ملفات خاصة

 
 
 

ما الأفلام التي ستبقى من مسابقة مهرجان "كان"؟

هوفيك حبشيان

كان السينمائي الدولي

السادس والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

أعمال بين الماضي والحاضر بأبعاد اجتماعية وسياسية ونفسية تتأمل في عالمنا من بقع جغرافية ومفاهيم متعددة

ختام مهرجان "كان" السينمائي بعد 12 يوماً من المشاهدة النهمة، لا يعني نهايته. الحديث عنه متواصل في أشكال مختلفة. المهرجان حاضر طوال العام عبر الأعمال التي اختارها، سواء تلك التي كان من البديهي أن يختارها أو التي نبشها واكتشفها في أماكن مختلفة من العالم. الأفلام التي تجاوز عددها الـ100 في الدورة السادسة والسبعين (16 - 27 مايو/ أيار)، ستخرج تباعاً في الصالات التجارية أو تشارك في المهرجانات حول العالم على مدى الأشهر المقبلة، وستكون حديث الإعلام والمشاهدين. بعض تلك الأفلام ستُعرض على نطاق ضيق نظراً إلى طابعها الفني، فيما سيحظى بعضها الآخر بتوزيع أوسع. 

وفي الصالات التجارية، قوانين وأحكام ليست هي نفسها المعتمدة في المهرجان. بمعنى أن الفيلم الذي يحمله الإعلام وأهل الاختصاص على الراحات، لا يتعامل معه الجمهور بالحماسة نفسها عند وصوله إليه، والعكس صحيح. أفلام كثيرة نالت أرفع الجوائز في "كان"، وكان نصيبها التجاهل - كي لا أقول الفشل - عند نزولها إلى الصالات التجارية. في العقود الثلاثة الأخيرة، تراجع الاقبال على الأفلام الفائزة بـ"السعفة الذهبية". آخر فيلم "مُسعَّف" حقق إيرادات عالية في شباك التذاكر الفرنسية كان "بالب فيكشن" لكوانتن تارانتينو في عام 1994.

21 فيلماً عُرضت هذا العام في مسابقة "كان"، فيها اتجاهات سينمائية مختلفة مع حضور قوي لـ"سينما المؤلف" وغياب شبه تام للأنواع الفيلمية. أفلام تتجول بين الماضي والحاضر، وبين الاجتماعي والسياسي والعاطفي والنفسي، للتأمل في عالمنا من بقع جغرافية وأزمنة ومفاهيم متعددة. هذه الدورة طغت أيضاً عليها تيمة الشباب، من خلال عدد من الشخصيات التي كتب السينمائيون داخلها هواجسهم وتطلعاتهم المستقبلية. السينما الشاعرية الحساسة الرقيقة وجدت مكاناً لها وسط أعمال أكثر عنفاً وقسوةً وتطرفاً، في حين عانقت السينما الملتزمة قضية الإنسان وصعوبة عيشه في عالم متأزم، نظيرتها الأكثر اهتماماً بالشكل على حساب المضمون. في النهاية، وضعتنا المسابقة أمام 21 رؤية مختلفة للعالم.   

أجيال متعددة

حملت هذه الأفلام تواقيع فنانين وفنانات من مختلف الأجيال. المخرج البريطاني كن لوتش، 86 سنة، كان أكبر المشاركين في المسابقة، أما أصغرهم سناً فهي الفرنكو سنغالية راماتا تولايي سي ابنة الـ35 سنة التي صعدت إلى المسابقة بفيلمها الروائي الطويل الأول. أحدهم كتب أن المخرجة السنغالية لم تكن قد ولدت بعد، عندما كان لوتش سينمائياً مكرساً، وهذا صحيح. فالمهرجان، هو، من بين أشياء كثيرة، منصّة لاطلاق المواهب الفتية. يصعب إحصاء عدد السينمائيين والسينمائيات الذين انطلقوا من هنا، بخطوات خجولة ولكن واثقة، قبل أن يعودوا مراراً إلى "كان". 

الكروازيت، يختلف عن ذكرها بعد المشاهدة. علاقة الناقد بها تختلف جذرياً. قبل انعقاد المهرجان، عناوين الأفلام ليست سوى حروف على شاشة كمبيوتر أو أسماء تفتح الشهية وتحض على الانتظار. أما بعد الانعقاد، فهي قصص ووجوه وتفاصيل درامية وموسيقى ولمسات إخراجية، بعضها سيصمد في الذاكرة وبعضها الآخر سيسقط منها بأسرع وقت.

يصعب إعطاء تقييم شامل للدورة. لا يوجد صحافي أو ناقد يستطيع أن يدّعي أنه شاهد كل الأعمال المعروضة في الأقسام كافة، خلال فترة لا تتعدى الـ12 يوماً. لذلك فإن تقييم الدورة بمجملها فور انتهائها، بتعابير مختزلة ومستهلكة من نوع "دورة مخيبة للآمال"، عمل غير مهني وغير جاد، خصوصاً إذا كان الرأي انفعالياً وشديد السلبية ويبتعد عن التحليل مكتفياً بالأوصاف. لكن، من الممكن الإتيان بتقييم نهائي شامل بعد مشاهدة كل الأفلام، وهذا يتطلّب بضعة أشهر من التجوال في المهرجانات التي تستعيد أفلام مهرجان "كان" لعرضها على جمهورها. ما فاتنا في "كان"، تتيح لنا مهرجانات أخرى اللحاق به.

في المقابل، تقييم المسابقة عملية ممكنة وسهلة، للعدد المحدود من الأفلام التي تنطوي عليها. تكفي مشاهدة فيلمين كل يوم على مدار أيام المهرجان. وهذا ما يفعله معظمنا في أي حال. المسابقة أولوية لكل ناقد يراسل جريدته الورقية أو موقعه الإلكتروني، فهي قلب التشكيلة ولا يمكن تجاهلها، تجذب الأسماء الكبيرة من تلك التي ينتظرها هواة الفن السابع. لكن، المسابقة التي تخضع لاعتبارات معقدة ليست دائماً فنية، لا تتضمن بالضرورة أفضل الأعمال المعروضة في المهرجان. أفلام من أقسام أخرى، كـ"نظرة ما" أو "أسبوعا السينمائيين والسينمائيات" أو "أسبوع النقاد" نعثر فيها دائماً على جواهر وأعمال طموحة وبدايات متألقة. 

إعجاب وهجوم

ما يقارب نصف أفلام المسابقة نالت هذا العام الإعجاب. وهذا يعني أن النصف الثاني تعرض للهجوم الذي تراوحت درجاته بين معتدل وعنيف. لنبدأ بالأسوأ: "ذباب أسود" للفرنسي جان ستيفان سوفير، وهو من الأفلام التي أضيفت لاحقاً إلى المسابقة، أكثر فيلم أزعجني في دورة هذا العام. الفيلم عن مسعفين في ليل نيويورك المملوء بالعنف، من تمثيل شون بن الذي مُرِّغ أحد أفلامه السابقة، "الوجه الأخير"، في وحول "كان". مجلة "تيليراما" نشرت عن الفيلم مقالاً سلبياً معنونة إياه بـ"عذراً، سنطلق النار على سيارة الإسعاف"! 

أفلام أخرى لم تحدث صدى إيجابياً: "العودة" للفرنسية كاترين كورسيني الذي يعيدها إلى جذورها الكورسيكية، وهو مستوحى من زيارة قامت بها إلى الجزيرة على غرار الشخصيات، عندما كانت في الخامسة عشرة. الفيلم واكبه جدال في ما يتعلّق بظروف التصوير وطاولت المخرجة اتهامات بالتحرش الجنسي، الأمر الذي أثّر سلباً على الاهتمام بالفيلم على المستوى الإعلامي. 

"نادي صفر" للنمسوية جيسيكا هاوزنر هو الآخر لم يكن من الأفلام المحبوبة لدى النقاد. الفيلم هجاء لتوتاليتارية النظام الغذائي وهوس الحمية المفروضة على الشباب بحجة الحفاظ على صحتهم وصحة الكوكب. تجري الأحداث داخل مدرسة لأولاد الأثرياء، حيث بعض الطلاب يقعون في شباك السيدة نوفاك، المدرّسة، خبيرة التغذية، التي تعتمد منهجاً "ثورياً" أطلقت عليه "التغذية المسؤولة". الفيلم من النوع الذي يسعى إلى إثارة الجدال، لكونه يعالج مواضيع تحمل اتجاهين من التفكير، إلا أن المأخذ الأكبر على هاوزنر هو سخريتها من الشخصيات. 

"مدينة أسترويد" للأميركي وس أندرسون مر بلا أثر. بأسلوبه المعتاد، الخالي من كل محاولة لخلق انفعالات عند المتلقي، حملنا المخرج إلى مدينة صغيرة في أريزونا، مستخدماً عدداً من أشهر نجوم السينما الأميركية. ولكن كما قالت مجلة "بروميير"، فالسينما التي أصبح أندرسون ينجزها، "محصورة في بعض الهواجس وتدور في الفراغ". في حين كتبت "ليبراسيون" أن "الحكايات التي يسردها أندرسون ما عادت تصلح إلا لسد جوعه الخاص". 

"بنات ألفة" للتونسية كوثر بن هنية، الفيلم العربي الوحيد داخل المسابقة، لم يكن في مستوى بعض الأفلام الكبيرة التي نافسته. قصة أم انضمت اثنتان من بناتها الأربع إلى تنظيم "داعش" الإرهابي. ولسرد القصة، لا تسلك بن هنية أسهل الطرق. لمَ السهولة عندما في مقدورنا توظيف الصعوبة، علماً أن الفكرة الأولى للمخرجة كانت أن تنجز فيلماً أكثر تقليدية، قبل أن تفشل في ذلك. الفيلم مزيج من الروائي والوثائقي، ومن العام والخاص، لكن الخلطة المفتعلة لم تقنع كثيرين.

فيلم آخر ينتمي إلى النوع الوثائقي، "شباب (ربيع)" للصيني وانغ بينغ، انقسمت حوله الآراء، بين قلة رأت فيه أهلاً لـ"السعفة"، وأكثرية أثار الفيلم شخيرهم وهم يشاهدون الدقائق الـ212 التي يستهلكها الفيلم ليصوّر عمالاً صينيين في معامل الخياطة، في محاولة لتسجيل موقف من قضية استغلال اليد العاملة الرخيصة في بلاده في ظلّ الرأسمالية. 

آراء متناقضة

"فايربراند" للبرازيلي الجزائري الأصل كريم عينوز نال أيضاً نصيبه من النقد. الفيلم قصة كاثرين بار الزوجة السادسة والأخيرة من زوجات الملك هنري الثامن. ثريللر سياسي ذو طابع نسوي يحشر شخصياته في البارانويا. نظراً للمصير الأسود الذي نالته الزوجات السابقات للملك، ثمة خطر يحدق بها. يعيد عينوز قراءة شخصيات تاريخية في ضوء المفاهيم الحديثة، لكن النتيجة لم تحمّس كثيرين. 

