ملفات خاصة

 
 
 

فيلمه الجديد عن مهاجرة سورية في قرية آيرلندية

كن لوتش: المأساة السورية تحتاج لأكثر من فيلم

كانمحمد رُضا

كان السينمائي الدولي

السادس والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

ذَ أولد أوك (The Old Oak) هو اسم حانة (Pub) في إحدى قرى آيرلندا الشمالية. لا هناء في المكان الذي كان يعج بالزبائن بعدما طغت عليه الأوضاع الاقتصادية السيئة منذ إغلاق منجم الفحم في البلدة.

هذا ليس كل ما تعانيه القرية، بل حقيقة أنها تحوّلت إلى مكان غير مؤهل للحياة العائلية الهانئة والهادئة كما كان الحال من قبل. بالإضافة إلى ذلك، فإن المقيمين الجدد باتوا يشكلون عبئاً على مجتمع القرية الصغيرة. العائلات تبحث عن لقمة العيش أو تفكر بالهجرة أو تعيش في يأس وبؤس.

كما لو أن ذلك لا يكفي، استقبلت القرية فوجين من اللاجئين: لاجئين من خريجي السجون نقلتهم الحكومة إليها ولاجئين من سوريا وضعتهم الحكومة في المكان ذاته مع القليل من الاهتمام وأقل من ذلك من حسن تدبير معيشتهم.

لوتش

يرد هذا كله في فيلم كن لوتش (86 سنة) المسمّى «ذَ أولد أوك»، الذي هو الفيلم الرابع والثلاثين من حين قدّم أول أفلامه (Poor Cow) سنة 1967. تتمحور الحكاية حول وصول حافلة من اللاجئين السوريين إلى البلدة. معظم من فيها منهكون يبحثون عن معالم حياة جديدة بعيداً عن خطوط القتال في بلدهم. لم يكن اختيارهم الرحيل، بل دفعتهم الحرب إلى ذلك.

بين هؤلاء تنفرد يارا (إلبا ماري) بإجادتها للغة الإنجليزية كما بكونها مصوّرة فوتوغرافية طموحة. تختلف عن معظم النساء في أنها أصغر سناً وغير محجّبة. أول وصولها تجد نفسها في إشكال مع أحد سكان البلدة، الذي يحطم الكاميرا. ينبري صاحب الحانة، تي جي (ريف تيرنر) للدفاع عنها. هذا يقود إلى رابطة إنسانية تدفع صاحب الحانة لافتتاح حانته المقفلة من جديد بغية إطعام اللاجئين مجاناً.

يارا ليست وحيدة، بل بصحبة والدتها، مما يتيح للمخرج إظهار وجه عائلي في مواجهة وضع تي جي، الوحيد بين آماله وحالات يأسه. افتتاح المطعم يرتفع بحسّه الإنساني حيال المعوزين، وهذا إلى أن تتغلب عليه عوامل ليست من صنع يديه أو عواطفه، بل بفعل الأوضاع الاقتصادية البائسة التي يعيشها الجميع وتدفع بعضهم ليتّخذ موقفاً معادياً وعنصرياً من السوريين.

في فيلم لوتش الجديد، ذلك التقليد الدائم في أفلامه: استثمار حكاية اجتماعية تدور في رحى الزمن الحالي ليطرحها على خلفية الوضع الاقتصادي. حقيقة إنه «يساري التوجه» تلعب الدور الأول في إدمانه على هذا النوع من الاحتفاء بعالم خالٍ من الحياة السهلة، كما حاله في «بلاك جاك» (1979) و«نظرات وابتسامات» (1981) و«اسمي جو» (1989) و«أنا دانيال بلايك» (2015) وجل أفلامه الأخرى.

لوتش

لا يعمد المخرج هنا، أو في أي من أفلامه، إلى الميلودراما لإيصال فكرته المنسوجة من الحكاية الداكنة التي يتولى سردها. وهو ليس بحاجة إلى أكثر من ذلك الأسلوب الفني المبسّط الذي يطرح عمق رسالته من دون استعراضات من أي نوع. الجدار الذي يكتب عليه لوتش أطروحاته في أفلامه هو للتعبير عن مناهضته لما أصبحت بريطانيا عليه اليوم في زمن «نيوليبراليزم»، الذي يراه، كما يقول في حديث قصير دار بيننا: «وُلد من رحى الفاشية ذاتها التي احتفت بهتلر والنازية المنتمية إلى أقصى اليمين».

وهو يُشيد بما كانت عليه بريطانيا قبل نهاية السبعينات عندما أرست الدولة دعائم قوية لخدمة «الطبقة العاملة» إلى أن «بدأ الهدم بكل ذلك الإنجاز من نظم تعليم وعناية وطبابة مجانية وخدمات أخرى بوصول مارغريت ثاتشر للحكم».

لا ريب أن المخرج يعكس مداركه وآراءه الشخصية عما آل إليه الوضع ومن زاوية يسارية واضحة، لكن الصحيح أيضاً أن بريطانيا الجديدة تختلف عن الأمس بعدما أتاحت للمؤسسات الخاصّة امتلاك المرافق العامّة المختلفة التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية وتحويلها إلى مصالح تجارية.

يُضيف لوتش بلا تردد: «أنجزت مرحلة ما قبل ثاتشر كل ما يتمناه المواطن البريطاني. أمّنت له حاجياته من عمل وتأمين صحي كامل وشجعت القطاع الصناعي المتمثل بمناجم الفحم. كان العمّال يعملون ثماني ساعات فقط وينصرفون إلى حياتهم الأسرية فيما تبقى من اليوم. هل ترى هذا حاصلاً اليوم؟»

يتحدّث لوتش طويلاً عن الوضع السياسي حتى حين سؤاله عن الكيفية التي يختار فيها معالجاته لكنه لاحقاً ما يُجيب: «أعمل مع الكاتب (بول لافرتي الذي وضع له غالبية سيناريوهاته منذ عقود) على اختيار الموضوع ثم البحث عما نريد الوصول إليه من خلال ذلك الموضوع. بعد ذلك هي مسألة تأمين معالجة واقعية تناسب الموضوع الذي نتطرق إليه».

سوابق «كانيّة»

تم عرض فيلم لوتش في مسابقة «كان» ولم يحز على أي جائزة. لكن المخرج سبق له وأن فاق معظم المخرجين الآخرين الذين تباروا في كل دورات هذا المهرجان سابقاً بعدد الترشيحات الرسمية التي شارك بها، التي قادته للفوز بسعفتين ذهبيّتين حتى الآن.

بدأت علاقته بمهرجان «كان» سنة 1970 حين وصل ليعرض فيلمه Kes (ثاني أفلامه بعد Poor Cow) بعد ثلاثة أفلام أخرى عاد إلى «كان» بفيلم «بلاك جاك» سنة 1979. هذا الفيلم نال جائزة الفيبريسكي (الاتحاد الفيدرالي لنقاد وصحافيي السينما) قبل عامين من عودته إلى «كان» بفيلم آخر في المسابقة الرسمية هو «نظرات وابتسامات» (Looks and Smiles). في عام 1990 خرج من «كان» بجائزة «لجنة التحكيم». ثم نال الجائزة ذاتها سنة 1993 عن فيلمه «مطر من حجارة» (Raining Stone). بعد عامين

في سنة 2006، وبعد مشاركته بأفلام أخرى له، حظي بالسعفة الذهبية الأولى عن فيلمه «الريح التي تهز الشعير» (The Wind that Shakes the Barley). بعد عشر سنوات وأربعة أفلام نال بعضها جوائز دون السعفة، حقق فوزه الثاني بفيلم «أنا، دانيال بليك» (I, Daniel Blake).

يقول لي ردّاً على سؤال آخر حول أفلامه: «المخرج الذي ينتقل من أسلوب عمل إلى آخر أو ينوّع بشدّة في مواضيعه المختارة يبدو لي ما زال يبحث عن هويته الفنية والفكرية حتى ولو جاءت أفلامه عموماً حسنة التنفيذ. أعتقد أن على المخرج حرية اختيار أسلوبه ومواضيعه وإذا ما فعل سيجد أنه يبني من فيلم لآخر كماً مرتفعاً من الأفلام التي لم تخن مبادئه ولا تغرّبت بحثاً عن معالجات مختلفة في كل حين».

وعن فيلمه الأخير: «المأساة السورية تحتاج إلى أكثر من فيلم. معظم ما شاهدته منها يدّعي الاهتمام لكنه مصنوع لأغراض تجارية».

دعوات وئام

«ذَ أولد أوك» ينتمي، طبيعياً، إلى اهتمامات المخرج الفنية والاجتماعية، لكنه يكرر في بعض مشاهده ميله إلى حرص على إعادة المفاد الذي سبق قوله في مشهد سابق. إنه كما لو أنه ليس واثقاً من أن مرّة واحدة أو مرّتين كافيتين لإيصال البعد الذي يريده فيقدم على مرّة ثالثة للتأكد. هذا حدث له في بعض أعماله السابقة كذلك وأحياناً على نحو أفدح كما الحال في «أجندة مخفية» (Hidden Agenda) عن الحرب الآيرلندية (1990) و«أرض وحرية» عن الحرب الأهلية الإسبانية في الثلاثينات. ففي كليهما يخصص وقتاً مستفيضاً يتحول فيه إلى مسجّل لحوارات سياسية طويلة.

في مثل هذا العمر المتقدّم ما زال كن لوتش يسعى لمزيد من الأفلام يدعو فيها إلى وئام اجتماعي عارضاً لشخصيات إنسانية تعاني الفقر أو البطالة أو، كما الحال هنا، من انسداد نافذة أمل. المختلف في فيلمه الجديد هو أنه من خلال الصلة الإنسانية التي تربط بطليه يؤكد أن الروابط بين البشر ما زالت قوية، وأنها قد تكون السبيل الوحيد الباقي لغدٍ أفضل.

2- ريف تيرنر في «ذا أولد أوك» (مهرجان كان)

 

الشرق الأوسط في

02.06.2023

 
 
 
 
 

أفلام جوائز مهرجان كان:

أسرة نازية ومنظف حمامات والطهي علامة للحب

أحمد شوقي

لأول مرة منذ عدة سنوات تأتي جوائز مهرجان كان متطابقة إلى حد بعيد مع توقعات النقاد، صحيح أن حصول "تشريح سقوط" للفرنسية جوستين ترييه لم يكن متوقعًا كم أوضحنا في مقال سابق، لكن حضوره ضمن الفائزين كان شيئًا بديهيًا نظرًا لمستواه، أما باقي الأفلام التي توقع المتابعون تتويجها، فقد ظهر أغلبها في اختيارات لجنة السويدي روبن أوستلوند، والتي نتعرض لها ببعض التحليل في هذا المقال.

الجائزة الكبرى: منطقة الاهتمام The Zone of Interest

ربما كان فيلم المخرج البريطاني جوناثان جليزر هو مرشح النقاد الأكبر للسعفة الذهبية، لكن اللجنة منحته الجائزة الكبرى (Grand Prix)، ثاني جوائز المهرجان أهمية بعد السعفة. جائزة تُمثل تصالحًا بين جليزر والجوائز، بعد أعوام اعتُبر فيها مخرجًا من نوع خاص، يقدره محبو السينما ويقدسون أفلامه مثل "تحت الجلد Under the Skin" و"ميلاد Birth"، دون أن يكون لها نصيب من التتويجات الكبرى.

في "منطقة اهتمام" يدخل جليزر مساحة شائكة من التاريخ، بطريقة مغايرة على عادته. الزمان هو منتصف الحرب العالمية الثانية، المكان هو المنطقة المتاخمة لمعسكر اعتقال أوشفيتز الكابوسي، أشهر مواقع الهولوكوست على الإطلاق، والحدث: أسرة نازية تعيش حياتها بهدوء وسلام، يمارسون الرياضة ويزرعون الأرض، ويحاول الزوج الضابط أن يحمي وظيفته ويمارس مهام عمله اليومية، حتى لو كانت تلك المهام تتمثل في حرق المئات يوميًا في أفران الغاز!

مدخل جليزر للحكاية ذهني بامتياز، ينطلق من فرضية يمكن الجدال حولها، مفادها أن البشر يميلون عمومًا للاعتياد على ممارسات حياتهم ويتصالحون معها مهما احتوت على فظائع، والعمل اليومي يتحول إلى فعل ميكانيكي لا يختلط بمشاعر الشخص، بل ويمتد الأمر إلى تهميش الحواس.

فالبطلة (الألمانية ساندرا هولر مجددًا في دورها الثاني الذي استحقت عليه جائزة التمثيل كما في "تشريح سقوط" لكنها فقدت الفرصتين لصالح تتويج الفيلمين بالجائزين الأكبر) ربة منزل مثالية، تنتبه لشؤون منزلها الفاخر وأولادها، وتحيّد تمامًا الأصوات الآتية من المنطقة المجاورة (صراخ/ رصاصات/ إلخ)، والتي يجيد شريط الفيلم استخدامها لخلق مفارقة دائمة بين الصوت والصورة، بين حياة أسرية هادئة وجرائم تاريخية تحدث على بعد أمتار.

