ملفات خاصة

 
 
 

Ferrari.. كيف تصنع فيلماً من رجل وسيارة وسباق؟

فينسيا -رامي عبد الرازق*

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثمانون

   
 
 
 
 
 
 

23 عاماً وسيناريو Ferrari (فيراري) يتأهب للظهور على شاشات السينما في واحدة من أطول رحلات الكتابة، وعقب رحيل اثنين من أصحاب الامتياز الإبداعي للفيلم، الأول هو برك ياتس صاحب الكتاب المأخوذ عنه نص الفيلم (فيراري: الرجل.. السيارات.. السباقات.. الآلة) الذي توفي في عام 2016، والثاني هو صاحب النسخة الأصلية من السيناريو تروي كندي الذي توفي في 2009.

هذا النوع من القصص يطلق عليه غالباً Ever Green أي أن تقديمه غير مشتبك مع مرحلة سينمائية معينة، وليس لأن الفيلم يدور في حقبة الخمسينيات أي يعتبر تاريخاً مجدولاً بالسيرة الذاتية، لكن لأن ظل الصراع الذي يلقي بعباءته فوق كامل الحضور النفسي والفكري والدرامي هو ظل إنساني بالأساس، أي إننا أمام صراع سرمدي بين كتلتين، كل منهما لديه من الجينات ما يجعل خليطهما لا ينتج سوى الدم أو الدموع، ونعني بهم الروح والمادة.

الفيلم الذي استطاع المخرج الأميركي مايكل مان، الذي أخرج فيلم Heat، وMiami Vice، أن يغزله فيما يقرب من ربع قرن، وجد طريقه أخيراً إلى السجادة الحمراء دورة مهرجان فينسيا الـ80، ضمن 20 فيلماً تتزاحم على جوائز المسابقة الرسمية لأول وأقدم مهرجان سينمائي دولي.

لماذا Ferrari الآن؟

وقبل أن نحاول الإجابة على هذا السؤال تجدر الإشارة إلى أن ظهور الفيلم على المستوى الإنتاجي ثقيل العيار والتفاصيل، يحمل في جانب منه ختم مؤسسة مهرجان البحر الأحمر والتي سبق لها أن شاركت في إنتاج Jeanne Du Barry من بطولة جوني ديب، والذي افتتح دورة مهرجان كان السينمائي الأخيرة قبل ثلاثة أشهر.

وينتمي Ferrari وDu Barry، إلى أفلام السير الذاتية، المطعمة بحليات التاريخ، وهي أفلام تحتاج إلى ميزانيات خاصة مؤهلة لتحقيق الإيهام اللازم بالحقبة التاريخية، سواء كانت القرن الثامن عشر في الفيلم الفرنسي، أو منتصف القرن العشرين في الفيلم الأميركي.

وتبدو الأجوبة على سؤال الصبر لأكثر من 20 عاماً من أجل الخروج بالفيلم، قادمة من عنوان الكتاب الأصلي المأخوذ عنه (الرجل.. سيارات السباقات.. الآلة) هذه العناصر مجتمعة، سواء كانت سيرة ذاتية أو متخيلة تكفي لأن تصبح منطلقاً درامياً رائعاً لعشرات القصص، فما بالنا بقصة كتبها الواقع نفسه، وفي لحظة تاريخية شديدة الحساسية.

مقاربة الرجل والسيارة

يبدأ الفيلم عام 1957 بعد 10 سنوات من تأسيس إينزو فيراري رجل الأعمال الإيطالي خارق الشهرة لشركته التي شكلت أحد دعائم اقتصاد ما بعد الحرب العالمية الثانية في إيطاليا، وذلك بمشاركة زوجته لورا، لكن الرجل المقصود في عنوان الكتاب ليس رجل الأعمال فقط ولكنه الرجل الذي يحمل عبء الذكرى الحية لمفارقة ابنه الشاب، كما نراه في زيارته لقبره وحديثه مع العشب فوق القبر البارد، وبين محاولة العثور على صيغة من أجل مصارحة العالم، وعلى رأسه زوجته، أن لديه ابن آخر من عشيقة سرية الكل يعلم بأمرها ولا أحد يتحدث عنها في نفس الوقت.

أما السيارات فهي المعادل المجازي لكل ما كان يطمح هذا الرجل أن يقدمه للعالم، ثمة فوقيه غير بشرية لدى هذا الرجل الذي يتصور أنه قدم مخلوق غير مسبوق هدية من عبقرياته للدنيا، وهي السيارة التي تحمل اسمه والتي يرى أن من يقودها فهو حقيقة لا يركب سيارة بل يركب الريح نفسها!

إن سيارات فيراري مع حضورها المحفز لكل هرمونات الإثارة في مشاهد التدريب والسباق هي شخصية أساسية من شخصيات الفيلم، ليس لأنها محور الصراع والتنافس الهائل بين مازيراتي وفيراري من أجل الاستحواذ على السوق، بل لأنها طرف فاعل ومفعول به في نفس الوقت، فهي قاتلة السائقين وهي شبيهة الريح التي يعتمد عليها صانعها في أن تحقق له، عبر اجتيازها سباق الألف ميل الذي يمر بوسط روما، المكانة التي يرى أنه يستحقها كصانع متفرد ورابح في الأول والأخير.

 ثم هناك السباقات، وليس أجمل من أن يصل بنا مايكل مان، إلى أن نشعر أن السيارات تضخ دماً في محركاتها بينما تعمل شرايين السائقين بالزيت المشتعل، كيف تمر السيارة في جزء من الثانية بالكادر فكأن قلبها الملتهب بالسرعة يرج قاعة العرض، لا عبر الصوت بل عبر اختيار توقيت المرور بشكل دقيق وفي لحظات ملهمة.

استخدام الصمت

وفي فيلم ينشغل شريط الصوت بأصوات المحركات الهادرة وتشتعل الشاشة باحتكاك العجلات بالأسفلت، يصبح الصمت وسيلة هامة لتتبع وصول ناقل الحركة الدرامي من وضع الثبات إلى أقصى سرعة، تبلغ سرعة الفيراري في السباقات 250 كيلومتراً في الساعة، لدينا سيناريو يبدأ بمشهد لرجل ينهض بخفة من جانب امرأة كي لا يوقظها هي والصغير الذي ينام مطمئناً في معيتهما الدافئة، نراه يتسلل دافعاً سيارته خارج المنزل لكي لا يوقظ صوت محركها أحلامهم.

مشهد به من الصمت والسكون ما قد يجعله لا يعلق في ذاكرة المتفرج بالمقارنة لمشاهد التدريب والسباق، ولكنه في الحقيقة مشهد مفتاحي يمكن أن نتوقف أمام أي لحظة في الفيلم ونعود إليه لنجده يختصر كامل رحلة البطل والسيارة والسباق، بل والحقبة كلها في تلك الفترة.

رجل وحيد بكامل وعيه وإرادته وبروح عطوفه وشعور بالمسؤولية، رجل أسرة من طراز رفيع، يدفع سيارة، هو صانعها ومالكها، ليجعل منها الرقم الأول في مجال الاستثمار، إذ تختصر علاقته بها، في هذا المشهد، تاريخ حقبة ما بعد الحرب كلها من الناحية المادية والتجارية والاستثمارية على حد سواء.

يحتاج إينزو فيراري، إلى أن تجتاز سياراته الخمس خط نهاية سباق الألف ميل، كي يتمكن من أن يضع يد عملاق السيارات "فورد" على عجلة قيادة فيراري.

التسرب من الأسرة

هذه الأسرة التي يتسرب الرجل من بينها بخفة دون إزعاج أشبه بانعكاس لأسرة كان يملكها ولم تعد، فمنذ فقد ابنه تحولت علاقته مع زوجته لورا إلى ما يشبه شريكة العمل، حتى أن رغبتها في أن تبيع حصتها بالشركة تفور في رحمها المغدور، بعد أن تعلم أن لديه عشيقة، وابن بديل عن ابنها الراحل.

هنا أيضاً يلعب الصمت دوراً في تأطير علاقة الزوجة (الأم الثكلى) بالزوج والابن الراحل، فلورا تذهب إلى القبر بمفردها، رغم أنها تمر من جانب زوجها المغادر، فلا تتحدث مع العشب الراقد فوق الشاهد البارد بل تنظر إلى القبر فقط، كأنها بهذا الصمت تستدعي الابن في حضرتها، أو كأن الصمت هو ما اتفقت عليه مع القبر كي يشف رخامه، فيسمح لها أن تلقي نظرة على الجسد الشاب النائم في موت كئيب.