"شمس المستقبل" للإيطلي ناني موريتّي، أعطانا أقل ممّا كنا متوقعين منه، خصوصاً أن إيطاليين من الذين كانوا شاهدوه قبل الوصول إلى كان (الفيلم بدأت عروضه في الصالات الإيطالية)، جعلونا نرفع من سقف التوقعات بسبب كلامهم الإيجابي عنه. ولكن تبين أن موريتّي، بتركيزه المفرط على نفسه، يدور في فراغ كبير منذ بضعة أفلام، على نحو يبدو أنه فقد إلهامه. الفيلم عن مخرج يحاول إنجاز دراما تاريخية عن الحزب الشيوعي الإيطالي وانشقاقه عن الاتحاد السوفياتي أثناء الثورة المجرية، لكن الأمور تفلت من يده تدريجاً. موريتّي يأخذها حجة للحديث عن إيطاليا الحالية تحت سلطة اليمين. مواطنه ماركو بيللوكيو، ثاني أكبر المخرجين سناً في المسابقة، عرض "رابيتو" عن اختطاف الكنيسة لطفل يهودي في القرن التاسع عشر، بناءً على طلب من البابا لجعله يعتنق الديانة المسيحية. كل شيء متقن الصنع في هذا الفيلم الباروكي، وفي مقدمه الإخراج، ولكن للأسف كل شيء يتبخر فور خروجنا من الصالة. 

الياباني هيروكازو كوريه إيدا هو الآخر لم يصنع مفاجأة هذا العام، وعلى رغم أن فيلمه "وحش" نال جائزة السيناريو، فكان الاستقبال الذي ظفر به فاتراً، علماً أنه يحكي قصة صبيين والعلاقة بينهما في إطار لا يخلو من الأكاذيب وتشابك وجهات النظر. نحن بعيدون عن "سارقو المتاجر" الفيلم الذي كان فاز عنه بـ"السعفة"، إذ إن الدراما تغرق في بعض العاطفية. 

"الصيف الماضي" للفرنسية المقلّة كاترين بريا، سجّل عودتها إلى السينما بعد عشر سنوات غياباً. الفيلم إعادة إنتاج لفيلم دنماركي (2019) لمي الطوخي، ويحكي عن إغراء تمارسه سيدة خمسينية على صهرها. المخرجة المعروفة بسينماها الجريئة التي لا تساوم على أفكارها واقتناعاتها، لم تلق الإجماع، ولكن هناك مجموعة من المعجبين بها أبدوا رأيهم الإيجابي. 

"مايو ديسمبر/أيار كانون الأول" للأميركي تود هاينز فيلم مربك، إذ لا تعرف أين تموضع نفسك منه، فموقفك منه يحتاج إلى بعض الوقت لتثبيته. لا شك أن هذا ليس أفضل أفلام صاحب "بعيداً من الجنة". هناك لمسة مخرج شاطر على المستوى التقني، لكن هذا لا يكفي لصناعة فيلم جيد.

أخيراً، تناول "بانيل وأداما" للسنغالية راماتا تولايي سي، علاقة حبّ ضمن بيئة أفريقية معادية لكل ما يخرج عن العادات والتقاليد. لكن، الفيلم لم يصل إلى مراتب عالية في تقييمات النقاد. 

في المقابل، انطوت المسابقة على ثمانية أفلام صنعت أهميتها. كل هذه الأفلام نالت جوائز لجنة تحكيم المخرج السويدي روبن أوستلوند، ما عدا فيلمين منها. الأفلام الستة الفائزة هي: "تشريح سقوط" لجوستين ترييه ("السعفة الذهبية")، "منطقة اهتمام" لجوناثان غلايزر (الجائزة الكبرى)، "أوراق ميتة" لآكي كوريسماكي (جائزة لجنة التحكيم)، "شغف دودان بوفان" لتران أن هونغ (جائزة الإخراج)، "أيام مثالية" لفيم فندرز (جائزة التمثيل الذكوري) و"فوق الأعشاب الجافة" لنوري بيلغي جيلان (جائزة التمثيل النسائي). وكنا تناولنا على صفحات "اندبندنت عربية" أغلب هذه الأفلام خلال تغطيتنا للمهرجان. هذه هي الأعمال التي ستبقى من هذه الدورة. أما الفيلمان اللذان استُبعدا عن قائمة الجوائز، فهما: "الوهم" للإيطالية أليتشه رورفاكر و"ذي أولد أوك" للبريطاني كَن لوتش.  

ما نستنتجه من الدورة السادسة والسبعين لمهرجان "كان": أفلام تفاوتت قيمتها، بين رديئة وجيدة ومتوسطة وممتازة، مع حضور بعض التحف السينمائية التي تسابقت جنباً إلى جنب مع أفلام لم نفهم سبب وجودها في المسابقة. ولكن كانت لجنة التحكيم نبيهة، فأعطت الجوائز لأفضل مَن يستحقها. صحيح أن الجوائز ليست هي الأهم في المهرجان، لكن إسنادها لمَن لا يستحقها، كما حصل أكثر من مرة في "كان"، صفعة للمواهب التي تراهن على هذه الجوائز كي تبرز على الساحة الدولية. هذا بالإضافة إلى أنه يترك عند الذين تابعوا الأفلام طعماً مراً. ولكن لا يوجد فيلم يصنع الاجماع في "كان"، المدينة التي تتحول طوال أسبوعين أرضاً للنقاشات الحامية تصل أحياناً إلى المعارك، سواء على صفحات التواصل الاجتماعي أو في المقاهي أو داخل طوابير الانتظار. وهذا أيضاً مما يصنع جمال "كان"، الذي على علاته وعيوبه، يبقى المهرجان بالألف واللام، لا تنافسه أي تظاهرة سينمائية أخرى. 

 

الـ The Independent  في

31.05.2023

 
 
 
 
 

بعد فوزها في مهرجان كان الاخير..المخرجة السويسرية كارمن جاكير:

أكتب ما يمدني بالحب والغضب

ترجمة: عدوية الهلالي

في مهرجان كان السينمائي ال76 الذي اقيم في فرنسا في الحادي والعشرين من شهر ايار لهذا العام، فازت المخرجة كارمن جاكير بجائزة المواهب الناشئة عن فيلمها (حركة النساء) الذي انتج ضمن برنامج أطلقته شركة Kering، ويدعم عمل المرأة في السينما.

ولدت كاتبة السيناريو والمخرجة السويسرية كارمن جاكير عام 1985، ودرست السينما وكتابة السيناريو في مدرسة الفنون في لوزان وفي جامعة الفنون والتصميم في جنيف. فاز فيلم تخرجها (قبر الفتيات) عام 2012، بجائزة (الفهد الفضي) في مهرجان لوكارنو السينمائي. وبعد أفلام وثائقية مختلفة، كان فيلم الرعد أول فيلم روائي طويل لها.

عندما كانت في سن المراهقة، كتبت كارمن جاكير صفحات كاملة من الشعر، وتخيلت "روايتها الأولى" وكتبت سيناريوهات تعيد فيها صياغة الأفلام التي شاهدتها مع والديها. كما كان للسينما مكانها ضمن اهتماماتها، وبعد ان جربت عدة مواهب، وجدت ضالتها في النهاية في الإخراج.

اهتمت بقضايا المرأة وبالأغلال التي تقيد النساء في فيلمها القصير الأول،، الذي صنعته مع ثلاثة أصدقاء في نهاية دراساتها لتصميم الجرافيك في عام 2004. تقول عن فيلمها: "لقد نشأت ضمن تعليم قائم على النوع الاجتماعي، وواجهت العنف والظلم منذ طفولتي.أنا أكتب ما يمدني بالحب والغضب.وأسعى إلى فهم الطريقة التي يتم بها تكوين الهويات الذكورية والأنثوية في مجتمع قائم على الأوامر. وتتمحور قصة هذا الفيلم حول علاقة الفتيات الصغيرات بأجسادهن في مرحلة البلوغ، وقد كان الحجر الأول لعمل متماسك بالفعل،وكنت قد تأثرت بالمخرجين بييرباولو باسوليني، وأندريا أرنولد، وأجنيس فاردا، وجريج أراكي، أو هارموني كورين.

وفي عام 2011، صورفيلم (قبر الفتيات)، وهو فيلم تخرجها القصير في جامعة لوزان السينمائية، الذي فاز بجائزة الفهد الفضي في مهرجان لوكارنو، قصة بناء الأنثى من خلال عيون الرجال. وهي "قاعدة" تعتمد عليها في أفلامها القصيرة الأخرى، وأول فيلم طويل لها وهو فيلم (الرعد)الذي ترسم فيه صورة لامرأة شابة تستعد لدخول الرهبنة، في بداية القرن العشرين، ويصدمها الموت الغامض لأختها فتعود إلى مزرعة العائلة. تقول كارمن: "لا يتعلق الأمر بقصص جدتي، على الرغم من أن دفاترها كانت مصدر إلهام لي. لقد سردت بكلمات بسيطة ولكنها مكثفة، يوميات الأسرة، والمدرسة، والعمل في الحقول، والموت، وارتباطها الوثيق بالله.".. أما آخر افلامها الذي تخرجه بالاشتراك مع رفيقها جان جاسمان، فيدور حول ام تغادر جناح الولادة طوعا وتتخلى عن طفلها، وهو الآن في مرحلة ما بعد الإنتاج.

ولد فيلمها (الرعد) من رغبتها في الحديث عن الشباب،وقد أضفى لمسة نسوية على المسابقة الرسمية للمهرجان الدولي للسينما في مراكش وهو أول فيلم روائي للمخرجة السويسرية بعد الأفلام القصيرة التي فازت بجوائز في العديد من الأحداث المرموقة، ويتناول فيلم (الرعد) قصة الشابة إليزابيث التي تكون على وشك أن تقطع عهودها بعد خمس سنوات قضتها في الدير، لكنها تضطر الى العودة إلى أهلها بسبب الوفاة المفاجئة لشقيقتها الكبرى.وتجد إليزابيث نفسها في مواجهة الألغاز التي تحيط بوفاة أختها ولكن أيضًا تواجه واقعًا قاسيًا حيث يُحكم على المرأة بشكل سلبي.

وتبدأ إليزابيث في التفكير في مصيرها والمطالبة بحقها في الحياة. وقد نشأت فكرة الفيلم في ذهن كارمن جاكير قبل عشر سنوات من عرضه ليطرح معضلات مرتبطة بالحالة الأنثوية، ومفهوم الرغبة، والمراهقة، والظلم والجنس.

وفي هذا الفيلم، تناقش كارمن جاكير انتقال الفتيات الصغيرات إلى مرحلة البلوغ وظهور الرغبات. تقول: " كانت رغبتي الخاصة هي التحدث عن الأطفال الذين اضطروا ان يكونوا بالغين في وقت مبكرلوقوعهم تحت سلطة الكبار.أولئك الذين لديهم مشاعر، ورغبة في التعبير ولكنهم منعوا منهاوواجهوا مجتمعا أصما لايستمع اليهم ولايفهم عواطفهم".وتضيف:"ولد الفيلم، دون أن أدرك ذلك، من غضب لا واعٍ تجاه واقع قاسٍ ولكن أيضًا من حب عميق تجاه المرأة، وكل الذين لم يتوقفوا عن النضال من أجل حقوقهم، ".

