ملفات خاصة

 
 
 

يوميات مهرجان كان الـ76: (8)

الفيلم المغربي “الثلث الخالي

أمير العمري

كان السينمائي الدولي

السادس والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

أبدى تييري فريمو، مدير مهرجان كان هذا العام اهتماما كبيرا بسينما العرب، فاختار عددا من أحدث الأفلام من العالم العربي أو من تلك التي أخرجها مخرجون ينتمون (ثقافياً) للمنطقة العربية، حتى لو كانت أفلامهم من الإنتاج الفرنسي والتمويل الأوروبي عموما. هذا هو على سبيل المثال حال الفيلم المغربي “عصابات” أول أفلام مخرجه كمال الأزرق الذي عرض في قسم “نظرة ما”، والفيلم الجزائري “بطل الجزائر” أو Omar La Frase (أي عمر الفراولة) وهو الفيلم العربي الوحيد الذي لم أشاهده لتعارض زمن عرضه مع فيلم سكورسيزي الجديد.

كان هناك أيضا في قسم “نظرة ما” فيلم المغربية أسماء المدير “كدب أبيض”، والفيلم السوداني “وداعا جوليا” لمحمد كردوفاني. وطبعا في المسابقة الرسمية، عرض فيلم التونسية كوثر بن هنية، “بنات أولفة”، وهو في رأيي، أضعف هذه الأفلام الروائية العربية جميعها، بل وأضعف أفلام المسابقة عموما، لكن البعض يجد فيه طرافة، وبعض الجدة والتميز. لا بأس، فقد وجدت الأفلام والأعمال الفنية عموما، لكي تثير النقاش والاختلاف. وهو ما يثري النقد شريطة أن يبتعد عن الصبغة الدعائية والتحيز “الشوفيني”!

في تظاهرة “أسبوع النقاد” عرض الفيلم الأردني الممتاز “إن شاء الله ولد” الذي كتبت عنه في المقال الماضي، وفي تظاهرة “نصف شهر المخرجين”، التي جعلوا اسمها منذ هذه الدورة “نصف شهر السينمائيين”، عرض فيلم “الثلث الخالي” كما أطلق عليه مخرجه فوزي بن سعيدي، أو Deserts حسب التسمية الأجنبية. وهو في رأيي، ورغم مشاكله، أفضل أفلام مخرجه الذي بدأ الإخراج السينمائي عام 2003 بفيلم “ألف شهر” الذي عرض في تظاهرة “نظرة ما”. و”الربع الثالث” هو سادس أفلامه الروائية الطويلة (كما أنه شارك بالتمثيل في عدد كبير من الأفلام).

ينتمي الفيلم، خصوصا نصفه الأول، إلى “سينما العبث” إن جاز التعبير، ليس بالمعنى المذهبي، فهو لا يبتعد عن البيئة التي يصورها ويتناول مشاكلها، فهو شديد الارتباط بالمغرب، طبوغرافيا وحياتيا وواقعيا، شخصياته مغربية تماما، وظروف حياتها أيضا تلتصق بالواقع الحالي، لكن معالجته لموضوعه في النصف الأول من الفيلم، تتخذ أبعادا ترتبط أكثر بمسرح العبث، يصيغها في شكل ساخر، في نوع من “الكوميديا السوداء”، التي لا يغيب عنها طوال الوقت، النقد الاجتماعي. وأما التغريب في فيلمه، تغريب المكان وتجريده، ثم تغريب الصورة سوى محاولة للتقريب، وللفت انتباه المتفرج إلى المفارقات التي نتجت عن سوء الأحوال الاقتصادية وفشل الدولة في معالجتها.

أسلوب من هذا النوع من الطبيعي أن يكتسي حينا بالمبالغات، وحينا آخر، بالكاريكاتورية في رسم معالم الشخصيات وتوظيف الإيقاع والحركة السريعة للصورة أحيانا، والقفز السريع من مكان إلى آخر، مع اللقطات القصيرة، في سياق السخرية السوداء خصوصا في مشهد الاجتماع الذي تعقده مديرة الوكالة لتهديد الموظفين والاستغناء عن بعضهم خلال الاجتماع والأمر بطرده من المكان على الفور. لكنه يعود بعد ذلك، إلى شخصياته الرئيسية، والى حواراتهما الغريبة المضحكة ومشاجراتهما حول أشياء تافهة بما يشي أنها واقعان تحت الضغوط.

لدينا هنا شخصيتان رئيسيتان: مهدي وحميد. كلاهما يعمل لدى وكالة إقراض في الدار البيضاء، لكن الواضح أنهما أهملا في أداء عملهما الذي ينحصر في تحصيل أقساط القروض، فتأمرهما مديرة الوكالة بالذهاب لكي يحصلوا من الدائنين المتأخرين مباشرة عن الأقساط المتأخرة من القروض التي حصلوا عليها. وعليهما العودة بما يمكن تحصيله بشكل مقبول وإلا سيتم طردهما من العمل.

وفي سياق كسياق أفلام الطريق، يرحل مهدي وحميد في سيارتهما العتيقة القابلة للعطل بين وقت وآخر، ويذهبان إلى قرى بعيدة في قلب الصحراء المغربية في الجنوب، لكنهما كلما بلغا عنوان أحد “الدائنين” يجدونه شخصا بائسا، فقيرا، يعاني شظف العيش، لا يملك ما يمكنه رده من المال. لكنهما يريدان الحصول على أي شيء. تارة يصادران سجادة وحيدة من منزل أحدهم، رغم مناشدته لهم بالقول انها السجادة الوحيدة التي يرقد فوقها أبناؤه، وتارة أخرى يصادران عنزة، يضعانها في السيارة من الخلف، ومرة ثالثة يستوليان من رجل على مبلغ من المال يقتسمانه.

مهدي وحميد كائنان غريبان في شكلهما ووجودهما على رقعة الصحراء: فهما يصران على ارتداء الملابس الرسمية: البذلة الزرقاء وربطة العنق، يكافحان للسير وسط الرمال، كما لو كانا كائنين قادمين من كوكب آخر الى كوكب الأرض. لكنهما ليسا من “الروبوت” أو بلا مشاعر، فلديهما أيضا، كما يكشف الفيلم، متاعبهما الحياتية الخاصة. كثير من المعاناة والشقاء الاجتماعي والشعور بالغربة والرغبة في الفرار من الواقع.

سنعرف من خلال مشاهد قصيرة، أن زوجة حميد تخلت عنه وهجرته وتركت له ابنتهما الوحيدة التي تركها بدوره في رعاية أمه، لكن الأم التي لا تجد ما تكفل لها وللبنت الحد الأدنى من العيش، تقترح على ولدها بيع البنت، أو بالأحرى، التخلي عنها لأسرة تريد أن تتبناها مقابل المال. وتقول إن هناك وسيطا عرض عليها التوسط في الأمر. أما “مهدي، فهو مرتبط بخطيبته الخاضعة لوالديها: الأب مدمن الخمر والأم المتسلطة، اللذان يطالبانه بما لا يمكنه تحقيقه بسبب حالته المالية البائسة.

الصحراء هي متاهة الحياة، رمز لفقدان الصلة بالعالم الحديث، والسيارة التي هي رمز الحياة الحديثة، شبه عاجزة، بل إنها ترفض في مرحلة ما، أن تتحرك، وعندما يوكلان أمر إصلاحها الى ميكانيكي ينزع سقفها ومقدمتها ثم يقوم بتركيبهما بشكل معاكس. الكوميديا تتفجر من خلال مثل هذه المفارقات الغريبة، ومع حس السخرية، هناك دائما حس النقد الاجتماعي: البطالة والفقر واهمال الدولة للريف والجفاف، وانهيار العلاقات الاجتماعية. ولكن هذا كله في سياق ينطلق من الواقع لكنه يصل الى السريالية في صور عديدة، أي ليس من الممكن تخيلها في الواقع. فهي “خارج الواقع” من ناحية الشكل، وهو السياق الطبيعي لتلك المفارقات التي تبدو مستحيلة.

في النصف الثاني من الفيلم يلتقي مهدي وحميد بشخص ثالث لا اسم له: سجين هارب مقيد اليدين، قبض عليه رجل يعرض أن يسلمه لهما لكي يتوليان بدورهما تسليمه للسلطات في المدينة، مقابل مبلغ من المال. ولم لا؟ فهما في أمس الحاجة للحصول على هذا المال. هذا السجين له قصة مأساوية، فهو يريد العودة الى بلدته لكي ينتقم من الرجل الذي خدعه ولفق له تهمة، ثم استولى على المرأة التي يحبها لنفسه وتزوجها رغم أنفها. وخلال الرحلة يستولي السجين على السيارة ويهرب منهما عائدا الى بلدته لتحقيق انتقامه، وبالتالي يفقدان “المكافأة”. ومن هنا يغيب البطلان مهدي وحميد عن الفيلم لمدة طويلة، ويتوه السرد ويتفرع السيناريو بعيدا عن جوهر الفيلم ويفقد الفيلم إيقاعه ويترهل.

الصحاري” عنوان الفيلم الأجنبي، هي صحاري الأسى والجفاف والموت، هي الحياة كما أصبحت الآن مع كل ما يحدث في العالم من زحف لقيم العولمة، ثم تهميش الهامش ودفع المهمش أكثر خارج الدنيا العصرية. والنصف الأول من الفيلم يبدو طريفا، تشيع فيه الكوميديا من خلال العبث والصور السريالية والمفارقات، بينما يتجه الفيلم في النصف الثاني تدريجيا نحو التفلسف، وطرح التساؤلات حول معنى العيش، وقيمة الحياة وسط كل هذا الجفاف، جفاف العلاقات ومن ثم، جفاف الروح. ويصبح الفيلم بالتالي تحسرا على المصير الإنساني.