ولا تغيب عن الشاشة "كمياء هائلة التفاعل" بين آدم درايفير وبينيلوبي كروز (الزوجين فيراري)، ولو أن بينيلوبي كروز رشحت لأي جائزة عن هذا الفيلم فسوف تكون مشاهدها الصامتة أمام قبر الابن الراحل هي التي ستحضر لها الجوائز، وليس مشاهد ثورتها على فيراري وإطلاقها الرصاص من حوله بعد أن ينكشف لها ستار السر المكون من 12 عاماً من الخيانة وطفل.

أخيراً تجدر الإشارة إلى أنه يمكن اعتبار Ferrari فيلم تنافسي من الدرجة الأولى داخل مسابقة تضم أكثر من كتف إبداعي عال وأنيق، تكفي أسماء مثل يورجوس لانثيموس، وصوفيا كوبولا، ولوي باسو، وميشيل فرانكو، وستيفن برايز، لأن ندرك حجم شراسة المنافسات على الأسد الذهبي هذا العام، ولكنها شراسة محمودة سوف تجعل من الدورة الثمانين للمهرجان الدولي الأقدم، دورة احتفالية وغير منسية بحق، لا عبر السجاجيد الحمراء والحفلات الملونة، ولكن عبر ما يعطي الروح لأي مهرجان بالعالم، عين السينما وضوء الأفلام

*ناقد فني

 

الشرق نيوز السعودية في

03.09.2023

 
 
 
 
 

"كوماندانتي" يفتتح "موسترا الـ80":

الإنسانية تعلو والسينما تحضر

فينيسيا/ محمد هاشم عبد السلام

افتتح "مهرجان فينيسيا السينمائي (موسترا)" (30 أغسطس/آب ـ 9 سبتمبر/أيلول 2023) دورته الـ80، في قاعته التاريخية الكبرى، "صالة غراندي"، بفيلم "كوماندانتي"، للإيطالي إدواردو دي أنجيليس، المشارك في "المسابقة الرئيسية" مع 5 أفلام إيطالية أخرى. لم يكن الفيلم مختاراً للافتتاح أساساً. في هذا، بعض الرجاحة، إذْ اعتاد المهرجان افتتاح فعالياته بفيلمٍ من خارج المُسابقة، أميركي ذي إنتاج هوليوودي عادة، يتّسم بعوامل جذب وتشويق وإثارة، لإرضاء مختلف الأذواق، ولا يخلو طبعاً من نجوم ونجمات.

جرى التخطيط لهذا فعلياً. لكنّ إضرابات هوليوود، وقرار شركة الإنتاج والتوزيع الأميركية تأجيل عرض الفيلم المختار سلفاً، "المتحدّون"، للإيطالي لوكا غوادانينو، إلى الصيف المقبل، أجبرت المهرجان على استبداله بالفيلم الإيطالي، رغم عدم اهتمام المهرجان، منذ سنوات بعيدة، بفيلم افتتاح إيطالي. هذا العام، شَذّ عن القاعدة، لأمرٍ غير مفهوم، لا سيّما أنّ "كوماندانتي" ينافس أفلاماً أخرى في المسابقة. فلماذا اختياره من دون غيره من الأفلام الـ23؟ لماذا اختياره، لا اختيار سواه من الأفلام الإيطالية الأخرى؟ لماذا لم يختر ألبيرتو باربيرا، المدير الفني، فيلماً من خارج المسابقة، كـ"القصر" لرومان بولانسكي مثلاً، أو "ضربة حظ" لوودي آلن، أو غيرهما؟

عقب انتهاء عرض "كوماندانتي"، اتّضحت، ولو قليلاً، وجهة النظر المُتعلّقة باختياره، إذْ يُمكن اعتباره، رغم سياقه التاريخي، رسالة إيطالية صريحة وواضحة من المهرجان، تؤكّد رفض الحروب والصراعات المسلّحة، عامة؛ وتأييد القيم الإنسانية، والإعلاء من شأنها، والقول إنّ حياة البشر وأرواحهم ومصائرهم يجب أنْ تسبق أي شيء، بغضّ النظر عن الظروف، حتّى في الحروب. باختصار، هذا يؤكّده السياق. وللقول أيضاً إنّ الإيطاليين كانوا هكذا، وسيكونون هكذا دائماً، مع الأعداء ومع غيرهم، في الحرب والسلم. رسالة تُعلي من شأن البحرية الإيطالية والدولة، والتوجّه الإيطالي عامة، وإنْ حملت مبالغةً، وشوفينية ربما، فالتاريخ والواقع غير بعيدين.

لا يمكن التعامل مع "كوماندانتي" كفيلم تاريخي، فالأفضل تناوله كفيلم حرب ينتمي إلى أفلام البحرية. إجمالاً، يطرح بدلالاته المعاصرة القصّة الحقيقية للقائد والبطل الإيطالي الدونكيشوتي سلفاتوري تودارو (بيارفرانشيسكو فافينو)، مُنقذ حياة بحّارة أعداء، نجوا من غرق سفينتهم التجارية، ما عرَّض سلامة غواصته ورجالها لخطر مميت. رؤية سلفاتوري كامنةٌ في أنّه، حتّى في ظلّ محاربة العدو، يجب عدم نسيان أنّ العدو بشر، يمكن، بل يجب محاربتهم وهزيمتهم، لكنْ أيضاً إنقاذهم والحفاظ على حياتهم، ما دام هذا مُمكناً. مقارنة بما نحياه الآن، هل تُعتبر هذه الرؤية مثالية أو طوباوية؟

تدور أحداث "كوماندانتي" (كتابة ساندرو فيرونيسي ودي أنجيليس، استناداً إلى واقعة حقيقية في تاريخ البحرية الإيطالية والعالمية) في بداية الحرب العالمية الثانية. لكنْ، قبل انتقال الأحداث إلى الغواصة البحرية الملكية الإيطالية، "كوماندانتي كابيليني"، هناك لقطات "فلاش باك" لسلفاتوري يغرق في المياه، بطريقة غامضة، في دلالة على موت وشيك، ربما. ثم علاقته بزوجته، وإصابة غامضة في عموده الفقري كادت تُقعِده. ورغم السماح له بترك الوظيفة، والحصول على راتبٍ تقاعدي، يتحدّى مشاكله وإصابته، وتُسند إليه قيادة الغواصة، بعد دخول إيطاليا الحرب. المشاهد الافتتاحية، التي تشبه الحلم، غامضة ولا تُفسّر الكثير. لكنْ، لاحقاً، مع النهاية، تتضح الأمور كثيراً.

أساساً، يُركّز الفيلم على شخصية سلفاتوري، القائد الكاريزماتي المُسيطر، وتعامله الحازم والإنساني مع غواصته وطاقمها، منذ انطلاقها، أواخر سبتمبر/أيلول 1940. تجلى هذا، تحديداً، عندما تعطّلت الغواصة لسببٍ تعذّر إصلاحه، وكادت تغرق؛ كما تعرّضت لإطلاق نار كثيف من الطيران البريطاني، قرب المحيط الأطلسي (جبل طارق تحديداً)، حيث كانت تُبحر. بعد منتصفه تقريباً، في ليلةٍ مظلمة في أكتوبر/تشرين الأول (الغواصة تطفو على السطح ليلاً وتغوص نهاراً)، تُصادف سفينة تجارية مسلّحة مُبحرة على مقربةٍ، وأضواؤها مُطفأة. حاول سلفاتوري التحقّق من هويتها، لكنّ الوقت لم يسعفه، إذْ بدأت إطلاق النار على غواصته، وأصابت جندياً، فأعطى سلفاتوري أوامر بإطلاق المدفعية، وإغراق السفينة.

لاحقاً، يفاجأ الجميع بثلاثة أفراد يصارعون الأمواج، يتَضح لاحقاً أنّهم "أكثر من هذا"، وأنّ هناك قاربين فيهما 26 بحاراً. بصراحة ووضوح، يخبر سلفاتوري أنه ليس ممكناً، ولا مكان لديه، لإيوائهم. يمنحهم طعاماً، ويتركهم. لكنّه يعود لاحقاً ليقطر القاربين، لوقتٍ قليل. غير أنّ قوّة الأمواج والرياح تُحطّمهما. حينها، يتّخذ سلفاتوري قراراً إنسانياً، يُسجِّله التاريخ له: يأمر رجاله بإنقاذ البحّارة البلجيكيين، الذين كانوا سيقضون غرقاً في قاع المحيط، ثمّ، يُنزلهم بعد 3 أيام في أقرب ميناء بحري آمن، كالمنصوص عليه في القانون البحري. ولأنّ الأمر ليس سهلاً، يُفسح سلفاتوري مجالاً لهم في غواصته، بل يُضطرّ للإبحار على سطح الماء لـ3 أيام، أمام العدو، مُعرّضاً حياته وحياة رجاله لخطر البحرية البريطانية، أساساً.