الفيلم مأخوذ عن رواية للكاتب البريطاني مارتن أميس، والذي توفي يوم 19 مايو بعد يوم واحد من عرض الفيلم في كان. لكن قدرة جوناثان جليزر على استخدام الأدوات المتنوعة للوسيط السينمائي، تلك القدرة التي صنعت شعبيته رغم أفلامه المعدودة، تظهر هنا بوضوح في كل اختيارات الصورة والصوت في الفيلم الذي يراكم داخل المشاهد أثرًا ليس من السهل وصفه بالكلمات.

جائزة لجنة التحكيم: أوراق متساقطة Fallen Leaves

بخلاف فيلم جلازر لا يرتبط فيلم الفنلندي المخضرم آكي كوارسيماكي بأي أحداث ضخمة في تاريخ البشر، بل إنه يتعلق بالنقيض، بمن يعيشون على هامش الحياة، يسقطون من دفاترها أو يتعامل معهم المجتمع باعتبارهم أرقامًا في كشوف العمّال، لكنهم لا ينالون أبدًا فرصة لممارسة إنسانيتهم.

قصة حب بالغة الرقة بين عامل يدوي مدمن للخمر وموظفة في سوبر ماركت، وجهان مرشحان بقوة ألا ينتبه أحد لما يريدانه على الإطلاق. لم يختارا شيئًا طوال حياتهما بما في ذلك أقرب الأصدقاء، يعيشان اليوم بيومه ويمارسان كل شيء بآلية خانقة، حتى الأشياء التي يُفترض أن تكون مصدرًا للسلوى والبهجة المؤقتة.

يملأ كوارسيماكي الفيلم بتعليقاته الساخرة المعتادة عن نمط الحياة في المجتمع الفنلندي، والذي بينما تصنفه التقارير باعتباره من مجتمعات الرفاه، يُظهره المخرج الكبير هنا على طريقته: مسرح مفتوح للتعاسة. الفيلم عمومًا يحمل بصمة آكي كواريسماكي المميزة، بصورة صارخة أحيانًا. فيلم لمخرج صار خبيرًا فيما يحبه الناس في أسلوبه من عبثية، فلا يتردد في استخدامه بأريحية تامة.

صدفة تجمع البطل والبطلة وتجعلهما يشعران أن شيئًا خاصًا يمكنه أن ينبع من تلك العلاقة، التي تتنفس للمرة الأولى في أحضان السينما (يقدم المخرج تحية حارة للتاريخ السينمائي تمتد بامتداد الفيلم). لكن ولأنه قدر أمثالهما، عندما يحاول بطلانا التصرف كأبطال السينما لخلق إثارة في العلاقة، تتدخل الميلودراما الكلاسيكية بأقصى صورها فتفرق بينهما مرة وأكثر.

يروي كواريسماكي بخفة ظل واضحة حكايةً مأساويةً في جوهرها، خالقًا كوميديا رومانسية خافتة الصوت، عميقة الأثر، تنتصر للبسطاء والمجهولين الذين تنتهي حياتهم في صمت كالأوراق المتساقطة.

أحسن إخراج: بوت أو فو The Pot-au-feu

أكثر اختيارات لجنة التحكيم جرأة كان منح جائزة الإخراج للفرنسي فيتنامي الأصل تران أنه هونج، الذي قدم فيلمًا شديد الخصوصية، يصعب الوقوف على مسافة متوسطة منه، فإما أن تكرهه وتراه مضيعة للوقت، وإما أن تسقط في شباكه فتقضي ساعتين وربع في حكاية تداعب حواسًا غير معتادة في الأفلام.

يبدأ الفيلم بمشهد يتجاوز الثلث ساعة، عبارة عن مراحل إعداد وليمة شهية كاملة، تتابع الكاميرا أيدي النجمة جوليت بينوش ومعاونيها وهي تتلقى تعليمات من الطاه دودان بوفان (بينوا ماجيمل) فتُكمل مرحلة تلو الأخرى وتنهي طبقًا بعد الآخر. يحاول المخرج تحقيق المستحيل بتجاوز حاستي السمع والبصر، بجعلنا بطريقة ما نشم الطعام ونتذوقه، والغريب إنه ينجح في ذلك، أو على الأقل يثير شهيتنا ويجعلنا مقبلين على متابعة قصة الحب بين الطاه والذواقة الشهير، وبين مساعدته الأثيرة التي قضت عمرها جواره.

ينتمي الفيلم لزمن وثقافة مختلفين، حينما كان الأثرياء ينفقون مبالغ طائلة من أجل إعداد وجبة يتباهون بها أمام الآخرين، وجبة كانت تستمر عدة ساعات تتوالى فيها الأطباق، يصمم ترتيبها ويصيغ أصنافها فنانون أفذاذ، مثل بوفان الذي يمكنه بمجرد التذوق تحديد عشرة أصناف امتزجت لصنع خلطة ما، والذي يتعامل مع كل وجبة يُشرف عليها باعتبارها عملًا فنيًا لا يمكن أن يخرج للنور (أو يدخل أفواه الضيوف) إلا في أكمل صورة.

وكما تُصنع الأطباق رويدًا رويدًا، بإضافة عنصر وخلطه والانتظار حتى يظهر تأثيره، تنمو العلاقة المركبة بين الرجل ومساعدته، التي تسمح له بزيارة سريرها أحيانًا، لكن ليس في كل ليلة، وترفض كل عروضه للزواج منها، مطبقة فلسفتها التي اكتسبتها من الطهي على علاقتهما، حتى أن اللحظة الأكثر تأثيرًا (والتي استعارها المخرج عندما شكر زوجته بعد الفوز بالجائزة)، هي عندما تسأل البطلة أستاذها: هل أنا امرأتك أم طاهيتك؟ فيفكر مليًا قبل أن يختار الثانية، لتتسع ابتسامتها لإجابته الصحيحة.

أحسن سيناريو: وحش Monster

منذ أن نال السعفة الذهبية عام 2018 عن فيلمه الأشهر "سارقو المتاجر Shoplifters" استمر الياباني هوريكازو كوري-إيدا في محاولات لإيجاد صياغة يتجاوز بها تلك الذروة، فصنع فيلمًا في فرنسا وآخر في كوريا الجنوبية، حتى عاد أخيرًا إلى اليابان ليصنع هذا الفيلم الذي نال السيناريو الخاص به إعجاب لجنة التحكيم.

السيناريو الذي كتبه ساكاموتو يوجي مصمم بعناية وحرفة واضحتين، تمزج بقدر كبير من النجاح عنصرا أي سيناريو متميز: البناء الدرامي والشخصيات. البناء يتمثل في اختيار سرد القصة في ثلاثة فصول يعرض كل منها وجهة نظر مختلفة، فنبدأ من وجهة نظر أم عزباء تلاحظ تغييرات غير مفهومة تطرأ على ابنها المراهق ترتبط بسلوك تنمري من أحمد مُعلمي مدرسته، ثم ننتقل إلى وجهة نظر المُعلم لنشاهد زاوية أخرى مما حدث للابن، ثم يتبني السرد وجهة نظر الابن في الجزء الثالث ليُكمل جوانب اللوحة.

أما على مستوى الشخصيات، فيعد أفضل ما في السيناريو هو عدم انجرافه نحو الإغراء المعتاد لتعدد وجهات النظر، والذي يدفع كُتاب السيناريو عادة للانشغال بما يخفونه ويعرضونه من معلومات حتى تكون الحبكة أكثر جاذبية. المؤلف ساكاموتو يوجي ينحاز لاستخدام وجهات النظر في تعميق الشخصيات وفهم أزماتها أكثر من دورها في خدمة الحبكة، بل إن من ينظر بعناية للفيلم قد يرصد هفوة هنا أو هناك في تصميم الحكاية وتراتب أحداثها، مقارنة بالتراكم الدقيق بالغ الرهافة للمعلومات التي تُشكل فهمنا للشخصيات وما يمرون به من متاعب.

أحسن ممثل: كوجي ياكوشو عن أيام مثالية Perfect Days

الجائزة الوحيدة التي اتفقت فيها لجنة التحكيم كليًا مع آراء النقاد والمتابعين، الذين أجمعوا على استحقاق الممثل الياباني للجائزة عن دوره في الفيلم الذي يعود به المخرج الألماني الكبير فيم فيندرز لصناعة أفلام روائية متميزة، بعدما كانت كل إنجازاته الملموسة في القرن الحالي من الوثائقيات، بينما انخفض مستوى إنتاجه الروائي كثيرًا.

الطريف أن "أيام مثالية" بدأ بعرض تلقاه فيندرز لعمل فيلم قصير عن شبكة الحمامات العامة في العاصمة اليابانية طوكيو، والتي تمتلك طيفًا مدهشًا من التصميمات المعمارية، لكن المخرج الكبير تمكن من تطوير الفكرة إلى فيلم روائي طويل ذي حس فلسفي، ومذاق إنساني خاص جانب كبير منه ينبع من أداء كوجي ياكوشو لشخصية بطل الحكاية.

عامل تنظيف حمامات عامة خمسيني، يعيش وحيدًا حياة بسيطة بشكل متعمد، صموت لا يكاد ينطق كلمة إلا إذا اضطر لذلك، متفان في عمله يمارسه بدأب ونشاط وكأنه يُحدث فارقًا في مسار البشرية، وقبل ذلك يحمل داخله روح فنان حالم وفيلسوف متأمل، يحمل كاميرا عتيقة الطراز ليصور صورًا فوتوغرافية لنفس الأشجار يوميًا، يقرأ الشعر والرواية، يستمع لأغنيات من مكتبته الموسيقية الحافلة، لكنه لا يعرف ما هو "سبوتفاي" ويعتقد أنه متجر ما لبيع شرائط الكاسيت!

تجتمع في الشخصيات تناقضات عدة، فهو لا يحب مخالطة الآخرين لكنه يمتلك قدرة استثنائية للتقارب مع البشر، يستمتع بروتين حياته المتقشفة لكننا نشعر أنه موقف قصدي يهرب به من ماضٍ نتصور بعض سماته عندما تظهر ابنة شقيقته لتزوره بشكل غير متوقع، فتغير قليلًا من نمط حياته وتجعلنا نفهم المزيد عن تكوين شخصيته.

لا تملك إلا أن تقع في حب هذا الرجل، وتتمنى أن تمتلك من القدرة على الاستغناء بما يجعلك تعيش حياتك مثله، ليس بالضبط في تنظيف الحمامات (وإن كانت حمامات طوكيو تحف معمارية تستحق فيلمًا لإبرازها بالفعل)، ولكن في تجريد الحياة المعاصرة من زحامها، والاكتفاء بما يُمتع ويُشبع الحواس ويريح الأعصاب.

أحسن ممثلة: ميرفي ديزدار عن فيلم عن العشب الجاف About Dry Grass

الجائزة كانت من حق ساندرا هولر كما أوضحنا عن دورين رئيسيين مؤثرين، لكن بما أن الفيلمين فازا بالسعفة الذهبية والجائزة الكبرى، فقد منعت اللائحة فوزها لتذهب الجائزة إلى اختيار منطقي وإن كان غير متوقع، في ظل كون الشخصية التي لعبتها الممثلة التركية الشابة في فيلم المخرج نوري بيلج جيلان ليست بطلة الفيلم، وإن كانت الشخصية النسائية الرئيسية فيه.

بطل "عن العشب الجاف" هو الرجل متوسط العمر، المعلم بمدرسة في قرية جبلية منعزلة، والذي تتهمه إحدى الفتيات بالتجاوز في التعامل بحميمية زائدة معها، مما يزيد من سخطه على القرية وأهلها وعلى الحياة كلها، وهو بالأساس شخصية أقرب لأن تكون كريهة منها للتعاطف، في اختيار درامي يواصل فيه بيلج جيلان تبنيه للشخصيات والمآزق التشيكوفية (نسبة إلى تشيكوف).

جانب من تعقد شخصية البطل يكمن في تلك الفتاة المعاقة، التي فقدت ساقها في حادث تسبب في وضع حاجز بينها وبين العالم، والتي تجمها صداقة ثلاثية بالبطل وصديق عمره ورفيقه في السكن، وعندما تُبدي إعجابها بالصديق، يُحفز ذلك موقفًا معاديًا من البطل الذي يقرر في تلك اللحظة أنه يريدها لنفسه، مجسدًا تركيبًا ذكوريًا بامتياز، فكل الرجال تقريبًا يجمعون هذا التناقض بين استعذاب العزلة وحب جذب الاهتمام.

