ملفات خاصة

 
 
 

"منطقة الاهتمام":

مقاربة سينمائية تجعل أوشفيتز "جنة عدن"

محمد هاشم عبد السلام

كان السينمائي الدولي

السادس والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

في عقدين، تقريباً، أنجز البريطاني جوناثان غلايزر (1965) 4 أفلام روائية طويلة فقط. رغم قلّتها، أثبتت أنّ الكَمّ ليس معياراً. مخرجون كثيرون يكرّرون أنفسهم وأساليبهم ومواضيعهم في كلّ فيلم، تقريباً. غلايزر ليس هكذا، إذْ يحرص، في أفلامه العابرة للأنواع السينمائية، على أنْ يكون جديده مُغايراً تماماً لما سبقه، ويضيف جديداً إلى السينما أيضاً، موضوعاً أو أسلوباً أو فنّيات، أو كلّها معاً. حرصه الزائد يبدو سبباً رئيسياً لقلّة أفلامه.

في جديده، "منطقة الاهتمام" (2023)، أول روائي طويل له منذ 10 أعوام، هناك مُغاير وجديد أيضاً، كطرح ومعالجة وفنّيات وجماليات سينمائية، إذْ له منطقة مهمّة خاصة به، ولا يُقاربه أيّ فيلم، روائي ووثائقي، صنع من قبل عن معسكر أوشفيتز الرهيب. أحد أشكال المُغايرة والابتكار تجنّبه التام الدخول إلى المعسكر، ولو مرة واحدة. قصديّته الجريئة هذه تهدف، كالفيلم برمّته، إلى كسر التوقّعات التقليدية المتعلّقة بكلّ شيء، رغم عادية غالبية الأشياء فيه، وتقليديتها وروتينها.

المُثير في "منطقة الاهتمام"، الفائز بـ"الجائزة الكبرى" وجائزة "الاتحاد الدولي للنقاد ـ فيبريسي" في الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023) لمهرجان "كانّ" السينمائي، أنّ أحداثه البسيطة لا تتناول القتل والتعذيب والتجويع والإبادة الجماعية، وأنّ شخصياته القليلة لا تتحدّث عن هذا أبداً. أوشفيتز، بالنسبة إليها، مكان مجاور، فيه يهود فقط، تتناهى أصواتهم من خلف الجدار الفاصل. الأغرب أنّ الأجواء الرتيبة والمُملة في الفيلم، والأحداث غير المتطوّرة، والدراما غير المُتصاعدة، تؤكّد، مع تقدّمها، أنّ شيئاً ساحقاً ومُرعباً، أكبر وأعمق مما نراه، يحدث خلف هذا كلّه.

تفكير وطرح ومعالجة كهذه دُرِست جيداً، انطلاقاً من السيناريو (غلايزر)، المُقتبس بتصرّف كبير عن رواية بالعنوان نفسه (2014)، للبريطاني مارتن أيمِسْ، الذي توفي في 19 مايو/أيار 2023، بعد يوم واحد فقط على العرض الأول للفيلم في "كانّ".

إلى السيناريو، هناك حضور قوي وبارز للتمثيل، وهذا ليس جديداً على الممثّلين الذين يُحسِن غلايزر دائماً اختيارهم وتوظيفهم، واستخراج أفضل ما لديهم. مثلاً، بِنْ كينغسلي في "وحش مثير" (2000)، ونيكول كيدمان في "ولادة" (2004)، وسكارليت جوهانسن في "تحت الجلد" (2013). هذا ينطبق أيضاً على بطلي جديده: كريستيان فريدل في دور رودولف هوس (الضابط النازي في SS)، الذي أدّى دور المُعلّم في "الشريط الأبيض" (2009) لمشائيل هانيكي، وإلْسر في "13 دقيقة" (العنوان الدولي، 2015) لأوليفر هيرشْبيغل؛ وساندرا هولر (هيدفيش هوس)، مؤدّية دوري إيناس كونرادي في "توني إردمان" (2016) لمارِن أدي، وساندرا في "تشريح السقوط" (2023) لجوستين تريَّية، الفائزة بـ"السعفة الذهبية" في "كانّ" ("العربي الجديد"، 31 مايو/أيار 2023).

كما تبرز كاميرا لوكاش زال، مدير التصوير البولندي المُحترف، الذي لفت الانتباه في "إيدا" (2013) و"حرب باردة" (2018)، لمواطنه بافل بافليكوفسكي. فبمُنتهى البرود والجمود والحيادية، تلتقط كاميراه، من مسافة بعيدة، الممرات والطرقات، والحُجرات الداخلية وقاعات الطعام في طابقي المنزل ومحيطه وحديقته، في لقطاتٍ استعراضية وكاميرا ثابتة، متعمّداً عن قصد تجنّب اللقطات المقرّبة، معظم الوقت، حتى للكلب. إضافة إلى سيطرة اللون الأحادي، الذي يُحيل إلى أفلام بدايات القرن الماضي.

مع هذا البرود والحاجز النفسي، هناك صدق بالغ، وطبيعية ملموسة، وانسيابية فريدة، في تقديم الحياة اليومية العادية، الجارية في المنزل؛ وروتين الشخصيات الجامدة والمُخيفة، وشبه الشمعية. أيضاً، النوتة الموسيقية للمؤلّفة مايكا ليفاي، التي لا تقلّ اختلافاً وابتكاراً وإرباكاً وصدمة عن الفيلم. إذْ يصعب تفسير أصواتها بدقّة، وعلى حدة: مُشوّهة ومُضخّمة عن عمد، فتبدو مزجاً غامضاً لصراخ وأنين وأنفاس باطنية مكتومة. ورغم أنّها لا تتكرّر كثيراً، لأنّها تُسمع في افتتاح الفيلم ومنتصفه وختامه، يتردّد تأثيرها الإعصاري في الأذن فترة طويلة بعد انتهاء المُشاهدة. ما يُرسّخها ويُعمّق تأثيرها، أنّها تأتي مصحوبة بظلامٍ يمتدّ على الشاشة طويلاً.

في افتتاح الفيلم، يستمرّ الفراغ والسواد فترة أطول من المقبول. بعد ذلك، يأتي المشهد الأول لعائلة صغيرة، وبعض الأصدقاء، في لقطة واسعة ناعمة، يتمتّعون بهدوء واسترخاء، وبالشمس، إلى جوار بحيرة محاطة بالخضرة. يضحكون ويتحدّثون ويُجفّفون أجسادهم بعد السباحة، قبل الانصراف. ورغم أنّهم لا يظهرون عن قرب، يُلمَس شعورهم بالأمان والطمأنينة والسعادة.

في مَشاهد لاحقة، يظهر المنزل، مكان غالبية الأحداث، ويتمّ التعرّف تدريجياً إلى الحياة الطبيعية للعائلة، المكوّنة من أب وأم و5 أولاد. الأب قائد معسكر أوشفيتز، رودولف هوس، وزوجته هيدفيش، يعيشان في سعادة وهناء في ذاك المنزل الواقع على الجانب الآخر من المعسكر، سيئ السمعة. رودولف شخصية حقيقية، ومدّة إشرافه عليه كانت الأطول بين القادة النازيين جميعهم. أب صالح، يحبّ أطفاله جداً، ويقرأ لهم قصصاً قبل النوم. يعامل زوجته باحترام وتقدير، ويحرص على الانضباط في منزله، وإغلاق الأبواب والمصاريع، وإطفاء الإضاءة بنفسه كل ليلة. من ناحية أخرى، هو موظّف حكومي نشط للغاية، ومخلص بشدّة للفوهرر، ولوظيفته. كلّ ما يفعله يصبّ في مصلحة بلده.

هيدفيش، ربة منزل رتيبة وحانية ومُتطلّبة للغاية من خادماتها اليهوديات، خاصة بالنسبة إلى تحضير وجبات الطعام، وتنظيف المنزل وترتيبه، والتجهيزات الجارية للاحتفال بعيد ميلاد زوجها، ما يجعل كلّ شيء، بما في ذلك الملابس، نظيفاً وجديداً وحديثاً وغالياً. أما الشخصيات الأخرى حولهما، فعسكر وخدم، وأدوارها هامشية، بمن فيهم الأولاد، باستثناء ابنة تُعاني اضطرابات نوم وكوابيس، نتيجة وعيها بوجود المعسكر، وإمكانية رؤيته من نافذة غرفتها. طول الفيلم، هناك الحياة المنزلية اليومية للعائلة: زيارات ودية، خدم يحافظون على المنزل نظيفاً، وهيدفيش تعتني بـ"الفردوس" الخاص بها. أي "جنّة عدن" التي أقامتها فيه، وفي منتصفها بركة سباحة للأطفال. تفخر بكونها، كما تقول، "ملكة أوشفيتز المتوّجة".

بمعزل عن وجود المعسكر، يمكن رؤية "منطقة الاهتمام" سرداً اجتماعياً تقليدياً عن الرفقة، والحياة الزوجية المثالية، والرغبة في تحقيق الأفضل للذات والأسرة وحكومة البلد الذي يؤمن بها المرء ويُساندها، بالتزام القواعد، والعمل الجاد المخلص. ثم يشعر المرء أنّه يستحق الأفضل في الحياة، وأنّ كلّ شيءٍ في موضعه الصحيح. لكنْ، هل يُمكن مقارنة هذه الأسرة وحياتها وتطلّعاتها بغيرها من الأسر في العالم؟ أم أنّهم بُلداء ولا إنسانيين، أو مرضى، يتلذّذون بأصوات الصراخ والتعذيب والرصاص والقتل حولهم؟

في "منطقة الاهتمام" ـ التي تبلغ مساحتها 40 كيلومتراً مربعاً وتحيط بالمعسكر، في ضاحية "أوشفيتشيم" بالقرب من كراكوف (غربي بولندا) ـ لا يقتصر الأمر على تجنّب غلايزر فظائع معسكر الموت فقط، بل تعمّد وضع الرعب على الحواف. ثم إبرازه، بشكل أفضل وأقوى، عبر انفصال الأسرة عن محيطها، وكيف أنّها ليست في حالة إنكار أو تجاهل متعمّد، بالعكس، فأفرادها قرّروا التعايش مع الوضع وتقبّله، وحتى الوقوع في غرامه، بفضل سحر المكان. لذا، يُعتَبر سماع البكاء والنحيب والصراخ المكتوم، وأوامر إطلاق النار، وأصوات الرصاص، مصدراً لتلوّث طبيعي، وإزعاج يومي عادي من مذياع أو تلفزيون. بالتالي، يمكن رؤيتهم كأسوياء وبشر عاديين، يعيشون حياتهم بشكل طبيعي وروتيني، في فقّاعتهم الخاصة.