وتقول عن مشاركتها في مهرجان كان الاخير: "هذا المهرجان مهم جدًا بالنسبة لنا كممثلين.إنه أمر مهم في التجربة التي مررت بها، فالمهرجانات هي دائمًا تقدير لعملنا ".

 

المدى العراقية في

31.05.2023

 
 
 
 
 

كيف أصبحت سجادة "كان" الحمراء منصة للاحتجاج؟

المهرجان السينمائي لم يقتصر هذه السنة على عرض أفلام استثنائية جديدة فحسب، بل شهد أيضاً تمرداً في الملابس غير التقليدية

أوليفيا بيتر

كيت بلانشيت وجنيفر لورانس وإيزابيل أوبير من بين النجمات اللواتي انتهزن فرصة ظهورهن على السجادة الحمراء للإدلاء بتصريحات سياسية وأخرى تتعلق بأزياء المراة (غيتي)

ربما لا يتوقع كثيرون رؤية امرأة تسير حافية على السجادة الحمراء في "مهرجان كان السينمائي"، إذ إن الأمر ليس معهوداً في مكان كهذا. لكن مع ذلك، أصبح المشهد مألوفاً إلى حد ما في هذا الحدث السنوي الذي يجمع أهم الممثلين والممثلات وعارضات أزياء ومخرجين، يظهرون بأبهى حللهم.

من المؤكد أن المهرجان يتمحور بشكل أساسي حول الاحتفال بأفضل إنجازات الإنتاج السينمائي. لكنه أصبح أيضاً أحد أهم الأحداث في عالم الموضة، وكذلك مكاناً يغتنم فيه نجوم العالم الفرصة لتوجيه رسائل سياسية أو تعبيرية تعكسها الملابس التي يختارونها.

مع ذلك، وفي خضم الاتجاهات السائدة المختلفة، بدءاً من الفساتين الطويلة المفتوحة، إلى التصاميم المزدانة بالترتر الشفاف، يبدو أن اتجاهاً محدداً يطغى على الساحة: وهو أقدام النساء. فمرة أخرى، شهد مهرجان هذه السنة شخصيات سينمائية بارزة مثل ناتالي بورتمان وجنيفر لورانس وإيزابيل أوبير اللواتي تصدرن عناوين الصحف من خلال عرض الأهمية السياسية لأقدامهن بمهارة.

من المعروف أن قواعد اللباس تقليدياً في مهرجان "كان" صارمة إلى حد ما: ففي عام 2015، أفيد بأن مجموعة من النساء في الخمسينيات من العمر، منعن من حضور عرض لأحد الأفلام لأنهن كن يرتدين "أحذية مسطحة تكسوها "أحجار الراين" (من الأحجار شبه الكريمة) بدلاً من الكعب العالي. وأثارت المسألة على الفور رد فعل عنيفاً، واتهامات بالتحيز الجنسي، اضطر معها مدير المهرجان تييري فريمو إلى أن ينفي عبر حسابه على "تويتر" - في رد على الانتقادات - أن يكون الكعب إلزامياً في المهرجان.

مع ذلك، سارعت ممثلات إلى الرد، بحيث قالت إميلي بلانت في ذلك الوقت: "كي أكون صادقة، يتعين أن ينتعل الجميع أحذية مسطحة وتجنب الكعوب العالية". وفي العام التالي، حضرت النجمتان جوليا روبرتس وساشا لاين إلى مهرجان "كان" حافيتين. وقالت لاين في مقابلة أجريت معها في وقت لاحق: "كانت السجادة مخصصة لفيلمنا. كنتُ أرتدي ثوباً أنيقاً للغاية فيما تعين علي صعود كثير من السلالم، والتجول طيلة اليوم... لذا اخترت الذهاب حافية. لماذا يمكن أن يعترض أحد على الأمر؟ فأنا ما زلت هنا وأرتدي ملابس أنيقة".

الممثلة كريستين ستيوارت تماهت مع لاين وكررت تعليقاتها، ورفضت بصراحة فرض قواعد لباس صارمة على النساء، قائلة بجرأة: "أشعر بأنه لا يمكنك أن تطلب مني ذلك أيضاً بعد الآن. فإذا كنتَ لا تطلب من الرجال انتعال الكعب العالي والالتزام بزي محدد، فلا يمكنك أن تفرض ذلك علي". وقد اشتهرت نجمة فيلم "شفق"  Twilight بخلع حذائها ذي الكعب الشاهق من علامة "كريستيان لوبوتان" Christian Louboutin فوق السجادة الحمراء في مهرجان "كان" عام 2018، والسير حافية عليها.

وبغض النظر عما إذا كانت قاعدة رسمية أو لا، فمن الواضح أنه حتى الآن، ونحن في عام 2023، تختلف بشكل كبير التوقعات والضغوط المفروضة على النساء اللواتي يحضرن فعاليات رسمية مثل مهرجان "كان"، عن تلك المتعلقة بالرجال.

فلطالما فرضت معايير الموضة التقليدية قواعد تقضي بوجوب اقتران الملابس الرسمية بأحذية مناسبة تضحي براحة القدمين. سواء كانت تلك الأحذية العالية من نوع "بامب"، أو صندل، أو "ستيليتو"، فهي تحتاج إلى أن توفر ارتفاعاً إضافياً من أجل المظهر، كي يتم اعتبارها مناسبة ورسمية. ربما يبدو ذلك كأنه أمر مفروض بعض الشيء، لكن إذا كانت هناك أي أمثولة علمتنا إياها السجادة الحمراء هذا العام، فهي أنها يمكن أن تكون بمثابة صورة مصغرة لأوجه عدم المساواة الأوسع نطاقاً بكثير.

لنأخذ الممثلة كيت بلانشيت على سبيل المثال التي خلعت كعبها في نهاية الأسبوع الماضي في حفل "كان" أثناء تقديمها جائزة للممثلة الفرنسية- الإيرانية زهرة أمير إبراهيمي. ففي مبادرة تضامن مع معاناة النساء في إيران، توجهت بلانشيت إلى الجمهور بالقول: "سأخلع كعبَي تكريماً لنساء إيران". ثم رفعت بشكل هزلي جائزة إبراهيمي المدببة، مازحة بالقول: "هذه الكأس هي للتصدي لكل من يشكل عقبة تعترض حقوق المرأة. فلتحيا النساء!".

هذا الشعور أعربت عنه أيضاً في مهرجان هذا العام كل من بورتمان ولورانس وأوبير. فالسبت الماضي، وأثناء حديث ناتالي بورتمان عن فيلمها الجديد "ماي ديسمبر"  May December، تطرقت إلى مفهوم "الأداء الأنثوي" (التصرفات المتوقعة من المرأة)، قائلة للحضور، إنه أمر "يثير الفضول للغاية". وأشارت إلى "القواعد المختلفة التي يتوقع منا نحن النساء التزامها في سلوكاتنا - حتى في هذا المهرجان - مقارنة بالرجال، لا سيما لجهة كيف يفترض بنا أن نبدو أمام الجمهور، وكيف يفترض بنا أن نتصرف".

في غضون ذلك، كانت جنيفر لورانس تصل إلى السجادة الحمراء لحضور العرض الأول لفيلم "خبز وورود"  Bread and Roses بفستان قرمزي من تصميم "ديور"، وهي تنتعل شبشباً. أما بالنسبة إلى إيزابيل أوبير المعروفة بالأناقة الدائمة في "مهرجان كان" وما بعده، فأشارت ببراعة إلى الاحتجاجات في شأن مسألة نزع الأحذية، من خلال انتعالها حذاء من علامة "بالنسياغا" صمم خصيصاً ليشبه قدمين حافيتين.

كل هذا كان بمثابة تذكير بأنه على رغم التقدم المجتمعي، لا تزال أجساد النساء خاضعة لرقابة صارمة في أعين الجمهور. إن لم يكن من خلال أحذيتهن، فيكون من خلال ملابسهن. فعارضة الأزياء إيرينا شايك، اقتصر ثوبها في فعاليات مهرجان "كان" لهذا العام، على قطعتين جلديتين من تصميم "موالولا"، كشفتا عن الجزء الأعلى من جسمها بالكامل، وفستان أسود شفاف ارتدته فوق مجموعة متناسقة من الملابس الداخلية من علامة "غوتشي". وفي مكان آخر، شاهدنا جوليا فوكس ترتدي صدرية شفافةبالكامل مع تنورة انسيابية بيضاء، بينما تبخترت نعومي كامبل على السجادة الحمراء بثوب قرمزي اللون تتخلله قصات متنوعة في منطقة الصدر.

الملابس الشفافة التي تكشف عن البشرة ليست أمراً غير المألوف في مجموعة الأزياء الرائجة، خصوصاً مع عودة ظهور صرعات موضة عام 2000 على منصات العروض التي لا تزال سائدة بقوة. ("الفساتين الشفافة" كانت طاغية لمواسم عدة، بحيث كانت تميل جميع النساء المؤثرات والنجمات إلى ارتدائها في المناسبات الرسمية) لكن الظهور بها خلال "مهرجان كان" يحمل أهمية خاصة وسط كل هذه الضجة المحيطة بالسير بأقدام حافية، لا سيما عند النظر إلى مدى سهولة إغضاب الناس من خلال إطلالات جريئة مماثلة. وليس تعيير بعضهم لفلورانس بيو بسبب ارتدائها فستان "فالنتينو" شفافاً الصيف الماضي، سوى مثال واحد يمكن أن يتبادر إلى الذهن.

لا شك في أن إبراز القدم، يختلف بالطبع إلى حد ما عن الكشف عن الصدر. لكن الرسالة الرئيسة هي نفسها في الأساس وتتعلق بقلب الأعراف الاجتماعية النمطية التي تلاحقنا، والإظهار للعالم أن النساء سئمن من القواعد التي تفرض عليهن في ما يعتبر مقبولاً أو غير مقبول لجهة عرض أجسادهن. ويتعلق الأمر أيضاً بأسباب المضي في امتثالنا لقواعد اللباس القائمة على التمييز الجنسي، بينما - كما أشارت بلانشيت - لا تزال حقوق المرأة عرضة للقهر في مختلف أنحاء العالم.

ومع الأخذ في الاعتبار جميع هذه الأمور، فإننا لا نطلب كثيراً. وأقل ما يمكن أن يسمح به الناس لنا، هو خلع كعوبنا أو إظهار جزء من جسدنا، من دون الاضطرار إلى تصدر العناوين الرئيسة للأخبار.