البطلة الذكية تفهم تفاعلات الرجال حولها، لا تخجل من إبداء رأيها ورغباتها، وبالرغم من تحفظها على ما يحدث، تستمتع بحقيقة كونها المرة الأولى منذ تعرضت للحادث أن يدور حولها صراع كهذا، منبعه الإعجاب والانجذاب الجنسي لا التعاطف، وهو ما يظهر في مشهدي الحوار الطويل بينها وبين البطل (زمنه يقترب من نصف ساعة)، ثم مواجهتها للصديقين معًا، وهما بالتأكيد المشهدين اللذين ساهما في قرار لجنة التحكيم بمنح ميرفي ديزدار جائزة أحسن ممثلة.

 

موقع "في الفن" في

02.06.2023

 
 
 
 
 

"البلوط العتيق" لكين لوتش.. النوايا الحسنة لا تكفي

محمد صبحي

اندماج المهاجرين - الصعب دائماً - في المجتمعات المضيفة يتضاعف مرّات إذا كانت هذه الأخيرة تعاني بدورها تدهوراً وفقراً وأزمات اقتصادية. في العام الماضي، قدّم الروماني كريستيان مونجيو في فيلمه "رنين مغناطيسي نووي" R.M.N. سرداً قوياً لكافة الأشباح التي تهدّد التعايش وحقوق الإنسان في أوروبا، حيث تجد القوى الأكثر كرهاً للأجانب في تاريخ القارة العجوز دعماً متزايداً في بعض قطاعات السكان. دارت الحكاية في إحدى قرى ترانسلفانيا، سكّانها خليط متنوع من رومانيين وهنغاريين وألمان، قرية وديعة وخارج العالم تقريباً، لكن سكّانها سيتفجّرون غضباً مع حلول بعض العمّال السريلانكيين للعمل في مخبز القرية، ما سيفضي إلى رفضٍ وجودي من جانب القرويين لأكل الخبز من أيدي هؤلاء البشر ذوي البشرة البُنّية!

الآن، يقوم البريطاني كين لوتش، وشريكه الدائم في الكتابة بول لافيرتي، بفحصٍ مكافئ على الشاشة، هذه المرة في بلدة عمّالية إنكليزية دمّرها تفكيك طريقة الحياة التي اعتادتها، بعد مضاربة عقارية شرسة أطاحت بأسعار المنازل وفقرٍ أضحى يعانيه سكّانها بعد إقفال المنجم الذي كان مصدر دخلهم. في فيلمهما الجديد، "البلّوط العتيق"(*)، الوافدون/ المهاجرون هم بعض عائلات سورية استقرّت في قرية صغيرة شمال شرق إنكلترا، بعدما فرّوا من المقتلة في بلادهم ومن همجية نظام الأسد. وأول ما يواجهونه في ما يعتقدون أنه ملاذهم ارتياباً، وعنصرية، وعداءً، وعنفا، من بعض القطاعات غير المتعاطفة من القرويين، ممن يرون في هؤلاء الجيران الجدد تهديداً ونُسَخاً أضعف منهم، تٌقدِّم لهم الخدمات الاجتماعية جميع أنواع المساعدة بينما يعانون هم (أهل البلد) وضعاً اقتصادياً حرجاً. لا تستغرق النزاعات والمواجهات وقتاً طويلاً حتى تبدأ، ولكن تظهر أيضاً شخصيات أكثر دعماً وتفاعلاً مع الوافدين الجدد.

يبني لوتش ولافيرتي قصّتهما، كما هو الحال دائماً في أفلامهما الأخيرة، بطريقة صريحة للغاية ويتكشّف السياق بحملٍ تعليمي وتوضيحي في الحوارات، ولكن في الوقت نفسه يبدو المخرج (أقلّه في النصف الأول من الفيلم) أكثر تحفظّاً وهدوءاً في عرضه، أكثر احتواءً وأقل فجاجة. تشخيصهما واقعي ولا يمكن أن يأتي تصويرهما للوضع أكثر تشاؤماً، لكنهما لا يقاومان الإغراء لتوليد تنفيس جماعي طوباوي يردّد أصداء قناعة أولئك الذين ما زالوا يؤمنون بضرورة التضامن بين المحرومين ولزوم اتحاد الضعفاء لمواجهة أنانية الأقوى، ليس فقط وفاءً لذكرى النضال العمّالي والنقابي، ولكن أيضاً للحاجة الحالية لكليهما.

إلا أن الوعي الطبقي والتضامن ينبثقان هنا - وفقاً للبناء الدرامي والسردي للفيلم - من حدثٍ مأسوي، وليس نتيجة لعملية نضال أو مشاركة جماعية في مواجهة المصاعب التي يعاني منها أفراد المجتمع المحلّي. هذا القرار الحاسم يذهب بالفيلم نحو أرض الاستغلال العاطفي ويبعده، بشكل متناقض، عن المسلّمات الماركسية التي يحلّل بها صانعاه، في البداية، إحداثيات المشكلة. التفاؤل بالمستقبل المُعبَّر عنه في آخر خمس عشرة أو عشرين دقيقة من الفيلم، يتجلّى، ليس فقط كـ"تويست" في الحبكة فرضه السيناريو (ومُعلَن مسبقاً)، وإنما أيضاً كملاذ عاطفي مجرّد يعطّل النداء القتالي الذي، من الناحية النظرية، يترجم التزام صانعي الفيلم بضرورة النضال والتضامن الجماعي بين أولئك المطرودين من رحمة التاريخ.

 

كل مِنّا، نحن الذين لا زلنا نؤمن ببقايا اليسار والقيم التي يمكن أن تمتلكها القوة المشتركة للناس، سنجد في فيلم لوتش عرضاً بلاغياً لفكرة معيّنة عن المستقبل. يتحدّث الفيلم عن أهمية قيام مجتمع متضامن، لا مجرد عمل خيري، في تكريس احترام الآخر. كما يتحدث عن الفظائع التي ولّدتها الأنانية في قلوب مجتمعات صغيرة رفضت الآخر ورأت في الفقراء العدو الرئيسي لثرواتهم ومعاشهم. عندما يتحدث عن هذه الأشياء، فهو يتوجّه مباشرة صوب إدانة الخطاب المتصاعد لليمين المتطرف في أوروبا تجاه اللاجئين والوافدين ويحاول استعادة قيم المدينة الفاضلة، حتى إنه يحفر عميقاً للبحث عن شيء من ذلك الزمن القديم عندما كانت الشيوعية/ الاشتراكية طريقة مألوفة للتفكير حول المجتمع.

في مواجهة مثل هذا الخطاب اليساري الواضح وموقفه المبدئي والراسخ في الدفاع عن الضعفاء والمهمّشين، والذي هو من ناحية أخرى شهادة وداع لسينمائي ملتزم سياسياً بامتياز؛ من المستحيل عدم التجاوب مع كلّ ما يخبرنا به الفيلم. ورغم كل هذا، فـ"البلوط العتيق" فيلمٌ مخيّب. لماذا؟

عندما تصبح السينما مجرد وسيلة لتأكيد القيم، وعندما تحتل الأيديولوجيا مركزاً رئيساً في خطابها النقدي (المفترَض)، يصعب على المرء، لسوء الحظ، إعلان تحفّظاته على فيلمٍ مثل فيلم لوتش. صعبٌ لأنه، للأسف، تختفي قوة البناء وتعقيد الخطاب النقدي تحت سحابات متراكمة من الغلالات الأيديولوجية، الحميدة وحسنة النية بالطبع. ينجح كين لوتش عاطفياً، لكن فيلمه يخلو تقريبًا من أي اشتغال نقدي أو تحليلي لأنه يعيش على قوالب نمطية ومناطق مألوفة ومواقف متوقعة، ولأنه يؤمن بالخير والشر فقط، دون فروق دقيقة، دون التفكير في أنه في بعض الأحيان لا يوجد أصلاً شيء بهذه السهولة والوضوح.

يقوم الفيلم على التناقض بين شرّ/ أذى القرويين المحافظين، وصلاح البطلة السورية، الذكية والجميلة. يأخذ لوتش كل شيء صوب المفارقة العاطفية، وتقفز القيم من الشاشة، لكن البناء نفسه متنافر وساذج. قبل سنوات، كان ممكناً التغلّب على هذه المعضلة، وبلع مقاربات مشابهة، لكن في أيامنا الحالية المطبوعة بالأيديولوجيا وثقافة الإلغاء، أصبح من الصعب تفسير سبب عدم إعجابنا بفيلمٍ نؤمن بخطابه ونؤيّده. من الصعب تفهُّم وهضم تلك الاقتراحات الفنية عندما يكون المنظورالسياسي لصاحبها أحادي الاتجاه أكثر فأكثر.

ربما يكمن مفتاح فهم الإحباط من الفيلم في مقارنة نهايته بنهاية فيلم "غداً يوم أفضل" للإيطالي ناني موريتّي (يساري عتيد آخر)، والذي عُرض أيضاً في المسابقة الرسمية لمهرجان "كانّ". ينتهي كلا الفيلمين بمسيرة تضامنية أقرب لوصيّة أخيرة، منفتحة على المستقبل وتحمل بعض الأمل. لكن مسيرة لوتش لا حول لها ولا قوة، ضعيفة وغير منطقية. بينما في حالة موريتّي، هناك دعوة مسبَّبة للتفاؤل والأمل بمستقبل أفضل. إذا كان للمرء أن يختار، فالسير في موكب موريتّي الخيار الأفضل.

(*) عُرض الفيلم في الدورة الـ76 من مهرجان كانّ السينمائي.

 

المدن الإلكترونية في

04.06.2023

 
 
 
 
 

يوميات مهرجان كان 76 (7):

الفيلم الأردني “إن شاء الله ولد”!

أمير العمري

إن شاء الله ولد” عنوان له أكثر من وجه في أول فيلم أردني يعرض في مهرجان كان السينمائي، حيث عرض في تظاهرة “أسبوع النقاد” وجاء مفاجئة حقيقية بمستواه الفني الممتاز.

العنوان فيه نوع من التلاعب على فكرة التمني وكذلك بعض التهكم. وهو وثيق الصلة بموضوع الفيلم الذي يمكننا من أول مشهد أن ندركه: نعمة الحصول على ولد في مجتمع ذكوري بطبيعته. ولكن للموضوع تداعيات أخرى كثيرة ينسجها السيناريو بكل دقة وبراعة وتسلسل، كاشفا عن أوراقه ورقة تلو الأخرى، بحيث يستولي على اهتمام المتفرج، رغم ما قد يجده البعض من أن سياق السرد “تقليدي”. ولكن ما العيب في أن يكون السرد تقليديا طالما أنك تملك أن تطوعه لتداعيات قصتك، كاشفا عن شخصيات فيلمك ومأزقهم، منتقلا من الخاص، الشخصي، العائلي، الداخلي، إلى العام، الناس، المجتمع، العالم. وهذا يرجع هنا في المقام الأول، إلى السيناريو الدقيق الذي يتجاوز كثيرا كل ما سبق أن جاء في أفلام من ذلك البلد، فهو بعيد كل البعد عن “السذاجة” التي تصبغ عادة أفلام الميلودراما التي تفسدها المبالغات الكثيرة.

هذا عمل احترافي واثق، لديه شخصيات واضحة، وحوارات مكتوبة بعناية شديدة، وواقعية مدهشة في الصورة وفي رسم وتجسيد جميع التفاصيل والمواقف، كما يتميز بالسيطرة على الأداء، وبقوة الإخراج الذي ينتقل بين المشاهد واللقطات، بحيث لا يفوت فرصة من دون أن يكثف موضوعه ويدفعه إلى الأمام، مضيفا كل ما يثريه بصريا ودراميا، في التعبير وفي الصورة، وفي التمثيل الذي يصل إلى أفضل مستويات الأداء.

إن شاء الله ولد”، الذي كتب له السيناريو مخرجه أمجد الرشيد، (بالاشتراك مع رولا ناصر ودلفين أغوت) في أول فيلم روائي طويل له كمخرج (اشتركت في إنتاجه شركات من الأردن، فرنسا، قطر، السعودية) يسير في عدة خطوط: الخط الرئيسي يتصل بالشخصية الرئيسية “نوال” (منى حوا). وهي أم وزوجة، لديها ابنة هي “نورا” في السابعة من عمرها، لكنها تتطلع مع زوجها الى إنجاب “ولد”، فالولد مهم في الأسرة التقليدية العربية في هذه المجتمعات. وربما يكون المشهد الأول في الفيلم مشهد غير مسبوق بجرأته في الأفلام الأردنية والفلسطينية عموما، فنوال تخلع غطاء الرأس الذي لابد منه لنساء المسلمين في مجتمع الأردن المحافظ، وتتسلل إلى جوار زوجها في الفراش، تحاول إثارته وتدعوه بوضوح لممارسة الجنس في هذه الليلة التي تقول إنها ملائمة ويمكن أن تثمر المضاجعة فيها عن الحمل، لكن الزوج يمتنع بدعوى أنه مرهق، لكن الحوار يكشف عن شعوره بالإحباط.

