهم، حيث يتبادل العاشقان لحظاتهما الخاصة، بدلاً من الخشبة التي صنعت مجد ملك الروك أن رول. 

كانت بريسيللا (كايلي سباني) مراهقة لا يتجاوز عمرها الـ15 عاماً عندما تعرفت إلى إلفيس (جاكوب إلوردي) الذي كان يكبرها بنحو عشر سنوات وكان نجماً مكرساً. بداية الفيلم تعرفنا إلى الصعوبات التي عانت منها بريسيللا في لقاء إلفيس، بسبب عمرها وصرامة والديها اللذين يتحكّمان بكل تفاصيل حياتها، علماً أن والدها كان عسكرياً. بريسيللا فتاة بريئة وساذجة، عودها طري ولا تعرف شيئاً عن الحياة. أما إلفيس، فمن كل الفتيات المعجبات به، يختار أكثر واحدة "طاهرة" لم تقبّل فمها الا أمها، كما يُقال، وهي ستلبّي حاجته "الأبوية" إلى التملّك والرعاية، بعيداً من أضواء الشهرة.

تخيلوا مثلاً أنه لن يمارس الجنس معها، كي لا تتحوّل إلى "امرأة". هذا بالاضافة إلى انه يسعى إلى تشييئها، ويفرض عليها ذوقه في اللبس. منزله المعروف باسم "غرايسلاند" في ممفيس، حيث يدير والد المغني جزءاً من شؤونه، يبدو سجناً. وطبعاً، الإنتقال للعيش مع إلفيس تحت سقف واحد، من دون زواج، لن يمنع بريسيللا من ارتياد مدرسة كاثوليكية، حيث الطالبات والراهبات جميعهن يحلمن بملك الروك.  

هل هناك شيء غير "صحي" وغير سوي في هذه العلاقة؟ أكثر المحافظين وأصحاب النظريات التي تضع الإنسان في اطار محدد وجامد، سيقولون "نعم" بلا تردد، وبلا أي اعتبار، اننا نتحدّث عن حكاية تقع فصولها قبل أكثر من ستين عاماً حين كانت المفاهيم مختلفة عن مفاهيمنا اليوم.

الفيلم مقتبس من كتاب "إلفيس وأنا" الذي وضعته بريسيللا بريسلي بالإشتراك مع ساندرا هارمون، وصدر قبل نحو ثلاثة عقود، وهذا يعني ان الفيلم بأكمله بتبنى وجهة نظرها، وكوبولا لا تفعل إلا نقلها في مقاربة لا تدين أياً من الطرفين اللذين يظهران في الفيلم كطفلين، ولكن كل منهما على طريقته. الطفولة تُترجَم على نحو مختلف لكل منهما. هي في اعتقادها بأن فناناً مثل إلفيس سيبقى وفياً لها، وهو في لجوئه المفتعل إلى الكتب في بحث طفولي عن معنى للحياة خارج إطار الواقع. 

يتناول الفيلم مسألة الوحدة والعزلة في الإطار الزوجي. فبريسيللا "سجينة" رغم أنها حرة ومحبوبة ومحل رغبة عند الملك الذي يعيش حياته على أوسع نطاق. ولا يمكن مقاربة الفيلم من دون وضعه في سياق السينما الحديثة التي ترد الإعتبار إلى شخصيات نسائية، وهذا ما طالما فعلته كوبولا في أفلامها، لا بل كانت سبّاقة فيه.  