في الغواصة، يُبرز إدواردو دي أنجيليس شخصية سلفاتوري، ويُعظّم قدراته القيادية في السيطرة على طاقمه الساخط، وعلى بعض البحّارة البلجيكيين، فمنهم من يتعامل مع الإيطاليين كفاشيين، وبعض آخر يحاول تخريب الغواصة عمداً. يتجاوز سلفاتوري الأمر بشخصيّته الحازمة. ورغم ضيق المساحة، ونفاد الطعام تقريباً، واضطراره إلى المخاطرة وطلب إذن السفن الإنكليزية بالسماح له بالمرور من دون إطلاق النار على غواصته، لأنّ فيها بلجيكيين (كانت بلجيكا على الحياد، ولم تدخل الحرب بعد)، ينجح سلفاتوري ببلوغ أقرب يابسة: جزر الـ"آتزور".

تمحورت الأحداث، وغالبية كادرات الفيلم، حول شخصية سلفاتوري، أو النجم بيارفرانشيسكو فافينو الذي، رغم موهبته الفذّة، طغت الشخصية عليه وعلى أدائه، غالباً. فكانت الشخصية تحمله وتقوده، لا العكس. أمّا دي أنجيليس فوظّف معظم طاقته وقدراته في إخراج فيلمٍ بإتقان وإقناع كبيرين، لا سيما أنّ أغلب أحداثه تدور في مكان مغلق، ونجح في هذا، ولو قليلاً. هناك لقطات جميلة فعلاً، بل رائعة، في الغواصة، خاصة بعد اكتظاظها بالإيطاليين والبلجيكيين. اللون البني الداكن أضفى جمالية وسحراً على لقطات عدّة. ولقطات الافتتاح، الأشبه بالحلم، وغموضها، على قدرٍ من الفنيّة والجمال أيضاً.

إجمالا، يوصف "كوماندانتي" بالجيّد، بصرياً تحديداً، وإنْ كانت المشاهد الخاصة بتعليم البلجيكيين للإيطاليين طريقة طبخ البطاطا المحمّرة، التي لم يسمع بها الإيطاليون قبلاً، طريفة، لكنّها بدت مقحمة ومفتعلة ومباشرة، لا سيما أنّهم يشرعون في الغناء والرقص معاً، بعد التهام البطاطا.

 

####

 

سابقة في مهرجان فينيسيا... عرض فيلم بتوقيع إسرائيلي إيراني

(فرانس برس)

شهد مهرجان فينيسيا السينمائي المقام حالياً بدورته الثمانين، سابقة عالمية مع عرض فيلم "تاتامي"، وهو ثمرة تعاون غير مسبوق بين سينمائيَّين متحدّرَين من بلدين عدوّين، هما إيران وإسرائيل.

يروي الفيلم، الذي عُرض في فئة آفاق الموازية، قصة لاعبة جودو إيرانية تُدعى ليلى ومدّربتها مريم اللتَين ترفضان خلال بطولة العالم في جورجيا الامتثال لطلب حكومتهما الانسحاب من البطولة تفادياً لمواجهة لاعبة إسرائيلية.

وقالت زار أمير (42 عاماً)، واسمها الحقيقي زهرا أمير ابراهيمي، المشاركة في إخراج العمل الذي تلعب فيه أيضاً دور مريم، لوكالة فرانس برس: "تعلّمت في المدرسة أن إسرائيل غير موجودة".

وأضافت: "لذلك، لا يُسمح لنا بالعمل معاً أو الالتقاء أو نسج صداقة أو منافسة هذا العدو الوهمي".

تعيش زار أمير، المولودة في طهران، في المنفى في فرنسا، لذلك فهي "حرّة في اختيار هذه المواضيع" التي تتحمل "مسؤولية" سردها، وفق قولها.

وتابعت: "سيحمل الفيلم أيضاً بعداً سياسياً لكن هذه ليست مشكلتي".

وفازت زار أمير بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان السينمائي في العام 2022 عن دورها كصحافية مشاكسة في فيلم التشويق "عنكبوت مقدّسة" حول قاتل متسلسل لعاملات الجنس في مدينة مشهد الإيرانية.

وقالت أيضًا "في إيران، لا يمكن للسينمائيين قول الحقيقة فعلياً، يمكنهم معالجة (هذه المواضيع) لكنها ستُظهر دائمًا نصف الحقيقة".

وسبق أن احتجزت طهران مخرجين اتّهمتهم بالدعاية ضد النظام مثل جعفر بناهي ومحمد رسول آف.

وحُكم على المخرج سعيد روستايي ومنتج فيلمه "إخوة ليلى" بالسجن ستة أشهر لعرض الفيلم (الممنوع عرضه في إيران) في مهرجان كان السينمائي في العام 2022 "من دون إذن". وندّد هذا الأخير بـ"اعتداء خطير على حرية التعبير للفنانين والسينمائيين والمنتجين والفنيين الإيرانيين".

لا يترّد السينمائي الإسرائيلي المشارك في إخراج فيلم "تاتامي"، غاي ناتيف، مخرج فيلمَي "سكين" (2018) و"غولدا" (2023) الذي تؤدي فيه الممثلة هيلين ميرين دور رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مئير، في المقارنة بين إيران وإسرائيل.

وقال لوكالة فرانس برس، جالساً إلى جانب زار أمير على مقربة من قصر السينما في جزيرة الليدو: "يحصل ما يمكن وصفه بالثورة في إسرائيل وإيران. في إسرائيل، الثورة ضدّ ما يفعله بنيامين نتنياهو بحقّ الديمقراطية".

وأضاف: "نحن بلدان متشابهان بعض الشيء ويعيشان العملية نفسها بطريقة ما".

من جهتها، قالت الممثلة الإيرانية إلى جانبه إنها "مغمورة بالأمل والإيجابية" حيال الحركة الاحتجاجية التي بدأت قبل عام بعد وفاة الشابة مهسا أميني (22 عاماً) بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق في طهران لعدم امتثالها لقواعد اللبس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

وأضافت: "أعتقد أن النساء يعملن على تغيير الوضع وأن العودة إلى الوراء غير ممكنة. تأثرتُ بشجاعتهنّ، خصوصًا شجاعة الأجيال الشابة".

وتابعت: "إنها ثورة مستمرة (...) أحبّ فكرة أن باستطاعنا أخيراً اختيار ما سنرتدي وكيف سنتصرّف".

وقالت أيضاً: "الرجال باتوا يدعمون النساء، وهذا جديد".

ووُزّع فيلم "تاتامي"، الذي سيُعرض في العام 2024، في دول أوروبية عدة.

وأشار المخرج غاي ناتيف إلى أن الفيلم أثار ردوداً كثيرة في إسرائيل لأن "الناس ترى هذا التعاون فعلاً ثورياً". وتابع: "آمل أن يمهد ذلك الطريق لتعاون آخر بين الإسرائيليين والإيرانيين في مجالات أخرى مثل الموسيقى".

 

####

 

مهرجان البندقية يستعد لفيلم وودي آلن بعد فيلم بولانسكي المثير للجدل

(فرانس برس)

بعد الانتقادات اللاذعة لفيلم "ذا بالاس" للمخرج المثير للجدل رومان بولانسكي، يسلّط مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، الاثنين، الضوء على وودي آلن الذي يواجه مقاطعة شبه كاملة بين العاملين في هوليوود، بسبب اتهامات ينفيها بالاعتداء الجنسي على ابنته بالتبني.

على عكس بولانسكي الذي يعيش في أوروبا بمأمن من القضاء الأميركي، الذي يلاحقه منذ أكثر من 40 عاماً بعدما أدانه بتهمة الاغتصاب، لا تلاحق أي محكمة وودي آلن (87 عامًا)، بعد اتهامات وُجّهت إليه بالاعتداء جنسياً على ابنته بالتبنّي ديلان فارو، وهو الأمر الذي ينفيه ولم ينجح أيّ تحقيق في جلاء حقيقته.

يعيش مخرج فيلمَي "آني هال" و"ماتش بوينت"، وهو سيد الفكاهة والسخرية الاجتماعية، منذ سنوات، على هامش الفنّ السابع، ولم يعد تقريباً يصنع أي أفلام في الولايات المتحدة، وأصبح بالنسبة للبعض أحد رموز الإفلات من العقاب في ما يتعلق بالعنف الجنسي.

وأثارت دعوته للمشاركة في مهرجان فينيسيا، حيث مرّ على السجادة الحمراء قبل أن يقدّم فيلمه الفرنسي "كو دو شانس" غير المشارك في المنافسة، انقساماً في الآراء.

فالبعض يرى في ذلك رمزاً لإفلات الفنّانين من العقاب، فيما يدعو آخرون إلى اتّباع مبدأ قرينة البراءة أو إلى عدم المزج بين الإبداعات الفنية وسلوك أصحابها، كما يرى مدير المهرجان ألبرتو باربيرا.