تكتشف الزوجة في صباح اليوم التالي، أن زوجها مات أثناء نومه. وتصبح نوال فريسة لطغيان الواقع القائم: شقيق الزوج “رفقي” (هيثم عمري) يطالبها برد مبلغ كبير لا تملكه، كان قد أقرضه لشقيقه، ويحاول الضغط عليها لكي تبيع الشاحنة الصغيرة التي اشتراها الزوج وبقيت في مكانها الآن تسد مدخل عمارة مجاورة، لكن نوال لا تقبل ببيع السيارة كما لا تستطيع تحريكها من مكانها لأنها لا تعرف القيادة. وهي مشغولة أيضا بوجود فأر يظهر بين حين وآخر في المطبخ، تخشاه نوال بينما لا يبدو أن “نورا” تخافه!

مشكلة نوال أكثر تعقيدا من وجود السيارة والفأر، فطبقا للقانون الساري حسب الشريعة، فالورثة يطالبون بحقهم من الميراث، ونوال تملك الشقة التي تقيم فيها، وقد ساهمت بمالها في شراء كل من السيارة والشقة لكنها لا تملك عقودا موثقة تثبت ذلك، و”رفقي” يريد أن يرغمها على بيع الشقة للحصول على حقه وحق أخواته في الميراث طبقا للشرع والقانون، فهي لم تنجب ولدا. وأمام إصرار نوال على عدم بيع السيارة وتسديد القرض، يرفع رفقي قضية ضدها للحصول على “حقوقه” وإرغامها على بيع الشقة دون أن يراعي أنها يمكن أن تنتهي في الشارع، ولكي تؤجل النظر في القضية، تدعي نوال أنها حامل، لكن القاضي يقضي بضرورة عمل فحص شرعي لإثبات الحمل. ومن هنا ندخل في سياق آخر شديد التعقيد داخل المستشفيات والعيادات.

الخط الثاني في الفيلم يتعلق بعائلة مسيحية. فنوال التي تكتشف أيضا أن زوجها الراحل كان قد فقد وظيفته قبل أربعة أشهر، تضطر للعودة إلى العمل كمشرفة تمريض لدى “سعاد” (سلوى نقاره) وهي سيدة متجبرة عنيدة، تتولى نوال رعاية والدتها “كوليت” العجوز المشلولة، وتتناوب نوال على خدمتها مع “حسن” زميلها الذي يغرم بها ويتودد إليها ولا يكف عن إرسال الرسائل التليفونية إليها، كما سيعلن لها في مرحلة متقدمة، حبه ورغبته في الزواج منها.

أما “لورين” (يمنة مروان) ابنة سعاد، فهي متزوجة لكنها غير سعيدة في زواجها، فزوجها يخونها وهي تعرف ذلك عن يقين، لذا فهي ترفض أن تنجب منه، ولكنها الآن حامل وتريد التخلص من الجنين، أي أن حالتها عكس حالة نوال. فنوال تتمنى أن تكون حاملا لكي تحصل الأمان الاجتماعي، بينما لورين تتطلع للتخلص من الحمل. هنا يجسد الفيلم أيضا الفرق بين موقف المرأة “المسلمة” التقليدية الخاضعة التي تبدأ تدريجيا في التمرد على واقعها، أي التي تجد الإجهاض حراما، والمرأة المسيحية الأكثر تحررا، التي تمنح لنفسها هذا الحق، رغم أن أمها تلعنها عندما تعلم بالأمر. وقد ساعدتها نوال التي تقتنع تدريجيا بوجهة نظر لورين. فالتضامن بين النساء أقوى من الحواجز النفسية والدينية والاجتماعية. وهي إحدى النقاط التي يلمسها الفيلم بمنتهى البراعة والرقة ومن دون أن تبدو مفروضة من الخارج. ومع ذلك، ستدفع نوال أيضا ثمن مساعدتها للورين، عندما تطردها سعاد من العمل ويصبح العبء مضاعفا فوق ظهرها.

الخط الثالث يتمثل في العلاقة التي تنشأ بين حسن ونوال، لكنها لا تكتمل، رغم أن حسن يوضح أنه لا يسعى لإقامة علاقة جنسية عابرة معها، بل يريد الارتباط بها، ورغم أنها تبدو في البداية راغبة، إلا أنها سرعان ما تتراجع، خصوصا بعد أن تصبح مهددة بفقدان حضانة ابنتها بعد أن يراها “رفيق” ذات مرة، مع “حسن” وهو يقوم بتوصيلها لمنزلها ويتخذ من هذا ذريعة للزعم أمام القاضي (الشرعي) بأنها ليست أما صالحة، ويأخذ “نورا” في كنفه ويمتنع عن ردها لأمها لعدة أيام. أما شقيقها “أحمد” (محمد الجيزاوي) فيبدو أكثر تفهما لمنطق رفقي، بحكم تكوينه الذكوري. فمن الواجب كما يرى، أن تراعي أنها أصبحت امرأة وحيدة الآن.

تظل المشكلة الأساسية هي أن نوال لم تلد ذكرا.. فما الذي سيحدث؟ من ضمن براعة السيناريو أنه يستخدم الالتواء في الحبكة، لكي يفاجئك خلال السرد بما لا تتوقعه إلى أن ينتهي تلك النهاية القوية الدامغة في إدانته لهذا الواقع العنيد من دون أي صراخ أو مبالغات ميلودرامية.

يتعاون أمجد الرشيد تعاونا بديعا مع مدير التصوير الفرنسي– – الياباني المرموق “كاناميه إينوياما” Kanamé Onoyama في إضفاء كل ذلك الشجن والحزن والغضب على الفيلم، مع السيطرة على المشاهد الخارجية البديعة التي يخرج خلالها إلى الشوارع والأسواق في عمان، والى الفضاء الطبيعي فوق الجبل حيث يتيح أيضا مساحة للتنفس، للتأمل، لاستيعاب النفس والتعبير عن بعض المشاعر المكبوتة كما في المشهد الذي يجمع بين نوال وحسن، يجلسان داخل سيارة حسن، ثم تستجيب له وتخلع “الحجاب”، ويتحسس شعرها الطويل، ولا ترفض هي قبلة يعرضها عليها، ثم تخرج من السيارة وتقف في الفضاء وكأنها حائرة يائسة، تناجي الله أن يخفف عنها. لكن هذه المشاعر لا تستمر وليس من الممكن أن تستمر وسط كل هذه الضغوط.

الطابع العام في الفيلم، شفاف، رقيق، فيه الكثير من الإيجاز، والتدفق الطبيعي تماما في تصوير التداعيات النفسية والاجتماعية كما تنعكس على شخصية “نوال”، ولاشك أن ما يجعل هذه الشخصية نابضة بالحياة كما نحو ما نراها في الفيلم، ذلك الأداء المدهش للممثلة الفلسطينية “منى حوا” التي تنجح، ليس فقط في تجسيد شخصية امرأة من الطبقة الوسطى في الأردن، تجد نفسها محاطة بكل هذا الكم من التعقيدات والضغوط التي يتعين عليها الالتفاف حولها أو العثور على وسيلة لتجاوزها بأي ثمن من دون الوقوع في “الخطأ” و”الخطيئة”. إنها تضيف من عندها، من مشاعرها الذاتية، وتضفي على شخصية “نوال” عذوبة، وقوة، رغم ما يكمن تحت قشرة القوة والصلابة من هشاشة وضعف وحيرة هي حيرة كل امرأة في تلك المنطقة من العالم.

إن أداء منى حوا يرقى إلى أعظم الأداء التمثيلي في السينما العربية. فهي تعرف كيف تتعامل مع أعقد المواقف الدرامية في لقطات “الكلوز أب” القريبة من وجهها، من دون أي تردد أو وجل، تضبط نغمات صوتها المعبر جيدا، يكفي أن تتطلع بنظرات عينيها سواء الى الابنة “نورا” أو شخصية أخرى، لكي نعرف فيم تفكر تشعر. إنها موجودة في كل مشاهد الفيلم، تعبر عن الألم والحيرة، الحزن والوحدة، تحمل الفيلم على كتفها وتدفعه الى الأمام. ومحظوظ أمجد الرشيد بممثلة من هذا الوزن.

الى جانب منى حوا، يستعين الرشيد بطاقم من الممثلين الذين يعرفون جيدا حدود الشخصيات، وكيف يخلقون الكيمياء المطلوبة فيما بينهم، لا يتجاوزون ولا يتهاونون، كلهم يجسدون شخصيات من لحم ودم، شخصيات من قلب الواقع: هيثم عمري (رفيق) ويمنة مروان (لورين)، وسلوى نقاره (سعاد)، وإسلام العوضي (حسن)، محمد الجيزاوي (أحمد).. وغيرهم. إنهم جميعا، جزء أساسي وعضوي من نسيج الفيلم ومن أسباب تألقه ورونقه. ولا شك أن الفضل في السيطرة على الأداء يعود إلى أمجد الرشيد نفسه ومساعديه.

إن فيلم “إن شاء الله ولد” يضخ تيارا جديدا في السينما في نهر السينما في الأردن ولو على استحياء، ويؤشر على مولد مخرج جيد سيكون له دور في مستقبل هذه السينما.

 

موقع "عين على السينما" في

06.06.2023

 
 
 
 
 

جوستين ترييه الفائزة بـ"سعفة" مهرجان كانّ 76:

المحكمة هي المكان حيث حكاياتنا لا تعود ملكنا

هوفيك حبشيان

يروي "تشريح سقوط"، فيلم الفرنسية #جوستين ترييه الذي نال "السعفة الذهب" في #مهرجان كانّ الأخير (16 - 27 أيار) وفاة زوج (سامويل تييس) سقوطاً من أعلى نافذة الشاليه الواقع في منطقة جبلية، وكان انتقل اليه قبل سنة مع زوجته (ساندرا هولر) وابنه البالغ من العمر 11 عاماً. تفشل التحقيقات في التوصّل إلى معرفة ما اذا كان الحادث جريمة متعمّدة أو انتحاراً، لكن القضاء يقرر توجيه الاتهام إلى الزوجة، وهي كاتبة ألمانية اختارت العيش في فرنسا حبّاً لزوجها، بعد اكتشاف تفاصيل تدينها.

ستفجّر جلسات المحكمة العديد من الأسئلة المعلّقة، والريبة والشكوك، محورها تخبّط هذا الثنائي الأربعيني. تقدّم ترييه طوال ساعتين ونصف الساعة سينما رشيقة ومثيرة وعميقة لا تشعرنا بأي ملل، حيث يسمرنا على الكرسي، تطور الأحداث والتوق إلى مشاهدة الخاتمة. نحن، كمشاهدين، لا نعرف أكثر من المحكّمين، ونجهل تماماً ما اذا كانت الزوجة مذنبة أو بريئة، فكلّ شيء ممكن، كون الفيلم يسلّم نفسه لكلّ الاحتمالات، واضعاً ايانا في قلب المعمعة. نصبح طرفاً فعّالاً في القضية، نتفاعل معها على مدار اللحظة. ترييه لا تبحث عن مُشاهد سلبي، كما انها لا تبحث عن فيلم يلفت الأنظار بتقنيات جذب زائفة ومفتعلة. لا تذعن إلى صناعة تشويق رخيص، بل تحاول فهم الأشياء من الداخل، بتعداد الأسباب النفسية والاجتماعية والعاطفية التي قد تجعل رجلاً مملوءاً بالحياة يختار الرحيل انتحاراً.

في المقابلة الآتية، المنشورة ضمن الملف الصحافي الخاص بالفيلم، تتحدّث ترييه عن تفاصيل إنجاز هذا العمل النفسي المعقّد الذي ينظر في عمق العلاقات العاطفية والزوجية المتداخلة، بعيداً من ثنائيات الظالم والمظلوم والمستغِل والمستغَل والقاتل والقتيل.

1 – "وددتُ الذهاب إلى ما بعد التعقيد"

"وددتُ ان أصوّر فيلماً عن هزيمة زوجين. تجسّدت الفكرة في رواية سقوط جسد، على نحو تقني، وتحويل هذا السقوط إلى صورة لسقوط الزوجين ولسقوط قصّة حبّهما. للزوجين ابن يكتشف قصّة أهله خلال المحاكمة - محاكمة تشرح علاقتهما على نحو ممنهج - وهذا الصبي ينتقل من كونه طفلاً لديه ثقة مطلقة بأمه، إلى مرحلة الشكّ. الفيلم سيعاين هذا الانتقال. في أفلامي السابقة، كان للأطفال حضورٌ، لكن من دون كلام، كانوا هنا ولكن لا نسمع وجهة نظرهم. وكأنه آن أوان ضم نظرة الطفل إلى الحكاية وخلق توازن بين نظرته ونظرة ساندرا، الشخصية الرئيسية. يتحوّل الفيلم تدريجاً إلى استجواب طويل: من المنزل إلى المحكمة، لا يعود هناك شيء آخر سوى سلسلة مشاهد حيث الشخصيات تخضع لمساءلة. وددتُ أن أعود إلى المزيد من الواقعية، بالمعنى الوثائقي للكلمة، سواء على مستوى الكتابة أو الشكل. فعلتُ ذلك كي أذهب إلى ما بعد التعقيد. لا توجد موسيقى في الفيلم وهو أكثر صفاءً من أعمالي السابقة".