يستعرض غلايزر حياة أفراد العائلة، واضعاً إياهم تحت المجهر. هذا يجعل الفيلم خالياً، إلى حدّ كبير، من الحبكة التقليدية، أو الدراما المتطوّرة، بالمعنى المتعارف عليه. فقط، تتصاعد الأحداث وتتعقّد، وتُعَبِّر الشخصيات عن مكنوناتها، قبل النهاية بقليل. يُفجّر الأمر خبر نقل هوس إلى برلين، للإشراف على معسكرات الاعتقال في ألمانيا، ما يُسبّب صدمة بالغة وقاسية لزوجته، الغافلة عن كلّ شيء خارج منزلها، إلى أنْ أصبح هذا الوجود مُهدّداً، فتغضب كثيراً، وتطلب من زوجها بذل جهدٍ للبقاء في أوشفيتز، المنطقة المثالية لهما ولتربية أولادهما. يحاول هوس فعل هذا، من دون إغضاب قادته.

هناك 3 مشاهد مصوّرة بتقنية التصوير الحراري، لتبدو حمراء غير واضحة، لفتاة صغيرة تخفي الفاكهة للسجناء. لقطات مُبرَّرة، بربطها بقراءة هوس حكايات قبل النوم لأولاده. لكنّ الفعل نفسه يبدو غريباً، ويحتاج إلى تأويلات كثيرة. هذه المشاهد، وأخرى مُباشرة، تحسم من رصيد الفيلم وجمالياته وقوّته، كإلقاء رماد في الحديقة لتخصيب العشب، وعثور هوس على علبة غاز ألقيت في النهر، حيث يلعب أولاده ويسبحون. أو بعد سفره إلى برلين، لحضور حفلة نازية فخمة في قصر أوبرالي مهيب، يخبر زوجته هاتفياً، عندما تسأله عن الموجودين فيها، أنّه لا يهتمّ، لانشغاله بالتفكير في كيفية استخدام الغاز في مبنى له أسقف عالية كهذا.

إلى هذه المشاهد، وبغضّ النظر عن جمل حوارية مباشَرة قليلة، تُفصل الخاتمة الغريبة وشبه الوثائقية عن دراما "منطقة الاهتمام"، وشخصياته وأسلوبه وحالته وزمنه، إذ تُصوّر الدقائق الأخيرة في متحف أوشفيتز، حالياً، مع تنظيف عاملاتٍ أرضياته وخزائنه.

 

العربي الجديد اللندنية في

14.06.2023

 
 
 
 
 

"إخوة ليلى" لسعيد رستائي..أن تكون العائلة الإيرانية قضية

محمد صبحي

طول الفيلم، أي فيلم، قد يمثّل نقطة لصالحه. والعكس صحيح أيضاً. يصبح الطول مشكلة عندما "يعاني" المرء من الفيلم بدلاً من الاستمتاع به. بمعنى آخر: إذا كان الفيلم جيداً حقاً، فلا داعي لأن تمثّل مدته البالغة ثلاث أو أربع ساعات مشكلة. ربما، على العكس. وهنا تحديداً تكمن المشكلة الأساسية لفيلم "إخوة ليلى" للإيراني سعيد رستائي، الممتد لـ165 دقيقة.

يمثل طول مدة "إخوة ليلى" مشكلة لأن فيه تكمن العديد من نقاط الضعف في هذا الفيلم الإيراني اللافت بالرغم من مثالبه. فعبر تحويله قصة عائلة مكونة من خمسة أشقاء بالغين (أربعة ذكور وامرأة) ووالديهم، يحاولون كلّهم الخروج من وضعهم الاقتصادي المأزوم، إلى سلسلة من الأحداث المؤسفة التي تتراكم واحدة تلو الأخرى بأسلوب يذكّر كثيراً بـ"أوبرا صابون" تلفزيونية؛ يخسر المخرج بوصلة القصّة التي ربما لو احتوت نصّاً أقل امتداداً ومشاهد أقل تكراراً، كان من الممكن أن تكون أكثر فاعلية.

هناك فيلم أقصر وأفضل كثيراً (من 100-110 دقيقة) كامنٌ في أوبرا الصابون هذه الممتددة لثلاث ساعات تقريباً. ربما يعود السبب في خروج النسخة النهائية من الفيلم بهذا الشكل إلى الارتباط بتوقيت عرضه في مهرجان بعينه وبالتالي التزام المخرج والمنتجين إلى الإسراع في إكماله، وهو ما يحدث أحياناً مع أفلام لا يزال أمامها بعض العمل، والتي، لاحقاً، يندر تغييرها (يحدث هذا أحياناً،لكن في العادة تُستقبل هذه التعديلات المتأخرة بصورة سلبية). وربما يعود السبب أيضاً في رهان المخرج سعيد رستائي على الاقتراب من جمهوره المستهدف وأفلمة قصته واقتراحه على هيئة الدراما السائدة (مصرية كانت أم هندية أم تركية)، بمحاكاة كليشيهاتها الميلودرامية وألعابها البصرية.

أيّاً يكن، فهذه الميلودراما الإيرانية التي لا تخلو من لحظات كوميدية، والمتمحورة حول أسرة ذات دخل منخفض تعيش، ظاهرياً، في منزل واحد، هي في جوهرها قصة روابط أبوية وصعوبات اقتصادية في بلدٍ غير مستقر لا يوفّر آفاقاً كبيرة للمستقبل. في مركزها ثمة أبّ (سعيد بورساميمي) لا يتورّع عن إنفاق "شقى عمره" للحصول على لقب كبير عائلته، بينما أبناؤه، بمهنهم البسيطة وفرصهم المحدودة، يفضّلون استخدام هذا المال لشراء متجر صغير في أحد مراكز التسوق، لعلّ وعسى.

في لوحة تبدو فاتحة لكنها في الخلفية سوداء تماماً، يضع السيناريو الأبَّ الفقير المطرود من احترام عائلته أمام إمكانية الحصول على المكانة والمهابة. يعيش الرجل معلَّقاً على ذلك الأمل بالرغم من معرفته أنه من أجل حدوثه، يجب عليه تقديم هدية مهمة لحضور حفلة زفاف حفيد كبير العائلة السابق والراحل مؤخراً، وهو أمر يتطلّبه التقليد الشائع. ومن أجل ذلك، احتفظ الأبّ (أو ربما اقترض) بـ40 قطعة نقدية ذهبية سيذهبون في سبيل تحقيق أمنيته.

لكن أبناءه، بعد صمتهم إزاء قرار والدهم بإنفاق أموال يمكن أن تساعدهم في تحسين وضعهم، يقرّرون سرقتها. لا لإنفاقها، بل لاستثمارها في مشروع تجاري يفترضون أنه سيعمل بشكل جيد. هذه الفرضية - والعديد من الإضافات الأخرى - ستمثّل جوهر حبكة تتمدّد، أبعد من التقلّبات والانعطافات في القصة (وهناك الكثير منها)، بطريقة تسمح للمخرج لمناقشات عائلية أن تستمر لدقائق طويلة ومطوّلة، وهو تقليد في السينما الإيرانية، صحيح، لكنه في هذه الحالة يأتي مسرحياً تماماً.

بعض المشاهد جيدة جداً (أحد أطولها، الزفاف نفسه، يبدو مستوحى من "العرّاب"، وإن بطريقة أكثر وحشية وغنية بالألوان) والبعض الآخر سيجعل المشاهدين اللبنانيين (والمصريين أيضاً)، من دون الذهاب بعيداً، يدركون أن فوضى الدولار والتضخّم المتكاثر كل يوم ليس مسألة تخصّهم وحدهم. عندما تبدأ قيمة الأموال التي تحتاجها وتحتكم عليها الأسرة في الانخفاض دقيقة بدقيقة بفعل بعض الأخبار الاقتصادية (وتغريدة من دونالد ترامب)، فعلى الأرجع ستُعيد ذكريات سيئة لبعض المتفرّجين.

باستثناء ليلى (تارانه عليدووستي)، الذكية والحريصة على إخراج أسرتها من عوزها، فإن ذكور العشيرة غير قابلين للتمثيل إلى حد كبير، بدءاً من الأبّ، وهو رجل بائس ينظر إليه الفيلم بتناقضٍ، على الرغم من أن أبناءه - باستثناء واحد - في طريقة تعاملهم معه يوضّحون أن حياته وعلاقته بهم كانت في مكان ما بين المحزن والمثير للشفقة. علي رضا (نافيد محمد زاده) يخشى معارضة الأبّ ويدافع عنه لكنه قلق بعد تسريحه من عمله في أحد المصانع. بارفيز (فرهاد أصلاني)، الابن الأكبر، يعمل في تنظيف المراحيض وعليه أن يعتني بخمسة أطفال، فيما الاثنان المتبقيان، فرهاد ومنوشهر، أقرب إلى أن يكونا عديمي النفع: أحدهما يعتني بعضلاته والآخر منخرط في مخططات احتيالية وما شابه.

يُظهر الفيلم بوضوح مزيج الضغوط الاجتماعية والاقتصادية في مجتمعٍ يتصارع مع العقيدة والتقاليد وفوضى العالم الحديث، في حكاية نقدية حول رموز النظام الأبوي التي تعيش في البنية الأسرية العميقة للمجتمع الإيراني. وهو يقدّم بذكاء شخصية مثل ليلى التي، على الرغم من كونها الأكثر تركيزاً وقدرة من بين العشيرة بأكملها، نادراً ما يُستمع إليها (لأنها امرأة طبعاً). أسوأ خطأ يرتكبه الإخوة في فوضى البحث عن المال وتدبيره هو عدم الالتفات إلى نصيحتها. وهي أيضاً الأكثر وضوحاً في الاعتراف بأن أبيهم لا يحترم سنّه وإنما مجرد رجل عجوز أناني يدخّن طوال اليوم ولا يهتم بحياة أبنائه.

لكن الفيلم يستمر ويستمر، وتظهر مشاكل ومضاعفات جديدة أخرى حتى، مع مرور ساعتين من مدته، يعطي انطباعاً بأننا سنعيش مع هذه العائلة المتشاحنة لبقية حياتنا. وهو، بصراحة، مُرهِق، رغم أهميته وضرورة مشاهدته لاختلافه عن أغلب الأعمال الإيرانية المُنادى بها دولياً. لكنه في الواقع، يفرط في ترك الحوار لشخصياته لدرجة أنه لفترة طويلة لا يمكن للمرء سوى قراءة الترجمات المصاحبة ولا يكاد يشاهد أي شيء آخر. صحيح أن مشاكل أبطال الفيلم مُلحّة ووثيقة الصلة بما نعيشه في بلدانٍ ينهشها التضخم والانسداد السياسي وضبابية الأفق الاقتصادي، لكن هناك لحظة يدرك فيها المرء بالفعل أنهم ميؤوس منهم ويُفضّل التخلّي عنهم لمصيرهم (السيئ على الأغلب) على الاستمرار في الاستماع إليهم وهم يتجادلون إلى الأبد.