ففي تصريح لوكالة فرانس برس، دعا باربيرا إلى "التمييز بين الإنسان والفنان" في مقاربة هذه المسألة.

على الصعيد السينمائي، هل سيتمكّن فيلم "كو دو شانس" من إنقاذ سمعة مخرج يفتقر إلى الإلهام منذ سنوات، أو يمثّل انطلاقة إبداعية له؟

وصوّر آلن فيلمه الخمسين في باريس مع ممثلين فرنسيين، أبرزهم لو دو لاج وملفيل بوبو ونيلس شنيدر وفاليري لوميرسييه. ويقدّم الفيلم نفسه على أنه فيلم تشويق ممزوج بالهزلية الخفيفة. وتدور أحداثه حول علاقة خارج إطار الزواج في أحد الأحياء الباريسية الراقية، وسيُعرض في دور السينما الفرنسية اعتباراً من 27 سبتمبر/ أيلول.

على صعيد المنافسة للفوز بالأسد الذهبي، تُعدّ هذه النسخة الثمانون من مهرجان فينيسيا، التي تستمر بغياب معظم أبطال الأفلام المشاركة بسبب الإضراب التاريخي للممثلين وكتّاب السيناريو في هوليوود، متنوّعة جداً.

ومن بين الأفلام التي لقيت إعجاب النقاد العالميين بحلول منتصف الدورة الحالية من الموسترا، فيلم الخيال "بور ثينغز" من بطولة الممثلة الأميركية إيما ستون ومن إخراج اليوناني يورغوس لانثيموس، صاحب فيلمَي "ذي لوبستر" و"ذي فيفوريت".

ولفت أيضاً فيلما "فيراري"، من بطولة آدم درايفر وإخراج الأميركي مايكل مان، و"ذا بيست" للمخرج برتران بونليو ومن بطولة ليا سيدو، النقّاد.

ستشاهد، الاثنين، لجنة التحكيم التي يرأسها المخرج داميان شازيل (مخرج فيلمَي "لا لا لاند" و"بابيلون") والتي تضمّ مخرجين وممثلين بينهم المخرجة النيوزيلندية جين كامبيون والممثل الفلسطيني صالح بكري، فيلمين طال انتظارهما.

الفيلم الأول بعنوان "بريسيلا"، الذي أخرجته صوفيا كوبولا، وهو سيرة ذاتية لزوجة المغنّي إلفيس بريسلي، والفيلم الثاني هو فيلم "إيفل داز نات اكزيست" للمخرج الياباني ريوسوكي هاماغوتشي، صاحب فيلم "درايف ماي كار" الذي فاز بجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي العام 2022.

وبالنسبة للأفلام الفرنسية، سيعرض مهرجان البندقية الفيلم المشارك في المنافسة "أور-سيزون" للمخرج ستيفان بريزيه، والفيلم غير المشارك في المنافسة "Daaaaaali!" ("دالي") للمخرج كانتان دوبيو.

 

العربي الجديد اللندنية في

04.09.2023

 
 
 
 
 

خاص "هي" رسالة مهرجان فينيسيا 2023 ـ

فيلم "Poor Things" المرأة التي عاشت مرتين

أندرو محسن

كل فيلم جديد للمخرج يورغوس لانثيموس هو حدث يستحق الانتظار، المخرج اليوناني الذي يميل إلى يصنع عوالم خاصة من الواقعية السحرية، بينها ما يخلقه بالكامل، مثلما قدم في "The Lobster" (سرطان البحر) (2015)، أو ما يستوحيه من أساطير قديمة مثل "Killing of a Sacred Deer" (قتل الغزال المقدس) (2017)، وفي فيلمه الأحدث "Poor Things" (أمور بائسة) يقدم معالجة لرواية بنفس الاسم للكاتب ألاسدير غراي. كتب سيناريو الفيلم توني مكنامارا، والذي يعيد التعاون مع لانثيموس بعد فيلمهما الناجح "The Favourite" (المفضلة).

فرانكنشتاين من جديد

يذكرنا الفيلم في بعض مواضعه براوية ماري شيلي الخالدة "فرانكنشتاين"، فلدينا عالِم تشريح غريب الأطوار وغريب التجارب أيضًا "غودوين باكستر" (ولم دافو) يقدم على تجربة لزرع مخ طفلة في جسم إنسانة بالغة أقدمت على الإنتحار، يُطلق عليها بلّا (إما ستون)، ليشاهد كيف تكون النتيجة، وبينما تبدو بلّا امرأة -جسمانيًا- جميلة ورقيقة فإن تصرفاتها هي تصرفات طفلة تكتشف الحياة تدريجيًا من خلال عدة أمور أبرزها العلاقة الحميمة.

قدمت "فرانكنشتاين" نظرة قاتمة على التطور العلمي والثورة الصناعية في وقت كتابة الرواية، مشيرة إلى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان في طموحه وتجاربه، ولا يختلف الدافع الرئيسي لغودوين عن فرانكنشتاين كثيرًا، ولكن مسار الوحش الذي نتج عن تجربة الأخير بالتأكيد يختلف عن الحياة الجديدة التي عاشتها بلًا. تجدر الإشارة إلى أن ملامح وجه غودوين في الفيلم تشبه تلك التي اعتدنا مشاهدتها لوحش فرانكنشتاين في الأفلام القديمة في مفارقة لطيفة، ويقدم لنا لانثيموس هذا العالِم بشكل معقد، ليجعل مشاعرنا غير محددة نحوه، فمن ناحية هو من ألقى بهذه الإنسانة التَعسة في تجربة مخيفة لا يعلم أحد تبعاتها، ولكنه لاحقًا يشعر بالأبوة نحوها، ويتركها تستكشف العالم حتى ولو ابتعدت عنه. ربما تكون هذه الشخصية هي الأقرب إلى شكل الشخصيات التي يفضل لانثيموس تقديمها.

لا نتحدث هنا عن تجربة علمية خارقة فقط، بل عالَم كامل يختلف عن عالمنا، ويشبهه في الآن ذاته، كما يحدث عادة في الأعمال التي تنتمي للواقعية السحرية. حتى تتعرف بلّا على العالم، وعلى نفسها أيضًا يصطحبها المحامي دنكان (مارك روفالو) في رحلة طويلة للكثير من البلدان، لشبونة والإسكندرية وباريس، ومع كل مدينة جديدة تزورها، تتحول حياتها تدريجيًا وتصبح أكثر نضجًا من جهة، وأكثر حساسية من جهة أخرى. المميز هنا هو أن هذه المدن نظريًا هي المدن التي نعرفها، لكن الفيلم يضيف لمسات مختلفة من الديكورات والألوان لكل منها لتبدو كأنما تقع في عالم موازي.

بنجامين بوتن من جديد

بطبيعة الحال يستدعي الفيلم أيضًا فيلم "The Curious Case of Benjamin Button" (الحالة الغريبة لبنجامين بوتن) من إخراج ديفد فينشر (2008)، والمأخوذ عن قصة قصيرة لفرانسيس سكوت فيتزجيرالد. بطل فيلم فينشر وُلد بملامح رجل عجوز، ولكن بعقل يماثل سنه الطبيعي، وكلما تقدم به العمر،  ازداد شبابًا شكلًا. تأتي بلّا في صورة الطفلة (عقليًا) والمرأة الناضجة شكليًا، مما يجعلها مطمعًا لعدد من الرجال حولها. بينما كانت أزمة بنجامين بوتن هي الزمن بشكل أساسي، نرى أن بطلة فيلم "Poor Things" تجيد التكيف مع الزمن بل وتتكيف معه لتكتسب نضجًا في شخصيتها يتماثل مع عمرها الجسدي. غالبًا ما كانت العلاقة الحميمة هي الوسيلة الأبرز لديها للتعرف على البشر بشكل أكبر واكتساب النضج أيضًا، ويستخدم لانثيموس اتلك المشاهد في الفيلم بطريقة شديدة الذكاء وغارقة في الكوميديا أيضًا بشكل ربما يندر أن نشاهده في مشاهد مماثلة، وهذا إنما يضيف للطابع الغرائبي للفيلم.