2 – "فكرة جسد يسقط تلازمني منذ فترة طويلة"

"هاجس السقوط حاضر في الفيلم، خصوصاً بشكله المادي والملموس. ماذا يحدث عندما يسقط شيء ما؟ فكرة "ثقل الجسد" أو جسد يسقط، تلازمني منذ فترة طويلة، مذ شاهدتُ جنريك فيلم "رجل مجنون"، حيث نرى هذا الرجل الذي لا يتوقّف عن السقوط… في فيلمي، لا نفعل سوى صعود السلالم ونزولها، أو النظر من الأسفل إلى الأعلى والعكس، أو محاولة فهم كيف حصلت حادثة السقوط. لذلك، كان ينبغي دخول الفيلم من طرفه: تتدحرج طابة فيلتقطها الكلب ثم ينظر إلى ساندرا، كأنما يقول لنا: هذه هي السيدة التي سنحاول فهمها طوال ساعتين ونصف الساعة".

3 – "المساواة في الزواج طوباوية غير ممكنة"

"ماذا نعطي بعضنا بعضاً في اطار الحياة الزوجية؟ ماذا يدين أحدنا للآخر؟ هل الأخذ والرد ممكنان؟ هذه أسئلة تشغلني ولم تقاربها السينما كثيراً.

في الفيلم، ساندرا فويتر كاتبة معروفة، وزوجها بروفسور ويدرّس ابنه في المنزل محاولاً الكتابة بدوره. هناك بالطبع تفكيك للنموذج الزوجي السائد. هناك تبدّل أدوار، كوني أقدّم امرأة تخلق اختلالاً في التوازن المنزلي، في الوقت الذي تحاول فيه الحفاظ على حريتها وإرادتها. المساواة داخل الزواج طوباوية رائعة، لكن من الصعب جداً الحصول عليها، وساندرا تقرر ان تأخذ من دون ان تطلب الاذن، فهي تعلم أنها لن تحصل على شيء اذا ما أخذت. هذا السلوك ينطوي على قوة ويطرح تساؤلات في الحين نفسه، والفيلم لا يفعل سوى هذا: طرح تساؤلات.

الزواج هو عبارة عن سعي لبناء ديموقراطية، لكن نوبات ديكتاتورية تطيح هذا السعي على الدوام. في الفيلم، يأخد الموضوع طابعاً شبه حربي، مع شيء من الخصومة. لقد سقط الزوجان في فخ، وثمة شيء فُقِد، لأن لا أحد منهما قرر التنازل أو الخضوع للآخر. كلاهما مثاليان كبيران، وأحبّهما لهذا الجانب في شخصيتهما. لم يستسلما. حتى في مشاهد الخلاف، التي هي في الواقع تفاوض، يستمران في قول الحقيقة، أحدهما في وجه الآخر. لذلك، فالحب مستمر بينهما في نظري".

4 – "فيلم فرنسي جداً عثرتُ فيه على متعة شكلية"

"أرتور أراري كتب السيناريو معي فعلاً. كان عملاً تشاركياً كاملاً. استشرنا محامياً جنائياً اسمه فنسان كورسل لابروس وكنّا نتواصل معه باستمرار لنلقى مساعدة في الجوانب التقنية، خصوصاً في ما يتعلّق بالمفهوم الفرنسي للحضور في المحكمة. الجانب الفوضوي للمحاكمة في فرنسا فاجأنا، خلافاً للمحاكمة في الولايات المتحدة حيث الكلام موزَّع على نحو أكثر صرامة. هذا الجانب أتاح لي ان أنجز فيلماً فرنسياً جداً، على نقيض فيلم المحاكمة الأميركي الذي يكون عادةً أكثر استعراضيةً. فكرة مشاهدة أجزاء متواصلة من الاستماع إلى الحضور فرضت نفسها. لم أتوقّف عن الطلب من المونتير، لوران سينيشال، الذي عمل معي، ان يبطّئ الإيقاع ويستخدم لقطات ليست بالضرورة الأفضل بصرياً. لم أرغب بفيلم مريح، يكون غاية في النظافة. في أي حال، عثرتُ على متعة شكلية جديدة مع هذا الفيلم".

5 – "ساندرا هولر طبعت الفيلم كيميائياً"

“بعد فيلمي السابق "سيبيل"، كنت أرغبُ في العمل معها. كتبتُ الدور لها. كانت تعلم ذلك. هذه من الأشياء التي شجّعتني منذ البداية لإنجاز الفيلم. هذه المرأة الحرة التي في النهاية، ستُحاكَم على النحو الذي تعيش فيه حياتها الجنسية، وتعيش مهنتها وأمومتها. فكَّرتُ بأن ساندرا هولر ستضفي على الفيلم تعقيدات معينة وستعطي الشخصية "نجاسة" ما. كنت أكيدة أنها ستُبعد عن الفيلم مفهوم "الرسالة". التقينا فعلاً خلال التصوير. جاءت بإيمان وبحقيقة ارتقى بها السيناريو. ساندرا شخص ترفض أي جملة حوار تبدو لها مصطنعة. كانت ترميها في وجهي. كان هذا شيئاً في منتهى الحيوية: تأتيني بوجهة نظرها الصلبة، كلّ شيء يمر بجسدها. تطبع الفيلم كيميائياً، كما تفعل قلّة من الممثّلين. عندما انتهى التصوير، شعرتُ انها وهبتني جزءاً منها. شعرتُ ان ما التقطته بالكاميرا لا يمكن اعادة انتاجه".

6 – "الحياة الزوجية لشخصين لا يتحدّثان اللغة نفسها"

"اللعب باللغات، الفرنسية والإنكليزية والألمانية، وكونه يضفي طبقة تعقيد اضافية على المحاكمة، يغذّي مسافتنا من ساندرا، هي الغريبة التي تُحاكَم في فرنسا، وعليها ان تمتثل للغة زوجها وابنها. انها امرأة بَنَت نفسها على طبقات عدة، والمحاكمة ستستكشف هذا الأمر. كان يهمّني ان أنظر إلى الحياة الزوجية بين شخصين لا يتحدّثان اللغة نفسها".

7 – "أحببتُ سامويل تييس ونعومته الظاهرة"

"قابلتُ الكثير من الممثّلين للدور الذي يلعبه سامويل تييس، ومن سخرية القدر ان الشخصية كانت تُدعى سامويل. يظهر في الفيلم قليلاً، لكنه ضروري للحكاية. كان عليه ان يخطفنا فوراً. أعترف بأنني أجده جميلاً جداً، أعشق صوته، نعومته الظاهرة التي تخفي شيئاً أكثر دسامةً. رغبتُ في تصويره. لديه شيءٌ دسم، وهذا شيء أعشقه عند الممثّلين. انه شيء جسدي وداخلي. ثمة طبقات".

8 – "أنطوان يجعل الميت شخصاً محبوباً"

"اخترت أنطوان رينارتز للحداثة التي جاء بها إلى الشخصية. أدخَلَ العالم المعاصر، وهذا يكسر جدية المحاكمة. هو يضطلع بدور الشرير، لكنه شرير ساحر جداً. يتحدّث بالنيابة عن الشخص الميت، ويجعل هذا الأخير الذي لا نراه، محبوباً. يحاول اقناعنا واقناع المحكّمين بأنه يستحق ان ندافع عنه. يحوّل أنطوان المحكمة إلى ساحة".

9 – "في المحاكمة تغيب الحقيقة ويحضر الكلام"

"غياب الاستعادة الزمنية كان رغبة منذ البداية. لا أحبّها في الأفلام. وددتُ ان يتصدّر الكلام الفيلم، فيتحمّل المسؤولية ويجتاح كلّ شيء. هكذا تعمل المحاكمة: تفلت الحقيقة منّا، فنجد أنفسنا أمام فراغ كبير ولا يعود لدينا سوى الكلام لسده. المحكمة هي المكان حيث حكاياتنا لا تعود ملكنا، يحكم عليها آخرون، وعليهم اعادة تركيبها انطلاقاً من عناصر منفصلة وملتبسة. هذا كله يعطي طابعاً خيالياً لقصصنا، وهذا ما يثيرني تحديداً".

 

النهار اللبنانية في

06.06.2023

 
 
 
 
 

"إن شاء الله ولد" لأمجد الرشيد..بالخلاص يا نساء الأردن!

محمد صبحي

استضاف الأردن إنتاجات هوليوود على مدى عقود. سافرت الأطقم الفنية والتقنية لأفلام "لورنس العرب" و"كثيب"، من بين أعمال أخرى، إلى المملكة الهاشمية. إلا أن صناعة السينما الأردنية نفسها اضطرت إلى الانتظار حتى العام 2023 لتظهر للمرة الأولى في مهرجان "كانّ" السينمائي.

والفيلم الذي وقع عليه الاختيار، "إن شاء الله ولد" باكورة المخرج أمجد الرشيد، والمبرمَج في القسم الموازي من "أسبوع النقاد"؛ يقترح قصّة تليق تماماً وتتحاور مع روح العصر الحالي. في مهرجانٍ تضمّ مسابقته الرسمية رقماً قياسياً من حيث عدد المشاركات النسائية الإخراجية (سبعة أفلام)، يبدو منطقياً اختيار فيلمٍ يتمحور حول قصة أرملة شابّة تحارب نظاماً رجعياً وأبوياً للحصول على حقٍّ من حقوقها الأساسية.

المرأة المعنية هي نوال (منى حوا) وتقضي أيامها في رعاية ابنتها نورا (سيلينا ربابعة) وإدارة المنزل الذي تعيش فيه مع زوجها، وهذا الأخير ينام ذات ليلة ولا يستيقظ مرة أخرى. وكأن ذلك لم يكن كافياً، تبدأ عائلته معركة قانونية للحصول على نصيب من ميراثه، لأن المتوفّى لم يعقّب ابناً يرثه (وفقًا للقانون الأردني، إذا لم يكن للمرأة ابن وتوفّي زوجها، يحقّ لأسرة هذا الأخير الحصول على نصيب من الميراث). وهذه ليست سوى الضربة الأولى من سلسلة من القوانين والأعراف المواتية لصالح الرجال.

السيناريو، الذي كتبه الرشيد بالمشاركة مع دلفين أغوت ورولا ناصر، لا يعطي وقتًا للزوجة المكلومة للحداد والحزن، فهي لا تكتفي بمعرفة أشياء عن زوجها لم تكن تعرفها قبلاً، بل تُجرّ إلى المحكمة من قبل صهرها رفقي (هيثم عُمري). تجد نوال نفسها بمواجهة أقارب/غرباء طامعين في مقاسمتها منزلها المتواضع، هي التي تعمل كمقدّمة رعاية في الجانب الآخر من المدينة، ومن ثمّ يتحوّل الفيلم إلى بناء سردية تشويقية لأحداثه. كيف؟ عبر تظاهر نوال بالحمل، ما يعطيها 9 أشهر تناور فيها لحلّ مشاكلها المتعددة (ومن هنا يأتي عنوان الفيلم).

يقول الرشيد إنه استمد قصّة فيلمه من قريبة مرّت بتجربة مشابهة، كما تحدّث إلى العديد من النساء الأردنيات، فوجد قاسماً مشتركاً يربط بين مخاوفهن. "كلّهن شعرن أنهن الحلقة الأضعف وأن القانون، في النهاية، لا يدعمهن ولا يقف إلى جوارهن"، يقول المخرج الذي أراد إنجاز هذا الفيلم "لحثّ الناس على إعادة التفكير في ما تمّ تطبيعه لسنوات عديدة".

كما الحال في الفيلم الإيراني "انفصال" (2011، أصغر فارهادي) أو الهندي "محكمة" (2014، شيتانيا تامهان)، يُصرف جزء معتبر من الفيلم الأردني أمام الموظّفين والمحامين الذين يطرحون أسئلة وحُججاً تميل إلى أخذ صفّ أقارب الزوج المتوفّى. خارج هذه المساحات المغلقة والجافة، يسجّل الرشيد محاولات نوال للمضي قدماً، ليس عاطفياً فحسب، إنما اقتصادياً أيضًا، من أجل بناء مستقبل. أجواءٌ وحكاية ستذكّر المتفرّجين العرب حتماً بما شاهدوه في رمضان الماضي في المسلسل المصري "تحت الوصاية"، ورحلة بطلته لافتكاك حق الولاية على ميراث زوجها المتوفّى.