 

المدن الإلكترونية في

27.06.2023

 
 
 
 
 

10 لحظات مع كوانتن تارانتينو في مهرجان كانّ

هوفيك حبشيان

حلّ #كوانتن تارانتينو ضيفاً على "اسبوعا المخرجين والمخرجات" للحديث عن كتابه "تكهّنات #سينمائية" والكشف عن تفاصيل فيلم مفاجأة من اختياره. كان هذا اللقاء المنتظر أبرز ما حدث في الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ. روى المدير الفنّي جوليان رجل، أن "ظلماً" لحق بالمخرج الأميركي في بداياته، حال دون دخول فيلمه "بالب فيكشن" (1994) إلى هذا القسم الذي تنظّمه جمعية السينمائيين منذ عام 1969. الا ان الظلم نفسه ساهم في فوزه بـ"السعفة الذهب"، بعدما أُدرج فيلمه هذا في المسابقة. بدت الدعوة كنوع من معالجة للخطأ التاريخي، لبّاها تارانتينو بحماسته المشهود لها.

صفّ طويل تكدّس أمام الصالة انتظر فيه مئات من روّاد المهرجان، وجلّهم من الشباب الذين تأسس جزء من سينيفيليتهم على أفلام مثل "كيل بيل" و"السفلة المجهولون" و"ذات مرة في هوليوود" وغيرها من أعمال هذا المشاكس الذي حملته المشاهدة المشغوفة والنهمة إلى ما خلف الكاميرا.

دار الحديث بشكل أساسي انطلاقاً من "تكهّنات سينمائية" الذي صدر العام الماضي، وهو أول الكتب التحليلية النقدية التي ألّفها صاحب "كلاب المستودع"، ويضم عدداً من النصوص والنظريات والريبورتاجات التي تتمحور على السينما الأميركية في السبعينات، أي كلّ تلك الأفلام التي نشأ عليها في سن المراهقة عندما بدأ يعي حبّه للشاشة. وقد خصص فيه صفحات لأعمال مثل "هاري القذر" و"سائق التاكسي" وغيرهما. ولا يخلو الكتاب من طابع شخصي، يلخّصه تارانتينو على النحو الآتي: "كان في ودّي ان أكتب عن السينما وانتهيتُ بالحديث عن سيرتي الذاتية".

كشف تارانتينو أيضاً فيلم المفاجأة الذي عُرض على جمهور كانّ: "رولينغ تاندر" (1977) وهو من إخراج جون فلين. لم يختر العامل السابق في متجر فيديو، المعروف بشغفه بالأفلام الدرجة الثانية (ما يُعرف بالـ"بي موفي")، عملاً كلاسيكياً معروفاً، بل انتقى نصّاً سينمائياً مغموراً أشبعه بالمديح والاطراء والشرح. جندي عائد من فيتنام (وليم ديفاين)، يُعتدى عليه وعلى عائلته ويُترَك مبتور اليد، وعند خروجه من المستشفى يقرر الانتقام. "فيلم ثأر" سبعيناتي، يرى فيه تارانتينو ما لا يراه غيره، ويكفي سماعه وهو يتحدّث عنه، لينمو في داخلنا الشعور بالتعاطف.

لم يكن مَن جلس قبالتنا طوال ساعة ونصف الساعة هو المخرج الذي تحمّسنا لأفلامه واستفزتنا تصريحاته، بقدر ما كان تارانتينو الذي لبس زي الناقد ذي الرؤية المغايرة لسينما بلاده، محللاً ومعيداً النظر ومعترفاً بالهفوات والأخطاء، متحدّثاً بإيقاع سريع وشغف ولهفة، مستخدماً كلمات نابية في بعض الأحيان، سائلاً ومتسائلاً كأنه داخل جلسة لمصارحة الذات، هذا كله في ضوء ما نعيشه من اعادة ترتيب لكلّ شيء على مستوى المفاهيم.

1 – "رولينغ تاندر": هذا الفيلم جعلني أقبض نفسي كناقد

"أود ان أقول شيئاً واحداً عن "رولينغ تاندر": اعتقدتُ أني كنتُ اكتشفته ولم يكن يعرفه أحدٌ سواي، ما عدا الذين شاهدوه بالمصادفة عند عرضه في الصالات. مع الوقت، أدركتُ ان هناك نوعاً من تقديس له من بعض الهواة، ومَن كان شاهده وأُعجِب به وضعه في لائحة أفلامه المفضّلة. في السبعينات، لم تكن هناك وسيلة لنعرف ذلك عبر التواصل بعضنا مع بعض. أقصى ما كان يمكن ان تسمعه هو ان أحدهم شاهده وأحبّه. هذا الفيلم جعلني نوعاً ما أقبض نفسي على محمل الجد كناقد سينمائي، مع العلم أنني لم أكن أكتب كثيراً. وكنت أكرر مشاهدته، ليس فقط من أجل الاستمتاع بمشاهد الحركة، بل لأشاهد كيفية استقبال الجمهور له. في كلّ مرة عُرض الفيلم في صالة مكتظة كهذه، كان رد فعل الجمهور دائماً شبيهاً برد فعله هذا المساء. لكن، أستطيع أيضاً ان أشاهده مع جمهور من 15 مشاهداً، لا بل مع جمهور من 6 مشاهدين، وسأظل أهتم برد فعلهم.

كلّما "أعطيتُ" هذا الفيلم، ردّ لي الجميل أكثر. مع الوقت، زادت قدرتي على رؤية جوانب من الشخصية التي كتبها بول شرايدر وهايوود غود، وتحديداً أداء وليم ديفاين. ففي مرحلة من المراحل، بدأتُ أعي انه ما عاد يهتم بزوجته، بل أصبح ينتقم لابنه. وهو واضح في هذا. في لحظة، سيذهب وينتقم شاهراً سلاحه. هذا ما سيفعله عندما يدهم الماخور ويقتل كلّ مَن فيه بالسلاح الذي أهداه اليه ابنه ترحيباً به يوم عاد من الجبهة.

لاحظتُ وأنا أشاهد الفيلم هذا المساء، شيئاً لم أكن لاحظته سابقاً. عندما تزوره ليندا فورشيت في المستشفى وهو على الفراش ولم يكن قد رآها بعد، نراها ترغب في المغادرة من دون ايقاظه من النوم حتى. مع ذلك، تلقي نظرة عليه. وعندما تجد ان الشراشف في حالة فوضى، ترتّبها قليلاً ثم تخرج من دون ايقاظه. وهو يقوم بالشيء نفسه في نهاية الفيلم. أشعر بشيء من الاختناق، بمجرد وصفي لذلك المشهد. فحالياً، بتُّ أجد ان أكثر المَشاهد التي تمسّني هي تلك التي بينه وبين ابنه. وزاد شعوري هذا مذ أصحبتُ أباً. تمسّني أيضاً المشاهد بينه وبينها. عادةً، مشاهدها هي التي تشعرني بالاختناق، لكن مشهده وهو يخرج من دون إيقاظها يلمس قلبي، خصوصاً انه يأتي من طرفه، هو الذي ما عاد يستطيع ان يهبها أي شيء. تستحق هي شخصاً أفضل منه. هو لا يقوى على حبّها، ولو استطاع لفعل. كلّ ما في امكانه هو اعطاؤها المال كما يفعل مع أي عاهرة. وهذا شيء حزين.

جون فلين دخل الإخراج بطريقة لم تعد ممكنة اليوم كما كانت في الماضي. لم يأتِ من التأليف أو المونتاج، بل من مجال مساعدة الإخراج. مهنة مساعد المخرج في أميركا مختلفة عمّا هي عليه في أوروبا. في أميركا، هم ليسوا بالمساعدين الحقيقيين. لا يفعلون سوى مساعدة طاقم الفيلم وتأمين متطلباته. حتى اذا أصبحتَ مساعداً ناجحاً، فلن تتحول إلى مخرج! هذا هو الواقع في أغلب الأحيان. المساعد يحتاج إلى كفاءة والمخرج إلى كفاءة أخرى. واذا صرتَ مساعداً ناجحاً، فستبقى كذلك إلى بقية حياتك. ولكن، في فترة من الفترات، كان المُساعد ينجح في التسلل إلى الإخراج. هذه حال بعض أهم المخرجين: جوزف فون سترنبرغ وروبرت ألدريتش اللذان كانا من أعظم المساعدين الأولين عبر الزمن. وكان عُيِّن ألدريتش رئيساً لنقابة السينمائيين لفهمه المهنة كمخرج ومُساعد مخرج. جون فلين كان المُساعد الأول لروبرت وايز وعمل وإياه على عدد من أفلامه منها "قصّة الحيّ الغربي"، وعمل مع فيل كارلسون على تصوير "كيد غالاهاد" مع إلفيس بريسلي، وكان يروي انه كان يجالس الأخير في الاستوديو أثناء تسجيل أغنياته واحدة تلو الأخرى. ثم، انتقل إلى الإخراج في مطلع السبعينات مع "السَرجنت"، ميلودراما مثلية، بطولة رود ستايغر، وأتذكّر أنني شاهدته وأنا شاب ولم أحبّه، علماً أنني من أكبر هواة ستايغر. لذلك، فإني مع إعادة مشاهدة كلّ أفلام ستايغر الآن، خصوصاً بعدما أصبحتُ من كبار هواة جون فلين. بعد "السَرجنت"، أنجز فيلماً في القدس سمّاه "ملف القدس"، بطولة بروس دافيدسون، لم أشاهده قط. انه أحد الأفلام التي يصعب الحصول عليها، رغم أنني عثرتُ، على مر السنوات، على كلّ الأفلام التي كان يصعب العثور عليها. بعد ذلك، أنجز فلين الفيلم الذي أعتقد بأنه جعلنا نكتشفه ونحبّه، وكان اقتباساً لرواية ريتشارد ستارك، "ذا أوتفيت"، وهو تتمّة لـ"بوينت بلانك" لجون بورمان. أما مسيرته في الثمانينات، ففيها بضعة أفلام، ربما شاهدتُ بعضها، فيها ما هو مقبول. لكن، في نظري، تُختَصر مسيرته في أفلام حركة ثلاثة، أنجزها بالتوالي، وأقاربها كـ"ثلاثية سبعيناتية": "ذا أوتفيت" مع جو دون بايكر وروبرت دوفال، و"رولينغ تاندر". ثم، قدّم فيلماً ثالثاً، ليس بجودة الفيلمين السابقين، لكنه ذو مستوى جيد؛ فيلم حركة عنوانه "تحدّي"، بطولة جان مايكل فنسنت".