هناك بعد ديني في الفيلم، تساؤلات حول علاقة الانسان بالله، وفكرة التسليم بقضاء الله وقدره، وانتظار الفرج منه، من دون أن يبذل الإنسان جهدا للخلاص من حالة التردي والتدني التي يعيشها. وهناك تساؤلات عن العلاقة مع المرأة، ومع الإبنة، وعن الصداقة والحب، المدينة والهامش، العمل والمكابدة الأبدية.. وغير ذلك.

أراد فوزي بن سعيدي أن يروي القصتين في فيلم واحد، لكن بسبب اختلاف طبيعة القصتين، يعاني الفيلم من غياب وحدة الأسلوب، بين الواقعية السحرية، مع لمسات سريالية، وتغريب بديع، يخدم الفكرة في القسم الأول، إلى نوع من الإثارة وطابع أفلام الجريمة، يكتسي بمسحة من الغموض والضبابية وإن ربطها أيضا بمسألة القروض والديون، فانقسم فيلمه بالتالي، إلى فيلمين، وبدا بعض التفكك في البناء والتكرار والإطالة.

إلا أن عنصر التمثيل يبقي على اهتمام المتفرج بعمل متميز في صوره ومناخه العام: لقطات الصحراء العامة البديعة، التي تكثف ضآلة الانسان وهامشيته، فالصحراء راسخة تتحدى وجود الإنسان نفسه بصمتها الأزلي، ثم اللقطات القريبة من مهدي وحميد، التي تتداعى مع اقترابنا أكثر من التعرف على الخلفية الانسانية لهما. أي بعد أن يصبح وجودهما وجودا محسوسا إنسانيا وليس كاريكاتوريا، والموسيقى التي تضفي طابعا سحريا على الفيلم.

الفيلم تجربة جريئة دون شك، فيها من الطموح كما أن فيها من الاجتهاد في الشكل والتجريب في السرد واستخدام مفردات اللغة السينمائية (علاقة الصوت بالصورة عموما)، والاهتمام الكبير بالحوار، مع الابتعاد عن الاستطراد في الصور الفولكلورية. وقد تميز كثيرا الأداء في الفيلم من جانب ممثلي الدورين الرئيسيين: فهد بن شمسي وعبد الهادي طالب.

 

موقع "عين على السينما" في

10.06.2023

 
 
 
 
 

على هامش مهرجان كان:

كوثر بن هنية تواصل التحليق بالسينما التونسية في سماء العالمية

روعة قاسم

تونس ـ «القدس العربي»: اتفق أغلب النقاد والمهتمين بالسينما على أن المشاركة التونسية الأخيرة في مهرجان كانت متميزة إلى أبعد الحدود وستشجع السينمائيين في تونس على الاجتهاد والإبداع وتحقيق النجاحات. فقد شارك فيلم «بنات ألفة» للمخرجة المتألقة على الدوام كوثر بن هنية في المسابقة الرسمية للمهرجان من أجل الفوز بالسعفة الذهبية وذلك بعد عملية انتقاء طالت عددا كبيرا من الأفلام ليستقر الأمر على 20 فيلما فقط.

وللإشارة فإن هذا الفيلم هو أيضا من تأليف كوثر بن هنية، وقد أنتجه كل من حبيب عطية ونديم شيخ روحه، وهو الفيلم العربي الوحيد الذي شارك في المسابقة الرسمية لهذا المهرجان العالمي. والفيلم هو روائي ووثائقي تسجيلي في نفس الوقت، حيث حصل فيه دمج، إن دل على شيء فهو يدل على عبقرية كوثر بن هنية التي تشق طريقها بثبات في عالم الفن السابع، وتحصد باستمرار الجوائز والتكريمات.
وبهذا الفيلم تعود السينما التونسية إلى العالمية من أوسع الأبواب وهي التي غابت عن المسابقة الرسمية لمهرجان كان لأكثر من نصف قرن، وذلك منذ أن شارك المخرج عبد اللطيف بن عمار سنة 1970 في المسابقة الرسمية للمهرجان بفيلمه «حكاية بسيطة كهذه». ومن خلال كوثر بن هنية أيضا وبفضل فيلمها «الرجل الذي باع ظهره» تواجدت السينما التونسية في جائزة الأوسكار في كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية مع عمالقة السينما العالمية.

وتواجدت كوثر بن هنية السنة الماضية أيضا في كان لكن ليس بصفتها كمخرجة بل كرئيسة لإحدى لجان التحكيم في المهرجان، ورأى البعض يومها في ذلك التعيين اعترافا ضمنيا بتميز هذه المخرجة التي ولدت ونشأت وترعرعت في مدينة سيدي بوزيد التونسية. ومن تلك المدينة كانت انطلاقتها إلى رحاب عالم السينما اللامتناهي لتحلق عاليا في البداية وفي وقت قياسي مع ألمع مخرجي السينما التونسية، ثم تشق طريقها بثبات نحو العالمية في هدوء ودون إثارة الضجيج أو لفت الانتباه في وسائل الإعلام ومواقع التواصل.
درست كوثر بن هنية الإخراج السينمائي في معهد الفنون والسينما في تونس العاصمة ثم سافرت إلى فرنسا حيث درست كتابة السيناريو وهو ما جعلها مخرجة وكاتبة في الآن نفسه. وأنجزت هذه المخرجة التونسية أفلاما قصيرة وأخرى طويلة، كما أنجزت أفلاما وثائقية ونالت جميعها جوائز في مهرجانات عالمية وهو ما أكد للبعض أن جوائزها في بلدها تونس وتحديدا في مهرجان أيام قرطاج السينمائية، أعرق المهرجانات العربية والأفريقية على الإطلاق، كانت مستحقة.

جوائز مستحقة

نال فيلم «بنات ألفة» جائزة «السينما الإيجابية» التي تمنح للفيلم الأكثر إيجابية من بين الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية، أي الفيلم الأكثر تناولا للسينما كوسيلة لتغيير النظرة إلى العالم وتوعية الأجيال القادمة بضرورة خلق عالم إيجابي. كما نال بنات ألفة جائزة «تنويه خاص» التي تسندها لجنة جائزة الناقد فرنسوا شالي والمشكلة من نقاد وصحافيين وتقدمها جمعية فرنسوا شالي. ونال الفيلم أيضا في مهرجان كان جائزة العين الذهبية وتعد هذه الجائزة من أبرز جوائز هذا المهرجان وهي مؤهلة لفئة الأفلام الوثائقية الطويلة لأكاديمية جوائز الأوسكار.

ولعل أهمية الفيلم تكمن في كونه نابعا من الواقع ويصور قصة حقيقية حصلت في تونس خلال السنوات الماضية التي عرفت فيها البلاد بعد الثورة انتشار الإرهاب بشكل لافت وغير مسبوق. حيث تلتحق بنتان من جملة أربع هن بنات ألفة الحمروني بتنظيم إرهابي وينتهي الأمر وهما سجينتان وتكافح الأم من أجل إنقاذهما من السجن وفي الوقت ذاته حماية البنتين اللتين لم تنخرطا مع هذه الجماعات التي نشطت في تونس بعد الثورة.
والفيلم هو من بطولة الممثلة التونسية هند صبري ومجد مستورة، بالإضافة لبطلات القصة الحقيقية وهن ألفة الحمروني وابنتاها آية وتيسير شيخاوي، وتؤدي دور البنتين السجينتين الممثلتان نور خوري وإشراق مطر. ويؤكد النقاد على أن اختيار الفيلم من جملة 20 فيلما فقط للمشاركة في المسابقة الرسمية لمهرجان كان لم يأت من باب الصدفة بل كان نتيجة لإبداع المخرجة المجددة في عالم السينما والتي قامت بنقلة نوعية للسينما التونسية وجعلتها محط أنظار الكبار.

ويذكر أن الفنانة التونسية هند صبري تتواجد للمرة الأولى في المسابقة الرسمية لمهرجان كان بهذا الفيلم التونسي وذلك رغم مشاركتها في عدد لا يحصى من الأفلام المصرية. وحتى تواجدها السابق في مهرجان كان، خارج إطار المسابقة الرسمية، كان من خلال السينما التونسية أيضا وذلك سنة 1994 من خلال فيلم «صمت القصور» للمخرجة التونسية الراحلة مفيدة التلاتلي، وفاز الفيلم وقتها بجائزة الكاميرا الذهبية عن قسم «نظرة ما».

إبداع حقيقي

تقول الإعلامية التونسية المتخصصة في الشأن الثقافي منى بن قمرة في حديثها لـ«القدس العربي» إن فيلم «بنات ألفة» للمخرجة كوثر بن هنية هو إبداع بكل ما للكلمة من معنى وبدون مبالغة. ويبرز الإبداع حسب محدثتنا في المزج بين التمثيل والواقع، أي بين الفيلم الروائي والفيلم الوثائقي بطريقة احترافية تدل على موهبة كوثر بن هنية وحبها لعملها ورغبتها المستمرة في النجاح.

وتضيف محدثتنا قائلة: «الجميل في كوثر بن هنية أنها تعمل وتبدع في صمت ولا تصنع تلك الضجة التي يفتعلها أشباه النجوم للفت الأنظار إليهم، وفي كل مرة نعتقد أنها غابت عن الأضواء يتبين لنا أنها كانت منكبة على إنجاز عمل ما. ويخرج هذا العمل مبهرا للمتلقي يثير الإعجاب ويتحدث عنه الجميع وينال الجوائز العديدة ويزيد من إشعاع السينما التونسية في الداخل والخارج باعتبار أن كوثر بن هنية نجحت في وطنها قبل أن تنجح في الخارج وراكمت التجارب رغم حداثة عهدها بعالم الإخراج السينمائي مقارنة بغيرها.