"كاتبة "لايف ستايل @Oliviapetter1 

© The Independent

 

الـ The Independent  في

01.06.2023

 
 
 
 
 

"أوراق متساقطة" لآكي كوريسماكي.. سينما بسيطة وجميلة وخالدة

محمد صبحي

ليست كل الأفلام الطويلة سيئة، ولا كل الأفلام القصيرة جيدة. هناك العديد من الأفلام الطويلة جداً في النسخة الأخيرة من مهرجان "كانّ" السينمائي، التي تبرّر مثل هذه المقدّمة، وفي المسابقة الرسمية للمهرجان يبدو أن المدة التي تتجاوز الساعتين كانت المعيار السائد للأفلام (أيضاً في العديد من العناوين خارج المسابقة، مثل فيلم مارتن سكورسيزي الجديد)؛ ما يجعل الـ83 دقيقة التي يأتي بها فيلم "أوراق متساقطة"(*)، نادرة، بل أقرب إلى بادرة تواضع (وحتّى بلسَم مُهدّئ) مقابل هيمنة تلك السينما "المهمّة"، وموضوعاتها الكبيرة والطويلة والاستفزازية والضخمة، التي يقع عليها الاختيار عادةً للمشاركة في أهمّ مهرجان سينمائي في العالم.

وإذا كان صحيحاً أن المبدع البارع هو مَن يصنع دائماً العمل نفسه، بحدّ أدنى من الاختلافات في كلّ مرة، أو، بسحب الافتراض السابق على السينما، أن كل فيلم جديد لسينمائي عظيم هو حلقة أخرى من فيلمه الأول الرائع؛ يمكن أن يكون الفنلندي آكي كوريسماكي النموذج المثالي للتدليل على صحّة الفرضيةفأعماله تتشابه تماماً (كما يحدث أيضاً مع الكوري غزير الإنتاج هونغ سانغ سو). لكن هذا التشابه لا يُترجَم ضجراً أو تكراراً مُمّلاً، لأن كل فصل جديد هو بمثابة إعادة تشغيل، لمّ شمل مع شخصيات لا يملك المتفرج إلا محبّتهم حتى في مآسيهم، وتبريراً لأبطال مضادين مثاليين سيمضون قدماً في حياتهم رغماً من كل الصعوبات والمِحن. لأنه في سينما كوريسماكي الإنسانية، واللطيفة، والودودة، والمتقدة؛ هناك دائمًا نصيب للخاسرين في الحبّ، والخلاص، والانتصار، حتى إن كان عابراً ومؤقتاً.

في فيلمه العشرين، "أوراق متساقطة"، نلتقي "آنسا" (ألما بويستي)، التي تعمل أولاً كمنسقّة رفوف في سوبرماركت، ثم تغسل الأطباق في حانة مهلهلة، وتكنس أحد المصانع في النهاية؛ و"هولابّا" (يوسي فاتانين)، مدمن على الكحول، يعمل أولاً في ورشة ثم في موقع بناء. كلاهما يعاني وحدة شديدة، وحرجاً، وخجلاً، لكنهما سيلتقيان في ليلة كاريوكي (الفيلم يشبه صندوق موسيقى، مع تشغيل عشرات الأغاني في الخلفية أو غنائها على الشاشة مباشرة)، وسيذهبان معاً لمشاهدة فيلم "الموتى لا يموتون" لجيم جارموش؛ وسيحاولان توحيد مساريهما وحياتيهما رغم كل شيء وأي شخص. باختصار، رجل وامرأة يشعران بالوحدة وعاطلان عن العمل، يلتقيان مصادفة في هلسنكي، ويحاولان بدء قصة حب.

مع تقّدم الفيلم سيظهر قليل من الأصدقاء (أبرزهم، اللطيف جداً هوتاري، الذي لعب دوره الممثل يان هوتياينن)، لكن يبدو أن قصّته لا تتسعّ إلا لهذين العاشقَين الغريبَين، اللذين سيتعيّن عليهما (خصوصاً هولابّا) التغلّب على سلسلة من الحوادث المؤسفة والتحدّيات والأشرار (رؤساء مستبدّين، وحرّاس أمن، ونصّابين). تتهيّأ الأمور لكوميديا تراجيدية لطيفة، على حدّ وصف صاحبها، تكمل ما يمكن اعتباره رباعية سينمائية عن الطبقة العاملة، إذا أضفناها إلى ثلاثية البروليتاريا التي أنجزها كوريسماكي في ثمانينيات القرن الماضي (تشمل أفلام "ظلال في الجنّة" 1986 و"آريال" 1988 و"فتاة المصنع" 1990).

كوريسماكي ليس دقيقاً جداً عندما يتعلّق الأمر بتكريم أبطاله السينمائيين (بريسون، أوزو، فيلّليني، غودار، شابلن)، لكنه يفعل ذلك بقلبٍ كبير ومحبّة فائضة حدّ أن المرء يغفر له بعض التوكيد الزائد (المرجع الأكثر إثارة للاهتمام، في الواقع، هو ذلك الخاصّ بفيلم "لقاء عابر"-1945 للمخرج ديفيد لين). الأمر نفسه ينطبق على اختياراته الموسيقية الانتقائية دائماً، والتي تتضمّن هذه المرة كارلوس غارديل مغنياً عن الحياة المريرة في مدن الصفيح، ومشهداً طويلاً في حانة تأخذ اسمها من مدينة يحبّها كوريسماكي كثيراً، بوينس آيرس.

قد يكون كل ما في "أوراق متساقطة" من مظهر، وجماليات، ومواقع، ومراجع زمنية، وأجهزة إلكترونية... يعود إلى 10 أو 20 أو حتى 30 عاماً مضت. ورغم ذلك، قرّر كوريسماكي أنه بمجرد أن تشغّل إحدى شخصياته جهاز الراديو الخاص بها (ذلك الترانزستور القديم) ستأتيها أخبار الغزو الروسي لأوكرانيا، لذلك من الواضح أن هذه الكوميديا التراجيدية الحلوة والمرّة المطعّمة ببضع لحظات من الفكاهة السوداء تحدث في أيامنا الحالية. والحقيقة أن مثل هذه التفاصيل لا يهمّ كثيراً، لأن سينما كوريسماكي، سينما التفاصيل الصغيرة والجماليات البسيطة؛ خالدة، وكلاسيكية، وعابرة للزمان، وما "أوراق متساقطة" سوى تأكيد جديد على مكانتها المميّزة والأساسية في تاريخ الفنّ السابع.

(*) فاز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم في الدورة الـ76 من مهرجان "كانّ".

 

المدن الإلكترونية في

01.06.2023

 
 
 
 
 

يحيى وجدي يكتب:

مصر والسودان وجوائز « كان »

فيلمان قصيران نجحا في الوصول إلى مسابقات مهرجان “كان” السينمائي الدولي، وفازا كذلك بثلاث جوائز الأسبوع الماضي

الفيلمان هما “عيسى”  للمخرج المصري الشاب مراد مصطفى، وفاز بجائزتي “رايل” الذهبية وجائزة الجمهور، ومن المقرر أن يُعرض الفيلم في مهرجان “القاهرة” السينمائي ضمن فعاليات الدورة 45 في نوفمبر المقبل، والفيلم الثاني هو “وداعا جوليا” للمخرج السوداني الشاب محمد كوردفاني، والذي من المقرر أنه يعرض أيضا، ضمن فعاليات مهرجان “الجونة” السينمائي، ويعد الفيلم أول فيلم سوداني يعرض في مهرجان “كان”.

يجمع الفيلمين، ليس فقط فوزهما بجوائز نوعية في مهرجان عالمي هو الأشهر بين مهرجانات السينما، ولا أنهما فيلمان قصيران، ولكن أن أبطال الفيلمين من القارة الإفريقية، “عيسى” بطولة الممثل الكيني كيني مارسيلينو والممثلة كنزي محمد، و”وداعا جوليا” أبطاله الممثلات السودانيات إيمان يوسف وسيران رياك، إلى جانب نزار جمعة وقير دويني.

يجمعهما أيضا، أنهما إنتاج مشترك لشركة “ريد ستار” التي سبق وقدمت أفلاما طويلة أحرزت نجاحا لافتا، عند عرضها في قاعات السينما وعلى منصات “نت فليكس” و”شاهد”، مثل أفلام “نوارة” و”الأصليين” و”بشتري راجل” و”ورد مسموم”، وهذا يجعلنا ندرك أهمية دخول شركات الإنتاج الكبيرة بالاستثمار في إنتاج الأفلام القصيرة والتجارب الشبابية، فقد باتت الأخيرة هي الوحيدة تقريبا التي تحرز الجوائز والتكريمات في المهرجانات العالمية.

إن الأفلام القصيرة، وأستعير هنا وصف الناقد الدكتور خالد عاشور مثل القصة القصيرة في الأدب، مقابل الرواية (الأفلام الطويلة)، والأولى أصعب من الثانية، وتبرز مهارات ومواهب الكاتب والمخرج، والمنتج الشاطر، المثقف، هو من يغامر حقا بالاستثمار في هذه التجارب المميزة، بدلا من أن يضطر إلى إنتاج أفلاما طويلة ضعيفة السيناريو أو يتحكم النجم في مخرجها فتخرج النسخة النهائية للعمل مرتبكة ومهلهلة، أو ينتظر –المنتج- بلا عمل عدة سنوات، حتى يصله سيناريو فريد ونجم يعرف معنى السينما ويحترم كل عناصر العمل.

شخصيا، سعيد لمفاجأت “عيسى” و”وداعا جوليا” في مهرجان “كان”، وبإنتظار عرضهما في مصر، وتكرار مثل هذه التجارب التي بات في يدها على ما يبدو إنقاذ فن السينما!.

 

####

 

Cannes 2023.. أفراح السينما العربية

كتبت: إنجي ماجد

كانت الدورة الأخيرة من مهرجان “كان” السينمائي، من الدورات المميزة للسينما العربية على إمتداد تاريخ المهرجان، حيث نجح أكثر من فيلم عربي بالتألق وحصد الجوائز، مثل الفيلم المصري “عيسى” للمخرج مراد مصطفى، الذي شارك في مسابقة “أسبوع النقاد”، لينجح في الفوز بجائزة “رايل” الذهبية، وهي الجائزة التي تمنح لأفضل فيلم قصير بالمسابقة، بعد تصويت لجنة تحكيم خاصة مكونة من 100 ناقد سينمائي، ويروي الفيلم قصة الصبي “عيسى” وهو مهاجر إفريقي يعيش في مصر، يتعرض لحادث عنيف، ويحاول إنقاذ أحبائه مهما كلفه الأمر، ومن المقرر أن يعرض الفيلم لأول مرة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ضمن فعاليات النسخة المقبلة من مهرجان “القاهرة” السينمائي الدولي، وتحديدا في مسابقة الأفلام القصيرة.

ثاني إنجازات العرب في “كان” هذا العام كانت مع الفيلم التونسي “بنات ألفة” للمخرجة كوثر بن هنية، الذي شارك في المسابقة الرسمية ونجح في حصد 3 جوائز دفعة واحدة، الأولى جائزة “العين الذهبية” التي حصل عليها الفيلم مناصفة مع الفيلم المغربي “كذب أبيض”، والذي شارك في مسابقة “نظرة ما”. 