2 – "العنف شيء سينمائي جداً"

(سؤال من جوليان رجل): في كتابك "تخمينات سينمائية"، تروي لماذا شعر بول شرايدر، على غرار ما حدث معه في "سائق التاكسي" لسكورسيزي، بالخيانة من اعادة كتابة سيناريو "رولينغ تاندر" التي غيّرت النتيجة النهائية. كان الشخصية عند شرايدر على درجة عالية من العنصرية تجاه المكسيكيين. لكن في فيلم فلين، حلّ رجال بيض مكان المكسيكيين، وجاءت الخاتمة أقل عنفاً ممّا كان عليه سيناريو شرايدر، حيث كان على راين وجوني ان يقتلا الجميع في نوبة غضب انتقامية، كما لو كانا لا يزالان في الحرب. أنتَ في النهاية، تعترف ان الفيلم فاشي، لكنك تقول بأنه أعظم الأفلام الانتقامية الفاشية. هل يمكن القول ان هناك في الفيلم بُعداً علاجياً؟

"أحب الأفلام العنيفة. الناس يحبّون الميوزيكالات، وبعضهم يحب الكوميديات التهريجية. إني أحب الأفلام العنيفة. أعتقد ان العنف شيء سينمائي جداً، وفيه الكثير من المرح. في النهاية، كلّ ما نراه ليس سوى حكاية. نستمتع بالحكاية. صحيح، بول شرايدر ينكر الفيلم إلى اليوم. لا يتعرف إلى الفيلم بقدر عدم تعرفي إلى نسخة أوليفر ستون من "قتلة بالفطرة" (كتب تارانتينو السيناريو)، لأسباب عديدة. ولكن هناك مَن يحب ذلك الفيلم، وليباركهم الله. حسناً، جوني كاش أحبّه. التقيته ذات يوم في المصعد، وقال لي: "أنا وجون أحببنا الفيلم حقّاً". لم أقل له بأنه مخطئ، كلّ ما فعلتُ هو أنني شكرته.

تكلّمتُ عن هذا الموضوع مع شرايدر، فأرسل إليّ السيناريو الأصلي. أدركتُ لماذا لم يحب الفيلم المقتبس عنه. الأفلمة مختلفة كلياً لكن الشخصيات متشابهة. تتبع البنية نفسها، وتروي القصّة نفسها إلى حد بعيد. ينطوي السيناريو على بعض من أهم الحوارات التي كتبها في حياته، وفي الأفلمة نجد بالكاد بعضاً منها. تشعر فعلاً ان هذا سيناريو كتبه بعد "سائق التاكسي". الفيلم يجعلك تتمنى ان يقتل البطل هؤلاء السفلة انتقاماً، لكنه يتحول إلى فيلم انتقام عادي، حتى بلوغه مشهد الذروة في الماخور. يبدو لي انهم يقتلون الجميع، وما يحصل في الفيلم هو ما كان مكتوباً في سيناريو شرايدر، ولكن لا، في نسخة شرايدر يقتلون الجميع: العاهرات والمكسيكيين والزبائن. يقتلون كلّ مَن هو موجود في الماخور. وفي هذه النقطة أراد شرايدر ان يسجّل موقفاً فيقول ان هؤلاء مختلّون عقلياً، لكن الفيلم لم يفعل ذلك. لاحقاً انتقد شرايدر الفيلم، قائلًا: كتبت نقداً للفيلم الانتقامي الفاشي، لكنهم حذفوا نقدي للفيلم الانتقامي الفاشي وأنجزوا فيلماً انتقامياً فاشياً. وأنا أقول ان هذا الكلام صحيح، لكنه يبقى أعظم فيلم انتقامي فاشي".

3 – "هاري القذر”: أحبّذ فكرة خض الجمهور

(تعليق من جوليان رجل): فيلم آخر كتبتُ عنه فصلاً في كتابك: "هاري القذر" لدون سيغل، بطولة كلينت إيستوود. انه الفيلم الذي أُنجِز ليتوجّه إلى الأكثرية الصامتة ذات الغالبية من الجنود العائدين من فيتنام الذين ما عادوا تعرفوا على بلادهم بعدما باتت مرتعاً لحركة الهيبي والـ"بلاك بانثر"، فكانت هناك ضرورة لشخصية كهذه لمواجهتهم واعادة الطمأنينة إلى نفوس المشاهدين.

"إني من جهة دون سيغل في هذا الصدد. أحبّذ فكرة خض الجمهور. دون سيغل تحدّث بصراحة عن هذا الشأن، ولم يكن يفهم محاولات تسييس الفيلم وقد شعر بأنه زُجَّ به في نقاش سياسي لعل إيستوود كان أكثر تورطاً فيه. دون كان يعتبر "هاري القذر" فيلماً محض بوليسي، وكان يقول ان هاري يتعقّب القاتل وسيقبض عليه وهذا كلّ شيء، ولم يكن ينظر اليه من منظور سياسي اجتماعي، فكان يراه فيلماً تشويقياً يُعجِب الجمهور ويجذبه إلى الصالات، وهذا ما حصل. بالنسبة لي، الموضوع مختلف. لا أضع يدي على سيناريو وأقتبسه، بل أكتب موادي الخاصة، لذلك اذا كان هناك فيها جانب سياسي معين، أحمله على عاتقي، ولهذا عندما أهاجَم كما حصل مع دون، لن أسكت ولن أختبئ خلف "ولكنه فيلم كوميدي".

عندما أكتب سيناريواً، أتبنى وجهة نظر ذلك السيناريو. وقد لا تنال وجهة النظر تلك اعجاب بعض الناس أو قد يخطئون في قراءتها، وهذا يحدث كثيراً… وهناك مَن يكتب مقالات تحليلية تكشف عيوب الفيلم، وهذا لا يعني أنهم على حق، كما لا يعني أنهم على خطأ. لكن نظراً إلى المكان الذي آتي منه، يمكنني الجزم أنهم مخطئون تماماً في نقدهم. أحياناً، أطالع تحليلات سلبية لأفلامي فأستغرب عندما أقرأ أنني قمتُ بكذا وكذا وكأنها أشياء سيئة، فيحلو لي ان أشدد حينها: بلى، قمتُ بكذا وكذا وإني سعيد بذلك. لا تزجّ بي في درس أخلاقي عن العنف تعلّمته من أمّك وكان له تأثير عميق فيك. أرحّب بالعنف في السينما ما دمنا نفهم السياق الذي يحدث فيه".

4 – "لن أدفع المال لمشاهدة موت حقيقي"

"هناك شيء لا أطيقه في الأفلام وهو قتل الحيوانات، وهذا ما نراه في العديد من الأفلام الأوروبية والآسيوية. هذا شيء أخلاقي، لا علاقة له بالعنف في السينما وبالخلاف حول طرق تجسيده. قتل الحيوانات، هذا خط لا أستطيع تجاوزه. حتى الحشرات. لا أستطيع مشاهدة شيء كهذا، الا اذا تعلّق الأمر بمشاهدة وثائقي حيواني في منتهى الغرابة. لن أدفع المال لمشاهدة موت حقيقي. جزء من سحر فنّنا اننا نجعل الآخرين يصدّقون اموراً غير حقيقية، لهذا السبب يمكن الانتصار للعنف في السينما، لأننا أشبه بأطفال يلهون. الدم ليس بدم حقيقي والناس لا يتأذون. لكن الحيوانات، أكانت كلاباً أم حشرات، لا تكترث لأفلامنا. قد أقتل مليار جرذ في الحياة، لكني لا أرغب بالضرورة قتلها على الشاشة، لأنني، كما سبق وقلتُ، أرفض الموت الحقيقي في السينما. لا تحضرني العناوين في هذه اللحظة، لكني شاهدتُ أفلام رعب كثيرة ومشكلتي معها في أغلب الأحيان ليس العنف بل العنف الرديء الذي ينم عن عدم كفاءة في تصويره. لو استطاع الفيلم ان يمسّني بطريقة ما، لن أنكر جودته، حتى لو مسّني بطريقة مزعجة أو جعلني أندم بأنني شاهدته".

5 – "ألاعيب وطنية" نموذجاً للعنف الرديء

"هاكم مثلاً للعنف الرديء: "ألاعيب وطنية" بطولة هاريسون فورد. مع العلم ان التقييم للفيلم ليس أخلاقياً بقدر ما هو سردي. نرى في الفيلم عناصر من الجيش الجمهوري الإيرلندي، وهم على وشك ان يقوموا بعملية مقابل البيغ بن في لندن، ويحدث ان هاريسون فورد هناك. شقيقان من الجيش الجمهوري الإيرلندي، أحدهما هو شون بين، وسيقتل هاريسون فورد الآخر، فيما شون بين سينجح في الفرار، ولكن سيقرر الانتقام منه. مشكلتي مع هذا الفيلم… أوكي، أتفهّم لماذا فعل هاريسون فورد ما فعله، لكن في مطلع الفيلم سأتفهّم أيضاً لماذا عناصر من الجيش الجمهوري الإيرلندي يفعلون ما يفعلونه. وأتفهّم أيضاً لماذا شون بين يريد قتل هاريسون فورد الذي لم يطح مخططه بل قتل شقيقه أيضاً. هذا ليس شأنك أيها الأميركي القذر! ثم، فجأةً، يزداد عدد ضحايا الإيرلندي، فيبدأ الفيلم بتكريس فكرة أنه "سايكو". أنا لم أقتنع بأنه كذلك. اعتبره إرهابياً جاداً بأجندة سياسية واضحة. لكن الفيلم، ولدوافع سياسية، لم يتقبّل فكرة ان يغدو "الشرير" قابلاً للفهم من المُشاهد أو ان يتماهى معه. هذا أكثر من قدرة الفيلم على التحمّل. لذلك، كان القرار بجعله مختلاً، فيقتل بضعة أشخاص هكذا بلا سبب. وهذا ما أساء إلى الفيلم على المستوى الأخلاقي".