لقد استطاعت كوثر بن هنية في وقت قصير جدا أن تخط إسمها بأحرف من ذهب مع كبار السينمائيين في تونس وتوقع لها الجميع بمستقبل باعتبارها مخرجة وكاتبة سيناريو استثنائية. نعم أمام كوثر بن هنية وقت طويل لتبدع أكثر وتحصد المزيد من الجوائز وتخلد أعمالها ولتبهر التونسيين والعالم أكثر فأكثر وذلك بالنظر إلى ما تحقق إلى حد الآن في هذه الفترة الزمنية الوجيزة».

لقد وضعت كوثر بن هنية، حسب محدثتنا، سقفا للسينمائيين التونسيين لم يعد بإمكانهم النزول عنه، وهو ما يحتم عليهم مضاعفة الجهد للحاق بها والإرتقاء بالسينما التونسية لبلوغ العالمية كما وكيفا. فالعمل، حسب بن قمرة، والطموح للوصول إلى أعلى المراتب مع العزيمة والصبر والمثابرة يحقق النجاح لصاحبه وهو ما قامت به كوثر بن هنية وما على البقية إلا الإقتداء بها والنسج على منوالها في صمت.

عمل متفرد

من جهتها تعتبر الإعلامية التونسية سامية حرار في حديثها لـ«القدس العربي» أن فيلم «بنات ألفة» سيحصد المزيد من الجوائز بعد مهرجان كان باعتبار تفرده من حيث القصة والسيناريو ومن حيث الإخراج. كما أنه يتفرد، وحسب محدثتنا، بمعالجته لقضية الإرهاب من خلال قصة واقعية شهدتها تونس بعد الثورة وكانت مثالا حيا على ما عاناه البلد خلال السنوات الماضية بعد انفلات الأمور قبل أن يستقر من جديد ويستعيد عافيته الأمنية.

وتضيف محدثتنا قائلة: «لقد كان حضور كوثر بن هنية وفريق فيلم (بنات ألفة) لافتا في مهرجان كان في الحفل البهيج وجلب إليه الأنظار وتحدث الإعلام العالمي المتخصص بإطناب عن الفيلم ومخرجته وبطلاته وكانت هناك إشادات باحترافية العمل سواء تعلق الأمر بالمخرجة أو الممثلين أو التقنيين. وبالتالي يمكن القول إن كوثر بن هنية شرفت السينما التونسية كما يجب، والكل يثق في قدرتها على مزيد التشريف في قادم السنوات وما على الدولة والقطاع الخاص إلا مزيد دعم السينما في تونس لتتحول إلى صناعة حقيقية.

لقد أثبتت كوثر بن هنية سواء بمشاركتها الأخيرة في كان، أو في مسابقة الأوسكار ومن خلال حصدها لعدد كبير من الجوائز في المهرجانات، أن العالمية ليست أمرا صعب المنال وأنه وجب البناء على ما تحقق لتطوير السينما التونسية والعمل على أن لا تبقى كوثر بن هنية حالة فريدة ونادرة في المشهد السينمائي التونسي. وجب خلق مخرجين ومخرجات كثر تتوفر فيهم الاحترافية المتوفرة لدى كوثر بن هنية، ووجب تشجيع القطاع الخاص على دعمهم المادي بعد أن لعبت الدولة هذا الدور في البداية، لأن المال قوام الأعمال ومن دونه لا يمكن خلق صناعة سينمائية».

 

القدس العربي اللندنية في

10.06.2023

 
 
 
 
 

يوميات كان الـ76 (9):

“عن الأعشاب الجافة” تحفة نوري بيلجي جيلان!

أمير العمري

بعد نحو عشر سنوات على فوز فيلمه “البيات الشتوي” Winter Sleep (2013) بـ”السعفة الذهبية” يعود المخرج التركي الكبير نوري بيلجي جيلان إلى مسابقة مهرجان كان بفيلمه الجديد “عن الأعشاب الجافة”About Dry Grasses الذي لا يقل طولا من ناحية الزمن، عن أفلامه المعروفة السابقة (فهو يقع في 3 ساعات و16 دقيقة). فأفلامه من نوع خاص جدا، تفيض بالحوارات الذهنية والفلسفية، وتتوقف أمام “أفكار” من خلال البحث داخل “شخصيات” في سياق “المكان” ذي الطبيعة الخاصة، هنا يمكن القول إن أفلامه تتمحور باستمرار حول هذا الثلاثي الأساسي في أي فيلم من أفلامه: الشخصيات، الحوار، المكان.

المقصود هو أن “أفكار” الفيلم يتم التعبير عنها وتصلنا من خلال هذه المفردات الثلاثة، لكن يظل دور الصورة أساسيا: الطريقة الخاصة التي يتعامل بها جيلان مع الصورة: اللقطات الطويلة سواء بكاميرا متحركة حركة بطيئة للغاية، أو اللقطات الثابتة الطويلة، الولع الخاص بتصوير البيئة الصعبة: مناظر الثلوج المنتشرة التي تغطي الأرض تماما وتجعل من الخطورة السير فوقها (كانت الثلوج أساسية في “البيات الشتوي” و”شجرة الكمثرى البرية”)، والخطورة هنا تصطبغ بصبغة رمزية، كما أن لها طابعا جماليا وذهنيا فهي تكثف الشعور بالعزلة والضآلة، واللقطات العامة جدا من بعيد، أو wide long shot مع استخدام الشاشة العريضة، تساهم أيضا في زيادة الشعور بضآلة الإنسان أمام الطبيعة، ثم الاستخدام المكثف للقطات المتوسطة التي يحصر فيها شخصياته وهي تتحدث، وهو اختيار يخلق مسافة بين الصورة والمتفرج، يسمح له بالتأمل في مغزى الحوارات الذهنية المكثفة المستمرة التي تستغرق زمنا طويلا على الشاشة لكنها تكشف عما في داخل الشخصيات، من أفكار.

وكما هي العادة في أفلام نوري بيلجي جيلان، لدينا هنا أيضا، في هذا الفيلم الجديد، شخصية رئيسية مليئة بالتناقضات، فيها من الرقة بقدر ما فيها من الخشونة، ومن السلبية، أو من النظرة “الكلبية” للعالم التي تحمل استهانة بالآخرين والتقليل من شأنهم أو حتى رفضا لهم، والمحاولة المستمرة لتبرير الذات من دون أن تمتلك هذه الشخصية رؤية بديلة، فهي شخصية مضطربة، محصورة داخل ذاتها المحملة بالأثقال.

الشخصية الرئيسية في فيلم “حول الأعشاب الجافة” مدرس يذهب للعمل كمدرس في شرق الأناضول، في بيئة ريفية جافة تماما، يصفها هو بأنها لا تعرف سوى فصلين فقط في السنة، الشتاء الذي تمتد فيه الثلوج لتغطي الأرض، والصيف الذي تعود فيه الأعشاب الصفراء إلى لونها البني وجفافها المرهق الأبدي. هذا المدرس هو “ساميت” (في الثلاثينات من عمره)، هو مدرس للفنون، يتعين عليه بموجب قانون التكليف الإجباري، قضاء 4 سنوات في التدريس لتلاميذ المرحلة الابتدائية في تلك المنطقة النائية. وهو الآن في منتصف السنة الأخيرة من تكليفه الاجباري، يتطلع شوقا للعودة إلى المدينة الكبيرة، إسطنبول التي أتى منها.

ساميت يشعر بالضجر من البيئة ومن المكان ومن زملائه المدرسين الذين يراهم يوميا في المدرسة. إنه يذكرنا، على نحو ما، ببطل فيلم “البوسطجي” المصري للمخرج حسين كمال (عن قصة يحيى حقي)، في شعوره الحاد بالاغتراب عن المكان، ورفضه لمهنته، وتساؤله المستمر (ماذا أفعل في هذا العمل وفي هذا المكان).

إنه يقوم بتعليم التلاميذ الرسم، لكنه يفضل فتاة معينة هي “سيفين”- ابنة الثانية عشرة- الجميلة المتألقة المليئة بالحيوية والحياة، المتفجرة بالذكاء. وهو يعاملها معاملة خاصة، تذهب إليه في مكتبه أحيانا، يمنحها بعض الهدايا الصغيرة، يفضلها عن زملائها، وهي أيضا مغرمة به. لكن ذات يوم تعثر إحدى المعلمات في كراسة سيفين على رسالة غرامية من الواضح أنها موجهة لساميت، وتعطيها له. تذهب سفين إليه وهي تشعر بالحرج الشديد، تريد أن تسترد الرسالة، لكنه يزعم أنه مزقها وتخلص منها. أما هي، فتعرف أنه مازال يحتفظ بها، وأنه يكذب. فهو أيضا مراوغ ويخفي شعورا خاصا بالرغبة في الحصول على نوع خاص من التعويض” النفسي ولو عن طريق خطاب بريء من طفلة. لكنه يقول لها إنه تخلص منها لكي يحميها.

ساميت يتشارك في السكن مع زميل له هو “كينان” وهو أقدم منه في المدرسة، وأكثر وسامة ومرحا واتساقا مع المكان فهو ابن المنطقة. العلاقة بينهما تبدو في البداية جيدة، لكن ما سيحدث أن يستدعى الاثنان للتحقيق أمام مدير المنطقة التعليمية، بناء على شكوى من بعض التلميذات (لا تذكر الأسماء أبدا) يتهمن ساميت وكينان بارتكاب نوع من التحرش الجنسي (الملامسة). ويستنتج ساميت على الفور أن “سيفين” هي التي تقدمت بالشكوى لتحقيق انتقامها الخاص، ثم يبدأ في القاء اللوم على كينان ويعتبره المسؤول عن تلك “التجاوزات” كونه يتبسط كثيرا مع تلاميذه، إلا أن المدير يتستر على الأمر ويغلق ملف التحقيق اكتفاء بشهادة المدرسين الاثنين.

