شاهدنا في تظاهرة “نظرة ما” Un
Certain Regard بمهرجان
كان السينمائي الـ76، الفيلم الجديد للمخرجة مونيا شكري الذي يحمل عنوان
طبيعة الحب” The
Nature of Love أي
مغزى الحب، أما العنوان الفرنسي للفيلم فهو Simple
comme Sylvain أي “بسيط
مثل سيلفان”، وأما “سيلفان” فهو الشاب الذي سنراه في قلب قصة هذا الفيلم
وموضوعه.
نحن إزاء عمل درامي رومانسي جديد يناقش على صعيد شبه فلسفي،
موضوع الحب من وجهة نظر مخرجة الفيلم وكاتبة السيناريو، وهي وجهة نظر قد
تغضب جماعات “الفمينزم” أو الحركة النسائية، فبطلة “صوفي” الفيلم امرأة في
نحو السابعة والثلاثين من عمرها، تعيش منذ عشر سنوات مع رجل ناضج، عاقل،
هادئ الطباع، هو “زافيير”. ينتقل الاثنان، أي صوفي وزافيير، الى الريف
للعيش في الشاليه الريفي الذي اشترياه مؤخرا لكن صوفي تجد فيه بعض العيوب
التي تحتاج الى إصلاحات وتطلب مساعدة شخص ممن يعملون في إصلاحات البيوت من
جميع النواحي (الكهرباء، الصرف الصحي، النجارة.. الخ)، وهذا هو “سيلفان”
الذي يكتشف أن في الشاليه عيوبا كثيرة تقتضي ترميما شاملا، وهو ما يسبب
الصدمة لصوفي التي تشعر أنها دفعت مالا كثيرا مع رفيقها، مقابل شراء هذا
المكان.
ليست هذه هي المشكلة بالطبع. لكن ما يحدث هو أن “صوفي” التي
تقوم بتدريس الفلسفة لكبار السن، تعاني من أزمة منتصف العمر، تشعر بفراغ في
علاقتها العاطفية مع “زافيير”. وهي تستجيب لمداعبات “سيلفان” الذي تجده على
العكس تماما من زافيير، وسيما، جذابا، مشتعلا بالرغبة، ومن خلال العلاقة
الجنسية التي ستولد بينهما، تكتشف “صوفي” ما كان خافيا عنها، أي تلك الرغبة
الجنسية المستعرة في داخلها، والتي يطفيء سيلفان ظمأها بطريقته الخشنة،
واقتحامه لمناطق لم تجربها من قبل، في جسدها، بل وتترك نفسها أيضا للانطلاق
معه والتعبير عن كل رغباتها دون مداراة أو تحفظ وهو ما لم تمر به في
علاقتها بزافيير. فسيلفان هو العامل الذي ينتمي للطبقة العاملة التي لا
تعرف القيود، بينما ينتمي زافيير للبورجوازية التي تجيد إخفاء المشاعر
البدائية، وتتعامل مع الجنس تعاملها مع الفن!
من هنا تبدأ صوفي في طرح تساؤلات محيرة مثل: ما هو الحب؟ هل
الحب هو الكلمة التي نستخدمها لكي نخفي وراءها رغبتنا الجنسية؟ وهل الشهوة
هي الحب؟ أم أن هناك الحب من جهة، والجنس من جهة ثانية؟ وهي تساؤلات تساق
في سياق شبه فلسفي كما ذكرت لأننا لسنا أصلا أمام عمل معقد يبحث في بحور
فلسفة الحب، بقدر ما هو عمل بسيط، تريد مخرجته أن تعبر عن رغبات امرأة تشعر
للمرة الأولى بأنها تحررت من كل عقد التربية والنشأة البورجوازية بعد أن
التقت وتفاعلت- جسديا- بكل عنفوان واستمتاع، مع هذا الشاب الخشن، الاسباني
الأصل، الذي ينتمي للطبقة العاملة.