6 – "سائق التاكسي": أنا ضد التسوية الاجتماعية

(سؤال من جوليان رجل): "ماذا لو أخرج براين دبالما "سائق التاكسي" بدلاً من سكورسيزي؟". أنت تقول ان دبالما ما كان ليخضع لقرار الاستوديو اسناد دور القواد إلى ممثّل أبيض، لأنه لم يكن لهذه الشخصية ان تكون بيضاء في تلك الفترة، بل كان عليها ان تكون سوداء. وتقول ان دبالما لو تولّى اخراجه، لما تبنّى وجهة نظر ترافيس بيكل، بل أظهر جنونه، محوّلاً الفيلم إلى ثريللر بارانويي. لذلك، هل تعتقد ان أكبر غلطة عند سكورسيزي هي انه خضع لطلبات الاستوديو فشوّه واقع السبعينات؟ وهل تعتقد ان على السينمائي مسؤولية معينة تجاه واقع اجتماعي معين؟

"لا، لا أعتقد انه "شوّه واقع السبعينات"، فـ"سائق التاكسي" واحد من أفضل الأفلام عبر الزمن. ولا أستطيع حتى تخيّله من دون هارفي كايتل. اربط هذا الفيلم بهارفي كايتل بقدر ما أربطه بترافيس بيكل. أعتقد ان سكورسيزي أنجز أفضل نسخة ممكنة من الفيلم. جزء من تحليلي لم يكن عن جودته، بل عن الأسباب التي دفعته إلى اتّخاذ القرارات التي اتّخذها. والخيارات كانت من شأن المنتجين مايكل وجوليا فيليبس واستوديو "كولومبيا"، وأعتقد ان خيارهم في التغيير كان محض هراء. هم رفضوا ان يكون القواد والشخص الذي يُقتَل في الأخير رجلاً أسود. هذه العقلية ليست هي وحدها الهراء، بل العذر الذي كان خلفها. كان عذرهم ان الفيلم سيُعرض في صالات يرتادها سود وقد يثير أعمال شغب تؤدي إلى سحبه. حسناً، هذا النوع من أعمال الشغب حدث بعد بضعة أعوام، عندما عُرض فيلم "المقاتلون" وانتهى بسحبه، لكن أعتقد ان هذه حجّة واهية. تفكير المنتجين كان كتفكير ترافيس بيكل، في اعتقادهم بأن المشاهدين السود على قدر من الهشاشة يحول دون قبولهم فكرة ان يكون الأسود شريراً. شَعر البيض بانزعاج من هذا الأمر، فخرجوا بحجّة تغطّي على انزعاجهم. هذا ما أسميه "تسوية اجتماعية"، وأنا ضدها في الفنّ. قد يوافق عليها البعض، للأسف. وقد يوافق عليها الجمهور كذلك. وعليه، ومع ذلك، لا أحاول ان أكون لطيفاً مع سكورسيزي، إني ألومه بعض الشيء. لا أعتقد أنه كان الشخص الذي يقلق من قرف كهذا. أعتقد أنهم أخافوه، وهو في المقابل، كان يريد دوراً لهارفي كايتل ولم يكن ثمة دور له، فكانت هذه فرصة لحشره في الفيلم، وهكذا تمت التسوية".

7 - براين دبالما: ضربنا بعضنا بعضا انتصاراً له

"نشأتُ في السبعينات على أفلام سكورسيزي ولوكاس وكوبولا وسبيلبرغ ودبالما، قبل ان أعرف حتى أسماءهم. قبل الثمانينات، حينما أصبحتُ شاباً، لم أكن أعرف مَن هؤلاء. لكنهم عظماء جيلي. رغم انهم بدأوا يطعنون في السن بدءاً من الثمانينات، ظلت في داخلهم تلك الديناميكية الشبابية وحافظوا على أواصر الصداقة التي بينهم. بيد انني، انجذبتُ إلى دبالما لأسباب متعددة. كان الجميع يحب سبيلبرغ وسكورسيزي، وأنا من جانبي لم أكن أرغب في تسجيل حضوري داخل نادي أكثر الناس شعبيةً في المدرسة. لستُ من هؤلاء. أحببتُ دبالما لأنه كان موضوع خلاف في تلك الفترة، وأقحمنا حبّنا له في معارك شرسة، ولم يكن يحصل هذا عندما نختلف حول سكورسيزي أو سبيلبرغ. كان البعض ينعت دبالما بـ"السارق"، وانه سرق كلّ شيء من هيتشكوك، وكان يُقال عنه إنه "حقيرٌ" ("بيس أوف شيت"). جزء من حبّنا لدبالما في تلك الفترة، كان سببه اننا كنّا ندخل في محاججات لا بل معارك تصل أحياناً إلى الضرب. الدفاع عنه كان أمراً مهماً. شيء آخر كنتُ أحبّه في شأنه: موهبته في الكوميديا. أعتقد انه أحد أهم المخرجين الكوميديين، خصوصاً بسبب الأفلام التي أخرجها في بداية الستينات. إني معجب للغاية بالهجاء والكوميديا في أفلامه الثريللر، حتى في بعضها الذي يعتمد على الحركة. كما أحب مقاربته للسينما التي تضع الكاميرا في المقدّمة. لا يصوّر شخصين يتحدّثان وهما جالسان إلى طاولة، كما في الكثير من أفلامي. يحاول ألا يفعل ذلك، بل يحمل الكاميرا ساعياً إلى خلق شيء ما من أدائها، وكله تأكيد ان المشاهدين سيتفاعلون معه".

8 – "سفلة مجهولون": يوم قتلتُ هتلر

(سؤال من جوليان رجل): هناك موتيف متكرر في أفلامك حيث شخصيات ينتقمون للواقع. في "مضاد الموت"، الفريق الثاني من البنات يقتل المختل الذي قتل بنات الفريق الأول. في "سفلة مجهولون"، يقتل الجنود اليهود النازيين. وكذلك الأمر بالنسبة إلى "ذات مرة في هوليوود". من أين لك هذه الحاجة لاصلاح الواقع من خلال الانتقام؟

"لا أراها حاجة. هذا موضوع مثير. في ما يخص "سفلة مجهولون"، لم أكن أعلم في البدء أنني سأنهي على النحو الذي أنهيته. عندما باشرتُ الكتابة، لم أكن على علم بأنني سأقتل هتلر في الختام. جاءت الأشياء تدريجاً خلال الكتابة. في لحظة، عندما وصلت الأحداث إلى مشهد المسرح، قلتُ لنفسي: يبدو ان الأمور تتطور جيداً، بل أكثر ممّا توقعتُ. ثم، سألتُ نفسي: ماذا سأفعل الآن بحق الجحيم؟ لم أرد اللجوء إلى خدعة “آه، انه بديل هتلر!"، ثم نراه يخرج من خلف الكواليس. تباً لهذا! لم أرد تصوير شيء كهذا. قمتُ بما كان يقوم به كوروساوا، خصوصاً في "القلعة المخبأة"، وهو انه كان يحاصر نفسه في مأزق ثم يطلب إلى الكتّاب الذين كان يعمل معهم ان ينتشلوه منه. مع الفرق انه لم يكن عندي أي كتّاب أطلب اليهم انتشالي، وكان عليّ ان أتولّى هذا الموضوع بنفسي. فأدخلتُ نفسي حرفياً في مأزق، ورحتُ أسأل "والآن ماذا…؟". كنت أستمع إلى الموسيقى، وكانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحاً، وكنت أجهل ماذا أكتب وما الحلّ الذي سأجده للمأزق الذي وضعتُ نفسي فيه. بدأتُ أطرح احتمالات عدة، لكن ما من واحد نال رضاي. ثم، فجأةً، خطرت لي فكرة: "اقتله، نعم اقتل هتلر!". نظرتُ إلى نفسي، ولم أصدّق ماذا أقول! هل أستطيع فعل ذلك؟ هذا ما سألتُ نفسي. بالطبع أستطيع. هذه قصّتي. في امكاني ان أفعل ما أريد. قد لا تكون فكرة جيدة، لكنني أستطيع. فالتقطتُ ورقة وكتبتُ عليها "اقتله"! تركتها على طاولة جنب السرير وأخلدتُ إلى النوم. أعتقدتُ أنني عندما أستيقظ، سأفهم اذا كانت فكرة جيدة أو لا. استيقظتُ واعتبرتها فكرة جيدة. أما "ذات مرة في هوليوود"، فتلك حكاية أخرى. كان الدافع الذي جعلني أكتب كلّ هذه الحكاية، هو ان أحمي شارون تايت وأصفّي المجرمين السفلة الذين قتلوها، وذلك من خلال دفعهم للذهاب إلى المنزل الخطأ".

9 – "الباحثون": إلغاء جون فورد فعل خسيس

(سؤال من جوليان رجل): "الباحثون" لجون فورد فيلم بالغ الأهمية للجيل الذي سبق جيلك. بول شرايدر استلهم منه كثيراً لكتابة سيناريوات أفلامه. ذكرته غير مرة في كتابك، لكن من دون ان تقول رأيك فيه بوضوح. فهل من الممكن ان تفصح عنه بوضوح؟

"لسنوات، لم يعجبني "الباحثون" ولم أقدّره كما يجب. لم أحب جفري هانتر، في المقابل لطالما أحببتُ أداء جون واين فيه. حتى أنني أحببتُ شخصية ابن الساقطة العنصري التي يلعبها. لكن، لم أفهم شخصية جفري هانتر ولم أحبّه، شأن الكثير من ميلودرامات الخمسينات التي تجري في الغرب. لذلك، لم أفهم يوماً المكانة التي يحتلها هذا الفيلم عند سينمائيين مثل ميليوس وسبيلبرغ وسكورسيزي وشرايدر. اللافت ان بيتر بوغدانوفيتش، أكثرهم عشقاً لفورد، يحب "الباحثون"، لكن لا يحبّه على طريقة الأسماء التي ذكرتها. يتميز عنهم في حبّه له.

ثم، خلال تأليف الكتاب، شاهدتُ "الباحثون" مجدداً، بعدما كنت شاهدته قبل زمن بعيد. فكرتُ ان عليّ مشاهدته مجدداً كي أتعمّق في الحكايات وفي بعض الروابط بين أفلام فورد. وهذه المرة أحببته. ويمكن القول إنني فهمته. ما زلتُ لا أحبّه بالقدر الذي يحبّه سينمائيو الجيل الذي سبقني، لكن بتُّ أفهم أكثر كلام سكورسيزي عنه، خصوصاً في ما يتعلّق بكاراكتير إيثان إدواردز (الشخصية التي يلعبها جون واين)، هذا الرجل الذي كان في داخله حبٌ عظيمٌ، ولكنه داس عليه. رجل خاض حرباً خسرها. عليّ الاعتراف بأن بيئة البيض هذه لمست قلبي هذه المرة. الطقوس التي كانوا يتبعونها لجعل أنفسهم بشراً، ضمن نسخة برية للحضارة، هذه الطقوس أراها قريبة من "صائد الغزلان" والنحو الذي زُجِّ ببيئة الروس في داخل بنسلفانيا، مع التظاهر وكأن لا شيء تغير. ما لمسني أيضاً في "الباحثون" هو هذه الطائفة من الشخصيات. لا أزال بعض الشيء في معسكر شخصية سكير (هنري براندون) أكثر من كوني مع جفري هانتر وإيثان إدواردز. ثم إنني، لستُ مقتنعاً بأن ناتالي وود (شخصية ديبي) تعود اليه. أعتقد أنها متزوجة من سكير، وستبقى كذلك. كنت أتمنّى لو قتلها جون واين. لأن هذا ما كان من يفترض به ان يفعله. الحياة ما عادت تستحق ان تُعاش في نظره، بسبب السكّان الأصليين. هذا هو كاراكتيره. لذلك، لا أحب عندما يضعف في الأخير. مع ذلك، وجدتُ الفيلم في مشاهدتي الجديدة مؤثراً. اليوم، بتُّ أقدّر أكثر المكان الذي جاء منه جون فورد. في مقابلات قديمة لي، طالبتُ بإلغاء جون فورد، حتى قبل ان يبدأ الناس في الحديث عن هذه الأمور، ثم مع الوقت أدركتُ كم ان هذا فعلٌ خسيسٌ. قد لا يعجبك أحدهم، وقد يثير موضوعٌ يعود إلى زمن مختلف ارتيابك، لكن الأمر ينتهي عند هذا الحد، وهذا ما هو عليه الفيلم. على سبيل المثل، هل لديّ مشكلة مع شخصية كولونيل ثرزداي (هنري فوندا) في نهاية "فورت أباتشي" التي تدعو إلى ابادة تباركها شخصية جون واين؟ هذه ابادة، ألاحظتم ذلك؟ وليس جون واين وحده الذي يبارك الابادة، بل حتى الفيلم يبدو انه يوافق على ذلك. حسناً، لعلهم فعلوا ذلك تضامناً مع الجماعة، لكنهم فعلوه من أجل البيض في نهاية المطاف. لا أستطيع قبول خاتمة كتلك، لكنها على الأرجح تجسيد دقيق لحقيقة تلك الحقبة، وأعتقد ان ما من أبيض طرح تساؤلات حولها عندما خرج الفيلم في الأربعينات. وهذا يعطيك فكرة أين كان الناس في هاتيك الأيام. هذا هو الواقع. لذلك، يجب عدم القاء الفيلم في القمامة، بل تفحّصه. أما القول ان جون فورد كان في معسكر هنري فوندا، فهذا كلام غير مطابق للحقيقة. لا شك ان هذه الشخصية جعلته يشعر بالقرف. هناك نبرة ضده في الفيلم. من الواضح انه ينتصر لجون واين. مع ذلك، لا تزال النهاية تزعجني، ولكن الآن بتُّ أنبهر بفكرة انها تزعجني".