ما يبدأ كقصّة امرأة شابة مغلوبة على أمرها، يتخلّلها تصميم على القتال من أجل ابنتها ومن أجل نفسها، يفضي في نهايته إلى لحظة تحرير وانعتاق (تكاد تكون صوفية) تجلب رياح الأمل في ختام ساعتين من الألم الدرامي. دقيقة بعد دقيقة، يحافظ السيناريو على بساطته وعاطفيته (وبعض المباشرة أحياناً)، لكنه فعّال في إشراك المتفرّج الذي يجد نفسه متورّطاً في مأساة تختصر كثيرة غيرها بطلاتها نساء يجدن أنفسهن تحت مطارق عديدة.

بعيداً من كونه أحد تلك الأفلام الحاملة أجندة واضحة تتمحور حولها بقية الحبكة والقصّة، إلا أن "إن شاء الله ولد" يظلّ فيلماً جيداً. والسبب في ذلك تمسّكه الذي يُحسب له بألا يستسهل في صياغة خطابه أو ينزل إلى فخاخ الانتهازية المفرطة، بل يبقى في مسارٍ محسوب من الانضباط الدرامي، متجنباً الرموز السهلة والانزلاق إلى الإدلاء ببيانٍ زاعق. بهذا المعنى يستوي الفيلم في الأخير سجلاً دقيقاً و"نسوياً"، إذا أردنا، لمعركة صامتة تكاد لا تُرى ويتشابه فيها الضحايا دائماً.

 

المدن الإلكترونية في

07.06.2023

 
 
 
 
 

إيمان يوسف لـ«الشرق الأوسط»: الحرب سرقت فرحة نجاح «وداعاً جوليا»

هوجم منزلها في الخرطوم وعاشت «فيلماً داخل فيلم»

القاهرةإنتصار دردير

بكثير من اللوعة، تعترف الممثلة السودانية إيمان يوسف، بطلة «وداعاً جوليا»، بأنّ الحرب سرقت فرحتها بنجاح الفيلم بعد حفاوة الاستقبال التي حظي بها في «مهرجان كان» الأخير وفوزه بجائزة «الحرية». فموافقة المهرجان على عرضه، تزامنت واندلاع الحرب، لتعيش إحساساً متضارباً، بين فرحة ناقصة وحزن وقلق. تكشف، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، عن خوضها رحلة صعبة مع النازحين للوصول إلى مصر، بعد مهاجمة منزل عائلتها في الخرطوم، ورغم ذلك تثق بعودة السودان أقوى مما كان.

ما بين رحلة مغادرة الخرطوم وعرض «وداعاً جوليا» في «كان»، وهو أول فيلم سوداني يشارك في الحدث العالمي؛ تختبر إيمان يوسف لحظات صعبة، كما لو كانت تعيش «فيلماً داخل فيلم».

تروي: «عندما أعلن المهرجان عن اختيار فيلمنا، كانت الحرب قد بدأت. لم تكتمل فرحتي وتزايد خوفي. طمأنتُ نفسي بأنّ النور يولد من العتمة. طلب مني المخرج محمد كردفاني مغادرة السودان إلى القاهرة للحصول على تأشيرة السفر إلى فرنسا، وهذا ما فعلته. رفضت أمي وإخوتي السفر وتمسكوا بالبقاء، فقد اعتقدنا أنه مجرد اشتباك وسينتهي. مع تواصل الأنباء بتطوّرات الحرب وأزمة حافلات السفر التي استغلّ أصحابها الوضع وضاعفوا الأجور، وافقت أمي لنقطع رحلة صعبة إلى القاهرة على مدى 5 أيام».

بعض مشاهد «وداعاً جوليا» التي تتناول لحظة انفصال جنوب السودان عن شماله، بينما سكان الجنوب ينزحون بجرّ حقائبهم، عاشتها الفنانة خلال رحلتها، فتقول: «لحظات الرعب تمثّلت في الخروج من الخرطوم وصولاً إلى موقف قندهار، حيث محطة الباصات. كانت الشوارع خالية والخوف رفيقنا. عشنا من دون نوم ولا طعام. قست علينا الرحلة، إلى أن وصلنا إلى المعبر المصري. بكيت، فالشعب السوداني عانى طويلاً».

الاستعداد لحضور المهرجان، وتصميم الأزياء على السجادة الحمراء، استلزما وقتاً، فتقول: «اقترحتُ على المصمم السوداني محمد سبا المقيم في مصر، فكرة تصميم (جيمبسوت) على شكل الزيّ السوداني التقليدي. صُممت الإكسسوارات بما يشبه الجنازير اختزالاً لقيود نعيشها، وفي الذيل وُضعت صور لطلقات رصاص، أما (البروش) فصُمّم على شكل قلب تسيل منه خيوط حمراء مثل دماء. أردنا في هذا الحدث الكبير تقديم وجه آخر للسودان خارج الأحداث المأساوية».

نال العرض الأول للفيلم حفاوة كبيرة وتصفيقاً طويلاً. تستعيد تلك اللحظة: «شعرتُ برهبة وأنا أشاهده للمرة الأولى. شغلتني شوارع الخرطوم وتساءلتُ متى العودة؟ مع انتهاء العرض توالى التصفيق وبكيتُ من الفرحة»، مؤكدة أنّ «الفيلم عبَّر عن الثقافة والعادات السودانية، فاستوقفنا فرنسيون في الشارع، وسألونا عن بعض المشاهد، وسط جمهور يسمع عن السودان للمرة الأولى».

الفيلم هو الأول ليوسف، من خلاله ظهرت أيضاً بشخصية المطربة، فتقول: «أدّيتُ أغنيتين سودانيتين، إحداهما كُتبت للفيلم، وهي (قولي كيف) من ألحان مازن حامد الذي وضع الموسيقى التصويرية، والثانية أغنية قديمة للمطرب سيد خليفة بتوزيع جديد، إلى أغنية (لولا الملامة) للمطربة وردة».

بجانب الغناء، تجيد إيمان يوسف العزف على القانون والعود الذي درسته بإشراف الفنان العراقي نصير شمة. وهي شاركت في حفلات للعزف بدار الأوبرا المصرية.

حقق فيلم «وداعاً جوليا» خطوة نوعية في بدايتها التمثيلية، فتؤكد أنه «وضعني أمام مسؤولية كبيرة، ورغم ندرة الفرص وقلة الإنتاج السينمائي وظروف الحرب، فإنني أثق بأنّ السودان سينهض، وستفرز الحرب كماً من الأفكار والإنتاج الفني الواعي».

وفي القاهرة، حيث تقيم، تخطّط لحياتها التمثيلية: «أحتاج إلى تطوير مهاراتي والمشاركة في ورش للتمثيل، وأن أعاود العزف بعد الاستيلاء على بيتنا، ففقدتُ العود والقانون وذكريات عمري».

 

الشرق الأوسط في

09.06.2023

 
 
 
 
 

مهرجان كان 2023: عام للسينما العربية

أفلام عربية في مهرجان كان 2023: بنات ألفة، وداعًا جوليا، عيسى

محمد طارق

عام للسينما العربية في مهرجان «كان» بالتأكيد، فمنذ الإعلان عن الأفلام المشاركة في المهرجان الأكثر انتظارًا في عالم السينما، وعن عددها الواصل 13 فيلمًا موزعين بين أقسام المهرجان المختلفة: المسابقة الرسمية وقسم نظرة ما وأسبوع النقاد ونصف شهر المخرجين وأسيد، ووصولًا إلى لا سينيف (مسابقة أفلام الطلبة)، ونحن في انتظار مشاهدة تلك الأعمال، لكن بعد مشاهدتها وحصولها أيضًا على العديد من الجوائز في المهرجان، وخاصة الأفلام المشاركة في قسم نظرة ما التي استحوذت على معظم جوائز القسم، تأكد أن هذا العام يشهد انتعاشة للسينما العربية على مستويي الكم والكيف.

تجمع اختيارات المهرجان للأفلام العربية هذا العام ظهورًا لأسماء عربية لامعة، مثل كوثر بن هنية وفوزي بن سعيدي، وأخرى صاعدة مثل محمد كوردفاني وأسماء المدير وكمال الأزرق ومراد مصطفى وجاد شاهين وزينب واكريم، مع غلبة للأسماء الصاعدة، وهو ما يؤكد مولد جيل سينمائي عربي جديد لا يهتم فقط بعرض قضايا على الشاشة بقدر ما يهتم بتناول تلك المواضيع والقضايا سينمائيًّا

ظهور تلك الانتعاشة مرتبط بشكل حتمي بدعم الأفلام من مؤسسات مانحة، بينها الدوحة وآفاق والمورد، وتلك الخاصة بالمهرجانات مثل القاهرة والجونة وقرطاج ومراكش والبحر الأحمر، وخاصة الأخير الذي قام بتوفير منح مالية ضخمة للأفلام في وقت قصير، ما أدى إلى إنجاز الأفلام في وقت أسرع ونتج عنه كثافة في عدد الأفلام المنتجة وجودة أفضل لها، الأمر الذي يؤكد أن المواهب العربية تستطيع الوصول وبسهولة إلى المهرجانات الكبرى والمنافسة بقوة أمام أعمال عالمية أخرى، خاصة أن معظم الحكايات الأخاذة تأتي هذا العام في المهرجان العريق من دول صاعدة في مجال السينما وبينها السودان والأردن، ومن دول الشرق والجنوب بشكل كبير، وهي الدول التي لم تتح لها الفرصة بشكل عام لحكي حكاياتها لأسباب متعلقة بالمناخ العام لها، أو لظروف الاستعمار وقلة الموارد الموجهة لدعم الفنون

في هذا المقال نستعرض 6 من أبرز الأفلام العربية التي شاركت في مهرجان كان هذا العام، وفازت بجوائز أقسامه المختلفة، ونرجو أن نرى تلك الأفلام قريبًا في المهرجانات العربية، وقاعات السينما أيضًا

1. بنات ألفة

أول فيلم في القائمة هو «بنات ألفة» لكوثر بن هنية، وهو الفيلم العربي الوحيد المشارك في المسابقة الرسمية في واقعة لا تحدث إلا نادرًا في مهرجان كان. سادس أفلام بن هنية الطويلة يؤكد أنها لا تعرف الحدود بين الروائي وغير الروائي. المتابع لمسيرة بن هنية سيعرف أنها بدأت بفيلمين وثائقيين هما «شلاط تونس» و«زينب تكره الثلج»، ثم انتقلت لصنع أفلامها الروائية «على كف عفريت» و«الرجل الذي باع ظهره»، وتخلل ذلك صناعة أفلام قصيرة أو أفلام تلفزيونية، ما يعني فهمها كمخرجة لطبيعة السينما وتحررها من قيود تنميط الصناعة فيما يتعلق بمدة الفيلم أو نوعه

في «بنات ألفة» تحكي المخرجة قصة حقيقية مروية بأسلوب يمزج الواقع بالمتخيل، فألفة أم تونسية فقيرة لأربع بنات، انضمت اثنتان منهن إلى قوات تكفيرية في ليبيا. من أجل إعادة خلق حكاية ألفة وبناتها، تقوم بن هنية بعمل “كاستينج” لهند صبري في دور ألفة لتلك الأجزاء التي لن تستطيع ألفة الظهور فيها بسبب التأثر العاطفي، كما تختار ممثلتين للعب دور البنتين الغائبتين. نحن أمام فيلم ذي موضوع حساس وجريء، لكن الموضوع ليس وحده ما يخلق الفيلم، قدر الطريقة التي تصور بها المخرجة الحكاية، والتي تستخدم مزيجًا من أدوات الحكي السينمائي الروائي والوثائقي.  

يبدأ الفيلم بتعريف أسلوبه في البداية، منذ لحظات مقابلة ألفة وبنتيها الحقيقيات لطاقم التمثيل المشارك في الفيلم. بعدها تبدأ حكاية الفيلم بتاريخ زواج ألفة من زوجها، وتقوم هند صبري ومجد مسطورة (الذي سيلعب أدوار كل الرجال في حياة ألفة) بتمثيل مشهد ليلة الزفاف في حضور ألفة نفسها التي تقوم بالتعليق على ما حدث في ذلك اليوم وتوجيه المشهد ليبدو كما حدث في الحقيقة

هذا الأسلوب الفني الذي سيستمر خلال الفيلم ينعكس من ناحية على أداء الممثلين الذين يخوضون تجربة جديدة ويلعبون شخصيات ليست مكتوبة على الورق، ويجعلهم متورطين عاطفيًّا مع أبطال حكاياتهم، ومن ناحية أخرى على ألفة وبنتيها الحقيقيات اللاتي يشاهدن جزءًا من حياتهن تعاد روايته كمتفرجات أو كممثلات، والنقاشات الناتجة عن تلك العملية، فالممثلون تونسيون أيضًا، ولكن من خلفيات ثقافية واجتماعية مختلفة. خلال تلك الرحلة التي يصعب وصفها بالكلمات، تتعرض بن هنية لقضايا تشغل المجتمع التونسي خاصة والعربي عامة، بين الفقر والتربية وأوضاع النساء في المجتمع والعنف المنزلي، وصولًا إلى التشدد الديني والإرهاب، وتحاول خلق تفسير منطقي أو بورتريه لحالة المجتمع بأكمله.   