أما الجائزة الثانية كانت “السينما الإيجابية”، والتي تمنح للفيلم الطويل الأكثر إيجابية في قائمة الأفلام التي يتم ترشيحها بالمسابقة الرسمية، ويفوز بهذه الجائزة العمل الأكثر تناولا للسينما كوسيلة لتغيير نظرتنا للعالم، ومساعدة الأجيال الجديدة على بناء عالم أكثر إيجابية.

حصد “بنات ألفة” كذلك جائزة “التنويه الخاص” والتي تقدمها جمعية “فرانسوا شالي” منذ 27 عاما على هامش “كان”، والمكونة من مجموعة من النقاد والصحفيين المختصين في المجال السينمائي.

ولم تتوقف الإنجازات العربية عند ذلك الحد، بعدما فاز الفيلم السوداني “وداعا جوليا” للمخرج محمد كردفاني بجائزة “الحرية” في قسم “نظرة ما”، وفي نفس المسابقة فازت المخرجة المغربية الشابة أسماء المدير بجائزة الإخراج عن فيلمها “كذب أبيض”، وهو دراما وثائقية تتعمق من خلالها أسماء فى ماضيها وتاريخ عائلتها، أيضا نجح المخرج المغربي كمال لزرق في الفوز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة بمسابقة “نظرة ما” عن فيلمه “عصابات”. 

 

بوابة أخبار اليوم المصرية في

01.06.2023

 
 
 
 
 

مراد مصطفى: سينما مصرية تتكلّم عن غير المصريين (فيديو)

هوفيك حبشيان

فتاة سمراء بوجه طفولي تحضن مولوداً جديداً وخلفها ناس يجلسون على الشاطئ بصمت وترقّب وحذر. المشاهد التالية: رجل يدير لنا ظهره، متأملاً الأفق. لا شيء سوى صوت الأمواج المتكررة. تليه لقطات مقربة لعينيه وفمه ويده. وفي الواقع، لا نعلم ما اذا كانت هذه أعضاء الرجل الذي يحدق بعيداً أم انها أعضاء شخص آخر من الذين يجلسون على الشاطئ. فكلهم سواسية في نظر ال#فيلم الذي يخلط الحالات، لخلق وحدة حال عابرة للمكان.

هذه 3 لحظات من فيلم "عيسى" القصير لمراد مصطفى الذي عُرض في مهرجان كانّ الأخير (16 - 27 أيار) ضمن "أسبوع النقّاد". ثم تأتي لحظة ركوبهم قوارب الموت، فيبدون خيالات لا أكثر. من خلال سلسلة مشاهد ثابتة وهادئة، يحاصر الفيلم شخصياته التي تبدو كما لو كانت في حالة هروب متواصلة أو بحث عن ملاذ لا تجده. يقدّم الفيلم سيرة من سير الغربة والاغتراب المنتشرة في العالم، مصوّراً الناس الذين لا يملكون ترف البقاء في المكان الذي هم فيه. تلفظهم الرقعة التي هم عليها، فيبحثون عن مكان يؤويهم. فيلم مراد مصطفى عمل يكاد يكون تجريدياً، لا يروي قصّة بل قصصا مكثّفة ومتناثرة، يصوّر وجوهاً ولكن يربطها بوجه واحد: ذاك الذي يحمله عيسى (كنيي مارسيلينو)، المهاجر الذي يفعل ما في وسعه لانقاذ زوجته وابنته وابعادهما ممّا هو فيه، من دون ان تحاول الكاميرا نبش دواخله وفهم دوافعه.

عُرضت أفلام مصطفى الأولى في مهرجان كليرمون فيران، قبل ان "يصعد" إلى كانّ مع "عيسى". يمكن القول ان الهم الاجتماعي في جديده الذي تبلغ مدته 25 دقيقة، لا يزال حاضراً، ومحاولة الاحاطة بجوانب من المجتمع المصري تطل من الخلفية، لكن المعالجة الشكلية أضحت أكثر تفنّناً واتقاناً، اذ تنحو إلى خيارات بصرية أكثر منها كلامية. هنا، يعبر البطل شوارع مصر، وبعضها يتصاعد منها إحساس اليأس، من دون ان يحكي كثيراً. فكلّ شيء مكتوب في مساره والطريق التي يسلكها. جمال الفيلم في لحظاته الأكثر بساطةً، حيث يجتمع الأمل باليأس، أي الشيء ونقيضه.

في مهرجان كانّ، كان لـ"النهار" هذا اللقاء المصوّر مع مراد مصطفى للحديث عن "عيسى" الذي نال جائزة "السكك الذهب" التي تسندها جمعية عمّال السكك الحديد السينيفيليين في فرنسا.

https://www.youtube.com/watch?v=X2YBuFgoFoo

 

####

 

محمد كردفاني: نسبة الـ99 ٪ هي التي ولّدت “وداعاً جوليا” (فيديو)

هوفيك حبشيان

"وداعاً جوليا" باكورة الأفلام الروائية الطويلة ل#محمد كردفاني

الذي حمله شغفه بالفنّ السابع إلى التخلّي عن اختصاصه وتأسيس شركة إنتاج ساهمت في تمويل هذا الفيلم الذي يحكي عن منى (إيمان يوسف)، مغنية حرمها زوجها أكرم (نزار جمعة). حادثة اصطدام ستكون البداية لسلسلة مشاكل وأزمات، على خلفية لحظة سياسية واجتماعية متوترة تطل برأسها في #السودان. تفجّر الحادثة المكبوتات وتفتح نقاشاً وصراعات على أنواعها، فتغدو حجّة للحديث عن انفصال جنوب السودان عن شمالها وما تركه من أثر في وجدان جيل كردفاني. في #مهرجان كانّ الأخير (16 - 27 أيار)، حيث عُرض الفيلم داخل قسم “نظرة ما”، كان هذا الحوار المصّور مع المخرج محمد كردفاني.

https://www.youtube.com/watch?v=znGv-Fg4A3Y

 

النهار اللبنانية في

02.06.2023

 
 
 
 
 

عنصرية أبوية فساد… أهلاً بكم في سودان "وداعاً جوليا"

هوفيك حبشيان

حضرت ال#سينما السودانية للمرة الأولى هذا العام في #مهرجان كانّ السينمائي (16 - 27 أيار) بفيلم "#وداعاً جوليا" للمخرج #محمد كردفاني، الذي عُرض ضمن "نظرة ما". نال الفيلم، حتى قبل عرضه، من جانب المتحمّسين لل#أفلام الآتية من دول "محرومة" سينمائياً، تشجيعاً كبيراً (تحوّل إلى تصفيق بعيد اكتشاف تفاصيله)، ومن المرجح ان يلفت الانتباه في جولاته الدولية طوال الأشهر المقبلة، خصوصاً في ضوء ما شهدته السودان أخيراً من تطورات سياسية وأمنية جعلتها تتصدّر مجدداً نشرات الأخبار، ولا شك انها ستلقي ظلاله عليها.

"وداعاً جوليا" باكورة الأفلام الروائية الطويلة لمهندس طيران سوداني من الخرطوم اسمه محمد كردفاني حمله شغفه بالفنّ السابع إلى التخلّي عن اختصاصه وتأسيس شركة إنتاج ساهمت في تمويل هذا الفيلم. لم يخفِ كردفاني، يوم العرض الأول في كانّ، وجهة نظره السياسية ولم يحاول تدوير الزوايا بل فتح النار على الجميع، من عسكر وإسلاميين وميليشيات يحاولون السطو على بلاده. "النصر للشعب”، في نظر كردفاني الذي قدّم فيلماً حيث الطرح الإنساني يغلب على سواه من الطروحات، وهذا لا يعني ان لا بُعد سياسياً في الفيلم، بل المقصود ان الإنسان السوداني هو في قلب هاجسه، بغض النظر عن انتمائه ودينه ومعسكره.

محور الفيلم منى (إيمان يوسف)، مغنية حرمها زوجها أكرم (نزار جمعة)، من الغناء لأسباب أبوية سلطوية لا تُخفى على أحد. تنطلق أحداث الفيلم بالتزامن مع الاتفاق الذي أنهى الحرب الأهلية السودانية الثانية في العام 2005. لكن حادثة اصطدام ستكون البداية لسلسلة مشاكل وأزمات، على خلفية لحظة سياسية واجتماعية متوترة تطل برأسها. الحادثة ستشكّل مدخلاً لتوثيق الواقع السوداني وتعقيداته الكثيرة التي لا يوجد فيلم يستطيع اختزالها.

"يضطر" أكرم إلى قتل رجل سوادني جنوبي كان يلاحق منى بالسيارة. لم تقل منى لزوجها سبب ملاحقته لها، لم تخبره بأنها كانت صدمت طفله بالسيارة بسبب قلّة تركيزها على القيادة، ثم لاذت بالفرار تاركة إياه على الأرض. أخفت هذا كله لنفسها، لكن النتيجة كانت انها ستغرق في احساس عارم بالذنب وسيتأكلها الندم على ما تسبّبت به. يعتقد الزوج أنه قتل دفاعاً عن الذات، كون الرجل كان يطارد زوجته، وبالتالي لا يشعر بأي ندم، لكنه لا يعلم لماذا كان يطاردها، وتقرر منى ان تتكتّم على الحقيقة. للتكفير عن ذنوبها، تبحث منى عن عائلة الرجل المغدور، وتسعى إلى مساعدة أرملته وابنها. وهذا يقحم الأحداث في تعقيدات أخرى، ذلك ان ما تأسس على الكذب لا يمكن الا ان يولّد المزيد من الكذب. ولا بد للحقيقة ان تظهر مهما طال الزمن.

رغم ما يبدو عليها من حسن سلوك وأخلاق ورأفة، تحاول منى ان تريح ضميرها كامرأة ثرية تعتقد انها تستطيع شراء كلّ شيء بحفنة من الفلوس. هذه حقيقة لا يمكن التغاضي عنها. تضامنها مع الضحية، الهدف منه التوبة وشراء الذات. منذ متى كانت تهتم بهذه الطبقة من الناس؟ المشهد الذي يحرص زوجها فيه على تذكيرها ببعض الحقائق عن كونها لا تختلف في شيء عن المجتمع الذي تتحدّر منه، يعيد موضوعة الشخصيات إلى مكانها الصحيح. وهي شخصيات مكتوبة بهدوء، حيث ان لكلّ منها حسناتها وعيوبها والأسباب التي تجعلها تتصرف على هذا النحو، بتأثير مباشر وغير مباشر ممّا يحيط بها من ظروف.