10 – "عليكم ان تتريثوا"

(سؤال من جوليان رجل): في أول فيلم لك، "كلاب المستودع"، وفي المشهد الأول منه، ثمّة نقاش معك (في شخصية السيد براون) حول معنى "كعذراء" لمادونا، وستكون لك الكلمة الفصل فيه. لماذا اخترتَ شخصية ناقد بطلاً لفيلمك العاشر؟

"هذه حكاية طويلة. لا أستطيع التحدّث عنها قبل ان تشاهدوا الفيلم. يغريني الآن، والميكروفون في يدي، ان أقدّم بعض المونولوغات من وحي الشخصية، لكني سأمتنع عن ذلك. لن أفعلها (يكرر “لن أفعلها” سبع مرات). لا أريد ان أقع في هذه التجربة. ربما لو كان هناك أعداد أقل من الكاميرات… عليكم ان تتريثوا وتشاهدوا بأنفسكم".

 

النهار اللبنانية في

11.07.2023

 
 
 
 
 

"إنديانا جونز" في جزئه الخامس.. نهاية أم بداية؟

محمد صبحي

منذ 15 عاماً، نسمع أخباراً عن فيلم إنديانا جونز الخامس، "إنديانا جونز ونداء القدر". الآن يصل الفيلم إلى الصالات، بعد رحلة إنتاجية كلّفت أكثر من 300 مليون دولار. فهل استحقت المغامرة كل هذه الأموال؟

عودة إنديانا جونز إلى السينما ليست مجرد عودة، لأنها أولاً وقبل كل شيء تشير إلى نهاية مرحلة. وداع، ربما يكون نهائياً (ليس كما حدث في العام 2008 مع "إنديانا جونز ومملكة الجمجمة الكريستالية"، حين كانت لا تزال الأرقام تلعب لصالحه). لكن مع بلوغ بطل السلسة هاريسون فورد، 81 عاماً، لم يعد هناك مجال لقيامه بالمغامرات المرهقة مستقبلاً. على الرغم من أنه مع هذا الممثل، الذي تقمّص لأكثر من أربعة عقود جسد وروح العديد من الشخصيات البارزة، لا يستطيع المرء الجزم أبداً. وفي حين يكون الوداع دائماً مدعاة للحزن، فإن إطلاق "إنديانا جونز ونداء القدر" يبدو أيضاً وكأنه حفلة دُعي إليها الجميع.

الجزء الخامس من السلسلة الناجحة يحتوي كذلك عنصرين آخرين يؤشّران أن هذا الفيلم سيكتب نهاية المغامرات. فهو الفيلم الأول من السلسلة الذي لم يكتبه جورج لوكاس ويخرجه ستيفن سبيلبرغ. بالطبع، كلاهما جزء من لائحة المنتجين، جنباً إلى جانب كاثلين كينيدي وفرانك مارشال، لكن الوزن الرمزي وراء قرارهما البقاء بعيداً من الإخراج الفني ضخم حقاً. ليس فقط لوقوفهما وراء واحدة من أنجح سلاسل أفلام المغامرات في التاريخ، وإنما أيضاً لكونهما من تلك الأسماء المفصلية والمفتاحية في العصر الحديث للسينما.

رغم هذا، لم يكن المزيج موعودًا فحسب، بل بدا مثالياً أيضاً. فيلم جديد من ملحمة إنديانا جونز، مع هاريسون فورد الثمانيني، من إخراج جيمس مانغولد، الرجل الذي أنجز أحد أفضل أفلام الأبطال الخارقين على الإطلاق، "لوغان" (2017)، ويتعامل هنا مع الموقف ذاته تقريباً: كيف يتصرّف بطل محبوب خلال سنواته الأخيرة، حيث لا يزال الشخص الذي كان عليه لكنه لم يعد موجوداً، حين يصبح في منتصف الطريق بين الوداع والموت. لكن هذه المرة لا ينجح مانغولد في رهانه.

الأسباب معقدة لتحليلها وربما تتعلق بضرورات تجارية أكثر من أي شيء آخر، لكن الحقيقة أن الفيلم الخامس في ملحمة إنديانا جونز بالكاد يفي بمهمة الترفيه والتسلية، ولا يملك ذلك العنصر المُضاف الذي يتوقع المتفرج وجوده في مثل هذه الأفلام الجماهيرية.

ربما شعر جورج لوكاس والمنتجون الآخرون للملحمة أنه يتعيّن عليهم "بيع" الشخصية للأجيال الجديدة التي لم تكبر مع الثمانينيات أو مع الفيلم إياه من العام 2008، وهو فيلم ربما نُسي الآن لكنه حقق نجاحاً تجارياً كبيراً. وبعد ذلك قرروا رواية "قصة أخرى" عن البطل المحبوب بالاعتماد فقط على الإمكانات الرقمية للحاضر، وهو الشيء الذي يستحوذ على جورج لوكاس والذي دمّر - لا توجد طريقة أخرى لقول ذلك - مسيرة روبرت زيميكيس. وهذه السلسلة الجديدة من المغامرات تعمل بشكل جيد إلى حد ما بأسلوب رجعي، إذا تجاهل المرء أن العديد من هذه التأثيرات الرقمية غير مريحة أبداً أثناء المشاهدة. لكن لا شيء عاطفياً أو سحرياً في الفيلم، لا شيء يتجاوز الآلية التي نعرف مسبقاً أن السلسلة تتقنها عبر إنشاء أجواء ملحمية، بصرف النظر عن كليشيهاتها وأخطائها وعنصريتها واستشراقها.

يُنفق ما يقرب من نصف ساعة من الفيلم في ما يبدو أفضل مشاهده، والذي ينذر بأنه لن يكون فيلم "إندي" الذي توقّعناه. ُجدّد شباب هاريسون فورد رقمياً ليبدو مثل نسخته في الفيلم الأول من العام 1981 (الذي تدور أحداثه في الأربعينيات)، ويظهر مرة أخرى شاباً ومغامراً في خضم نهاية الحرب العالمية الثانية، ويكافح أولاً للحصول على سلاح أسطوري استخدمه يسوع المسيح، ثم يستمر في الاحتفاظ بكنزٍ آخر قد يكون مهماً وحاسماً في المستقبل. آلة تسمّى الأنتيكيثيرا، اخترعها عالم الرياضيات اليوناني أرخميدس، يمكنها التحكم في الوقت وتمكين الناس من السفر عبر الزمن. المشكلة هي أن لديه نصفها فقط، ويتعيّن عليه إيجاد النصف الآخر لتفعيلها. لكن قبل ذلك، عليه العثور على الخريطة!

تنتقل الأحداث من الأربعينيات إلى العام 1969، مع تقدُّم جونز في السنّ (لا تزال هناك لمسات رقمية تخفّض من سنّ فورد من 80 إلى 65 تقريباً) وتقاعده الوشيك من عمله كأستاذ جامعي، بعد طلاقه من زوجته ماريون (كارين ألين)، عقب وفاة ابنهما الوحيد في حرب فيتنام. ولكن هناك طالبة تدعى هيلينا شو (فيبي والر بريدج، فكرة اختيارها للدور رائعة ولكن في النهاية يتضح عدم مناسبتها) لديها خطط أخرى. إنها تريد الحصول على ما تبقى من الأنتيكيثيرا، وهي أداة كان والدها، وهو صديق مقرّب لإندي، مهووساً بها؛ لكن اهتمامها الأساسي هو جني الأموال منها. إندي لا يريد التورّط في هذا الأمر (يعتقد أن السيطرة على الوقت وعد زائف)، لكن النازيين، أسوأ أعدائه، يظهرون، ويمثّلهم الشرير يورغن فولر (مادس ميكيلسن)، ومشاهدو السلسلة يعرفون ما يحدث عندما يوضع الدكتور جونز بمواجهة النازيين.

يهيّئ الفيلم هذا الموقف ويمدّده إلى أكثر من ستة مشاهد من الحركة والتشويق والمطاردة التي تحدث في مواقع هي بالفعل كلاسيكيات في عالم إنديانا جونز (الدار البيضاء وطنجة في المغرب، لكن أيضاً صقلية واليونان)، وفيها يهرب بطلنا، و"صديقته" (ابنته الروحية في الواقع)، وشخصيات أخرى (تظهر أو تعود) بمعجزة من مطاردة النازيين المغيرين. كل هذا يعمل بشكل جيد نسبياً من الناحية السردية، لكنه يحتوي عدداً من التأثيرات والخدع الرقمية الواضحة والمُكلفة بإمكانها سداد ديون عدد من دول العالم الثالث. لا تكمن المشكلة في التأثيرات نفسها، بل في استخدامها السيئ والتخطيطي إلى حد ما.