لكن بوتن كان يحيا حياته ويحاول أن يصل لتوافق مع طبيعته الخاصة، بينما نجد بلّا توافق على أن تحيا حياة جديدة مختلفة تمامًا عن حياتها الأولى، وهنا نجد أن لانثيموس يضعنا مجددًا أمام تساؤل عجيب، هل حياة واحدة تكفي؟ هل يجب أن يحصل الإنسان على فرصة ثانية؟ وهل تتاح لكل شخص هذه الفرصة الجديدة؟

مما تميز فيه سيناريو هذا الفيلم، هو أنه لا يطرح هذه الأسئلة الفلسفية فقط، بل يمنحنا أكثر من نموذج للإجابة، لا يحدد شعورًا واحدًا أو يفرض فكرة واحدة، بل الكثير من الأفكار التي تنساب بسلاسة أمام المُشاهد مع كل شخصية جديدة تظهر ومع كل فصل جديد من الفيلم، وبهذا يستمر المخرج اليوناني في صناع عوالمه الخاصة بإجادة بالغة، ويضيف إليها هذا العالم الملون وهذه الأداءات المميزة جدًا خلال هذا الفيلم.

 

مجلة هي السعودية في

04.09.2023

 
 
 
 
 

«الموسترا» عامرة في يومها الخامس:

لانثيموس يُحيي غرائزنا... وبينـوشيه يحلّق فوق تشيلي

شفيق طبارة

البندقيةبعد خمسة أيام في «البندقية»، بات واضحاً أن عميد المهرجانات السينمائية مختلف تماماً هذه السنة عن الدورات السابقة بسبب إضراب الممثلين والكتّاب في هوليوود. لم يكن «بينالي البندقية» فارغاً من النجوم كما هي عليه دورته الثمانون. السجادة الحمراء تسأل عن نجومها الأميركيين الذين كانوا يغطّون كل شبر منها في السنوات السابقة. على الرغم من أنّ المدير الفني ألبرتو باربيرا لم يبد قلقاً من غياب النجوم، إلا أنه يمكن إلا أن نلاحظ الفرق الذي يصنعه غياب الممثلين والمخرجين الأميركيين. بالعودة إلى عروض الشاشة الكبيرة، لا تزال «الموسترا» تقدّم العديد من التحف بتوقيع كبار المخرجين. حتى لحظة كتابة هذه السطور، لا يزال فيلم اليوناني يورغوس لانثيموس يتربّع على عرش المسابقة الرسمية كأفضل فيلم تمت مشاهدته (لم نشاهد بعد فيلمي ديفيد فينشر، وريوسوكي هاماغوتشي، حتى فيلم براندي كوبر «مايسترو» لم يكن على قدر التوقعات، لكن هذا حديث آخر نعود إليه لاحقاً). خلال العرض الخاص بالصحافيين والعاملين في السينما، رجّت الصالة من كثرة التصفيق والصيحات عند انتهاء فيلم لانثيموس، وهذا نادراً ما يحدث. من جهته، قدّم بابلو لارين هجاءه الجديد، وكذلك فعل لوك بوسون وكلابه. خارج المسابقة، عاد رومان بولانسكي وملأ الصالة في عرض التاسعة والنصف ليلاً

يورغوس لانثيموس: الجنس كما لم تروه من قبل

يصمّم المخرج اليوناني يورغوس لانثيموس عالماً سوريالياً غير متوازن، مدنه تقع دوماً بين الزمن المستقبلي والماضي، فيسجننا فيها وفي كابوسه، ويخلق قصة تطاردنا، تقطع سعادتنا اليومية ووجودنا. هو الذي يقول دوماً: «لا أعرف ماذا أفعل». كرّرها هذه السنة في مؤتمره الصحافي، لكنه يعرف جيداً كيف يعبث بنا وبأفكارنا وعقولنا وبمبادئنا. فيلمه الجديد المشارك في المسابقة الرسمية في «مهرجان البندقية» عبارة عن انغماس جديد لا مفر منه في عوالم لانثيموس. في «أشياء مسكينة» (Poor Things)، بنى لانثيموس عالماً غريباً من صفحات الأدب القوطي الفيكتوري ليتلاءم مع القصة التي قدمها، ومع واقع وحقيقة مجتمعاتنا المعاصرة. كلمة «الاكتشاف» هي التي تحرك فيلمه الجديد.

يفعل ذلك في العديد من الاتجاهات، فيجمّل ويشوّه كل شيء حتى حواس مشاهديه. يتم العثور على جثّة بيلا باكستر (إيما ستون في أداء استثنائي لم نعهده منها سابقاً) وهي حامل على يد الدكتور غودوين باكستر (ويليان دافو) الملقّب بالله. بعدما انتحرت بالقفر في البحر، أعادها الدكتور إلى الحياة عن طريق زرع دماغ طفلتها فيها. عمرها الجسدي والعقلي لا يتطابقان، فهي مسجونة في جسد شخص بالغ. يطلب الدكتور من مساعده الشاب ماكس ماكاندل (رامي يوسف) تدوين كل التقدم الذي تحرزه بيلا، خطوة بخطوة وبأدق التفاصيل. من خلال انفتاح بيلا على عالم جديد والتعرف إلى المحامي دنكن وديربيرن (مارك روفالو)، تقرر الذهاب في مغامرة لاكتشاف العالم ونفسها وتعلّم كل ما تجهله. تبحر بيلا من لندن إلى لشبونة فالإسكندرية فباريس، وهذه المغامرة هي نقطة تحوّل الفيلم وتحول الفتاة نفسها. تبدأ بيلا بتعلم جميع مبادئ الحياة، وتقاليد المجتمع الفيكتوري الصارمة والمزيّفة، وتُبطلها كلها، وتبدأ بفهم حياتها وتفهم علاقتها بالرجال وأفعالهم. ستكتشف الأدب والفلسفة، ولكن قبل أي شيء، حياتها الجنسية. «أشياء مسكينة» مقتبس عن رواية تحمل نفس الاسم للروائي الاسكتلندي ألسيدر غراي، صادرة عام 1992. لكن الأشياء المسكينة حقّاً هي نحن البشر، وخصوصاً الذكور الغارقين بشكل بائس في تقرير مصير بيلا باكستر. في أطروحته الجديدة حتى الجنون، يجعل لانثيموس من تمكين المرأة عالمَه، معيداً إحياء فرانكشتاين ليهديه للمرأة. لانثيموس لا يمزح ولا يهادن، يطلق النار علينا من دون إخفاء يده. جديده هو اعتداء أيديولوجي وعملي على البشرية وعلى النظام الأبوي، الذي سخر منه بلا رحمة. ويفعل ذلك بسخرية لاذعة، ويجعلنا نتأملها ونحفرها في عقلنا بينما يؤلمنا ونحن نضحك حتى البكاء.

ثقافة الموت هي التي شكّلت بيلا باكستر. لقد نشأت في منزل حيث تشريح الجثث شيء أكثر من طبيعي، فتعرف كيف تتعامل مع الجسد واللحم والدم. وكذلك لانثيموس الذي عودنا في أفلامه السابقة مثل «جراد البحر» (2015)، و«قتل الغزال المقدس» (2017) و«ناب الكلب» (2009)، على كيفية الرجوع إلى غرائزنا البدائية. اليوم يفعلها بوضوح أكثر في إنكلترا الفيكتورية، التي تتسم بالزيف والنفاق الاجتماعي بقدر ما هي باروكية. لانثيموس لا يخشى التحدث بصراحة عن الجنس، وعرض الجسد وجعل الأعضاء التناسلية عمود فيلمه. نعم، «أشياء مسكينة» هو فيلم جنسي بشكل بارز، لقد مرّ وقت طويل منذ أن تجرأت السينما، على فعل هذا الأمر بهذه الطريقة المباشرة والمبهجة.

المخرج اليوناني لا يضحي بشيء من أجل فنه، واليوم يقدم أحد أكثر أفلامه إقناعاً ووضوحاً. لا تزال المصفوفة اللانثيموسية موجودة، بين زوايا الكاميرا الواسعة والتشوهات الصورية والسخرية الحادة والذوق المروّع، والحوارات غير المحتملة، لكن المليئة بالصدق. وفوق كل هذا، تعود الموسيقى في أفلامه وتوظَف كمحوِّل للسرد وتطلب منا إعادة النظر في ما نشاهده. «أشياء مسكينة»، أو نحن المساكين، عمل يجعل غرائزنا الحيوانية شيئاً رائعاً، يعيد تثقيفنا، يعلّمنا معنى الحياة من خلال جسد امرأة بالغة في عقل طفلة تكتشف الحياة من دون حواجز. لانثيوس قدم حكاية قوطية دقيقة ومفصّلة بقدر ما هي مبهرة. أسطورة يجب أن تبقى لتتوارثها الأجيال.