كوبولا تكتفي بأن ترينا أكثر من كونها تحاكم أو تنحاز في شكل فج. وفي هذه النقطة بالذات، الفيلم أميركي جداً، ينتمي إلى تراث عريق من الأفلام التي تترك للمُشاهد حرية الإستنتاج، إذا لا يفرض خطاباً معلّباً عليه تناوله بالملعقة. فالحياة أعقد بكثير من تلخيصها بفكرة أو مشهد. بهذا المنطق، تصوّر كوبولا فيلمها، حيث نرى فتاة عادية في مواجهة رجل عادي أيضاً. إن إلفيس، بعيداً من الخشبة والغناء، رجل لا يختلف عن آلاف الرجال (بحسب نظرة الفيلم)، كاريزما صفر وحضور باهت، ولكن في المقابل، لا يساهم هذا المنحى في تعظيم صورة بريسيللا. في الواقع، إلفيس وبريسيللا سيان في الفيلم، فلا نراه هو كنجم إنما كشخص هش يبحث عن ملاذ آمن في حضن فتاة لا غبار عليها. 

يحمل "بريسيللا" لمسات إخراجية أنثوية فريدة، عودتنا عليها كوبولا منذ أول أفلامها "انتحار العذارى"، خصوصاً على مستوى استخدام الموسيقى. هناك إحساس بالجمود والتكرار، حاضر طوال الفيلم، وذلك في رغبة واضحة لوضع قدمنا في حذاء بريسيللا كي نشعر بما شعرت به، داخل جدران منزل يقيم فيه إحساس الغرابة والريبة، وهو بيت لا يوحي إلا بالقلق، وهذا يُترجم من خلال الكادرات المدروسة جداً التي تلجأ اليها المخرجة لإشاعة جو من الانغلاق. لكن، تتحرر بريسيللا من سطوة إلفيس، ولن يتحقّق ذلك إلا تدريجاً، بدافع التجارب والضربات التي تتلقاها فتقويها من دون أن تقتلها.  

13 عاماً بعد نيلها "الأسد الذهبي" عن "في مكان ما"، تعود كوبولا إلى البندقية بهذا الفيلم الذي يجعلها تبدو المخرجة المناسبة لتحكي قصة كهذه، عن حياة امرأة في ظلّ شخص مشهور محل انبهار لكثيرين، فهي قبل أن تصبح السينمائية التي نعرفها، كانت، ولا تزال ابنة فرنسيس كوبولا!

هذا ثاني فيلم محوره إلفيس بريسلي يبصر النور في أقل من سنة ونصف السنة. في مهرجان "كان" العام الماضي، عرض المخرج الأوسترالي باز لورمان فيلمه عن ملك الروك الذي حمل اسمه، وجاء فيه كل ما غاب عن عمل كوبولا التي تبنت مقاربة غير استعراضية وغير تمجيدية. أُعجِبت عائلة بريسلي بفيلم لورمان، على عكس فيلم كوبولا، إذ عبّرت بعض الأوساط المقربة من المغني الراحل، عن عدم إعجاب أفرادها به.  

خلافاً للمتوقع، حضرت بريسيللا بريسلي التي أصبحت اليوم في الثامنة والسبعين، المهرجان، ورغم أنها لم تشارك في المؤتمر الصحافي الذي عقدته كوبولا، لكنها جلست في الصالة بين الصحافيين. وعندما طرحت صحافية سؤالاً عن الشعور بأن يرى المرء حياته على الشاشة، أُعطيت زوجة ملك الروك السابقة الميكرو، فقالت وصوتها يرتجف إن "من الصعب جداً مشاهدة فيلم عنك وعن حبّك"، ثم انهارت بكاء قبل أن تتابع: “كان إلفيس حب حياتي، فقط نمط حياته هو الذي لم يناسبني".  

 

الـ The Independent  في

05.09.2023

 
 
 
 
 

«كائنات مسكينة» ليرغوس لانثيموس:

رحلة فتاة لاكتشاف الذات في عالم غرائبي

نسرين سيد أحمد

البندقية ـ «القدس العربي»: عندما ترد أنباء عن أن المخرج اليوناني يرغوس لانثيموس ينجز فيلما جديدا، أو يوشك على طرح فيلم جديد في مهرجان من المهرجانات الكبرى، يتلقف عشاق السينما والنقاد النبأ بمزيج من الابتهاج والتلهف  والفضول، وبتساؤلات لا تنضب عن الرحلة الجديدة، الصادمة في كثير من الأحيان، التي سيلقينا لانثيموس في أتونها في عمله الجديد. عوالم لانثيموس لا تكف عن صدمتنا وإدهاشنا، في آن.