إجمالاً، الفيلم مُسلٍّ لأن مانغولد راوي قصص كلاسيكي جيد ويعرف أين تذهب الأشياء وكيف توضع على السبورة السردية، لكن نادراً ما يقدّم سيناريو الفيلم أي شيء أكثر من ذلك. ربما يملك المنتجون فيلماً آخر في خزانتهم لإغلاق ملحمة إنديانا جونز، لكن بمشاهدة "نداء القدر" يحصل المرء على انطباع بأنه محاولة فاشلة لتمديد القصة وإطالة عمرها، ربما لتمرير العصا إلى وريثة شابّة (والر بريدج) تملك أسلوباً يشبه أسلوب فورد/جونز الساخر، وترك الأبواب مفتوحة للمزيد والمزيد من الأجزاء المكمّلة. ربما يتخيّلون الآن هاريسون فورد حاضراً على الشاشة بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي في جزءٍ قادم من السلسلة، فيصير الرجل (وشخصيته) خالدين إلى الأبد. ربما، دون أن يدرك هذا، حاول الفيلم تدشين طريقة جديدة للتفكير في السلاسل والأفلام المكمّلة التي لا تقتصر حتى على عمر أبطالها. إذا كان الأمر كذلك، سيكون لدينا نسخ رقمية من إنديانا جونز حتى عندما لا يصبح أحدنا موجوداً على هذا الكوكب

 

المدن الإلكترونية في

13.07.2023

 
 
 
 
 

إنديانا جونز 5: العجوز في عالمه العادي

ميار مهنا

ها هو إنديانا جونز (هاريسون فورد) يعود مجدداً، بعدما داهمه الهرم وحفر الزمن آثاراً على وجهه، ليواجه غرماء جدداً، ويستعيد قطع آثار منهوبة. بعيداً عن حياته الميدانية الشيّقة التي عرفناها لأول مرة عام 1981 مع انطلاق السلسلة، يلامس بطلنا عقده الثمانين في الجزء الخامس من سلسلة إنديانا جونز التي تحمل عنوان Indiana Jones and the Dial of Destiny.

يعيش جونز، عالم الآثار الذي قضى خمسة عقود حارساً لبقايا القدماء، أزمات يألفها أي رجل بلغ الشيخوخة. نراه يائساً بعد التقاعد، مستاءً مما آلت إليه حياته الأسرية، هجرته زوجته ماريون (كارين ألين)، وباغت الموت ابنهما الوحيد. هكذا تنال هموم الدنيا حتى من الأبطال الأسطوريين، فنرى إنديانا جونز الذي اعتدنا عليه بملامحه الجذابة وبطولته التي تحاكي فرسان الملاحم وقصص حبه الدون جوانيّة، غارقاً في عالمه العادي كما لم نعهده من قبل. لكنه سرعان ما سيخلع عنه هذا الدور ويستجيب مجدداً لنداء آتٍ من عالم الشباب إلى المغامرة.

في عام 1977 ابتدع المخرج والمنتج الأميركي جورج لوكاس شخصية عالم آثار بملابس رعاة البقر الأميركيين، عرضها على صديقه المخرج ستيفن سبيلبرغ، ليستقر الاثنان على اسم إنديانا جونز ذي الوقع الموسيقي، وتبدأ صناعة فيلم السلسلة الأول "سارقو التابوت الضائع" المليء بالمغامرات ذات النكهة العجائبية. سرعان ما حجزت شخصية جونز مكاناً لها في الثقافة الشعبية الأميركية، باعتبارها إحدى أيقونات سينما هوليوود.

أخرج سبيلبرغ أجزاء السلسلة الأربعة الأولى واختار الممثل هاريسون فورد بطلاً لها. لعلّ نجاح الفيلم يعود بشكل أساسي إلى الشخصية التي خلقها الفيلم، فجونز بهيئته وأكسسوارات شخصيته أقرب ما يكون لفرسان العصور الحديثة، كما أن الدراسة الأكاديمية أسبغت على شخصيته بعض العصرية، فاتحدت شخصية الدكتور جونز مع فرسان العصور الوسطى ذوي الأصول النبيلة.

لم يلقَ الجزء الرابع من السلسلة النجاح الذي لقيته الأجزاء السابقة، ما جعل سبيلبرغ ولوكاس يتنحيان عن الجزء الخامس، فعادت السلسلة لتكمل ما بدأه الاثنان مع مخرج ومنتج جديدين لكن مع بناء سردي لم يبتعد عما قدماه سابقاً.

بناءً على وصفة العمل التي باتت معروفة لدى مشاهدي السلسلة، عاد المخرج جيمس مانغولد بإنتاج من والت ديزني بعد 15 عاماً لإحياء السلسلة في فيلم تعود أحداثه لعام 1969، إذ تأتي هيلينا (فيبي وولر بريدج) ابنة جونز بالمعمودية لزيارته، وتطلب منه نصف قرص أرخميدس الذي يمكن لمن يستطيع فك شيفرته أن يسافر حيث يشاء بالزمان والمكان.

يتنازع على القرص أيضاً يورغن فولر(مادس ميكلسن) عالم نازي تستعين به الولايات المتحدة للمساهمة في البرنامج الفضائي الأميركي. ومن خلال هذا القرص يسعى فولر للعودة إلى الحرب العالمية الثانية والمساهمة بتغيير التاريخ وتحقيق النصر للنازيين...

مع تقدم جونز في العمر ارتأى مانغولد أن يجعل مسيرة حياته تتقاطع بشكل أو بآخر مع تاريخ الولايات المتحدة بما فيها حرب فيتنام، وذلك بخسارة وحيده في الحرب، عكس الأجزاء السابق التي فضّل فيها سبيلبرغ القفز فوق هذه الحرب.

تيمناً بالجزئين الأول والثالث يستعيد مانغولد جذور الصراع بين جونز والنازيين، مستنداً إلى تاريخ من الانتصارات حققها جونز، كأي بطل خارق يستطيع في كل مرة أن يسحق الأشرار بمفرده. تاريخ الصراع هذا بدأه سبيلبرغ ولوكاس في الجزء الأول في محاولة منهما لجعل السلسلة سلاحاً للثأر من النازيين، فيُصور النازي، قليل الذكاء، عديم الفكاهة، وسهل الخداع، أما في الجزء الرابع نقلا المعركة ضد السوفييت فأصبح جونز كجرل أميركي أبيض، ينتصر بمفرده للإنسانية جمعاء في ضد النازية والشيوعية على حدٍّ سواء.

عداء النازيين والسوفييت هو الخطاب المباشر للسلسلة، لكن في مستوى آخر من الخطاب يمكن اعتبار الأعمال الثلاثة الأولى مثالاً صارخاً عن الاستشراق، لا يخلو فيلم فيها من نظرة استعلائية للآخر، فمعظم رحلات جونز تحدث في الشرق وهناك يتم استحضار المفردات النمطية التي كرستها سينما هوليوود عن المنطقة، فيبدو إنسان هذه البقعة جاهل وغوغائي يحتاج مستكشف أميركي متحضر ليحتضن آثاره في المتاحف الأميركية.

يصوّر العربي في الجزء الأول كتابع وفي الجزء الثاني تمزج الشخصيات التعاطف بالاشمئزاز من الهنود، أما في العمل الأخير الذي تدور بعض أحداثه في مدينة طنجة المغربية طليت المدينة باللون الأصفر الذي يستدعي الشعور بأن شبح الموت يلوح في الأفق المغبرّ، وفي المشاهد التي تدور في الشارع بدا المغرب كمكان متخلّف عن ركب الحضارة التي وصل الغرب إليها.

يتضمن الفيلم رجل عصابات مغربي يطارد كالمجنون جونز وهيلينا بالسيوف والرشاشات، بالإضافة إلى حضور كاريكاتيري للسلطات المغربية في الفيلم، إلا أن مانغولد حاول أن يتجاوز النظرة الاستشراقية في محاولة تضمين شخصيات عربية إيجابية سواء عبر استعادة شخصية صلاح صديق جونز المصري (جون رايز ــ ديفيس) أو تيدي كومار (إيثان إيزيدور) الفتى المغربي الذي أصبح صديق هيلينا بعد محاولة سرقة فاشلة.

أفرط المخرج باستخدام الصور المولدة عن طريق الكومبيوتر CGI، فاستخدمت التقنية في المشهد الافتتاحي لصناعة مشهد فلاش باك يجمع جونز الشاب بمادس ميكلسن، فلجأ مانغولد إلى تصغير فورد، ونجح المخرج من المشاهد الأولى في استحضار حنين المشاهد إلى الأجزاء الأولى من خلال الحفاظ على روح السلسلة التي على الأرجح سيكون جزءها هذا بمثابة الوداع لشخصية أنديانا جونز.

 

العربي الجديد اللندنية في

23.07.2023

 
 
 
 
 

"أسترويد سيتي" لوِس أندرسن: فضاءات أصلية

سعيد المزواري

بعد أن سَبَر ثيمات التفرّد والابتكارية والثورة على السائد، بموشور مقالات متنوّعة، وكواليس تحرير مجلّة شاملة، في فيلمه التجميعي الخلاب "ذا فرانش ديسباتش" (2021)، يدفع وِس أندرسن (1969)، في فيلمه الطويل الـ11، "أسترويد سيتي" (2023)، بحالة "التوحّد" الفني، التي تسم أفلامه الأخيرة، إلى حدود جديدة، بضربه بكلّ معايير السرد الاعتيادي عرض الحائط، مُخلصاً لكتابة فصلية (سيناريو أندرسن ورومان كوبولا)، تضع فكرة تمثّل القصص والشخصيات في السينما وجهاً لوجه مع التقاليد العريقة لمسرح "برودواي"، لإنجاز تبئير مرآوي مُتعدّد الأبعاد.

وهذا ربما يُسبّب دواراً، أو انفصالاً لمن يعتمدون على معلم القصّة، ورهان درامي محدّد في علاقتهم بالأفلام، فلا يجدون غير سعي إلى تماسك داخلي هشّ (مثل لاعبي السيرك) بين تعدّد أصوات، وتعقيد تفاصيل، وتشظّي دلالات، وسيلةً لقول أشياء بالغة الحساسية، عن ثيمة الحِداد، ببُعديها الشخصي المتعلّق بالفقدان (الفراغ الذي يتركه هذا الأخير فكرة محورية حاضرة بقوّة في فيلموغرافيا أندرسن، خاصة في "رَشمور" عام 1998، و"الحياة المائية رفقة ستيف زيسّو" عام 2004، و"دارجيلينغ ليميتد" عام 2007)، والفلسفي المرتبط بالتعايش مع العبثية الجذابة للحياة، وتقبّل الإنسان لمكانته في معادلة وجودٍ مترامية الأطراف، تحيل عليها الصحراء، وفراغ الحفرة الناجمة عن سقوط الحجر النيزكي الماثلة وسطها.