 «الحب والفنّ» لم ينقذا لوك بوسون

حظي الفرنسي لوك بوسون بشعبية كبيرة في التسعينيات مع أفلام مثل «ليون» (1994) و«العنصر الخامس» (1997) وحتى آخر أعماله «فالاريان ومدينة الألف كوكب» (2017). منذ ذلك الحين، واجه تهم الاغتصاب من قبل الممثلة ساند فان روي، قبل تبرئته من جميع التهم قبل حوالي شهر. «دوغمان» هو عودته إلى السينما من بوّابة «الموسترا». هي عودة مقصودة، فيها الكثير من التلميحات عن الظلم الذي لحق به. لبوسون قدرة على التفكير خارج الصندوق دائماً. يتحدى هوليوود في عقر دارها وينجح أحياناً. فيلمه الجديد «دوغمان» يعكس بشكل مثالي شاعرية بوسون وفكره السينمائي الصافي، ولكنه فيلم محفوف بالمخاطر، فيه الكثير من العظمة البوسونية والجماليات السردية، بقدر ما فيه من الأخطاء المتراكمة والطرح الفقير نوعاً ما.

يحكي «دوغمان» قصة الشاب دوغلاس (كاليب لاندري جونز في أداء كان أعظم ما في الفيلم)، الذي يلجأ إلى الكلاب ويعيش بينها. كان دوغلاس فتى صغيراً حين تعرّض لمعاملة سيئة من قبل والده وشقيقه، ولاحقاً أصبح «دراغ كوين»، يعيش مع عشرات الكلاب ويعلّمها السرقة وهي بدورها تفهم عليه كل شيء. دوغلاس هو بطل مضاد يسرق من الغني ويحمي مَن يلجأ إليه بمساعدة كلابه. في بداية الفيلم، يُقبض عليه، بسبب مشكلات وقتل مع عصابة. يبدأ الشريط ودوغلاس يسرد حكايته وذكرياته ولغز ماضيه على شكل فلاش باك، مع الدكتورة النفسية التي تساعده في مركز الاحتجاز.

«دوغمان» عبارة عن كل شيء، يمزج بين مغامرات الكلاب، حيث تتواصل الحيوانات بشكل تخاطري مع صاحبها وتنهب وتهدد وحتى تقتل، وبين الأكشن والعنف ونبضات ميلودرامية وإديث بياف ومارلين مونرو، والقناع (دراغ كوين) الذي يلبسه دوغلاس كهروب من الواقع القمعي. لذلك، يشبه الفيلم القصص الخيالية السوداء التي تبدو في بعض الأحيان كأنّها فيلم رعب وأحياناً أخرى درامية شاعرية وأيضاً العلاج بالفن. وهذا ما أكده لوك بوسون في المؤتمر الصحافي: «الأمران الوحيدان اللذان يمكنهما إنقاذك هما الحب والفن، وليس المال بالتأكيد». فيلمه نشيد حبّ للكلاب التي يرى أنّ عيبها الوحيد هو أنها تثق بالبشر.

قد يبدو الفيلم من الوهلة الأولى قفزةً إيمانية، أو بوحاً أو حتى قرفاً يبديه بوسون من الظلم الذي لحق به والطبيعة الإنسانية، لكن بعد نصف ساعة تقريباً، يبدأ كل شيء بالتراكم وتبدأ الاستعارات والرمزيات ليضيع كل شيء. الفيلم مبني بطريقة طبيعية عادية، مع بداية ووسط ونهاية، لذلك لا نضيع في القصة أبداً، لكن كثرة الحشو تأخذ الفيلم إلى مكان آخر، فلا ندري إن كنا أمام كوميديا أم مهزلة أو محاكاة ساخرة أو ميلودراما جامحة. لكن الأكيد أن التبجح والسذاجة والثقة بالنفس المخيفة عند بوسون واضحة جداً. نحن نعلم، أن أفلام بوسون تُفهم بشكل أفضل عندما نستطيع أن نرتقي إلى مستوى تفاهتها، وهذا بالفعل مدح بأفلامه. ولكن «دوغان» نفسه لا يرتقي إلى مستوى هذه التفاهة.

رومان بولانسكي... دعسة ناقصة

مغضوب عليه آخر، عُرض فيلمه في البندقية لكن هذه المرة خارج المسابقة. إنه البولندي الفرنسي رومان بولانسكي، ثاني المكروهين بعد لوك بوسون في انتظار ثالثهما وودي آلن. شاهدنا فيلم «القصر» الجديد لبولانسكي خلال عرض الليل، كانت الصالة ممتلئة، وعلت الضحكات بين الحين والآخر، لكن الفيلم بفكرته الأساسية (على الرغم من أنها كوميدية) لا ترتقي لتكون هجاء سياسياً أو اجتماعياً، فهي هزيلة جداً وغير مؤثرة ولا تثير الجدل حتى.

قبل الدخول في الفيلم، الجدال المهم والأهم كان في المؤتمر الصحافي. طبعاً، لم يكن بولانسكي حاضراً لأنه لا يمكنه السفر إلى إيطاليا بسبب اتفاقية تسليم المتهمين بين أميركا وإيطاليا. منتج الفيلم لوكا بارباريسكي، هو الذي كان موجوداً وصرخ «فيفا بولانسكي»، قبل أن يبدأ هجومه المحق على الجميع. بدأ بمنصات التدفق الرقمي قائلاً: «لا أفهم لماذا تمتلك جميع المنصات من نتفليكس إلى «أمازون» و«باراماونت بلاس»، أفلام بولانسكي القديمة، وتجني منها الملايين، لكنّها لا تنتج فيلم بولانسكي الجديد». قال ذلك بسبب صعوبة إيجاد المال لإنتاج فيلم لبولانسكي. بعد ذلك، فتح النار على المجتمع والكلّ بسبب تهمة الاغتصاب التي تلاحق بولانسكي قائلاً: «أنا أعرف القصة، لقد كنت هناك في عامَي 1975 و1976. لا أستطيع أن أتحدث باسم رومان، لكن السبعينيات مختلفة تماماً عن اليوم. لقد كان الجنس مجانياً للجميع. يمكن أن أتعرض لعقوبة السجن بسبب ما فعلته أنا في نيويورك بين عامَي 1974 و1980، بمنطق الصوابية السياسية اليوم». وأضاف: «رومان لم يعط المخدرات لأي شخص، كان الجميع يتعاطى، كنا جميعاً تحت تأثير المخدرات. لقد كان وقتاً مختلفاً تماماً. رومان هو الشخص الأكثر لطفاً، وأنا أصر على كلمة لطيف، فهو الرجل الأكثر لطفاً وحساسية الذي قابلته في حياتي».

بالعودة إلى الفيلم، بولانسكي يأخذنا إلى جبال الألب، تحديداً إلى «بالاس أوتيل» الفاخر، الذي يحتفل دائماً برأس السنة بأفضل طريقة ممكنة، ويصرّ على موظفيه على أن يكونوا كاملين وأن يضعوا أنفسهم في خدمة وإمرة ضيوفهم، طبقة الأغنياء والنافذين الفاسدة. إنه يوم 31 كانون الأول (ديسمبر) 1999، وفكرة نهاية العالم تخيف الجميع. ولكنّ النزلاء الأغنياء يريدون الاحتفال كما كل عام برأس السنة. يبدأ الضيوف الأثرياء في الوصول: هناك مجموعة من الروس، امرأة فرنسية (فاني أردان) مع كلبها المدلل الذي يأكل الكافيار، جرّاح تجميل معروف (واكيم دو المايدا)، نجم إباحي سابق، وثري غريب الأطوار (ميكي روكي)، وشابة متزوجة من الملياردير آرثر ويليام الثالث (جون غليز). هؤلاء قلة من ضيوف السهرة، الذين سيصنعون الجزء الأول من الفيلم الممتع بسبب رذالتهم وتعاملهم مع الخدام والموظفين. يعرض الفيلم مواقف مضحكة وسخيفة ويلمح إلى القضايا السياسية في الخلفية، عندما يظهر على الشاشة بوريس يلتسن وهو يتنحّى ويسلم بوتين الحكم وبدوره يقول بوتين إنّ روسيا ستكون أكثر حرية وديموقراطية وحكمه الانتقالي سيكون لأشهر فقط.
مع تقدم الفيلم، كنا ننتظر من بولانكسي أن يغوص أكثر في سخريته، لكنّه ظلّ على السطح. ظلّت المواقف الفكاهية نفسها وتحولّت إلى شيء لا يضحك في معظم الأوقات. بدأت الشخصيات في الاختفاء من أمامنا لأنّه ليس لها دور، ويمكن نسيانها بسهولة، عدا أنّها مكروهة بسهولة. تجنب بولانكسي النقد الاجتماعي الذي اشتهر به وكنا نحن في انتظاره
.