تفجّر الحادثة المكبوتات وتفتح نقاشاً وصراعات على أنواعها، بعضها لا يتعمّق فيه المخرج، ربما لقلّة المساحة. الحادثة هي نقطة الماء التي تجعل الكيل يطفح. الحكاية كلها تغدو حجّة للحديث عن انفصال الجنوب عن الشمال وما تركه من أثر في وجدان جيل كردفاني. هناك القليل من كلّ شيء: عنصرية، طبقية، استغلال، فساد، أبوية. يضع كردفاني هذا كله على الطاولة. يتناول المسائل واحدة واحدة، ينظر اليها ثم يعيدها إلى مكانها. هذا للقول انه يعالجها بهدوء وعقلانية. لا انفعالات تُخرج الفيلم من مساره. يبتعد النصّ الفيلمي عن الكاريكاتورية والتنميط بقدر المستطاع، رغم صعوبة هذا الأمر في "فيلم أول" حيث ثمة اغراء لحشد كلّ شيء معاً دفعة واحدة. هذا الحشد يشكّل مطباً لدى الكثير من المخرجين الذين يخطون أولى خطواتهم داخل السينما الروائية الطويلة. لكن بحنكة معينة، يتجاوز الفيلم هذا كله، ليقدّم مقاربة منصفة لا تظلم أحداً، وتحاول فهم الجميع، من دون ان تبرر أفعالهم بالضرورة.

أنجز كردفاني فيلماً واضحاً عن التعايش والتسامح من دون مبالغات، مركّزاً في جزء أول على ما يفصل الناس بعضهم عن بعض، لا عمّا يجمعهم، لكن، ما ان يشارف الفيلم نهايته، حتى يصبح الهم هو ما يجمعهم، وهنا الرسالة الأقوى والأسمى.

 

النهار اللبنانية في

02.06.2023

 
 
 
 
 

توجت بـ3 جوائز في مهرجان "كان":

جيل جديد يرسم خريطة طريق للسينما المغربية

عبد الغني بلوط

مراكش- "أنا مخرجة اليوم"، كانت هذه هي الجملة التي اختارت أسماء المدير أن تختم بها حديثا باللغة العربية على الملأ مع جدتها بُعَيد الإعلان عن فوزها بجائزة أفضل إخراج في مهرجان "كان" السينمائي بفرنسا، الذي اختتم يوم 27 مايو/أيار الماضي.

هي عبارة تشير إلى "بروز جيل جديد من المخرجين المغاربة يعمل بجد، ويجتهد في اختيار الشخصيات والأماكن والعمل على مواضيع محلية"، كما تؤكد هذه المخرجة الشابة.

وتضيف للجزيرة نت "لكي نصل إلى العالمية يجب أن نبدأ من الجذور، ومن الهوية، إن فيلمي المتوج "كذب أبيض" هو الوثائقي الوحيد الذي نافس على الجائزة ضمن مسابقة قسم "نظرة ما"، إلى جانب 15 فيلما "خياليا"، واشتغلت عليه لمدة 10 سنوات، بشخصيات من العائلة، أبرزها الجدة".

وإلى جانب أسماء المدير، فاز المخرج كمال الأزرق في النوع نفسه بجائزة لجنة التحكيم عن فيلمه "القطعان"، في حين فازت المخرجة زينب موكريم بالرتبة الثالثة في برنامج سينما المدارس عن فيلمها الأمازيغي "أيور" (القمر)، كما عرض فيلم "الثلث الخالي" للمخرج المغربي فوزي بنسعيدي في مسابقة قسم "نصف شهر المخرجين".

فرحة مشتركة

لم يفرح المتوجون وحدهم، بل "إن المتلقي المغربي سعد كثيرا بالجوائز أيضا" يقول المخرج المغربي حسن دحاني للجزيرة نت. ويضيف "سيكون المتلقي المغربي أكثر سعادة إذا كانت مواضيع هذه الأعمال قريبة من واقعه اليومي، تشاركه أحلامه وهمومه، لأننا بحاجة لأن نروي قصصنا بممثلين مغاربة لا أن نحكي بهم قصص غيرنا".

يشير الناقد المغربي فؤاد زويريق في حديث للجزيرة نت إلى أن المتلقي المغربي يتفاعل في حينها، ثم يعود لينظر بشيء من الشك والريبة إلى المكتسبات الحقيقية للسينما المغربية، خصوصا أن ما يعرض في القاعات من أفلام مغربية لا يرتقي إلى طموحه وآماله.

ورغم أنها موسمية وقليلة، يتابع المتحدث، فإن هذه الجوائز تبقى أولا أداة محفزة للمخرجين وخصوصا الشباب الذين يجمعون بين الموهبة والتكوين الأكاديمي، وثانيا مهمة للمجال السينمائي المغربي عموما رغم هشاشة منظومته.

في حين يقول الناقد عبد الإله جواهري للجزيرة نت إن المتلقي سيسعى لمشاهدة هذه الأفلام ومعانقتها، وربما تعيد له الثقة في سينماه التي يحوم حولها القيل والقال.

هل هي فلتة؟

يؤكد الجواهري أن "التتويج لا يعد حدثا عابرا، ولكنه نتيجة عمل دؤوب بإمكانات وطنية يبخسها البعض للأسف، مشيرا إلى وجود مخرجين مغاربة عالميين وشباب قادمين بقوة، ويكفي أن نشاهد أفلامهم الروائية القصيرة لنستنتج أن مستقبل السينما المغربية مضمون".

في حين يرى زويريق أن الأمر قد يكون مجرد فلتة، لأن الأسماء الشابة التي فازت بالجوائز اجتهدت خارج المنظومة السينمائية المغربية لتحصد نتائج اجتهادها. ويضيف "لو كان الأمر مؤسسا لكنا على موعد كل سنة مع أكبر الجوائز في أكبر التظاهرات العالمية، بل لشهدنا انتشار السينما المغربية قاريا وعالميا كما يحدث للسينما الإيرانية على سبيل المثال".

لكن الناقد مصطفى الطالب تساءل في حديث للجزيرة نت إن كانت بعض الأفلام المتوجة سابقا، (ويؤكد أنه لا يتحدث عن فيلم "كذب أبيض" الذي يقدم مضمونا اجتماعيا هاما)، تصل إلى العالمية لتطرقها إلى مواضيع تناسب هوى المنظمين وتضرب قيم المغاربة، حسب تعبيره، كما حدث في السنة الماضية في فيلم " القفطان الأزرق"، وقبله فيلم "الزين اللي فيك" لنبيل عيوش.

انتشار محدود

تصنف الأفلام المتوجة في الغالب ضمن سينما المؤلف أو السينما المستقلة، وتقدم بعيدا تماما عن الصخب التجاري، وفيها قدر مهم من الإبداع الخالص البعيد عن التقنيات التكنولوجية والمؤثرات الفنية.

لكن مثل هذه الأفلام، يستطرد زويريق، "لا تستهوي للأسف نسبة كبيرة من الجمهور ومن ثم تهمل من قبل شركات الإنتاج والموزعين، وتعرض في نواد سينمائية خاصة، لا نتوفر على مثلها، والتي تلعب دورا تربويا مهما في جعل المتلقي يتقبل ويتفاعل مع مثل هذه النوعية من الأفلام غير التجارية".

ويبرز دحاني أن الفيلم المغربي لا يعيش طويلا، مقارنة مع أفلام دولية بعضها ما زال يحظى بالاهتمام وتتسابق قنوات عالمية على شراء حق بثها لتدر أرباحا على منتجيها مما يمكنهم من إنتاج أفلام أخرى.

ويضيف "رغم تتويج السينما المغربية، فإنها تظل في أمس الحاجة إلى تنويع مصادر تمويل الإنتاجات السينمائية وعدم اعتمادها فقط على دعم المركز السينمائي المغربي (مؤسسة رسمية لدعم وتشجيع الإنتاج السينمائي)، مبرزا أن 80% من الأفلام المعدة تبقى في الرف، ليس بسبب عدم جودتها ولكن لمحدودية الدعم".

صناعة سينمائية

يبرز زويريق أن عبارة "صناعة سينمائية مغربية" لا تستقيم مع الوضع الراهن، "فلم نصل بعد إلى صناعة الأفلام بمفهومها المتعارف عليه، لأن هناك اختلالات وثغرات في المنظومة تمنع أي تطور وتقدم يحدث في هذا المجال".

ويضيف أن "سياسة الدولة تحد من المنافسة العادلة، والحرية في الإبداع، والسعي نحو الابتكار والتطوير، كما أن اهتمامها بالكم راكم الكثير من الأفلام المنتجة بأموال المواطنين لا قيمة فنية لها، ورغم ذلك لا ننكر وجود تجارب فيلمية مهمة لكنها تبقى شخصية وقليلة".

حسن دحاني: الفيلم المغربي لا يعيش طويلا مقارنة مع أفلام دولية (الجزيرة)

ويؤكد الجواهري على وجود أفلام مغربية عالية الجودة، رغم عدم وجود صناعة سينمائية حقيقية، مشددا على ضرورة إشاعة ثقافة سينمائية بين الأجيال الصاعدة، في حين يرى الطالب "أهمية الإرادة السياسية واستغلال التراكمات لخلق صناعة سينمائية قائمة بذاتها كما هو الشأن في مصر وغيرها، فالمغرب يتوفر على الموارد المادية والبشرية والطبيعية لتحقيق ذلك".

وتبرز أسماء المدير أن الورشات التدريبية التي أحدثها مهرجان الفيلم الدولي لمراكش مثلا، (ومهرجانات أخرى) باستضافتها لأسماء عالمية، والتي استفادت منها شخصيا، ساهمت ربما في إحداث طفرة في السينما المغربية، مشيرة إلى أن كل صناعة سينمائية يجب أن تكون لها هوية وتبدأ محليا من الصفر.

المصدر الجزيرة

 

الجزيرة نت في

03.06.2023

 
 
 
 
 

10 أفلام من ذهب من ذاكرة مهرجان كان

أفلام ذهبية من ذاكرة السينما، مهرجان كان: underground, Paris, Texas, La Dolce Vita

أحمد عزت

في الفترة الممتدة من 16 إلى 27 من مايو/آيار الماضي انعقدت الدورة السادسة والسبعين من مهرجان كان السينمائي. كان هو المهرجان الأكثر قيمة وبريقًا بين مهرجانات المشهد السينمائي العالمي. ظل طيلة تاريخه يقف في صف الفن السابع وحركاته التجديدية. حين منح المهرجان جائزته الكبرى لفيلم روسيليني «روما مدينة مفتوحة» كان يضع الواقعية الإيطالية الجديدة تحت الضوء وفي قلب المشهد، وهو ما تكرر أيضًا حين فاز تروفو بجائزة أفضل إخراج عن فيلمه “الأربعمائة ضربة” الذي كان الانتصار الأول  لسينما الموجة الفرنسية الجديدة. انطلقت نجومية الأمريكي كوانتين تارانتينو أيضًا من هناك حين منحه المهرجان سعفته الذهبية عن فيلمه البديع pulp fiction.