2. وداعًا جوليا

«وداعًا جوليا» لمحمد كردفاني، هو أول الأفلام التي تلفت الانتباه لها في قسم «نظرة ما»، سواء لكونه الفيلم الروائي الطويل الثامن في تاريخ السودان، أو الأول في مسيرة مخرجه أو الأول في كان أيضًا، وأخيرًا فوزه بجائزة الحرية في قسم نظرة ما. يسرد كوردفاني قصة إنسانية بين امرأتين، إحداهما من الشمال، منى، والأخرى من الجنوب، جوليا، وتسكن كلتاهما العاصمة السودانية الخرطوم عام 2005 قبل انفصال جنوب السودان. لظروف مأساوية مؤججة بالعنصرية والخوف من الآخر وشيطنته، تتسبب منى في قتل زوج جوليا، دون أن تعلم الأخيرة بذلك، ويثقلها الذنب فتقوم بتشغيل جوليا خادمة لها في المنزل من أجل أن تساعدها وابنها بشكل خفي

تتكون صداقة وطيدة بين المرأتين، وتدفعهما تلك الصداقة كلتيهما إلى التعرف على أنفسهما وأحلامهما المُطفأة لأسباب متعلقة بالفقر والعوز والعنصرية في حالة جوليا، أو بالمجتمع والتشدد والانغلاق في حالة منى، ورغم أن تلك الصداقة موقوتة بكشف الحقيقة، فإن منى وجوليا تبدوان مستعدتين للتصالح حتى مع وطأة الفوارق العرقية والطبقية، وحتى مع ذلك الحدث الجلل الذي تسببت فيه منى، فعلاقة الصداقة تلك قد وفرت لهما ما لم توفره أي علاقة أخرى في حياتهما، من تفهم وسماع للآخر

الرجال لا يبدون على نفس القدر من الاستعداد للتصالح، بدءًا من زوج منى صاحب المصنع، الذي يعتبر وجود العنصرية بين الشماليين والجنوبيين أمرًا واقعًا لا يمكن تغييره، وحبيب جوليا الجديد المنتمي لقوات جيش التحرير الشعبي السوداني ماجير الذي يرى أن الحل الوحيد يكمن في الانفصال، بعد سنوات من القهر والتمييز عاشها الجنوبيون وقت الوحدة، وصولًا إلى ابن جوليا المراهق الغاضب الذي يرفض التفريط في حق والده

يقول كردفاني في حوار أجراه الناقد هوفيك حبشيان إن فكرة الفيلم بدأت وقت استفتاء الانفصال ونسبة الـ99% الذين صوتوا من أجل الانفصال. فاجأت تلك النسبة المخرج، فقرر أن يبدأ رحلة سينمائية لفهم ما يدور، ولكن كما يقول أيضًا فإن الفيلم ليس عن الانفصال بين دولتين، لكن عن انفصالات عدة بين منى وزوجها، وبينها وبين جوليا، وانفصال الأبطال عن أحلامهم. فيلم كوردفاني هو فيلم عن قلة التواصل على المستويين الإنساني والسياسي بين الأفراد في المجتمع السوداني، وهو إذ يصور تطور العلاقة بين منى وجوليا يكسر أجزاءً من النمطيات التي قد يتخيلها الطرفان بعضهما عن بعض، ويكشف أن التواصل هو الحل الوحيد لمعرفة الآخر وللتعايش معه

الفيلم موجه لجماهير كبيرة، إذ يمكن للمشاهد أن يتماهى مع أي من الشخصيات الموجودة في الفيلم بدءًا من منى المرأة الفنانة المثقفة والممتثلة في الوقت نفسه لقرارات زوجها والمجتمع، وجوليا المقهورة العملية التي تقبل بواقعها بأي حال، وتحاول حماية ابنها وتوفير أفضل مستقبل له، وزوج منى صاحب النزعة اليائسة تجاه المجتمع، أو ماجير والابن اللذين يحاولان تحقيق واقع أفضل حتى وإن كانت الاختيارات صعبة أو عنيفة. يتسع الفيلم لمساحة عرض لكل الآراء السياسية الممكنة لذلك الوضع، لكنه ليس بفيلم سياسي قدر ما هو فيلم إنساني خالص، تكمن السياسة في خلفيته، إذ إنه يتخيل عالمًا قد يكون تحقيقه مستحيلًا في الواقع، لكنه يترك المساحة للحلم موجودة في قاعة السينما

3. إنشالله ولد

من مسابقة أسبوع النقاد، يأتي عمل أول آخر هو «إنشالله ولد» لأمجد الرشيد، ليكون أول فيلم أردني يشارك بمهرجان كان. الفيلم يذكرنا بمسلسل “تحت الوصاية” لمحمد شاكر خضير من حيث الموضوع، وهو موضوع الوصاية على الأطفال وميراثهم بعد وفاة الزوج، ولكن الحبكة هنا مختلفة، إذ إن الزوج يتوفى، وتقع نوال الزوجة والأم لطفلة وحيدة تحت تهديد خسارة بيتها – الذي شاركت في دفع ثمنه لكن دون إثبات ورقي – ما لم يكن لها ولد، وهذا الولد قد يظهر في أشهر عدة زوجها المتوفى ليكون خلاصها الوحيد من عائلة زوجها التي تود بيع كل شيء لتقسيم الميراث

تتوالى العقبات أمامها بدءًا من إدارة بيتها ورعاية ابنتها بعد وفاة الزوج، والتعامل في مسألة الميراث، وتفادي مشاكل عيشها كأم وحيدة مع نظرات المجتمع، إضافة إلى تحكمات سيدة المنزل الذي تعمل فيه ممرضة. في ذلك المنزل نقابل ابنة تلك السيدة، لورين التي تأتي من طبقة اجتماعية وديانة مختلفة. تعاني لورين من مشكلة أخرى مختلفة يقف القانون والمجتمع أمام حقها فيها أيضًا، وتنشأ بين نوال ولورين علاقة تضامن ناتجة عن إحساسهما بالقهر أمام المجتمع الذكوري، رغم اختلافات معتقداتهما وأفكارهما جذريًّا. من جراء تلك الصداقة والعقبات الكثيرة الظالمة، تبدأ شخصية نوال في التغير وتصمم على أخذ حقها بأي حال من الأحوال حتى وإن كانت الطريقة لا ترضي المجتمع

القضية ليست فقط ما يشغل الرشيد، رغم ظهورها بالطبع وتحريكها للأحداث، لكن الأسلوب السينمائي ينقل لنا إحساس البطلة في فيلم أقرب لفيلم نوار «الفيلم الأسود» بأسلوب بصري قاتم، وشريط صوت ومواقع تصوير تجعل من تجربة الفيلم مشابهة لتجربة رهاب الأماكن المغلقة، وكأن بطلة الفيلم تجري في متاهة كابوسية كبيرة تحاول الفرار منها.  

4. عصابات

فيلم نوار آخر لكن من المغرب، هو «عصابات» لكمال الأزرق، الذي شارك في قسم «نظرة ما» وفاز بجائزة لجنة التحكيم. يستغل الأزرق عوالم الدار البيضاء السفلية ليحكي حكاية أب وابنه، مهمشين ككلاب الصيد (وهو اسم الفيلم بالإنجليزية)، مخلصين بشكل ما لكنهما قليلا الحيلة، ينفذان الأمور كما هي دون تفكير خاصة الأب، يرتكبا جريمة غير مقصودة نظرًا لكونهما هواة، فيقتلان رجلًا بالخطأ، وتبدأ رحلتهما معًا للتخلص من الجثة على مدار ليلة واحدة في أطراف الدار البيضاء.

خلال تلك الرحلة نشاهد العلاقة الإنسانية بين الأب والابن المختلفين. الأب ينتمي لعالم قديم، وتبدو تصرفاته متعلقة بالعادات والعلاقات الاجتماعية، يستطيع التعامل مع شخصيات مختلفة لكن معظم تصرفاته تفشل في حل المشكلة، أما الابن فيبدو معترضًا متذمرًا على قرارات الأب طوال الوقت ويقترح حلولًا تبدو أكثر راديكالية من الأب، لكنها لا تؤدي إلى نتائج أفضل بأي حال.  

إلى جانب تلك الرحلة العائلية، ننتقل إلى مواقع تصوير مختلفة ومجتمعات مهمشة أخرى، تخبرنا بشكل غير مباشر عن حالة المغرب بأسلوب بصري يعتمد على الألوان الحمراء والبرتقالية وأضواء الليل والنيون بشكل كبير وهو تصور بصري ملائم لحالة الأبطال والفيلم، ورغم أن عواقب فشل المهمة وخيمة والعوائق التي تواجه الثنائي كثيرة، فإن الفيلم أيضًا يمتلك لحظات كوميديا سوداء أو رعب أو أخرى عبثية تمامًا ناتجة عن تفاعل الأبطال مع من وما يقابلونه في رحلتهم، وأخيرًا تجدر الإشارة إلى موسيقى الفيلم التي توحي بالـ”ميلانخوليا” والكآبة، والتي تعطي انطباعًا بأنه سواء نجا الأبطال أو هلكوا في تلك الرحلة، فإنهم محكومون بالشقاء مدى الحياة

5. كذب أبيض

الفيلم الوثائقي الطويل الثاني لأسماء المدير – الفائز بجائزة أفضل إخراج في قسم «نظرة ما» – يعتمد على المجسمات الصغيرة لتصوير حكاية تبدو مرتبطة بحارة وسكانها لكنه يكشف تراتبية بلد بأكمله، تعتمد فيه المخرجة على خلق عالمها بالكامل في هيئة ماكيت مصغر تستطيع التحكم فيه، وتخلق من شخصيات بيتها وحارتها عرائس صغيرة لتضعهم في ذلك الماكيت، لتحكي بهم حكاية عن انتفاضة الخبز في المغرب في ثمانينيات القرن الماضي، «ميكروكوزم» أو عالم مُصغر لبلد ضخم تُحكى حكايته بطريقة التأريخ من الأسفل

نرى المدير وهي تهندس بناء الحارة التي تسكنها وتضع تفاصيل العرائس الصغيرة والأضواء والغرف في كل بيت، هنا تُمنح المدير الحق لحكي حكاية لم تجرؤ أبدًا على حكيها في البيت نظرًا لوجود جدتها ذات الشخصية القوية المتسلطة التي تمنع أي شخص في محيط الحارة من الكلام في هذا الموضوع

تقدم المدير شخصيات فيلمها في المجسمات المصغرة وبشكل فعلي في الاستوديو، إذ تقوم بخلق مزيج بين إعادة التمثيل بشخصيات فيلمها الحقيقية وعرائسهم المصغرة، ما ينتج عنه خلق لحظات حميمية مؤثرة أو مضحكة، كما ينتج عنه إظهار طبائع الشخصيات، وأولهم الجدة الديكتاتورية التي تستمر في انتقاد العروسة الصغيرة التي تصورها قائلة بأنهم قد شوهوها. إلى جانب الحدث السياسي في الفيلم، تحكي أسماء أيضًا عن طفولتها وتسللها لأخذ صورة ورأي جدتها في عملها كمخرجة سينمائية

تنجح المدير في خلق عالم صغير متمثل في بيت تشبه تراتبية طوابقه طبقات المجتمع المغربي، لتحكي لنا حكايات تمزج بين الشخصي والعام بأسلوب فني فريد يشبه الحكايات الخيالية، ما يساعد في تلقي تلك الحكايات خاصة المؤلمة منها، وتستطيع خلق نسختها من التاريخ باستخدام مهنتها وشغفها السينما، رغم كل السلطات العائلية والرسمية المحيطة بها.  

6. عيسى 

بعد ثلاثة أفلام قصيرة عن ثلاث أمهات صنعت اسم المخرج مراد مصطفى في عالم الأفلام القصيرة، يعود مصطفى بفيلمه القصير الرابع «عيسى» أو «أعدك بالفردوس»، المشارك في المسابقة الرسمية لأسبوع النقاد، ليسرد حكاية أسرة صغيرة لا يوافق المجتمع على لم شملها، هذه المرة يبدو مصطفى متمكنًا من الجمع بين الأسلوب وسرد حكاية مكتملة، جامعًا خبراته وتجاربه السابقة ليقدم فيلمًا سينمائيًّا ذا موضوع وقضية متشابهين مع حكاياته السابقة.  