وهكذا كنا نترقب بشدة طرح جديد لانثيموس «كائنات مسكينة»، في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية في دورته الثمانين (30 أغسطس/ آب إلى 10 سبتمبر/أيلول الجاري)، وجاء الفيلم ليفوق كل توقعاتنا وليحملنا في رحلة لا تنسى كنا نود لو استمرت ولم تنته. هي رحلة في عالم غرائبي، محوره فتاة تدعى بيلا باكستر، لا تقل غرابة عن أجواء الفيلم، ولكنها على غرابتها تشبهنا في محاولة فهم ذاتها وفهم العالم. بيلا في واقع الحال فتاة ذات جسد فتي شاب يضج حياة ورغبة، ويحمل عقل طفلة في عامها الثاني أو الثالث. ترى العالم بعين طفل صغير يملؤه الفضول، لا يكف عن الاستكشاف، استكشاف الأشخاص والمذاقات والأماكن، وكل ما يحيط بها. «الإسعاد الذاتي» و»القفز الغاضب» هكذا تصف «بيلا باكستر»، (إيما ستون) في أداء مميز للغاية يمزج بين البراءة والدهشة والرغبة، في اغتراف الحياة اغترافا، اكتشافها للجنس والاستمناء، تكتشفها بسعادة بريئة تشبه سعادة الأطفال لحل أحجية، أو للحصول على لعبة جديدة. إنه فيلم لا يخجل عن تناول الجسد بإفرازاته ورغباته، وفيلم ينظر إلى تعطش الإنسان إلى الجنس كغريزة أساسية لا غناء عنها، مثل الجوع أو العطش.

يأتينا لانثيموس في الفيلم في أوج صنعته السينمائية، وفي أوج جنونه وخلقه لعوالم غرائبية عجائبية، ولكنها على غرابتها تمتلئ بشخصيات تشبهنا، نكتشف لاحقا إن بيلا مزيج من جسد امرأة شابة في مراحلها الأخيرة في الحمل حاولت الانتحار بإلقاء نفسها في نهر «التيمز» في لندن في العصر الفيكتوري، فأنقذها طبيب حاذق هدفه التجريب يدعى «غدوين باكستر» (ويليم دافو في أداء مميز للغاية) بأن زرع في جمجمتها مخ طفلها الذي تحمله، وكانت توشك على ولادته، بيلا إذن كائن هجين، ناتج عن تجريب طبيب يعتبر نفسه إلها يصرف الخلق كيف يشاء، وينتج كائنات هجينة، فنرى في قصره المنيف بطات برأس خنزير، وحيوانات غرائبية، ولكن إبداعه الأهم هو مع بيلا، الذي ينعكس على تدوين ومراقبة تطورها العقلي والجسدي. أما باكستر ذاته، فهو رغم شعوره بأنه إله على الكائنات التي يملأ بها قصره، إلا أنه شخص مسكين معذب مشوه الوجه، أخصاه والده ضمن واحدة من تجاربه العلمية.

رغم الأجواء العجائبية وتصرفات بيلا التي تشبه في بادئ الفيلم سلوك الأطفال، يحفل الفيلم بالأسئلة الكبرى عن الخلق والخالق ومصير المخلوقات، عن الحياة والموت، عن الهدف من الحياة ولماذا جئنا؟ يحفل الفيلم بالأسئلة عما إذا كان الإنسان يختلف عن غيره من الكائنات وعما يجعل الإنسان إنسانا؟ ويطرح الفيلم تساؤلات أيضا عمن يحتاج الآخر بصورة أكبر: هل يحتاج باكستر إلى بيلا بصورة أكبر، لإثبات مقدرته، أو لملء فراغ عالمه، أو لأنه يحتاج إلى ولد يؤنس وحشته، أم أن بيلا تحتاجه بصورة أكبر حتى تعلم من أين جاءت، وكيف جاءت إلى العالم.