العلاقة بين ساميت وكينان تتعقد أكثر بعد أن يتعرف الاثنان على امرأة شابة جذابة تعمل معلمة في مدرسة أخرى في بلدة قريبة. وهذه هي “نوراي”، التي يغرم بهما الاثنان لكنها تبدو أكثر انجذابا إلى “كينان”، الأمر الذي يثير غيرة ساميت ويدفعه أكثر إلى استدعاء الجانب القاتم من شخصيته، فيتجنب اخبار كنعان بدعوة على العشاء توجهها نوراي وتخبره بها، ويذهب وحده إليها حيث يدور بينهما حوار كاشف.

نوراي فقدت إحدى ساقيها في هجوم إرهابي. إنها مدرسة وناشطة ومثقفة يسارية، والمنطقة التي تدور فيها الأحداث، نعرف من البداية أنها مليئة أيضا بالصراع السياسي، فالأكراد ناشطون، والقمع الحكومي مستبد، والجماعات اليسارية تريد التغيير، ولكن بيلجي جيلان يكتفي بالوقوف على تخوم السياسي، ليتجه أكثر نحو الفلسفي، مع لمس بعض الأفكار الدينية، فهو يطرح من خلال شخصية ساميت ونوراي فكرة المصير الإنساني: هل يختار الانسان مصيره أم أنه مكتوب عليه، وهل “يجب أن يكون الجميع أبطالا؟” كما يتساءل ساميت، أم أن كل شخص يمكن أن يكون بطلا في نطاقه الخاص، وهل يمتلك هو أي رؤية لدوره في المجتمع، وما هو الفن، وما دوره وعلاقته بالناس والحياة، هل هو مجرد “خدعة” كما يكشف لنا جيلان بالفعل عندما يجعل ساميت يغادر المنزل العتيق بأثاثه البديع الذي تقيم فيه “نوراي”، يخبرها أنه ذاهب إلى “الحمام” فيخرج خارج المنزل لنكتشف أنه خرج من الديكور ثم يعبر مكانا أشبه بموقف سيارات مغلق لا صلة له بالقرية ولا بالمنزل نفسه، فجيلان يريد أن يردنا إلى فكرة أننا نشاهد فيلماً مصنوعاً، وأن المهم، ليس الاندماج في الحدث، بل أن نتأمل في الشخصيات وفي الأفكار التي تتردد في الفيلم.

إن “عن الأعشاب الجافة” هو أساسا فيلم شخصيات، وكل عنصر من عناصره مسخر لتكثيف الشخصية الرئيسية في علاقتها مع باقي الشخصيات، وحوارات الفيلم كعادة أفلام جيلان، طويلة ومرهقة لكنها طبيعية تماما، ومثيرة للفكر، ومن دونها لا يمكن للفيلم أن يوجد، فهي تحمل الأفكار، وسينما بيلجي جيلان هي سينما ذهنية، ولن يمكن للمتفرج المعتاد على مشاهدة الأفلام السهلة التي تروي قصصا بسيطة، أن يستمتع بها سوى بعد تدريب مرهق.

نوراي تبدو أكثر ذكاء من ساميت، هي تدخل معه فيما يشبه “المبارزة” الفكرية، تتوقف مثلا أمام ما يبديه من رغبة في العودة إلى إسطنبول لتسأله: انت تتحدث كثيرا عن رغبتك في العودة ولكن هل لديك أي خطة محددة لما ستفعله بعد انتقالك الى إسطنبول؟ وهل تعرف ماذا يمثل ذلك الانتقال، ما هو الفرق؟ أم أنها مجرد رغبة تنم عن السأم والتغيير من أجل التغيير تحت وهم أن المدينة الكبيرة أفضل من القرية الصغيرة؟ طبعا هذا هو المعنى المستخلص مما تقوله وليس كلامها بصورة حرفية، فاستخلاص المعاني هو المقصود من حوارات الفيلم عموما.

لقد فقدت نوراي ساقها وأصبحت تعتمد على ساق صناعية، وهي تنزع هذه الساق وربما تحت تأثير حرارة الحوار والخمر والجو الخاص، تريد أن تختبر رغبة “ساميت” في إقامة علاقة جسدية معها، فهي أيضا تريد أن تشعر بأنها لاتزال امرأة يمكنها أن تجذب الرجال، وهو ما يمنحها إياه ساميت في مشهد اللقاء الجنسي في الفراش بينهما. لكننا سنلمح أيضا فيما بعد، كيف أنه يستمتع بتعذيب صديقه “كينان” الذي يغضب بالطبع عندما يعلم أن ساميت ذهب وحده ويأخذ في التساؤل الذكوري القلق المعتاد عما إذا كان قد نام معها، خصوصا وقد رأى أنه عاد إلى المسكن في الصباح!

شخصيات قلقة، معذبة، جزء منها ضحية الواقع، وجزء آخر ضحية نفسه أو تقاعسه الذاتي عن الفعل، عن الاختيار. وهنا تفرض تركيا بمشاكلها وتناقضاتها نفسها على الحدث وعلى تلك الشخصيات القلقة المضطربة، ولو على صعيد الخلفية المثقلة بالهموم. فهذا ليس من الممكن أن يكون مجتمعا آمنا، مستقرا، ينتج الأمل. وفي إحدى حوارات الفيلم تتردد عبارة “التعب من الأمل”، أي الملل من ذلك الانتظار الطويل المرهق كثيرا لرؤية شيء أفضل يحدث، ولكن جيلان يؤكد لنا أيضا، أن انتظار الأمل خير من غياب الأمل.

حصلت “نيرف ديزدار” على جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان عن أدائها البديع الواثق المعبر الذي يفيض بالشجن والصدق الانساني في دور “نوراي”. وربما كان يجب أن تشاركها هذه الجائزة، الممثلة الصغيرة المتألقة “بادجي اتشيه” التي قامت بدور “سيفين”، فهى موهبة سيكون لها دون شك، مستقبل مشرق في السينما التركية، وقد عبرت بتلقائية كبيرة، وتماهت تماما مع الشخصية، ونجحت في أن تضفي بابتسامتها التي تظهر ميلا للمعابثة والمشاغبة الطفولية اللذيذة، عذوبة على المشاهد التي ظهرت فيها، ولكنها عندما غضبت، أظهرت ميلا للشدة والكيد والانتقام.

ومن جهة أخرى يجب أن نمنح الممثل دنيز شيليلوغلو” ما يستحقه من تقدير عن أداء دور “ساميت” المركب، الذي يتقلب بين الوداعة والغضب، الرقة والرفض، يعامل الأطفال بكل ود لكنه يتحول في لحظة ليصب غضبه عليهم ويعاقب بمنتهى الشدة عندما يشعر أن سفين تسببت له في تلك المشكلة، لكنه أيضا يملك الدفاع عن أفكاره، ولابد أنه يعود بعد ذلك لمراجعتها، فقد تردع بعضا من صلفه وغروره وشعوره الراسخ بالاستعلاء على الآخرين. وأمامه يبدو أداء الممثل “مصعب إكيتشي” في دور “كينان” أداء بسيطا، غير متكلف، يفيض بالحيوية والحرارة التي تتماثل مع شخصيته.

عن الحشائش الجافة” تحفة أخرى جديدة من التحف السينمائية التي يقدمها لنا نوري بيلجي جيلان، الذي تظل أفلامه أفضل ما يأتينا من تركيا في الوقت الحالي: شجاعة في الفكر، وأصالة في اللغة والسرد، ومتعة في المتابعة والتعلم.

 

موقع "عين على السينما" في

11.06.2023

 
 
 
 
 

حضور السينما المغربية في كانّ 76 طفرة أم مصادفة؟

هوفيك حبشيان

أفلام مغربية عدة عُرضت في مهرجان كانّ السينمائي في الدورة المنتهية قبل أيام (16 - 27 أيار)، متصدّرةً المشهد السينمائي العربي والأفريقي والمغاربي، ممّا فتح نقاشاً في المغرب والبلدان المحيطة بها حول أسباب هذا النجاح الذي أوصل أفلاماً "صُنعت في المغرب" إلى أهم تظاهرة سينمائية في العالم خلافاً للتوقعات وتجاوزاً لـ"الحصّة" المخصصة لها عادةً. فالمهرجان منبر مهم، وضم أي فيلم إلى الاختيار الرسمي أو إلى الأقسام المحاذية له، دليل على امتلاكه حداً أدنى من الجودة. هذا الحضور، تسبب بغيرة بعض السينمات العربية الأخرى، التي، رغم تاريخها، تراجع وجودها في المحافل الدولية إلى حدّ الغياب التام أحياناً. عسى ان تتحول هذه الغيرة إلى محفّز حقيقي لها للنهوض مجدداً وتسجيل الحضور.

الأفلام المغربية الثلاثة هي: "#العصابات" لكمال لزرق و"كذب أبيض" لأسماء المدير، المعروضان في قسم "#نظرة ما"، و"#الثلث الخالي" لفوزي بن السعيدي المشارك في "أسبوعا المخرجين والمخرجات". هناك أيضاً "أيور" لزينب واكريم، فيلم قصير ضمن "سينيفونداسيون". هذا بالإضافة إلى الفرنسية من أصل مغربي منى عشّاش التي قدّمت "فتاة زرقاء صغيرة" (إنتاج فرنسي بلجيكي).