بابلو لارين يسخر من «الكونت»

لا يزال ظلّ أوغستو بينوشيه (1915 ــ 2006) يخيّم فوق تشيلي حتى اليوم. إنه ظلّ الجنرال المعروف الذي استولى على السلطة عام 1973 في انقلاب دموي، ومعه بدأ واحد من أقسى الأنظمة الدكتاتورية في التاريخ استمرّ حتى عام 1990. ولأن بينوشيه لا يزال حاضراً في وجدان البلد والناس الذين عاصروه، اختار المخرج التشيلي بابلو لارين في فيلمه الروائي «الكونت» (يطرح قريباً على نتفليكس) الذي يعرض ضمن المسابقة الرسمية من «مهرجان البندقية»، أن يقدّم الجنرال باعتباره مصاص دماء تشيلياً حتى بعد سقوط نظامه السياسي. «الكونت» فيلم كوميديا سوداء ورعب يتخيّل فيه لارين عالماً موازياً مستوحى من تاريخ تشيلي الحديث. يصوّر أوغستو بينوشيه، الرئيس السابق لتشيلي، رمز الفاشية العالمية، كمصاص دماء يعيش مختبئاً في قصر واقع في الطرف الجنوبي البارد من القارة. بعد مائتين وخمسين عاماً من الحياة، قرر بينوشيه التوقف عن شرب الدم والتخلي عن امتياز الحياة الأبدية. لم يعد يستطيع أن يتحمّل أنّ العالم يتذكره كفاشي وكلصّ. على الرغم من الطبيعة المخيبة للآمال وانتهازية عائلته، فإنه يجد إلهاماً جديداً لمواصلة عيش حياة مليئة بالعاطفة الحيوية والثورة المضادة من خلال علاقة غير متوقعة.

«الكونت» لبابلو لارين يطرح قريباً على نتفليكس

خصص لارين، جزءاً من أفلامه بشكل غير مباشر لشخصية الجنرال مثل فيلم «لا» (2012)، لكنه اليوم يخرج من منطقة راحته ويقدم بينوشيه بطريقة مباشرة في فيلم فيه الكثير من الهجاء والكوميديا السوداء وإعادة تفسير التاريخ. علماً أنّه لم يتم الحديث عن بينوشيه في السينما، وهو أمر كان محظوراً لفترة طويلة، وهو الذي توفي عام 2006 من دون أن يقضي يوماً واحداً في السجن. لارين اليوم يعرضه للمرة الأولى، ويهدف إلى كشف طبيعته الحقيقية كمصاص دماء، وأيضاً لخدش صورته.

يبدأ الفيلم بصوت امرأة نعرف من هي في نهاية الفيلم، وهي التي تحكي القصة. ثم في النهاية، تجتمع مع بينوشيه لتكون مفاجأة سياسية في الفيلم، لن ندخل في تفاصيلها لكيلا نفسدها. النصف الأول من الفيلم مهزلة قوية ذات قصة رمزية سياسية، ونهايته حلم مزعج. لجأ لارين إلى الكوميديا ليروي ألم بلد وجيل ونجح في ذلك، صراخ لارين واضح في الفيلم وراء ضحكاتنا. لم يقتصر صراخه على بينوشيه فقط، بل طال أيضاً الكنيسة التي تواطأت مع الديكتاتور. في بعض الأحيان، كان الفيلم تعليمياً ويوضح أن الإفلات من العقاب شيء لا يمكن غفرانه، وفي بعض الأحيان لجأ إلى القصائد الغنائية، ربما للتأكيد على عدم جدوى أي شيء. «الكونت» محاكاة ساخرة بعيون حزينة ومضحكة. عمل جامح ومضحك في يأسه العميق والممتع.

 

الأخبار اللبنانية في

04.09.2023

 
 
 
 
 

فيراري» للأمريكي مايكل مان… سيارات ورجال ومأساة

نسرين سيد أحمد

البندقية ـ «القدس العربي»: في فيلمه «فيراري»، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية في دورته الثمانين (من 30 أغسطس/آب حتى 10 سبتمبر/أيلول) يركز المخرج الأمريكي مايكل مان على لحظة حاسمة في حياة إنزو فيراري صاحب إمبراطورية سيارات فيراري، الذي كرّس حياته لتطوير أداء سيارات السباق، والحفاظ على مكانتها التي تواجه تنافسا شرسا في مضمار السباق من سيارات مازاراتي.

يقدم لنا مان إينزو فيراري (آدم درايفر في أداء متقن) كرجل يخط المشيب رأسه، أثقل كاهله موت ابنه، ويقض مضجعه التنافس الحاد الذي تواجهه سياراته والضائقة المالية التي تواجه مصنعه الذي يواجه الإفلاس. المصنع المثقل بالديون وذكرى طفله الذي يزور قبره كل صباح هما ما يحركانه ويرسمان يومه في بلدة مودينا، مقر مصنعه، في خمسينيات القرن العشرين.

تواجه فيراري تنافسا شرسا من سيارات مازاراتي، ويبحث إنزو عن سبيل لتجنب الإفلاس، الحل الوحيد الذي تطرحه زوجته لورا (بنيلوبي كروز)، التي أثقل كاهلها موت ابنها الوحيد وخيانات إنزو المتكررة، هو التوسع في الشق التجاري للمصنع، بعيدا عن شق سباقات السيارات، وذلك بعقد شراكة مع شركة أخرى للسيارات مثل فورد الأمريكية أو فيات الإيطالية. ولكن إنزو لا يحبذ هذا الاقتراح ويود الحفاظ على اسم وتميز سياراته، دون أن تخضع لسيطرة شركة أخرى.

تتكالب المتاعب على إنزو من كل جانب، ونراه رجلا يرتدي نظاراته الشمسية دوما ليخفي إرهاقه الدائم وتفكيره الذي لا يتوقف في مأزقه المالي، حيث أنه لا يحتفظ بمفرده بأسهم الشركة وأصولها، بل يشرك زوجته بالنصف في أصول الشركة.

ووسط هذه المتاعب المادية يواجه إنزو هما آخر، وهو وجود وريث لإمبراطوريته هو ابنه الذي مرض مرضا عضالا ومات صغيرا، ولإنزو طفل صغير آخر من صديقته وحبيبته، ولكنه يخشى الاعتراف به أو بحبيبته (شايلين وودلي) حتى لا يواجه غضب زوجته المسيطرة على أسهم الشركة وأصولها. لا نرى في الفيلم إنزو المتفاخر بشبابه وثرائه ونسائه، بل نرى رجلا في منتصف العمر يواجه متاعب مالية وعائلية وعاطفية ترتسم خطوطها على وجهه. وليس الحال في مضمار السباق أفضل من المصنع، إذ يواجه سائقو فيراري وسياراته تنافسا شرسا من سائقي مازاراتي، الذين يهددون بالإطاحة بفيراري من صدارة سباقات السيارات، وتواجه سيارات فيراري حوادث متكررة في مضمار السباق، من بينها حادث مأساوي أودى بحياة العديد من الأشخاص، يركز مان على هذا الحادث كنقطة فاصلة في حياة فيراري. نرى السائقين قبل السباق يخطون رسائل الوداع لحبيباتهم، خشية وقوع مكروه دون وداع، ونرى الدماء والأشلاء التي تناثرت على الأرض بعد الحادث المروع.

هذا السباق، الذي راح ضحيته العديد من مشاهدي السباق الذين كانوا يصطفون على جانبي الطريق لتشجيع المتسابقين، هو سباق ميلا ميليا الشهير، السباق الذي يمتد لمسافات طويلة عبر إيطاليا، والذي كان إنزو يعول عليه لإنقاذ شركته من الإفلاس. وعلى الرغم من القتلى والتحطم المروع يتمكن سائقو فيراري من إحراز لقب السباق، ما يحيي الآمال في إنقاذ الشركة المثقلة بالديون. لا نرى إنزو فيراري كشخص مختال متفاخر قط، بل نراه رجلا يحاول باستماتة الحفاظ على مكانته وإرثه.. لا نرى حفلات فارهة ولا ليالي ماجنة، بل نرى رب أسرة، وأب يسعى لإيجاد سبيل للاعتراف بابنه من حبيبته، دون أن يواجه غضب زوجته. تجيد كروز لعب دور الأم الثكلى التي حولها فقد صغيرها والخيانات المتكررة لزوجها إلى امرأة غاضبة مريرة دائمة الألم، ولكنها على الرغم من حنقها الدائم على إنزو، الذي بلغ حد إطلاق الرصاص، تريد لاسم فيراري أن يزدهر ويستمر وللمصنع أن يتخطى الصعاب التي يواجهها.

 

القدس العربي اللندنية في

04.09.2023

 
 
 
 
 

فينيسيا 2023 | ميكلسن المتخصص بأدوار الأشرار يجسّد «التائب»

في فيلم ينافس على الأسد الذهبي

فينيسيا ـ «سينماتوغراف»

اعتبر الممثل الدنماركي مادس ميكلسن الذي تولى تكراراً في هوليوود أدواراً تجسّد الشر أن المواجهة السائدة في السينما الأميركية بين الأشرار والأخيار كاريكاتورية ولا تعبّر عن الواقع، داعياً إلى مقاربة مختلفة.