الفيلم مقتبس عن رواية الكاتب  الكاتب الاسكتلندي أليسدر غراي بعنوان «كائنات مسكينة» التي صدرت عام 1992، وكتب لها السيناريو لانثيموس بالتعاون مع توني ماكنمارا، الذي سبق له التعاون مع لانثيموس في فيلمه «المفضلة»، لعل أحد أمتع عناصر الفيلم هو الكلمات غير الموجودة في اللغة، التي تصيغها بيلا للتعبير عن مشاعرها أو عن العالم حولها. يستقدم غدوين باكستر أحد طلبته في كلية الطب ليعاونه في مراقبة تطور بيلا عقليا وجسديا. هذا المساعد هو ماكس (رامي يوسف)، الذي يقع في هوى بيلا فور أن يراها، ببراءتها الطفولية وقوامها الجميل وشعرها الأسود الفاحم الطويل. يتابع ماكس حصيلتها اللغوية المتزايدة يوما عن الآخر. ثم يأتي التطور الأكبر حين تكتشف بيلا أعضاءها التناسلية، وما تقدمه هذه الأعضاء من سعادة وراحة للجسد والنفس.

يفتتن ماكس ببيلا ويطلب يدها للزواج، ويمنحه باكستر موافقته، على أن يلتزم ببنود عقد يخطه المحامي الحاذق الخبير بالعالم دانكان ويدربرن (مارك رافلو في واحد من أفضل أدواره). وبدخول ويدربرن في حياة بيلا، بشهوانيته ورغبته النهمة للطعام والشراب والمال والسفر ومتع الحياة، تخرج بيلا من عالم طفولتها البريئة إلى طور استكشاف الحياة خارج القصر، على الرغم من موافقتها على الزواج من ماكس اللطيف الطيب، إلا أنها تفتن بويدربرن الذي اعترك الحياة وخبرها واغترف ملذاتها، وتغادر القصر تلبية لدعوة ويدربن أن تجوب معه العالم، وأن تتذوق متعة الجنس مع رجل مجرب خبير. مع ويدربرن وبعد خروجها من القصر، تبدأ بيلا رحلتها الطويلة في النضج والفهم ،وفي محاولة إيجاد إجابات للأسئلة التي تحيرها عن الحياة والبشر ونوازعهم. ترى لأول مرة الفقر في العالم حين تحط السفينة التي تستقلها في ميناء فقير، وتعلم قيمة الكتب والقراءة والتفكير من سيدة كبيرة العمر (الممثلة المخضرمة هانا شيغولا) تجوب العالم في صحبة شاب مثقف يساري التوجه. تسمع بيلا وتقرأ وترى من الأشياء والأشخاص الكثير، وفي لحظة تأثر بالفقر الذي تراه في العالم، تستغني عن كل ما في حوزة ويدربرن من المال، ليشتري الفقراء ما يحتاجونه. وعندما ينضب المال وتضطر بيلا لمغادرة السفينة الفارهة التي تجوب بها العالم إلى طرقات باريس، لا تجد سبيلا لكسب قوت يومها إلا أن تمتهن أقدم مهنة في التاريخ. وفي مهنتها الجديدة تكتشف بيلا جانبا جديدا من الحياة لم تخبره من قبل قط، ترى الرجال بأشكالهم المختلفة ونفسياتهم المختلفة، تختبر من يحتاج إلى سماع كلمة طيبة ومن يحتاج إلى القسوة ومن يطلب الإهانة ومن يطلب الاحترام الزائد. وفي عملها الجديد أيضا تكتشف بيلا قيمة المال وقيمة القراءة والثقافة واتساع المدارك.