خلف هذا الحضور المغربي في كانّ، سنوات من العمل والاصرار والدعم ولحظات الفشل أيضاً. العقدان الأخيران ساهما في إعداد الأرض وتطوير الأشياء. وللراحل نور الدين الصايل (1947 - 2020)، الناقد والفيلسوف ورئيس المركز السينمائي المغربي السابق، يد في أعمال التطوير، فهو في الأقل أنقذ #السينما المغربية من مستنقع "سينما المناسبات" (هكذا كان يسمّيها) التي تطل برأسها بين حين وآخر، قبل انتعود إلى سباتها العميق، في مجتمع حافل بالتناقضات، يترجّح بين التقليد والحداثة، بين الانفتاح على الغرب والتمسّك بالإسلام. أما الغرب، الذي كان يتوقّع من القارة الأفريقية، "تحفة كلّ عشر سنين"، فهذه أيضاً "أكَّس" عليها.

وصل عدد الأفلام المنتَجة في عهد الصايل إلى نحو 20 في السنة، بعدما كانت هذه السينما، شأنها شأن السينما في لبنان وفلسطين وتونس وبلدان عربية أخرى، قائمة على المبادرات الفردية. خُصِّصت ستة ملايين أورو سنوياً في خدمتها ضمن نظام دعم مستوحى من نظام "تسليف الإيرادات” الفرنسي. بهذا الدعم، أصبح السينمائيون يحلّقون بأجنحتهم، ولو ان كثراً منهم وقعوا أثناء التحليق. "هذه ظاهرة لا رجوع عنها بعد اليوم، سنظل ننتج، وفي العام المقبل سيكون لنا على الأقل 20 فيلماً"، هذا ما كان يقوله الصايل في دورة عام 2011 من مهرجان الفيلم الوطني في طنجة الذي كان يجمع إنتاج عام كامل من الأفلام المغربية ليعرضه على الجمهور والمهنيين.

معظم الأفلام المغربية التي كانت تُعرض في ذلك المهرجان ذهب إلى "مزبلة تاريخ السينما"، والقليل منها (أربعة أو خمسة في كلّ دورة) صمد، بعدما نال ما يستحقّه من نقد وتحليل ومعاينة. رغم وجود عدد محدود من الأفلام الجيدة، كان الصايل يبدو متفائلاً، ويقول انه اذا أثمرت كلّ دورة ثلاثة أو أربعة أعمال مهمّة، فهذا أمر جيد. وكان يأتي على ذكر السينماتين الفرنسية والأميركية، باعتبار ان الأولى تنتج 300 فيلم سنوياً وليس فيها إلا خمسة في المئة من الأعمال الجيدة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى السينما الأميركية التي تقدّم 600 فيلم كلّ عام ولكن ما يستحق ان يصمد لا يتعدى العشرة أفلام. "كفانا مازوشية، ما من أمّة لا تصنع إلا الروائع"، صرح ذات مرة بشيء من الغضب المنضبط، رامياً الكرة في ملعب الجهات التي لا تتوقّف عن نقده في قراراته وخياراته، لا سيما في ما يتعلق الكيفية التي يوزَّع فيها الدعم.

للمزيد من التفاصيل حول خلفيات هذا الحضور، توجّهنا بسؤال "كيف تنظر إلى وجود أفلام مغربية عدة في مهرجان كانّ هذا العام؟" إلى الناقد المغربي سعيد مزواري ("العربي الجديد")، فجاء ردّه على النحو الآتي: "حضور ثلاثة أفلام طويلة (بالإضافة إلى فيلم مغربي قصير في مسابقة طلبة المدارس للمرة الأولى) مسألة إيجابية في المطلق، خصوصاً ان هذا المُعطى يندرج في شبه استمرارية حضور وحتى في التتويج بجوائز موازية في الدورات القليلة الأخيرة، كما حصل مع "علّي صوتك" لنبيل عيوش (جائزة السينما الإيجابية) و"أزرق القفطان" لمريم التوزاني (جائزة "فيبريسي") على التوالي في الدورتين السابقتين".

ولكن، هل هذه نتيجة المصادفة، أم ان هناك طفرة حقيقية في السينما المغربية منذ بعض الوقت؟ سؤال آخر يرد عليه المزواري قائلاً: “يصعب الحكم ما اذا كان الأمر يتعلّق بطفرة حقيقية مقبلة أم مجرد مصادفة لأن مسألة الحضور في المهرجانات الكبيرة لا تعكس بالضرورة ترابطاً تناسبياً أو كاملاً مع الحالة الصحية لسينما بلد معيّن ومدى ديناميكيتها، لكنها في اعتقادي ليست بالضرورة مصادفة، لأنه لا يمكن ان تسجّل حضوراً ملموساً في مهرجان من حجم كانّ من دون ان يعكس هذا حركية نسبية تتأتى من فعل تراكمي. لعل أفضل ما يعبّر عنه هو تتويج مسار فوزي بن السعيدي كمخرج لامع وكأحد أبرز ممثّلي الحداثة في السينما المغربية بانتقاء فيلمه الطويل السادس، “الثلث الخالي"، في قسم "أسبوعا المخرجين والمخرجات"، وهو معقل التفرّد والجرأة السينمائية في المهرجان. من دون ان ننسى اختيار كانّ لأصوات شابة من مثل المنتج والمخرج الواعد سعيد حمّيش (أنتج "الثلث الخالي") والمخرجين كمال لزرق وأسماء المدير اللذين يشقّان طريقهما بخطوات أولى تخلق جدالاً نقدياً بين مَن يذود عنها ومَن لا يستطيبها. هذا كله في انتظار ان تؤكد مشاهدة الأفلام صحة طرح هذا المعسكر أو ذاك. غير انه من المبكر، في رأيي، الحديث عن طفرة، لأنها تفترض ان يُسجَّل حضور منتظم في المهرجانات الكبيرة، على امتداد فترة طويلة نسبياً، وان يُتوَّج بعضها بجوائز مهمّة كما حدث مع السينما الرومانية أو الكورية في العقدين الأخيرين".

لكن، يا ترى هل كانت المشاركة المغربية في السنوات الماضية تبشّر بما شهدناه هذا العام في كانّ؟ في رأي المزواري، ثمّة نسق تصاعدي في حجم حضور الأفلام المغربية في الدورات الأخيرة. أما موقفه النقدي من الأفلام التي عُرضت، فهو أحب بعضها وأحتفظ بشعور مختلط إزاء بعضها الآخر. "آدم" لمريم التوزاني مثلاً، ترك لديه احساساً بعدم الاكتمال ولم يؤثّر فيه حقاً سوى في قسمه الثالث حين تحوّل إلى شبه فيلم رعب وتشويق حول علاقة الأم برضيعها، بينما أخذه "القفطان الأزرق" (للمخرجة نفسها) بقدرته على التقاط الأحاسيس المعقّدة التي تحرّك اضلاع مثلّث حبّ غير تقليدي. أما "علّي صوتك" لنبيل عيوش، فقد أقنعه بطرحه التحرّري ولمسة الكوميديا الموسيقية التي تعبره، وخيّب آماله بضعف تماسك سرده وعدم نفاذه إلى عمق الشخصيات وشرطها الإنساني، وكانت هذه أيضاً حال "يا خيل الله" الذي شارك في "نظرة ما" قبل أكثر من عقد.

على المستوى التجاري، لا تنعكس مشاركة هذه الأفلام في مهرجان مثل كانّ إيجاباً على الإيرادات التي تحقّقها داخل الصالات المغربية، دائماً بحسب المزواري. حتى اذا نال فيلم ما جائزة، فهذا لا يرفع من رصيده عند نزوله إلى الصالات. "أوّلا، بسبب الاختلال الهيكلي لمعادلة البثّ نظراً لإشكالات حقيقية في التوزيع وقلّة عدد الصالات، وثانياً لضعف الاستثمار في السينيفيلية وثقافة التربية على الصورة، مما يُنتج فجوة عميقة بين الجمهور الذي لا يُقبل في السنوات الأخيرة سوى على الأفلام الكوميدية، مقابل جمهور الأفلام المتطلّبة كالتي تشارك في كانّ. مع ذلك، سيكون مجحفاً في اعتقادي وصف هذه المشاركات بمجرد بهرجة إعلامية، بحكم الأهمية التي تحظى بها ولكونها تشكّل اعترافاً بالمخرجين المعنيين وتحفيزاً لزملائهم على رفع سقف التطلعات، ونبذ ثقافة جلد الذات وعقدة تفوّق السينما الأجنبية، مما ينعكس إيجابيا على جوانب الممارسة السينمائية كافة".

 

النهار اللبنانية في

13.06.2023

 
 
 
 
 

"تشريح سقوط" الفائز بسعفة "كانّ".. مذنبون وأبرياء في قفص الزوجية

محمد صبحي

فاز فيلم "تشريح سقوط"، للمخرجة الفرنسية جوستين ترييه، بجائزة السعفة الذهبية في الدورة الأخيرة من مهرجان "كانّ" السينمائي (16 – 27 أيار/مايو). لكن قرار تتويجه قسَّم آراء النقّاد، لماذا؟

هناك فيلمان يتنافسان داخل "تشريح سقوط". أحدهما أقرب إلى دراما المَحاكم ويحاول توضيح ما إذا كان السقوط - الذي يشير إليه العنوان - انتحاراً، أم نتاج حادث منزلي عَرضي، أم جريمة صريحة. الآخر أشبه بـ"محاكمة" فعلية لمؤسسة الزواج، وما يولّده العيش المشترك والشخصيات والمسارات المختلفة لكلّ من طرفي معادلة الزواج. والحقيقة أن الفيلم الأول ليس ممتعاً جداً. بينما الثاني أكثر استفزازاً وتأثيراً، لكنه ربما يأتي متأخراً قليلاً في هذا العمل الممتد لساعتين ونصف الساعة.