إنّه عام 1955، في "أسترويد سيتي"، مدينة صحراوية صغيرة من وحي الخيال، يلتقي فيها تلاميذ مراهقون وفائقو الذّكاء وأهاليهم بمناسبة مسابقة بين المشاريع المقدّمة، للفوز بمنح دراسة تُنظّم على هامش ملتقى لهواة مراقبة الفضاء. لكنّ أحداثاً غرائبية، ذات بُعد كوني، تُعرقل مجرى الأحداث. أوغي ستينبك (جايزون شوارتزمان)، مُصوّر حروب يصل المدينة في سيارته رفقة ابنه وودرو (جاك راين)، المشارك في المسابقة، وطفلاته الـ3 الشقراوات المتشابهات، مُثقَلاً بالحزن من فقدان زوجته، وعجزه عن إعلان خبر وفاتها لأبنائه. تتعطّل السيارة، فيأخذها أوغي إلى الميكانيكي (مات ديلون)، الذي يخبره أن هناك إمكانيتين: العطل بسيط، يكفي تعويض قطعة بأخرى لإصلاح السيارة، أو أنّ السيارة تهالكت، ولا يُفيد تغيير القطع. لكنّ قطعة من محرّكها تقع على الأرض، وتتلّوى كأنّ جنوناً مَسّها، فاندهش الجميع.

هكذا، يعزف "أسترويد سيتي"، منذ البداية، نغمة الغرابة التي تطبع أفلام الكائنات الفضائية، حين تعلن الأخيرة عن حضورها، في مرحلةٍ أولى، عبر خلل تتركه في سير الأشياء.

مُنجز العبقري وِس أندرسن برمّته يُمكن أنْ يكون جواباً على تساؤل سيرج داني، عطفاً على الناقد الأدبي جان بولهان: "كيف تكون السينما حين تمنحنا، على غرار الأدب الرفيع، العالم، كأنّنا لسنا جزءاً منه؟". ذلك أنّ أسلوبه يحاكي علبة عزف موسيقى (دقيقة وملوّنة ومعقّدة)، تنتج عوالم غريبة ومألوفة في الآن نفسه، ولا تتّخذ محدّداتٍ للزمان (بين الحربين العالميتين، مايو/أيار 1968، إلخ) والمكان (أميركا، فرنسا، اليابان، الهند، وغيرها) إلّا لكي تخلق، انطلاقاً منها، فضاءات أصلية، وأجواءً استثنائية، من دون حاجةٍ إلى بهارات فانتازية، بفضل عبقرية المخرج في هندسة الديكور، وانزياح رؤيته الفنّية، ما يضعه في مكان ما بين "خالق عوالم" بارع آخر، هو تيم بورتون، وعرّاب التوحّد الفني بامتياز جاك تاتي، حتى نكاد نجد في فيلميه الأخيرين تأثّراً بنزوع الجهبذ الفرنسي في "بلاي تايم" (1967) و"ترافيك" (1971) إلى أعمالٍ ـ عوالم تنبذ قوالب السّرد الجاهزة، وديكتاتورية الحبكة.

"داينر"؛ موتيل يقيم فيه الأطفال الموهوبون رفقة أهاليهم، إضافة إلى متمدرسين حلّوا رفقة معلّمتهم ليحضروا الحدث المتزامن مع كسوف شمسي؛ محطّة بنزين؛ حفرة هائلة ناجمة من سقوط حجر نيزكي، مَنح المدينة اسمها؛ محطّة لمراقبة الفضاء، يرتادها علماء مُكرّسون؛ جزءٌ من طريق سيّار معلّق، لا يؤدّي إلى أي مكان (هذا أكثر التفاصيل مينيمالية أو مسرحية)؛ صحراء شاسعة على امتداد البصر.

هذا كلّ ما احتاج إليه أندرسن لتشييد "أسترويد سيتي"، متسلّحاً بشغف الاهتمام الدقيق بالتفاصيل (تشكيلات جبلية، نبات الصبّار، لوحات مكتوبة، آلات توزيع الصودا والحلويات و... الأراضي)، المحيلة إلى مدينة تكساسية صغيرة، من أواسط القرن الماضي، مضفياً عليها ألوان الباستيل (إضاءة مرتفعة وتشبّع منخفض)، قبل أنْ يعمرها بكاستينغ فاخر (أكثر من عادته في الأفلام السابقة)، حتى بات صعباً ذكر كلّ نجوم التمثيل المشاركين في الفيلم.

أشياء قليلة في السينما الحديثة يمكن أنْ تضاهي، في جمالها، اللقطات التي تظهر الشخصيات على موائد الـ"داينر"، تحت الشرفات، بينما تنعكس على وجوههم معيّنات صغيرة، يصنعها ضوء الشمس حين يمرّ من زخارف السقف، كما في لوحتين (1876) للفرنسي بيار أوغُست رونوار، "الأرجوحة" وBal Du Moulin De La Galette، ما يثير الاهتمام لكون وس أندرسن من أشدّ المعجبين بأفلام جان رونوار، ابن الرسّام، حيث قرّر إنجاز فيلم في الهند ("دارجيلينغ ليميتد") منذ مشاهدته "النهر" (1951).

ينشأ تقارب بين أوغي وميتش كامبل (سكارليت يوهانسون)، ممثلة فاتنة، تعيش على حافة الاكتئاب (كيف لا نفكّر في "غير الملائمين"، The Misfits، لجون هيوستن، 1961)، وترافق ابنتها الموهوبة، وتستغلّ فترة الإقامة للتمرّن على دورٍ لا يخلو من القتامة. يقارب المخرج هذا التقارب، ككلّ الثنائيات الأخرى في الفيلم، بمسافة تحضر في الصورة التي يلتقطها أوغي في أول لقاء، تترسّخ في جمالية اللقطة الثابتة والتقابل عن بعد، ليبلغ أوجه في مشهد الحوار البديع عبر نافذتي الـ"بانغالو" الخاص بكليهما (جمالية الإطار في الإطار)، حيث يلتقط أوغي صورة لها على مشارف حوض الاستحمام (تحيل إلى الصورة الوحيدة التي يحتفظ بها لزوجته المتوفّاة)، قبل أنْ يعلّقها في مشهد موالٍ إلى جانب صورة الكائن الفضائي، في تماثل خلّاق، يخلط موضوع الرغبة بمصدر الرهبة.

لكنّ العلاقة مع كامبل ليست مصدر الانشغال الوحيد لأوغي. فما إنْ يُخبر أولاده عن وفاة والدتهم، حتى تطفو على السطح عزلته الوجودية، الناجمة عن تعقيد علاقته بعائلته، وعجزه عن إقامة الحداد على شريكته. هناك مقطع جميل يلتقط اختلاف الأجيال، وأطوار تعلّم الإنسان من تجارب الحياة، في تباين طباع المُراهق وودرو بردّة فعله المكبوحة على الخبر (دمعة وحيدة تنزل على خدّه، قبل أنْ يفصح لاحقاً عن فقدانه الإيمان)، وحماسة الجدّ (توم هانكس في أول تعاون له مع أندرسن)، ليشمل أحفاده بحبّه، لأنّ هذا لا يزال يربطه بالحياة، قبل أن يُفاجَأ بالبون الشاسع الذي يفصله عن عالم الفتيات الـ3، المتنكّرات في زيّ ساحرات، عند عزمهنّ على دفن رماد الأمّ، بينما يعلق أوغي (كالشخصيات الأندرسونية الأصيلة) في مساحةٍ بين كلّ ذلك، باحثاً عن معنى للحياة يتشبّث به، لإتمام المشوار.

يسبق ظهور الأحداث بالألوان تقديمٌ بالأسود والأبيض، على شكل برنامج تلفزيوني من خمسينيات القرن الـ20، يُخبِر فيه المقدّم (براين كرانستون) أنّ ما سنراه عبارة عن مسرحية من 3 فصول، قبل استعراض جوانب من كواليس المسرحية، ورؤية مؤلّفها كونراد إيرب (إدوارد نورتون). مقاطعٌ من البرنامج تتخلّل فصول الفيلم، لتغوص للحظات في استعدادات الطاقم الفني ـ التقني للمسرحية، فنكتشف بفضلها قصة حبّ بين المؤلّف والممثل، الذي يؤدّي دور أوغي. حين ينعي المقدّم، لاحقاً، وفاة المؤلّف، يتبدّى نسق التبئير المرآوي (حِداد أوغي في الكواليس، الذي يجد امتداده على الشاشة/فوق الخشبة).

في أحد أفضل المَشاهد، يعبر أوغي الخطّ الفاصل بين العالمين، ويقابل مخرج المسرحية (أدريان برودي)، ويسأله عن معنى المسرحية، فيجيبه الأخير أنّ المعنى لا يهمّ، وأنّ كلّ ما عليه أنْ يستمرّ في الحكي. يتقدّم إلى خلفية المسرح، ويجد نفسه أمام الممثلة (مارغو روبي)، التي أدّت سابقاً دور زوجته في المسرحية، تطلّ عليه من شرفة مسرح مجاور. بغضّ النظر عن رجع الصدى الذي يخلقه هذا المشهد، مع تقابل أوغي/ميتش في المشهد السابق، يبدو كلقاءٍ بين رجلٍ وزوجته المنبعثة من عالم الأموات. يناديها أوغي بجملةٍ مؤثّرة بتلعثمها الصادق: "أنتِ الزوجة التي أدّت دور ممثلتي"، قبل أنْ يساعده حوارهما على إيجاد الطريق الصحيحة لمواصلة سعيه، الذي يمرّ حتماً بجملة حوار أخرى، تحمل نفحة تأثير غوستاف يونغ ("من ينظر إلى الخارج يحلم، ومن ينظر إلى الداخل يستفيق)، يُكرّرها ممثّلو المسرحية في درس التمثيل: "لا يمكن أنْ تستيقظ قبل أنْ تستسلم للنوم".

يحقّق وس أندرسن، بـ"أسترويد سيتي"، فيلماً شديد البهاء، يُشاهَد بابتسامةٍ عريضة، وانقباضٍ طفيفٍ في القلب. شهابٌ يثلج الصدر بعضويته وسخائه المتفرّد في زمن الـ"بلاكباستر" المقولب، وفظاعات الأبطال الخارقين المتشابهة في غبائها. لا يزال ممكناً مشاهدة مخرج يخلق عالماً حجراً فوق حجر، ونبات صبّار وراء آخر، وسط صحراء إسبانيا، بدلاً من وضع ممثّلين موصولين بأسلاك أمام شاشة خضراء. لا ضير في التقنية بحدّ ذاتها، لكنّ تواتر الإخفاقات، التي تمخّضت عنها بدافع السهولة والربح السريع، أضحى محبطاً. ولعلّ التقارير الإخبارية الأميركية، التي تؤكّد التفوّق البيّن لـ"أسترويد سيتي"، ذي الميزانية المتوسّطة، على الجزء الأخير من ساغا "المتحوّلين"، في شباك التذاكر المحلي، تكفي وحدها لبعث الأمل في مستقبل مشرق لسينما تُراهن على ذكاء المُشاهد حين تخاطب حسّه الرفيع.

 

العربي الجديد اللندنية في

24.07.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004