هي رحلة طويلة أساس مصداقيتها وتفاعلنا معها هو إيما ستون التي تؤدي الدور بسلاسة ومصداقية شديدين، والتي تحملنا بيسر من براءة بيلا كطفلة إلى جموح شهوتها كأنثى إلى ذكائها وعقلانيتها في التعامل مع الرجال، إلى رغبتها في تطوير مداركها بالقراءة والدراسة. يمكننا القول إن إيما ستون وأداؤها هما جوهر الفيلم وقلبه. في «كائنات مسكينة» يخلق لانثيموس عالما مليئا بالألوان والأصوات والمباني والتفاصيل المذهلة. ويصحبنا في رحلة نشارك فيها بيلا دهشتها وانبهارها ورغبتها في اغتراف الحياة اغترافا، ولكن هذه الرحلة المذهلة التي تدوم أكثر من ساعتين تحمل الكثير من التساؤلات عن الإنسان والهدف من وجوده والغاية من حياته.

 

القدس العربي اللندنية في

05.09.2023

 
 
 
 
 

وودي آلن في مهرجان البندقية: حالفني الحظ طوال حياتي

(رويترز)

قدّم المخرج الأميركي وودي آلن، الاثنين، فيلمه الخمسين في مهرجان البندقية السينمائي، قائلاً للصحافيين إنه عاش "حياة كان فيها محظوظاً للغاية" دون التطرق إلى الفضائح التي طاردته في مرحلة من حياته.

وقبل العرض الأول لأول أفلامه الناطقة بالفرنسية "كو دي شانس" Coup de chance، قال للصحافيين: "لم أملك سوى حظ سعيد ويحدوني الأمل أن يستمر". وأضاف: "كان لي والدان محبان، ولي أصدقاء طيبون، وزوجة رائعة وزواج رائع، وطفلان. في غضون أشهر قليلة، سيكون عمري 88 عاماً. لم أذهب إلى مستشفى قط. لم يحدث لي أي شيء فظيع قط".

عاش مخرج فيلم "أني هول" Annie Hall وأفلام كوميدية أخرى والحائز على جائزة أوسكار أربع مرات حياة شخصية مضطربة، جعلت عدداً متزايداً من المشاهير والمديرين في هوليوود يتجنبه.

وتصدّر عناوين الأخبار في التسعينيات بعد علاقته الغرامية وزواجه من سون يي بريفين، الابنة المتبناة لرفيقته السابقة ميا فارو، بالإضافة إلى اتهامات الاعتداء الجنسي من ابنتهما بالتبني ديلان فارو. ولطالما نفى هذه الاتهامات ولم توجه إليه أي اتهامات قط.

واستنكر بعض النقاد منح مهرجان البندقية السينمائي لآلن مكاناً مرموقاً خارج المنافسة لفيلمه الجديد، لكن الفيلم لقي تصفيقاً حاداً في العرض أمام الصحافة كما حظي المخرج نفسه باستقبال حار في المهرجان.

وأراد آلن في بداية الأمر اختيار ممثلين أميركيين للقيام بالأدوار الرئيسية، لكنه قال إنّ المخرجين الأوروبيين مصدر إلهام له منذ زمن طويل، لذا أسعده تغيير اللغة على الرغم من أنه لا يتحدث الفرنسية.

ويستقي فيلم "كو دي شانس" مادته من موضوعات الحب والخيانة الزوجية والموت، مثل الكثير من أفلامه.

وصرّح آلن سابقاً بأنّ فيلم "كو دي شانس"، قد يكون فيلمه الأخير، لكنه أشار أمس الاثنين إلى أنّ لديه فكرة جيدة لقصة تدور أحداثها في موطنه نيويورك، وسينفذها إذا تمكن من العثور على داعم يرغب في قبول شروطه وهي "عدم قراءة السيناريو أو معرفة اختياراته لمن يؤدون الأدوار".

وقال: "إذا وافق شخص أحمق على ذلك، فإني سأصنع الفيلم في نيويورك".

 

العربي الجديد اللندنية في

05.09.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004