يتعامل "تشريح سقوط" مع العديد من الموضوعات المزعجة والقوية، لكنه يفعل ذلك بطريقة موسَّعة إلى حد ما، ومسرحية، وأحياناً حتى استطرادية؛ مثل قصّة لاحقة (حيث تُكشَف حقائق وأسرار هذه الأسرة عبر المحاكمة والموارد الدرامية المعتادة في هذه المواقف) أكثر منها شيئاً يُختبر ويُعاش في الوقت الحاضر. وهذا الافتقار إلى الدقّة والمعايشة يحدّ من القوة العاطفية لفيلمٍ لا يُحسّ فيه بمعظم الأشياء، بل إنها غالباً ما تُقال، وبصوت عالٍ أحياناً.

يبدأ كل شيء عندما تضطر ساندرا (ساندرا هولر)، وهي روائية ألمانية مشهورة مقيمة في غرونوبل بفرنسا، إلى مقاطعة مقابلة صحافية تجريها في شاليهها الجبلي، لأن زوجها (الكاتب أيضاً، لكنه أقل نجاحاً)، صامويل (صامويل ثيس)، المتواجد في العِلّية، رفع صوت الموسيقى فجأة. تغادر الصحافية، وبعد فترة وجيزة يذهب ابنها الصغير دانيال (ميلو ماتشادو غرانر)، فاقد البصر عملياً، في نزهة مع كلبه المحبوب الذكي، سنوب، والذي يعدّ شخصية محورية أخرى في الفيلم. عندما عاد الصبي لاحظَ (أو بالأحرى انتبه بعد ملاحظة كلبه) أن صموئيل ملقى على الأرض، ملطّخ بالدماء، وربما فارق الحياة. ينادي الصبي والدته، التي تستيقظ على ما يبدو من غفوة، وتنزل إلى الطابق السفلي لتُفاجأ بالخبر الرهيب. هل فوجئت، حقاً؟

في هذا التساؤل المُعلَّق يكمن الفيلم تقريباً، وكما يشير العنوان بمعناه الأكثر حرفية، يُصرف الوقت في تشريح هذا السقوط وأسبابه وملابساته. تحقّق الشرطة وهي غير مقتنعة بأن سقوط صامويل من ارتفاع أقل من ثلاثة طوابق فوق الثلج أحدث ثقباً في جمجمته ووفاته لاحقاً. كل شيء يشير إلى أنه اصطدم بشيء أثناء سقوطه، لكن هناك نقصاً في البيانات والأدلة لتأكيد ذلك. وبسبب هذه الشكوك، تعتقل الشرطة زوجته التي تجد نفسها مُتهمة بقتل زوجها، وتُقدّم للمحاكمة.

هناك، تبدأ سلسلة من المواجهات الكلامية بين محاميّ الدفاع والمدعّين العامّين والقضاة، يقاطع بعضهم بعضاً كما في المسرحيات. يظهر دليلان محتملان. أحدهما تسجيل صوتي سجّله صامويل لمشاجرة زوجية عنيفة حدثت قبل وفاته بوقتٍ قصير. والآخر هو شهادة الابن، الشاهد الوحيد المباشر أو غير المباشر على السنوات الأخيرة من تاريخ أسرته، بما في ذلك الحادث الصادم الذي أفقده أغلب بصره. وضع الصغير دانيال، مُعقّد، يكاد يكون أقرب إلى اختيار من يحبّ أكثر، أمّه أم أباه.

بعد الحادث وبداية التحقيق نفسه (هناك العديد من النقاط المشتركة للقضية مع حبكة المسلسل الأميركي القصير "الدرج" The Staircase (2022) من تأليف أنتونيو كامبوس)، ستدلي ساندرا بشهادتها أمام المحامين ومن هناك إلى المحكمة (وهناك سنجد تشابهات أخرى للفيلم مع دراما محكمة فرنسية أخرى من العام الماضي، "سانت أومير" للمخرجة أليس ديوب). تضيف المخرجة طبقات ونطاقات وتأثيرات جديدة. اللحظة الملحمية، إذا صحّ التعبير، هي تلك التي ستجعل "تشريح سقوط" يأخذ منعطفاً حاداً، هي لحظة الاستماع لتلك التسجيلات الزوجية. ورغم إنها لا تثبت شيئاً من حيث الأدلّة العدلية الملموسة، لكنها تبدو (أو هكذا تقدّمها المخرجة) سجلاً دامغاً على انحلال الرباط الوثيق للزوجين، بما يضاهي أحد أشهر النماذج السينمائية في هذا الصدد، فيلم "مشاهد من زواج" (1974، إنغمار برغمان). هناك، يخبر ساندرا وصامويل بعضهما البعض بكل شيء، ويلقيان حفنة من الصراعات "والتروما" الحادّة والكبيرة، بما يكفي لينشغل بها طاقم معالجين نفسيين لسنوات.

هل هناك مذنبون وأبرياء في مثل هذه الحالات؟ أم تدرُّجات مختلفة على مقياس الاعتماد المتبادل؟ هنا، في الفيلم، ثمة سقوط حرفي (يفضي إلى وفاة الزوج) وآخر مجازي (يفضي لتفكّك الزواج)، وقد يكون هناك مسؤولٌ عن أحد السقوطين، لكن ليس الآخر. إلا أن الإثنين متورّطان في النهاية. وجوستين ترييه تعرف هذا جيداً. وكذلك دانيال، الابن الذي يبدو كأنه يملك زرّاً للضغط على القنبلة الحاسمة وإقرار المسؤول عن الجريمة المحتملة. يعمل الفيلم على إثارة شكوك (لدى الشخصيات والمتفرجين) ويقترح معضلات أخلاقية ومعنوية مُقلقة، يعزّزها الأداء الجيد لهولر (التي تصدّت لبطولة فيلم آخر في "كانّ"، هو "منطقة الاهتمام")، وممثلين ثانويين مختلفين؛ من الصغيرماتشادو غرانر إلى سوان آرلو، في دور صديقٍ قديم لساندرا سيمثّلها كمحامي دفاع. أداءات تليق بفيلمٍ مرير ومتطلّب ومزعج، ينطلق من أزمة عائلية محدودة النطاق ليبسط أصداءه على أوقات الاضطرابات الاجتماعية التي تعيشها أوروبا في الوقت الراهن.

في النهاية، تُلامس هذه الدراما القضائية عَصَباً مهمّاً (في مسألة الزواج وفكرة الأسرة)، لكنها تفعل ذلك بأسلوب مُرهِق نسبياً وبطريقة مسهبة أكثر من اللازم. وبعد ساعتين ونصف الساعة من الألعاب النارية اللفظية بين الزوج والزوجة والمحامين وحتى الصحافة – التي تدخل على الخطّ وتعطي رأيها، بحسب توجّهاتها الأيديولوجية - يفهم المرء لماذا يحدّد المعالجون النفسيون واستشاريو العلاقات الزوجية مدة جلساتهم بساعةٍ واحدة فقط لكل جلسة.

 

المدن الإلكترونية في

13.06.2023

 
 
 
 
 

يوميات مهرجان كان 76 (10): سكورسيزي و”قتلة قمر الزهور

أمير العمري

مهما طال الزمن لابد أن يأتي أخيرا الكشف عن الجرائم التي وقعت ضد السكان الأصليين في أمريكا، سواء من خلال وثائق جديدة أو فيلم سينمائي جديد يكشف الحقائق الدامغة. وأخيرا جاء العرض العالمي الأول للفيلم الأكثر انتظارا وهو فيلم مارتن سكورسيزي الجديد “قتلة قمر الزهور” Killers of the Flower Moon (1976) الذي عرض في دورة مهرجان كان السينمائي الـ76.

 يجمع سكورسيزي في فيلمه، بين بطله المفضل منذ “سائق التاكسي” (1976) روبرت دي نيرو، وبطل أفلامه الستة الأخيرة، ليوناردو دي كابريو، مع الممثلة التي ولدت نجمة، “ليلي جلادستون”. والفيلم مقتبس عن كتاب من تأليف ديفيد جران، يحمل عنوانا فرعيا الى جانب العنوان الأصلي نفسه هو “جرائم أوساج ومولد مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI“، كتب له سكورسيزي السيناريو مع “إريك روث”.  ويقوم موضوع الفيلم على أحداث حقيقية.

هذا عمل آخر ملحمي كبير يسير فيه سكورسيزي على نهج كثير من أفلامه التي كان يسعى فيها للكشف عن الجانب الآخر من تاريخ أمريكا، كيف ولدت وأصبحت دولة، من خلال القتل والعنف وسفك الدماء والتوسع والسيطرة ونمو النهم الرأسمالي والاحتكارات بحيث أصبحت السلطة تعني المال، والمال يعني السيطرة، مع التخلي عن كل القيم وتبرير القتل من أجل مزيد من الاستحواذ.

لا أتفق مع اعتبار الفيلم من نوع “الويسترن” أي أفلام الغرب الأمريكي. صحيح أن لدينا هنا ما يسمى بـ “الهنود الحمر” (أو السكان الأصليين)، والبيض الأمريكيين، ومواكب واستعراضات ركوب الجياد، كما أن هناك مشاهد لإطلاق الرصاص والقتل، قتل البيض للسكان الأصليين، ولكنه ليس فيلم مغامرات بحثا عن الذهب، ومطاردات ومبارزات بالمسدسات.. إلخ. بل هو فيلم عن الصراع من أجل الهيمنة وتراكم الثروة، لذا يمكن اعتباره أكثر قربا من فيلم مثل “سيكون هناك دم” أكثر من أفلام “الويسترن”.