كانت السعفة الذهبية/ الجائزة الكبرى للمهرجان دائمًا أقرب للمسة ميداس، الملك اليوناني الأسطوري الذي يحول كل ما يلمسه إلى ذهب، فالأفلام التي منحت سعفة كان وكأنها منحت حصانة ضد النسيان حيث ارتباطها بالسعفة الذهبية، حتى وإن خفت بريقها فسيعيدها  للذاكرة. هذه 10 أفلام أحب أن أستعيدها من ذاكرة كان:

 1. Marty 

 هذا هو أول فيلم يتوج بالسعفة الذهبية في كان، فقبل عام 1955 كانت تسمى فقط بالجائزة الكبرى The Grand Prix. هو أيضًا الفيلم الثاني الذي يحصل على أوسكار أفضل فيلم إلى جانب جائزة كان الكبرى، بعد فيلم بيلي وايلدر The lost weekend. 

الفيلم من إخراج ديلبرت مان، وكتابة بادي تشايفسكي أحد أفضل كتاب السيناريو في كل تاريخ السينما. كتب تشايفسكي فيلمه اعتمادًا على مسرحية تلفزيونية بنفس الاسم من كتابته أيضًا. فيلم صنع بميزانية محدودة وممثلين لا ينتمون لطبقة النجوم. صور بالأبيض والأسود في زمن الشاشات الواسعة والملاحم الملونة.

يصف تشايفسكي فيلمه بأنه «قصة الحب الأكثر عادية في العالم»، وهنا تكمن جاذبية الفيلم، في عاديته، فلا بريق لأبطاله، لا حب من أول نظرة، أو حوارات منمقة أو نهاية سعيدة. يمنح الفيلم أبطاله كل الوقت للوقوع في الحب.

 فيلم بلا مضمون ثوري ولا خيال جامح، لكن ما يلمعه فعلًا هو ذلك الشوق للحب الذي يتوهج خجلًا في قلب بطليه.  تكمن جاذبية الفيلم أيضًا في واقعيته، سواء على مستوى الشخصيات والسرد أو الإخراج.

يلتقي جزار لطيف من برونكس في منتصف عقده الثالث، لم يعرف الحب أبدًا، بمدرسة خجول تدعى كارلا في صالة رقص. حضر كلاهما دون رغبة منهما، بل بضغط الوحدة وإلحاح الآخرين من حولهما.  يقتربان، يمشيان معًا في ليل المدينة، وكل خطوة معًا تقربهما أكثر. لا ينتهي الفيلم ونحن نعرف أنهما وقعا في الحب أو أنهما سيكملان الطريق معًا.

يخبر مارتي صديقه في الطريق إلى كابينة الهاتف للحديث إليها: «كل ما أعرفه أنني قضيت وقتًا جيدًا معها ليلة أمس، وسوف أقضي وقتًا جيدًا أيضًا هذه الليلة». ينتهى الفيلم في بداية مكالمة تليفونية يدعو مارتي كارلا أن يخرجا معًا مرة أخرى.

2. La dolce vita

سيخبرك روجر إيبرت أن هذا هو فيلمه المفضل على الإطلاق إلى جانب المواطن كين، وأنه طالما رأى نفسه وأحلامه في بطله. كان يعيد مشاهدته على الأقل مرة كل عقد من الزمن ليعرف كيف تغير وكيف تغير فيلمه المفضل. كان جورج سيمنون كاتب الروايات البوليسية الكبير هو رئيس لجنة التحكيم التي منحت فيلم فيلليني السعفة الذهبية عام 1960. سيجمع سيمنون وفيلليني لاحقًا صداقة ومراسلات وإعجاب متبادل، وسيجد كل منهما في الآخر رفقة روحية نادرة. يصف سكورسيزي تحفة فيلليني بالفيلم الذي غزا العالم. كان النجاح التجاري الهائل للفيلم عبر العالم نوعًا من الانتصار لسينما الفن في شباك التذاكر

لم يكن الفيلم مجرد خطوة واسعة في تطور أسلوبية فيلليني وخروجه من عباءة الواقعية الجديدة التي بدأ مسيرته في ظلها، بل دفعة البداية لمخرج يفرض رؤيته الذاتية الخاصة للإنسان والعالم ويخلق شيئًا غير مسبوق سيعرف لاحقًا بالفيللينية.

ما الذي يمكن أن يقال عن الحياة الحلوة لفيلليني؟

لدينا مارشيلو ماستروياني يلعب دور صحفي يطارد القصص والنساء في ليل روما، ومن حوله تظهر المدينة مثل وليمة مفتوحة من الجمال والسحر والانحلال والرعب. صور فيلليني أكثر مشاهد فيلمه في استوديوهات شينشيتا لفرض رؤيته وإيقاعه على المدينة. روما بالأبيض والأسود على نغمات نينو روتا التي تعكس حالة من الكآبة والحسية والحنين. لا يمكن أن نذكر الحياة الحلوة دون أنيتا إيكبرج وحضورها الحلمي وهي تخطو داخل نافورة تريفي، هذا واحد من أكثر مشاهد السينما أيقونية.

3. Scarecrow

فيلم طريق استثنائي وتحفة منسية من أمريكا السبعينيات. ينتمي الفيلم الحائز على سعفة كان عام 1973 لأفلام موجة هوليود الجديدة التي انفجرت في السبعينيات. يصفه أحد النقاد بأنه «نسخة سينمائية من رواية عن الرجال والفئران لتشاينبيك مع لمسة من لوريل وهاردي». أظن أن هنا شيئًا من بيكيت أيضًا. هنا أيضًا واحد من أفضل أداءات جين هاكمان وآل باتشينو.

آل هنا موهبة بكر لا تزال تكشف عن نفسها. ربما لن تشاهده مرة أخرى بهذا القدر من الهشاشة والرقة. يعود آل بعد تصوير الأب الروحي لكوبولا إلى المخرج جيرى شاتزبرج مجددًا، هو الذي منحه بطولته السينمائية الأولى في panic in the needle park.

خرج ماكس/ هاكمان لتوه من السجن وعلى الطريق يلتقي بليون/ آل الذي كان يعمل في البحر لسنوات، لتنشأ سريعًا بينهما صداقة تتوطد مع الوقت. كلاهما تائه وجريح وكلاهما يدرك جرح صاحبه. يطارد كل منهما حلمًا هو السراب. سينماتوجرافي بديع لفيلموس زيجموند يبرع في تصوير شاعري لواقع الطرق الخلفية للمدن الأمريكية الصغيرة.كل شيء واقعي في الفيلم، لكنه على مستوى ما يعمل أيضًا كحكاية خرافية ذات تيمات وجودية.

4. Paris, Texas

يشترك فيم فيندرز في مهرجان كان هذا العام بفيلمين، أحدهما وثائقي والآخر روائي. حين أتذكر فيندرز أتذكر باريس تكساس، يبدو أجنحة الرغبة إنجاز فيندرز غير المتجاوز حتى هذه اللحظة، لكن هذا هو فيلم القلب. شبح رجل مكسور وجريح هو الشخصية الرئيسية للفيلم هائم عبر صحراء لا نهاية لها، هكذا يبدأ باريس تكساس المتوج بالسعفة الذهبية عام 1984.

 حين سُئل المخرج فيندرز عن سبب اختياره للممثل دين هاري ستانتون لأداء شخصية ترافيس، وهي الشخصية الرئيسية في فيلمه «باريس تكساس»، أجاب فيندرز أن هاري يمتلك بداخله روحًا طفولية وبراءة لم يعد يراها إلا نادرًا لدى الممثلين. هذه الطفولية هي مفتاح رئيسي لفهم أداء هاري وطبيعة شخصية ترافيس.

في سينما «فيندرز» تبدو الأماكن دائمًا خريطةً لروح أبطاله. قبل أن نلتقي ترافيس لأول مرة، تستعرض كاميرا «روبي مولر” صحراء شاسعة وموحشة قبل أن نُبصر ترافيس مقبلًا من قلب الصحراء وكأنه آتٍ من لا مكان. ندرك على الفور من نظرات عينيه ومن المكان الموحش الذي يحيط به أي ضياع يضرب في أعماقه، إنه غريب حتى داخل جلده الخاص، لا ينتمي إلى أي شيء أو مكان. المكان الوحيد الذي يشعر بالانتماء إليه هو أول كلمة ينطق بها بعد صمت دام لنصف ساعة من زمن الفيلم؛ باريس

«باريس تكساس» هي المكان حيث أخبرته أمه يومًا أنها مارست الحب هناك لأول مرة مع والده، رغبته في العودة لهذا المكان حيث بدأ كل شيء، هي في عرف التحليل النفسي رغبة في العودة لرحم الأم، والتي تعادل الرغبة في الموت أو الميلاد من جديد، إنها سعي للمكان الوحيد الآمن في وسط عالم كل ما فيه مهدد. لقد هام على وجهه في صحراء تكساس لأربعة أعوام دون أن يعثر عليها. لكن ماذا جرى في حياته السابقة ليصل إلى نقطة اللاعودة هذه؟

لدى ترافيس تعلُّق طفولي بالأشياء، في طريق العودة إلى لوس أنجلوس مع أخيه يصر على الرجوع بالسيارة نفسها التي استقلاها سابقًا، لا يرغب في الطيران لأنه سيبتعد عن الأرض، وكأنه يخشي أن يضيع تمامًا، أو ينفصل الحبل السري الذي يربطه بأمه الأرض

هذه الطفولية التي تحكم سلوك ترافيس بعد عودته هي نكوص طفولي أحدثته صدمة الفقد، يبدو كما لو كان طفلًا يتعلم الكلمات ومعاني الأشياء من جديد، إنه مجرد ظل أو شبح للرجل الذي كانه يومًا.

كل ما نعرفه أن زوجته هجرته مع ابنه وأنه هام بعدها على وجهه في الصحراء، يُبقي الفيلم ما حدث غامضًا حتى اللحظات الأخيرة، حيث نتعرف عبر مشهد البوح الأيقوني الذي يجمعه بزوجته السابقة على طبيعة العلاقة بينهما التي يمكن أن تُحدث مثل هذا الدمار الذي لحق بطرفيها.

ما يحكيه ترافيس عن علاقته بزوجته جين/ناستازيا كينسكي يكشف عن نوع استحواذي من الحب أشبه بتعلق الطفل بأمه، إنه يتوقف عن الذهاب إلى عمله كي لا يبتعد عنها، وحين تكشف له عن حلم الهرب المتكرر الذي يباغتها في نومها يقوم بربط جرس في كاحلها كي يسمع خطواتها إذا ابتعدت. علاقة بمثل هذه الطبيعة عليها أن تنتهي مثل هذه النهاية التراجيدية.

بعد لقائه من جديد بزوجته يدرك أنه لم يتعافَ أبدًا مما حدث، لكنه يُقرر أن يلم شمل الطفل وأمه محاولًا ترميم الصدع بينهما الذي أحدثه انفصال الوالدين، بينما ينطلق هو نحو المجهول مثلما رأيناه أول مرة وكأن كل هدف عودته هو إعادة الطفل إلى أمه، إلى حيث ينتمي. حكاية شاعرية عن الحب كتراجيديا.