هذا التناقض الطبقي يلمسه الفيلم في البداية على استحياء،
فالرغبة المسيطرة تجعل “صوفي” عاجزة عن رؤية الفرق، بل إنها تجد في خشونة
سليفان واقتحامه وجرأته، ما كانت تفتقده في “زافيير”. لكن الأمور لن تستمر
على هذا النحو طويلا كما يمكننا أن نخمن، فسوف تقع بعض المشاحنات بينهما
يفجرها، ولو من تحت السطح، هذا التناقض الطبقي والفارق الثقافي بل والموقف
السياسي أيضا.
يقول “سيلفان” إنه يقرأ وإنه مهتم بالمعرفة رغم أنه لم ينل
أي قسط من التعليم الحقيقي، على العكس من صوفي التي وصلت الى مستوى التدريس
الجامعي، وهو يستعرض خلال مناقشاته مع صوفي بعض ما اختزنه من أشعار وهي
تقليدية نمطية لا تملك صوفي سوى أن تطريها مجاملة، رغم شعورها بأنها ليست
مما تفضله. إلا أن صوفي لا يعجبها طريقة سيلفان البدائية في نطق الكلمات
والتعبيرات الفرنسية. وعندما يحتدم النقاش بينهما ذات مرة بسبب شعور سيلفان
بالغيرة، واعتقاده أنها قضت الليلة مع عشيقها السابق زافيير الذي استسلم
تماما للهزيمة وانسحب من حياتها، تستخدم صوفي عبارات مهينة لسيلفان، ناتجة
عن شعورها الباطني، بالفارق الثقافي بينهما مما يدفعه للانصراف غاضبا،
وتنقطع العلاقة بينهما فترة طويلة.
مونيا شكري مهتمة كثيرا بتصوير الأجواء التي تدور فيها هذه
العلاقة، وسط الطبيعة الريفية، دون تحديد المكان. وهي تقول لسيلفان إنها
جاءت من مونتريال لكنها أصلا من مدينة كيبيك. وتستخدم المخرجة زوايا
الكاميرا الحادة الغريبة التي تكشف عن اضطراب المشاعر من خلال اضطراب قطع
الأثاث داخل الشاليه، ويستخدم مدير التصوير الاضاءة الضبابية الناعمة التي
تضفي أجواء رومانسية في البداية، ثم تميل إلى الألوان الصريحة التي تصطبغ
بالأحمر والأصفر، تعبيرا عن الرغبة التي تعبر عن نفسها في انطلاق، ثم
تتمادى مونيا شكري في تصوير الأثار النفسية المدمرة التي أصابت صوفي بعد أن
اختفى سيلفان من حياتها.
في الفيلم أيضا اهتمام كبير بفكرة العائلة، والأصدقاء،
والصحبة، فصوفي عندما لا تكون مع سيلفان، نراها دائما في صحبة الصديقات أو
في زيارة أمها، تطلعها على علاقتها بالشاب الاسباني الأصل وتستشيرها وتطلب
رأيها، كما تتبادل أحاديث الجنس الصريحة المفتوحة مع صديقاتها. ويتم تصوير
عذاب صوفي بعد أن يهجرها سيلفان، كمعاناة جسدية: فهي أساسا، تفتقر ذلك
الجنس المجنون الصاخب الذي طرق أماكن في الرغبة الجنسية لديها لم تكن
مألوفة عندها وجعلتها تعيد اكتشف جسدها وأسراره. وبين فترة وأخرى، نراها
وهي في محاضراتها مع طلابها من كبار السن، تطرح تساؤلاتها حول الحب والرغبة
كما لو كانت تناقشها مع نفسها، أو تعكس أفكارها ومشاعرها الشخصية.
لن يستمر سيلفان طويلا في الغياب بل سيعود، وسيستأنف علاقته
مع صوفي، في سياق أكثر عمقا وتوغلا من الناحية الجسدية عن ذي قبل، بل إنه
سيكشف ولو رغما عنه، أو في زلة لسان، عن شعوره بان كل ما تريده هي منه هو
الجنس. وهي عبارة ستتوقف عندها صوفي طويلا وتعود إليها فيما بعد.