كان سكورسيزي دائما مهتما بالشخصية المأزومة، تلك التي تعاني من عدم القدرة على الاتساق أو الاندماج مع محيطها، وقد يدفعها شعورها الحاد بالاغتراب، إلى الجريمة والعنف. ومعظم شخصيات أفلامه لا تختار مصائرها تماما، بل تبدو مدفوعة بقوى قدرية. وهي شخصيات مركبة، تعبر أفضل ما يمكن، عن مزاج سكورسيزي نفسه، كإيطالي- أمريكي من نيويورك، لا يكف منذ أول أفلامه، عن توجيه سهام النقد للثقافة الأمريكية السائدة، وللمجتمع الأمريكي عموما.

وشأن معظم أفلام سكورسيزي، تدور أحداث فيلمه الجديد “قتلة قمر الزهور”، في الماضي، وحول شخصيات إجرامية، تمارس العنف والقتل من أجل الاستحواذ، لذا يمكن اعتباره أقرب إلى أفلام سكورسيزي المماثلة مثل “عصابات نيويورك”، وفيلم “الأولاد الطيبون”. الفرق أن بطله الأصغر سنا، لا يعاني كثيرا، فهو لا يتمتع بالضمير أو بالحس الأخلاقي الذي يعذبه، بل إن غلبة الجشع على الحب لا تؤرقه ولا تجعله يتمزق أو يعاني ليصبح أحد أبطال سكورسيزي “المأزومين”، فليست لديه أزمة، وهذه هي المفارقة الدرامية الخطيرة التي تجعل شخصية “إرنست بوكهارت” التي يقوم بها في الفيلم “ليوناردو دي كابريو”، شخصية جديدة على سينما سكورسيزي.

قتلة قمر الزهور” فيلم من أفلام الجريمة والتحقيق البوليسي، لكنه يدور في سياق تاريخي، يستند إلى حقائق ووقائع، ذات صبغة درامية مثيرة، لا يرمي لتحقيق الاستمتاع للمشاهدين، فهو يروي فترة “سوداء” في التاريخ الأمريكي، ذات صلة بإبادة السكان الأصليين، كما تجسد دراميا، التبرير (القانوني) للمذابح والتصفيات العرقية من أجل الاستيلاء على الأرض بما في جوفها من كنوز، أي من أجل إشباع غريزة الجشع المتأصلة التي دفعت الرجل الأبيض من الأساس، للاستيطان في الأراضي الأمريكية الشاسعة.

نحن في أوائل العشرينات من القرن العشرين، في منطقة من ولاية أوكلاهوما الجنوبية، هي منطقة تقطنها قبيلة “الأوساج” من السكان الأصليين. وقد انحصروا في تلك المنطقة الصغيرة بعد أن تم التآمر عليهم ودفعهم خارج أراضيهم الشاسعة التي سكنوها وأقاموا عليها لآلاف السنين قبل وصول الرجل الأبيض. وانتهى الأمر إلى استقرارهم داخل محمية خاصة بموجب اتفاق مع الحكومة الأمريكية.

يفتتح سكورسيزي الفيلم بمشهد مصمم على غرار الجريدة السينمائية الصامتة، يستعرض خلالها تاريخ قبيلة أوساج إلى حين استقرارهم في تلك المنطقة، ثم كيف أدى اكتشاف النفط فيها إلى أن أصبحت من أكثر مناطق الولايات المتحدة ثراء. ومع تدفق الأموال والانفاق السريع لها، صدر عن الكونغرس الأمريكي تشريعا ذي صبغة عنصرية، يعتبر الكثير من أفراد الأوساج غير أكفاء أي لا يمكنهم التحكم في أموالهم بأنفسهم، وبالتالي إسناد أمر صرف أي أموال لهم (من أموالهم) إلى رجال المصارف وغيرهم، مقابل الحصول على نسبة لأنفسهم، مع إرغامهم على شراء وثائق تأمين على الحياة بأسعار مرتفعة كثيرا، مقابل إقراضهم المال.  وكان المال قد أصبح يتدفق بوفرة بسبب استثمارات النفط في أراضي الأوساج. وسرعان ما ظهرت مظاهر النعمة والثراء عليهم، فاشتروا المنازل الكبيرة الجميلة، والملابس الثمينة والمجوهرات، واستأجروا السيارات الفاخرة التي كانت قد بدأت في الظهور على استحياء في تلك الفترة. وأصبحت أرض الأوساج بالتالي، مصدر طمع الرجل الأبيض. فما العمل إذن؟

الخطة التي يتفتق عنها ذهن كبير سكان المنطقة “وليم هايل” الذي يطلق على نفسه “كنغ” King أو الملك (ويقوم بدوره روبرت دي نيرو) تتلخص في تزويج الشباب البيض من فتيات الأوساج، ثم التخلص تدريجيا بالتصفية والقتل من الأوساج بحيث تعود ملكية الأرض إلى الزوج، ويمكن بالتالي المحافظة على الملكية بحيث لا تخرج من أيديهم. وهو يطرح هذه الخطة باعتبارها قانونية تماما وحقا من حقوق الأمريكيين البيض. وفي الوقت نفسه، يقدم نفسه باعتباره صديقا لجماعة الأوسان، الذين يجلونه ويحترمونه، فهو- كما يقول- الذي بنى لهم المدارس والمستشفى.. وغير ذلك.

 

انتشرت فكرة الزواج المختلط. تزوج عشرات الشباب من فتيات الأوسان، وأنجبوا منهن أطفالا، واستمرت المؤامرات للاستحواذ على الأرض، وانتشرت جرائم القتل، قتل الزوجات وأقاربهم في ظروف غامضة متعددة مختلفة، لكن الأمر لا يخلو بالطبع من قصص حب حقيقية تصبح حجر عثرة في طريق الخطة، وهو ما يقتضي التعامل مع الطرفين في هذه الحالة، أي تصفية كل من امرأة الأوساج ورجل الجماعة الأمريكية البيضاء معا. إننا بصدد جريمة منظمة يشارك فيها عشرات الرجال، مع السيطرة على رجال الشرطة وشراء صمتهم بل وجعلهم جزءا من الخطة نفسها أيضا. وأمكن بالتالي أن تمر سلسلة الجرائم التي راح ضحيتها العشرات من الأوساج في أوقات متقاربة كثيرا، والتي تمر من دون أي تحقيق.

يروي فيلم “قتلة قمر الزهور” قصة تدور أساسا، حول ثلاثة أشخاص: الأول هو “وليم هايل” أو “كنغ” (روبرت دي نيرو) الذي يقود جماعة الأمريكيين البيض في تلك المنطقة، وهو الرأسمالي صاحب النفوذ، الذي يمتلك الضيعة والأبقار والقوة والمال والنفوذ، ويسيطر على الشرطة والبلدية، ويخطط لجرائم القتل والتصفية والاستيلاء القانوني على الأرض، يخضع له الجميع ويخشونه وينفذون أوامره. فهو مثل “الأب الروحي” للجميع، كما أنه قريب من نموذج زعيم العصابة البارد الأعصاب الذي يحتوي الجميع من حوله كأنهم أبناؤه.

الثاني هو “إرنست بوكهارت” (ليوناردو دي كابريو)، ابن شقيق “كنغ”، العائد إلى البلدة بعد أن خدم في صفوف الجيش الأمريكي في الحرب العالمية الأولى في أوروبا. هدفه الوحيد الحصول على أي عمل، فهو مجرد من المواهب، محدود الطموح، لكنه يفصح من البداية عن حبه للمال والويسكي. يلحقه عمه بالعمل كسائق لسيارة أجرة من سيارات شركته، ثم يقود السيارة لفتاة حسناء من الأوساج هي “موللي” (ليلي غلادستون) التي تعجب بوسامته وتطلق عليه “الكايوت” (أي الذئب بلغة القبيلة)، وتقول لشقيقاتها إن “الكايوت يريد المال” لكنها رغم ذلك، تقع في حبه، كما يقع هو في حبها. ويشجعه عمه على الزواج منها ويشرح له آلية نقل الأرض والممتلكات الخاصة بعائلتها إليهم. ويتزوج الاثنان في مشهد بديع حيث يقيم الأوساج احتفالا مليئا بالأغاني والموسيقى والرقص من ثقافتهم وتراثهم الذي يوشك على الدمار.

يوظف “كنغ” “إرنست” كوسيط في عمليات التصفية والقتل التي تشمل شقيقات “موللي” الثلاث وأمها. ثم تشيع الفوضى في البلدة: وتقع أعمال حرق بيوت، وإطلاق رصاص، وتصفية وترويع وقتل بطرق مختلفة يجيد سكورسيزي تصويرها بحكم خبرته في أفلام الجريمة.

ينجب إرنست أربعة أبناء من زوجته الجميلة التي سلمت قيادها له تماما، فهي لا تشك أبدا في سلوكه. لكن طمعه وجشعه وبلادة حسه، تطغى على حبه لها، فعندما تمرض بمرض السكري، يأتي لها “كنغ” بدواء ظهر حديثا هو “الأنسولين”، يقوم بمساعدة الأطباء، بخلطه بمادة سامة، ويطلب من إرنست أن يحقنها به يوميا (لكي يجعلها أكثر هدوءا)، فقد بدأت تتشكك فيما يجري من جرائم خصوصا مع عمليات التصفية التي تنال من شقيقاتها وأمها، وتدريجيا تتدهور صحة موللي، ولكنها تتحامل على نفسها وتذهب الى واشنطن حيث تشكو للرئيس الأمريكي أمام البيت الأبيض من تلك الحملة التي تهدف الى إبادة أبناء قبيلتها من السكان الأصليين، فيأمر الرئيس بالتحقيق في سلسلة جرائم القتل في تلك المنطقة، وهنا يدخل الى الفيلم فريق كتب التحقيقات الفيدرالي الذي كان في بداياته الأولى في تلك الفترة، بقيادة المحقق “توم هوايت” (جيسي بليمونز) الذي يبرز دوره في الفيلم في الساعة الأخيرة، ثم تبدأ التحقيقات والتعقب والإيقاع واللجوء للحيلة والدهاء من جانب “هوايت” لتضييق الخناق تدريجيا حول “كنغ” وعصابته ومن بينهم بالطبع، “إرنست”.