أول ما يلفت الانتباه في الفيلم هو الإضاءة والألوان، فالإضاءة في المشاهد الأولى تميل للون البرتقالي، وهو لون يعبر بشكل ما عن درجة الحرارة المرتفعة وتلوث الهواء، ما يجعل المكان أشبه بالجحيم السينمائي، صورة خانقة مليئة بالألوان الترابية، وهي ذات الألوان التي تظهر في معظم الفيلم، والتي توحي بحالة الأبطال النفسية. الملاحظة الثانية هي مواقع التصوير، وخاصة أن معظم الأفلام القصيرة المصرية، عدا بعض الاستثناءات، تميل أكثر لموقع تصوير واحد داخلي أو خارجي مغلق كمستشفى أو مدرسة على سبيل المثال، وذلك نظرًا للظروف الإنتاجية بالطبع، لكن في حالة “عيسى” فمواقع التصوير متنوعة ومختلفة وتصور المدينة وتعد بطلًا من أبطال الفيلم

تبدأ الحكاية في القاهرة، المدينة الضخمة التي تحمل قرابة 22 مليون نسمة، المُسجلين رسميًّا بالطبع، في أحيائها وشوارعها وأزقتها، ننتقل إلى مواقع كحي الزبالين ودير سمعان الخراز ونفق الجلاء وغيرها من مناطق القاهرة الشهيرة، هذه المناطق الكبيرة يقابلها في الفيلم مواقع تصوير صغيرة للغاية كسيارة في جراج مهجور أو غرفة ضيقة في حي شعبي أو حارة غير واضحة المعالم

هذا التقابل بين مواقع التصوير يظهر شيئًا من الحكاية، هذه حكاية غير رسمية عن المدينة، عن بطن المدينة وأحشائها ومهمشيها الذين لا يظهرون أبدًا على السطح ويبقون في الخفاء حتى ذوبانهم في المدينة أو إيجادهم طريقة للهروب من وحشيتها. الملاحظة الثالثة تتعلق بحركة الكاميرا، إذ إن الكاميرا تتحرك في اللحظات التي يحاول فيها أبطال الفيلم الهروب من ذلك الواقع وتغييره، وتبقى ثابتة في المواقع الضخمة، وهي تلك المواقع التي تعبر عن مؤسسات لا يمكن للأبطال فيها إلا أن يكونوا مهمشين مغلوبين على أمرهم

أخيرًا، تجدر الإشارة أيضًا إلى زمن اللقطات في الفيلم الذي يختلف بشكل ما عن زمنها في الأفلام السابقة للمخرج، إذ يسمح المخرج هنا بلقطات أطول تركز على حالة الغضب الصامت الذي تعيشه الشخصيات، وبرغم غلبتهم على أمرهم، فإنك لا تشعر بالشفقة على الأبطال قدر ما تشعر بإحساسهم الداخلي، وهو ما نجح مراد وفريقه في تنفيذه في الفيلم بأسلوب بصري متلائم مع الحكاية

يجمع “عيسى” بين حكاية محكمة وبين جودة سينمائية عالية نادرًا ما نراها حتى في الأفلام القصيرة الأخرى المعروضة في أكبر المهرجانات السينمائية العالمية، ويكفي القول بأن وقت حضور برنامج العروض المكون من خمسة أفلام قصيرة في برنامج أسبوع النقاد، كان فيلم مراد هو الأخير في الترتيب لكنه كان الفيلم الأكثر تفاعلًا من همسات الجمهور في نهاية العرض مقابل أفلام أخرى في الاختيار الرسمي للمسابقة، الأمر الذي أكده فوزه بجائزتين يمنحان بالتصويت هما الرايل دور وهي جائزة يمنحها 100 ناقد سينمائي وجائزة الجمهور

تلخيصًا، يمكن القول بأن مشاركة السينما العربية هذا العام في مهرجان «كان» حققت نجاحًا استثنائيًّا من حيث الكم والكيف، ونجحت في تقديم مواضيع آنية تؤرق المجتمعات العربية بأساليب سينمائية فنية لتخلق حالة تثبت أن العقول السينمائية في المنطقة لا تشهد أي أزمات إبداعية بل إنتاجية وتوزيعية، إذ إنه من الصعب أن يضع منتج تقليدي أمواله لصناعة فيلم سينمائي فني، ويعد توزيع تلك الأفلام في الوطن العربي أزمة سواء لقلة قاعات العرض الخاصة بتلك الأفلام وطغيان الأفلام التجارية على القاعات الكبرى أو نمطيات عن الجمهور الذي «لا يحب تلك الأفلام».

إذن يتطلب الأمر دعم تلك الأعمال حتى بعد مشاركاتها في مهرجانات سينمائية كبرى، ومحاولة نقلها إلى جمهور أكبر من خلال بعض الجرأة لدى مالكي صالات العرض والموزعين، وتغيير النمطيات حول أفلام «السوق» وأفلام “«المهرجانات».

 

موقع "إضاءات" في

09.06.2023

 
 
 
 
 

مهرجان كان السينمائي

مراد مصطفى : أبطال أفلامى حقيقيون

طارق سعيد أحمد

تلقيت خبر فوزه بجائزتين الأولى هي “رايل دور” في مسابقة “أسبوع النقاد للأفلام القصيرة”، أما الثانية فهي جائزة الجمهور بعد عرض الفيلم في مدينة “ڤالبون” وسط عدد كبير من الحضور الجماهيري الذي قام بالتصويت على مسابقة الأفلام القصيرة بـ”أسبوع النقاد” في مهرجان “كان” عن إخراجه فيلم قصير تحت اسم “عيسى”، وأظنه مصنف من الأسماء المحملة بالدلالات..

مراد مصطفى مخرج مصري من مواليد القاهرة 1988 مقيم في فرنسا حاليا، عمل في عدة أفلام مستقلة، وتعاون كمخرج منفذ في فيلم “سعاد”، الذي تم اختياره رسميًا في مهرجان “كان” السينمائي، وهو خريج برامج عالمية مرموقة مثل “Berlinale Talents - مواهب برلين”، “أكاديمية لوكارنو” و”مصنع سينما العالم”، كتب وأخرج 3 أفلام قصيرة اختيرت جميعها في مهرجان “كليرمون فيران” السينمائي الدولي، الذي يعد أهم مهرجان متخصص في الأفلام القصيرة بالعالم، وتم اختياره في 3 سنوات متتالية، وعُرضت أفلامه في أكثر من 300 مهرجان دولي، وفازت بالعديد من الجوائز. 

يعمل مراد حاليًا على تطوير فيلمه الروائي الطويل “عائشة لا تستطيع الطيران بعد الآن” في برنامج “سينيفونداسيون” بمهرجان “كان” السينمائي، جنبًا إلى جنب مع “تورينو” فيلم لاب وروتردام لاب، وقد حصل المشروع مؤخرًا على عدة منح مالية من جهات مختلفة مثل مهرجانات “الجونة” و”البحر الأحمر”.

بدأ حوارنا معا بسؤالي له: “كيف انطلقت فكرة الفيلم؟”، ومتشوقا أن أعرف أيضا “كم استغرق تصوير الفيلم؟.. وكيف كانت أجواء التصوير؟”، ليجيب مصطفى: “انطلقت رحلة صناعة الفيلم منذ 3 سنوات تقريبا، وبدأت الفكرة عند المنتجة سوسن يوسف، ومن هنا بدأنا العمل سويا على السيناريو، وتم تطوير المشروع في معامل هامة مثل معمل (مواهب مهرجان برلين)، وحصلنا على بعض الدعم المادي خلال ذلك، فهي رحلة طويلة وشاقة، لكنني سعيد وفخور بها جدا، حيث الفكرة الفيلم هي تكملة لما بدأته، وليس شيئا جديدا، فأول أفلامي هو (حنة ورد) عن (حنانة) سودانية تعيش في مصر، وكلا الفيلمين الهدف منهم حكي قصص مختلفة بعيون أبطال مختلفين يعيشون داخل المجتمع المصري”.

ويضيف: “استغرق تصوير الفيلم 3 أيام في 3 مدن مصرية، بين القاهرة والدقهلية والإسكندرية، وكانت أجواء التصوير جميلة وهادئة، لأني اعمل مع نفس فريق العمل، وهذا الفيلم الرابع لنا سويا، فأصبح هناك تفاهم كبير بيننا، وذلك سهل عملية التصوير وجعل المناخ جيدا، وفريق العمل جميعهم من غير المحترفين، أو بمعنى أدق هم غير ممثلين، فأنا دائما اعمل مع ذلك النوع من غير المحترفين، وأفضل ذلك لأنهم يمتازوا بشيئا طازجا وحقيقا ومشاعرهم تصل للقلب أسرع، لأنهم أناس حقيقيون لا يمثلون الشخصيات التي في الفيلم، بل هم الشخصيات نفسها، وهذا فرق كبير بين الممثلين والغير ممثلين”.

كان

سألته عن تلك الأجواء الكرنفالية لمهرجان “كان”، وكيف وصل الفيلم للمهرجان؟، وعن أجواء العرض أيضا، وحيثيات فوز الفيلم، كما دفعني فضولي لأعرف أين تقع السينما “المصرية / العربية” على خريطة العالم؟ وكانت إجابته: “نسخة الفيلم كانت جاهزة للتقديم لمهرجان (كان) في فبراير 2023 ثم بعد وقت قصير علمنا أن الفيلم في القائمة القصيرة، ثم بعد ذلك تم اختيار الفيلم، وكنا سعداء جدا بذلك، لأن المشاركة في (كان) شرف كبير لأي مخرج، وخطوة هامة للأمام، وكانت أجواء العرض هائلة، حيث امتلأت قاعه العروض والتذاكر نفذت قبل العرض بـ3 أيام، وكان استقبال الجمهور للفيلم مفاجئ بالنسبة لي، فكان هناك تصفيق واحتفاء كبير بالفيلم”.

وعن حيثيات الفوز بالجائزتين يقول: “الجائزة الأولى هي الـ(رايل دور) في مسابقة (أسبوع النقاد الأفلام القصيرة) مؤهلة لعدد جيد من الجوائز، وهذه أحدهم، فهي جائزة مرموقة يقوم بالتصويت عليها من قبل لجنة تحكيم، خاصة من 100 ناقد من (جمعية نقاد ومحبي السينما)، وكانت مفاجأة أننا حصلنا عليها، لأنها من قبل عدد كبير من النقاد.. أما الجائزة الثانية فهي جائزة الجمهور، وقد حصل عليها الفيلم بعد عرض الفيلم في مدينة (ڤالبون) وسط عدد كبير من الحضور الجماهيري الذي قام بالتصويت على مسابقة الأفلام القصيرة بأسبوع النقاد، وأخبرنا بعد يوم العرض أن نتائج فرز الأصوات قد اختار فيلم (عيسى) ليمنحوه جائزة الجمهور”.

ومعترضا على سؤال “كيف تصل بفيلمك إلى مهرجان (كان)؟”، قال مصطفى: “ليس هناك مصطلح مثل هذا.. فالطريق إلى (كان) يجب يكون نحو الاجتهاد وصنع فيلم جيد يعجب صانع الفيلم أولا.. والطريق إلى ذلك يتطلب مجهود شاق وكبيرا، فيجب أن تكون راصد جيد لما يدور حولك في مجتمعك وتكون مطلع على الأفلام الحديثة وأساليب السينمائية المتطورة، سواء في الحكي أو التكنيك، وثالثا أن يكون لديك مشروع وهدف في الحياة تريد أن تحكيه في أفلامك، أو تطرح فيه وجهات نظرك.. لكن الطريق إلى (كان) شيء عظيم وشرف كبير، فهو أهم مهرجان سينمائي في العالم، لكن الأهم التفكير أولا في صنع فيلم جيد”.

مؤكدا على أن الدورة الأخيرة للمهرجان هي دورة عربية بإمتياز، ليس فقط بسبب كم الأفلام المشاركة، بل أغلبية الأفلام العربية حصلت على جوائز متنوعة في كل الأقسام، سواء الطويلة أو القصيرة أو الوثائقية، مستطردا: “أنا فخور كوني مخرج مصري عربي أفريقي بعد ذلك النجاح الكبير الذي تحقق هذا العام هناك”.

مشاريع مقبلة

اختتم مصطفى كلامه بالقول: “أعمل الآن على تطوير مشروع فيلمي الروائي الطويل الأول (عائشة لا تستطيع الطيران بعد الآن)، وهو في مرحلة الكتابة الآن، وتم اختياره أيضا في مهرجان (كان) ببرنامج (السينفديسون) لتطوير المشاريع السينمائية، وقد حصل المشروع على بعض المنح العربية والدولية، وأيضا تكملة لما بدأته وبطلته مهاجرة أفريقية تعيش في مصر”.

 

بوابة أخبار اليوم المصرية في

10.06.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004