وقال ميكلسن على هامش فعاليات مهرجان فينيسيا السينمائي حيث يشارك ضمن مسابقته بفيلم "ذي بروميسد لاند" الذي يؤدي فيه دور عسكري دنماركي يسعى إلى الانتقام خلال القرن الثامن عشر: "عند الأميركيين، هناك الأشرار والأخيار".

وأضاف الممثل الذي جسّد شخصية الشرير "لو شيفر" الذي يواجه جيمس بوند في "كازينو رويال" (2006) أن الأميركيين "يستمرون في اللجوء إلى المواجهة بين الأشرار والأخيار" حتى عندما يكون الفيلم أكثر "تعقيداً"، في حين لا يُنظَر "إلى الأمور بالطريقة نفسها في السينما الدنماركية".

فخصمه في "ذي بروميسد لاند" ("باستاردن" بالدنماركية) للمخرج نيكولاج أرسيل رجل قاس ومغتصب وقاتل يلامس الجنون، لكنّ ميكلسن شدّد على أنه "ليس شريراً بل مجرد إنسان حزين يرتكب أفعالًا سيئة"، ورأى فيه بالأحرى "صبياً صغيراً" محطماً تحت سلطة أب متقلب.

وأضاف ميكلسن الذي جسّد بامتياز شخصيات الأشرار في السينما العالمية ومنها نازي يواجه هاريسون فورد في الجزء الأخير من سلسلة "إنديانا جونز" الذي عُرض في الربيع الفائت، أنه يفضّل "مقاربة الشخصيات بهذه الطريقة".

ويؤدي ميكلسن في "ذي بروميسد لاند" الساعي إلى الفوز بالأسد الذهبي دور لودفيغ كايلن، وهو ضابط برتبة نقيب في الجيش الدنماركي "يريد أن يصبح شيئًا يكرهه". وأوضح أن هذا اللقيط من علاقة بين خادمة ورجل نبيل "يكره النبلاء ولكنه يريد أن يكون واحداً منهم" ويأمل في الارتقاء إلى هذه الطبقة من خلال الشروع في مشروع مجنون لتخصيب وزراعة أراض جرداء في منطقة جوتلاند.

وأوضح مادس ميكلسن أن لودفيغ كايلن "على استعداد لحرق العالم كله للوصول إلى مبتغاه"، لكنه أدرك "ولو متأخرا، أن ثمة أشخاصاً مهمين في حياته"، وهو ما كان "جرس الإنذار الذي أنقذه".

وما جذب ميكلسن هو بالذات "توبة" شخصية لودفيغ الذي "لم يكن يسمح قطّ لأيّ كان بدخول حياته، ولم يشعر إطلاقاً بأي عاطفة تجاه أي شخص" وهو "يتفاجأ عندما يحدث له ذلك!".

ويتناول سيناريو الفيلم مواضيع مطروحة في المجتمع المعاصر، كأهمية الخرافات والدين، وتعايش البشر مع الطبيعة، والعدالة الاجتماعية، وقال "لم نسعَ إلى أن نُدرج بالقوة مواضيع معاصرة كأخلاقياتنا أو نظرتنا الى العالم، ولست من محبذي ذلك في الأفلام التاريخية، لكنّ شخصيات الفيلم تواجه أموراً وتجارب يمكن مواجهة أمثالها في أيامنا على نطاق يختلف تبعاً للمكان الذي نعيش فيه".

 

####

 

مراجعة The Killer | عودة رائعة لفاسبندر ببصمة ديفيد فينشر

فينيسيا ـ خاص «سينماتوغراف»

منذ فيلم Seven (1995)، وضعنا المخرج ديفيد فينشر داخل عقول المعتلين اجتماعيًا المنظمين تمامًا، سواء كانوا حقيقيين أو خياليين.

والغريب أن أفضل أفلام فينشر غالبًا ما تتعامل مع القتلة المتسلسلين، مروراً بتحفته "زودياك" (2007)، أو فيلم "الفتاة ذات وشم التنين" (2011).

اليوم ضمن مهرجان فينيسيا السينمائي، يحول المخرج الشهير انتباهنا إلى قصة أخرى مخصصة لقاتل محترف، تحمل عنوان The Killer، ينافس بها في المسابقة الرسمية للدورة الـ 80.

استنادًا إلى الرواية المصورة التي تحمل نفس الاسم من تأليف ماتز ولوك جاكامون، يتبع The Killer، الذي سوف يعرض على نتفليكس اعتبارًا من 10 نوفمبر القادم، مغامرات قاتل لم يذكر اسمه. أو بالأحرى، لا نعرف الحقيقة عنه أبدًا. منهجي ومدرب، محترف حقيقي، يدرس خططه حتى أصغر التفاصيل، ويكرس كل جانب من جوانب حياته للسعي لتحقيق الكمال. إنه لا يهمل شيئًا: الطعام، الملابس، التكنولوجيا. ومع ذلك، خلال مهمة في باريس يحدث ما لا يمكن تصوره ويرتكب خطأً. وهو نفسه الذي يكره الارتجال، عليه أن يتغير بسرعة مع عواقب خطيرة يتعرض لها.

لا يمكن إنكار أن فينشر لديه شغف بالشخصيات التي تحب السيطرة. من يدري ما إذا كان ذلك بسبب طبيعة عمله، بمعنى أنه يجب على المخرج دائمًا أن يحسب كل الاحتمالات، ويفكر في كل العواقب، ويتصرف بسرعة في حالة وقوع أحداث غير متوقعة، أو ربما هذا النوع من القصص يسمح له ببساطة بعرض المواقف التي يعرف كيفية التعامل معها بشكل أفضل: التوتر والدراما والأسئلة الوجودية، والأهم أن الإثارة والجودة لهذا الفيلم سببها بطل الرواية : مايكل فاسبندر.

أعطاه ديفيد فينشر دورًا مثاليًا: يبدو باردًا وبدون تعاطف مع أي شيء، لكن سرعان ما يكتشف هذا القاتل أن لديه مشاعر، ولحسابات عرض الفيلم على منصة نتفليكس يصبح عملاً انتقاميًا، ولكن عندما يكون كل شيء أقل تخطيطًا وأكثر إرباكًا، نبدأ في فهمه بشكل أفضل و- تقريبًا- نضع أنفسنا في مكانه.

إنه يقتل بطريقة احترافية، ويشكك في القوانين غير المكتوبة التي تنظم العالم. وإذا كان عمله قد علمه أنه حيث يوجد المال، توجد مجموعة من القلة التي تسيطر على الكثيرين وتضطهدهم، فإن عدم القدرة على التنبؤ بالبشر يظهر له أن كونك جزءًا من القلة أمر صعب للغاية. وهو يتطلب دائمًا إنكار كل ما يجعلنا بشرًا. الخطأ لا يجوز. ولا حتى راحة. ولا وجود للعواطف.

ومن خلال فيلم ترفيهي بسيط، يضع فينشر أيضًا في The Killer عدة تأملات حول الرأسمالية والمجتمع المعاصر، حيث كل شيء على بعد نقرة واحدة فقط، ويعتبر فاسبندر الأداة المثالية لتمثيل هذه التناقضات: فنظرته غالباً ما تكون جليدية، ولكن في لحظة يسخن بكل أنواع المشاعر. سخريته لاذعة، وكذلك جسده جاهز لأي ردة فعل.

أول 20 دقيقة من فيلم The Killer رائعة. نحن حرفياً ندخل رأس بطل الرواية. ومن ثم، يصبح بعد ذلك فيلمًا تقليديًا تمامًا. ما يصنع الفارق، بالإضافة إلى مهارة بطل الرواية، هو اتجاه فينشر، الذي ربما يجعل حتى طباعة المنشورات مثيرة. بالإضافة إلى الافتتاحية، يقدم لنا المؤلف على الأقل تسلسلين آخرين لا يُنسى: قتال في الظلام داخل شقة (دون الارتباك المعتاد لأولئك الذين لا يعرفون كيفية تصوير مشاهد الحركة) وحوار مع الحائزة على جائزة الأوسكار تيلدا سوينتون، وهي قيمة مضافة إلى العمل بلا شك.

نحن لا نتعامل مع أحد أفضل أفلام فينشر، وربما لا يكون حتى فيلمًا منافسًا في مهرجان سينمائي، لكن The Killer هو عمل من النوع المثير الذي يبقيك ملتصقًا بمقعدك، أو ببساطه هو فيلم جريمة وتشويق تم تحقيقه بكفاءة من إنتاج فريق فني يتناغم تمامًا مع التفاصيل مثل المخرج الذي يقود دفة السفينة باقتدار.

 

موقع "سينماتوغراف" في

04.09.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004