لعل أكثر ما يثير التساؤل في هذه الحبكة الدرامية، تلك العلاقة الغريبة الغامضة بين “إرنست” و”موللي”. فالحب يجمع بينهما، كما يبدو إرنست أباً صالحا محبا لأبنائه لكنه رغم ذلك، لا يبالي بعواقب أفعاله، صحيح أنه يبدو أحيانا متألما لما يضطر إليه تحت ضغوط عمه وسيطرته المطلقة عليه، كما يمكن أن يبدو على وشك التمرد عليه، إلا أنه يعود ليستسلم ويرضخ، فهو معدوم الإرادة، ضعيف الشخصية، يفتقد للذكاء وروح الاستقلالية. لذلك يواصل حقن زوجته بالمادة السامة لكي ينهي حياتها تدريجيا.

أما “موللي” فهي تحبه وتستمر في حبها له حتى بعد أن تحيط به الشبهات ثم يقبض عليه ويساق للمحاكمة بعد أن يجد المحقق ما يثبت ضلوعه في مقتل شقيقات موللي. هذا الحب الأقرب إلى الإيمان المطلق، تشوبه مسحة من الغموض في الفيلم، فالأمر يطول كثيرا إلى أن تدرك “موللي” الحقيقة بعد أن يثبت الأطباء وجود السم في حقن الأنسولين التي كان يحقنها بها.

هل يمكن أن يحسم”إرنست” الجبان، المتردد، العاجز، أمره في النهاية ويفعل كما فعل “هنري هيل” بطل فيلم سكورسيزي الشهيرالأولاد الطيبون”، أي يتخذ موقف “شاهد الملك” ويشهد ضد عمه وعصابته؟

إننا أمام عمل يروي فصلا مرعباً من فصول نشأة أمريكا الرأسمالية، يرويها سكورسيزي من خلال لغة سينمائية رفيعة، ترقى إلى أبلغ ما وصل إليه فن السينما: سيناريو يستبعد ما لا يراه مهما، ويركز على التفاصيل التي تخدم الموضوع، وتصوير يعبر أفضل ما يكون عن البيئة الطبيعية في تلك المنطقة في عشرينيات القرن العشرين، مع قدرة مدير التصوير الكبير “رودريغو بريتو” الذي تعاون مع سكورسيزي من قبل في أفلامه الثلاثة الأخيرة، على التصوير الدقيق لطبيعة المكان والفترة، مع إعادة تصميم الأماكن الشوارع والمنازل بحيث تضاهي تماما ما كان قائما، واستخدام مبهر لمجموعات الممثلين الثانويين ومنهم أكثر من40 شخصية من السكان الأصليين شاركوا في الفيلم في أدوار ثانوية ورئيسية ناطقة، مع عشرات آخرين في أدوار الكومبارس، مع قدرة هائلة على السيطرة على عدد من أضخم المشاهد الخارجية في تاريخ  السينما، ومحاكاة من خلال الصورة والصبغة اللونية والمونتاج لأفلام العصر الصامت، مع المونتاج الدقيق الذي لا يترك أي تفصيلة زائدة داخل المشهد، والذي قامت به كالعادة، مونتيرة أفلام سكورسيزي المرموقة “ثيلما سكونماكر”.

يسير الفيلم في إيقاع ملحمي متدفق، ينتقل بين الداخل والخارج، لا يفقد أبدا إيقاعه حتى في مشاهد المحاكمة في الجزء الأخير، في عمل يستغرق ثلاث ساعات و26 دقيقة، يستولي عليك وكأن له تأثيرا منوما يسرق المشاهدين، ويسيطر عليهم، إنه عمل شجاع كاشف يتمتع بأسلوب سينمائي بليغ، يفيض بالشعر، رغم ما يتضمنه من مشاهد عنيفة. ينتقل سكورسيزي من الأبيض والأسود إلى الألوان، ومن مشاهد الطبيعة الخلابة في تلك المنطقة من أوكلاهوما، إلى مشاهد الداخل ذات الألوان القاتمة (البني والأصفر والرمادي)، ومن المشاهد الحميمية بين إرنست وموللي، إلى المشاهد الضخمة التي تضم آلاف الممثلين الثانويين.

وكما هي عادة سكورسيزي في أفلامه، فهذا فيلم شخصيات أكثر مما هو فيلم حبكة، يوظف مخرجه أسلوب الإثارة البوليسية ليس من أجل الإثارة، بل للكشف عن منهجية العنف والتصفية المدفوعة بالجشع والرغبة في الاستحواذ على المال. وهي فترة يشعر سكورسيزي بأنها حالكة السواد في التاريخ الأمريكي الحديث، لذلك فهو، وللمرة الأولى في أي فيلم من أفلامه، يظهر بنفسه في المشهد الأخير من الفيلم، لكي يلقي كلمة تندد بما جرى وتدعو إلى مواجهة الحقائق، والتعلم من دروس التاريخ وعدم تكرار ما حدث في الماضي، والتحذير مما يحدث في أمريكا اليوم مع صعود اليمين الشعبوي العنصري.

يستخدم سكورسيزي التعليق الصوتي من خارج الصورة، كما في الكثير من أفلامه، تارة من وجهة نظر المحقق الذي يروي تفاصيل القصة، وتارة أخرى بصوت “موللي” التي تروي وتعلق على الجزء الأخير. وهي وسيلة تضفي على الفيلم، الطابع التسجيلي الذي يتيح أيضا مساحة بين المتفرج وما يشاهده، بحيث يقلل من درجة الاندماج مع الأحداث ويترك أمامه مساحة للتأمل.

هناك صور ومشاهد حية نابضة بالحياة لتقاليد ومظاهر حياة أفراد قبيلة أوساج، واحتفالاتهم، وأعيادهم، ونظرتهم الدينية الخاصة، واهتمام كبير بإبراز ملابسهم المزركشة الملونة البديعة. وقد تحدث سكورسيزي وغيره من الذين شاركوا في الفيلم من الأوساج، عن المساهمة الكبيرة من جانبهم في اختيار الملابس، بل وإضافة الكثير من التفاصيل التي لم يكن لها وجود في السيناريو الأصلي للفيلم.  

ولا شك أن من أكثر ما يرفع من مستوى الفيلم وقدرته على الإقناع، أداء الممثلين خصوصا في الأدوار الثلاثة الرئيسية: روبرت دي نيرو، الذي يتماهى تماهيا إعجازيا في دور “هيل”، يرتعش صوته وهو يتحدث عن الاستحواذ، يتمتع بشخصية كاريزمية مؤثرة، يحبه الأوساج، يمكنه أيضا أن يخاطبهم بلغتهم، إلا أنه يخفي وراء ذلك القناع السميك من الود، شراسة الجشع والشر. وهو يردد ذات مرة: “أنا أحبهم، لكن عندما تدور الأرض، سوف يختفون”. نحن لن نتعرف لأول وهلة على الممثل، فهو يذوب في الشخصية، بنغمة صوته ولهجته الحادة، وساقه العرجاء قليلا، ووجهه النحيف الذي يأكله الجشع. هذا أداء مادي وصوتي ، يعتمد على نظرات العينين وحركات الجسد واليدين، في تناغم كامل مع الدور.

هناك ثانيا رونالدو دي كابريو، في سادس أفلامه مع سكورسيزي، في دور (إرنست) وهو من أكثر الأدوار قبحا في تاريخه الشخصي: شخصية الباحث عن المال، الذي يقع في الحب دون أن يثنيه الحب قط عن السقوط، وكلما حاول التراجع يشده الجشع ويجعله يفقد إنسانيته، لا يتورع عن دفع زوجته التي يعرف أنها تحبه، إلى الموت، فقد تغلغل الجشع ونجح “إغواء الشيطان” في قتل روحه.

في قلب الفيلم هناك شخصية “موللي” التي تؤديها بكل براعة وجمال وسحر، “ليلي غلادستون”، شخصية شديدة الجاذبية، تتمتع بقوة الشخصية من البداية، راسخة وواثقة، تتألم لمصير أسرتها، تحاول أن تمنع المستقبل القاتم عندما تصر رغم محنتها المرضية على الذهاب الى البيت الأبيض. هي المرأة التي تقع في الحب، وتصبح الزوجة المحبة التي ترعى أبناءها مع رجل تعرف أنه ضعيف الشخصية، بل ربما يكون ضالعا أو متآمرا لكنها تأمن له، تبعد الشك عن نفسها، لكنها تبدو من خلال نظرات عينيها وكأنها تدرك ما يجري، تريده أن يستيقظ وأن يشعر بالذنب، إلى أن تستفيق في النهاية. غلادستون هي جوهرة الفيلم وروحه النقية، وهي أيضا الشخصية النسائية الإيجابية الأولى في أفلام سكورسيزي.

بقي أن نعرف أن “قمر الزهور” تعبير كان يستخدمه السكان الأصليون في أمريكا تعبيرا عن ظاهرة القمر المكتمل في شهر مايو حينما تنتشر الأزهار في ربوع الأرض. والتعبير في عنوان الفيلم مجازي بالطبع.

هذا المقال نشر في موقع الجزيرة الوثائقية

 

موقع "عين على السينما" في

14.06.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004