وسيذهب الاثنان لزيارة عائلة سليفان، وهي عائلة كبيرة مكونة
من شقيقه وشقيقته وأمه وأبيه، ومجموعة من الأطفال- الأحفاد، ولكن من
الناحية الأخرى، لا يندمج سيلفان كثيرا مع صحبة صوفي من الأصدقاء
والصديقات، فهو يشعر أنهم ينظرون إليه نظرة أدنى، نتيجة تكوينه الثقافي
المتواضع. وسيكشف هو أيضا خلال المناقشات عن ميله للأفكار التي يعتبرها
أصدقاء صوفي من الليبراليين واليساريين، موغلة في الرجعية بل والفاشية أيضا!
هل يمكن أن تتزوج صوفي- كما كانت تريد- من شاب يخالفها
تماما في كل شيء تقريبا باستثناء أنه يفهم أسرار جسدها ويعرف كيف يرضيها
ويشبعها جنسيا؟ وهل الجنس فعلا غير الحب، والشهوة غير الرغبة الطبيعية، وأن
التفكير الذهني يعيق الاستمتاع، وبالتالي فالمتعة الجنسية يمكن أن تصبح
بديلا للثقافة؟!
مونيا شكري أجادت رسم العلاقة بين الاثنين، ونسجت من خلال
السيناريو الذي كتبته، ملامح شخصية صوفي التي بدت هادئة، مبتسمة، واثقة من
نفسها، غير أنها بدت بعد تطور علاقتها بسيلفان، أقرب إلى الاضطراب النفسي
بعد أن أدمنت الجنس معه الذي يظل في خيالها طويلا بعد ذلك، كما نرى في
لقطات التداعيات القصيرة التي تندفع في ذهن صوفي وتزيد من اضطرابها وعذابها.
في الفيلم كثير من المشاهد الجنسية الصريحة التي تشمل كل
شيء ومن أوضاع مختلفة، من أجل التأكيد على فكرة الإدمان، وتلك الرغبة التي
يمكن أن تكون مدمرة أيضا، وما إذا كنا نستر الرغبة بمشاعر نتوهم أنها مشاعر
الحب. لكن الافراط في تصوير هذه المشاهد التي تستولي على جزء كبير من
الفيلم، أدى إلى بعض الخلل في البناء وجعل هذه المشاهد تبدو كما لو كانت
تهدف للإثارة فقط خصوصا مع تكرار تفاصيلها. ولاشك، أن فيلما كهذا سيكون من
المستحيل تصور أن يعرض في مهرجانات العالم العربي، ناهيك بالطبع عن دور
السينما العامة!
المخرجة مونيا شكري، مخرجة كندية من مواليد 1982، لأب تونسي
أمازيغي، وأم كندية من أصول اسكتلندية. وبالإضافة الى كتابة السيناريو
والإخراج هي أيضا ممثلة، شاركت بالتمثيل في فيلم “أيام الظلام” (2007)
للمخرج الكندي الشهير (من كيبيك)، دينيس أركان، ثم ظهرت كممثلة في بعض
أفلام المخرج الكندي الشاب زافيير دولان، الذي كان فيلمه الروائي الطويل
الأول “قتلت أمي” مفاجأة “نصف شهر المخرجين” بمهرجان كان عام 2009.،
قبل أن يعود ليقتنص جائزة لجنة التحكيم في المسابقة الرئيسية، بفيلمه
“ماما” (2014). وكثيرا ما تستخدم مونيا شكري في أفلامها شخصيات ذات أصول
عربية تحمل أسماء عربية، وتلجأ إلى الموسيقى العربية كما في هذا الفيلم كما
يتطرق الحديث بين الأصدقاء عن فايزة أحمد، ثم نشاهد على جدار الغرفة أفيش
فيلم “يحيا الحب” لمحمد عبد الوهاب، وهو أحد كلاسيكيات الأفلام الغنائية
المصرية. |