5. The best intentions

كان السويدى الكبير إنجمار برجمان قد اتخذ قرارًا بالابتعاد عن الإخراج السينمائي عام ١٩٨٢ بعد فيلمه «فانى وألكسندر»، لكنه لم يتوقف عن الكتابة. كتب خلال هذه الفترة سيناريو أشبه بسيرة ذاتية عن حكاية والديه مستلهمًا ذكرياتهما خلال عقد من الزمن، يبدأ بلقاء طالب لاهوت فقير يحمل لقب برجمان بابنة عائلة أرستقراطية تدعى آنا، مرورًا بتفاصيل حكاية حبهما، وينتهي بآنا حاملًا في طفلها الثاني الذي سيكون انجمار نفسه.

برجمان هو الذي اختار الدنماركي بيللي أوجست لإخراج نصه الذاتي. كان أوجست قد فاز بالسعفة الذهبية عام  ١٩٨٨ عن فيلمه pelle the conqueror، وبهذا الاختيار كان برجمان وكأنه يهديه سعفته الثانية. أخرج أوجست نص برجمان كمسلسل من ٦ ساعات لعرضه على التلفزيون السويدي، ثم اختزله لفيلم من ٣ ساعات للعرض السينمائي.  هنا كثير من مشاهد الحوارية في حجرات مغلقة وتحمل مواجهات متفجرة، والتي  طالما برع برجمان في كتابتها.

يشرح برجمان في نصه كعادته العلاقات العائلية كما العلاقات العاطفية. العلاقة المضطربة بين السيد برجمان وآنا تحمل اضطراب عصرها وصدى تبدلاته. أداءات تمثيلية هائلة. العمل الإخراجي لأوجست على نص برجمان خلق شيئًا أكثر رومانسية وأقل قسوة وربما أكثر شاعرية.

6. Barton fink

هذا واحد من أفلام تشارلي كوفمان المفضلة والذي يعيد مشاهدته مرارًا. ربما يحكي الفيلم على نحو ما حكاية كوفمان نفسه مع هوليود. العمل الرابع للأخوين كوين، والذي جذب الأضواء والتقدير العالمي لسينما الأخوين حين فاز للمرة الأولى والأخيرة حتى هذه اللحظة بثلاثة جوائز من مهرجان كان عام 1991 وهي السعفة الذهبية، أفضل إخراج وأفضل ممثل. كان رومان بولانسكي هو رئيس لجنة التحكيم التي منحت الفيلم جوائزه الثلاث. لدينا الكاتب المسرحي بارتون فينك بأداء استثنائي من جون تورتورو، الذي تنهال عليه عروض كثيرة للعمل في هوليود بعد النجاح الكبير الذي حققه عمله المسرحي الأخير على مسارح برودواي مطلع أربعينيات القرن الماضي.

بارتون الحالم بمسرح جديد يتحدث فيه عن بشر عاديين، والكاره لهوليود واستغلال استوديوهاتها الكبرى، يترك حلمه ويتجه نحو هوليود، على اعتبار أنها وظيفة مؤقتة، وربما آملًا في أن يعبر عن شيء من أفكاره الحقيقية، لكنه يتم تكليفه بكتابة فيلم عن المصارعة. تحت وطأة صراعه الداخلي، واغترابه، يجد نفسه عاجزًا تمامًا عن الكتابة. الفيلم الذي بدأ واقعيًّا تمامًا، ينقلب في النهاية إلى كابوس سريالي. مزيج أنواعي فريد يجمع بين الكوميديا السوداء والإثارة والرعب. الفيلم في إحدى طبقاته بلا شك هجائية لاذعة لهوليود آنذاك وتقاليدها التي تستعبد أرواح المبدعين.  

7. Underground

كتبت ديبورا يانج محررة variety بعد مشاهدة الفيلم في مهرجان كان 1995، إذا كان فيلليني قد أخرج فيلمًا عن الحرب فإنه بالتأكيد سيشبه هذا الفيلم. لم تكن تلك السعفة الأولى التي يحصل عليها أمير كوستوريتسا مخرج الفيلم فقد سبق أن فاز به قبل عقد من الزمن بالتمام في 1985 عن فيلمه «When Father Was Away on Business».

في مطلع التسعينيات ومع الحرب الطاحنة الدائرة في وطنه، حيث كانت حرب الإخوة تسقط القناع عن زيف حلم الوطن الموحد. كان كوستوريتسا يشاهد بعيون مفتوحة على اتساعها النهاية المريرة لوطنه الذي انزلق إلى دائرة من دوائر الجحيم لا مخرج منها. كان عليه إذن أن يصنع فيلمه هذا وإلا أصابه الجنون. مع مشهدية أقرب إلى سيرك كبير، أو حديقة حيوان مفتوحة، حيث هذه المشهدية هي الأنسب لفوضى مشاعره وعبثية الوضع في بلاده.

يصف «كوستوريتسا» فيلمه في أحد حواراته بقوله: «إنه كوميديا سوريالية، سمحت بالإبقاء على عقلي سليمًا».

 يتتبع الفيلم الصديقين ماركو وبلانكي اللذين يقعان في حب ناتاليا ممثلة المسرح الوطني، وعلى خلفية قصة الحب تلك بتعقيداتها وتشابكاتها تدور الحرب. يقسم كوستوريتسا فيلمه إلى ثلاثة فصول، الحرب والحرب الباردة والحرب، وكأننا أمام حرب لا تنتهي!

يمزج كوستوريتسا في سرده الفيلمي بين الوثائقي والمتخيل، بين الواقعي والسوريالي في نسيج فريد يشكل رؤية بانورامية تمتد لما يقارب خمسة عقود من الزمن ليوغوسلافيا، خالقًا مرثية حزينة للوطن الذي كان.

8. Eternity and a Day

كان مارتن سكورسيزي هو رئيس لجنة التحكيم التي منحت ثيو أنجيلوبولوس السعفة الذهبية عن فيلمه الأبدية ويوم. ربما هذا سبب آخر لمحبة سكورسيزي. أنجيلوبولوس هو أحد شعراء مملكة السينما، إذ تنحاز سينماه دائمًا لما هو شعري. يقول في أحد حواراته: «أنا لا أحاكي الواقع بل أخلق رؤيتي الخاصة، السؤال الذي أطرحه على نفسي طيلة الوقت هو كيف أستطيع أن أحول تجاربي الشخصية إلى شعر”.

في (الأبدية ويوم) يرصد أنجيلوبولوس اليوم الأخير في حياة شاعره ألكسندر (برونو جانز)، يتذكر الشاعر حياته الماضية التي أمضاها في عزلة عن العالم وعن الذين أحبوه من أجل الكتابة. يحاول ألكسندر أن يتصالح مع ماضيه ومع غده المجهول.

يقضي الشاعر يومه الأخير متجولًا في شوارع مدينته تيسالونيكي. ينشغل عن استعدادات علاجه بمساعدة طفل لاجئ من ألبانيا صادفه أثناء تجواله في شوارع المدينة، ليجدد من خلال علاقته به صلته التي انقطعت عن العالم ويكشف في روحه عن إمكانات جديدة للحب. مثلما يترك أعماله الشعرية غير منجزة منشغلًا باستكمال قصيدة كتبها شاعر من القرن التاسع عشر يدعى (سولومون). سولومون عاش في إيطاليا غريبًا عن اليونان يعذبه الحنين إليها حالمًا كل ليلة بوجه أمه التي لا تزال هناك، وحين علم بقيام ثورة في اليونان قرر العودة، لكنه حين عاد عاش غربة أكبر هي غربة اللغة. أراد أن يغني للثورة في بلاده لكنه كان غريبًا عن لغته الأم، لذا كان يتجول في شوارع مدينته يشتري من الناس الكلمات التي يسمعها للمرة الأولى، كأنما يضمد بهذه الكلمات نزيف غربته. في غربة الطفل الألباني وفي غربة سولومون كان ألكسندر ينصت إلى صدى غربته الخاصة.

 تعتمد أسلوبية أنجيلوبولوس حركة كاميرا ناعمة ومتمهلة في لقطات طويلة تسمح للزمن أن يتنفس في سينماه. يرى نقاد أنجيلوبولوس أن الزمن هو وسيطه الشعري، حيث تطفو شخصياته بين كوادر الزمن وعكس جاذبية السرد الذي يفتقر إلى حبكة تقليدية.

كل أفلام أنجيلوبولوس تتضمن رحلة ما. هنا رحلة ألكسندر هي رحلة باطنية أكثر مما هي واقعية، سفر بين الحلم والذكريات يتجول خلاله شاعر أنجيلوبولوس على التخوم بين الموت والحياة بصحبة ملاك صغير باحثًا عن معنى أخير لحياته

 9. The tree of life

يعود مشروع فيلم شجرة الحياة إلى عقد السبعينيات، وطالما شعر ماليك تجاهه بافتتان غامض، كان النص البدئي الذي كتبه للفيلم يحمل عنوان (Q)، وكان قد أرسله عبر سنوات للعديد من مديري التصوير حول العالم طالبًا منهم أن يصوروا له مآثر الطبيعة. كان على هذا المشروع أن ينتظر عدة عقود كي يرى النور. هذا الفيلم هو أيضًا أكثر أفلام ماليك ذاتية، فهو يتشارك مع بطل فيلمه نشأته في أحد ضواحي تكساس، ومعاناته من أب متسلط وفاجعة موت/ انتحار أخيه الأصغر.

يعتمد ماليك نوعًا من السرد المتشظي، حيث يغمر الشاشة فيض من الصور والأصوات (أغلبها مونولوجات داخلية هي أحد بصمات ماليك الأسلوبية). لا يسعى مالك إثر حبكة ما، بل وراء لحظات، مشاعر، جو عام. هذا الفيلم هو ذروة تعاون الثنائي ماليك/ إيمانويل لوبزكي، الكاميرا المحلقة، والعدسات الواسعة، وزوايا تصوير غير اعتيادية، يعتمدان في التصوير أسلوبًا طبيعيًّا، يعتمدان كليًّا على الإضاءة الطبيعية والأماكن الطبيعية.

يعيد نص ماليك السينمائي طرح الأسئلة الفلسفية القديمة، سؤال المعنى، معنى الوجود، والموت، كيف يسمح الرب بوجود الشر والمعاناة في العالم، يتساءل جاك الطفل في مونولوجاته بعد أن كان شاهدًا على موت أحد الأطفال: لقد تركت طفلًا يموت؟ أين كنت؟ لماذا أكون خيِّرًا، إن لم تكن أنت كذلك؟

تتواصل مونولوجات جاك بعد أن صار رجلًا، مونولوجات أقرب إلى ترانيم، صلوات، تكشف عن أكثر رغباتنا حميمية، أشواقنا السرية، وحيرتنا التي لا تنتهي. مونولوجات ماليك لا تنكر وجود الرب، أو تشكك في وجوده بل تكشف عن عجز الإنسان عن فهم خطط الرب وطرقه الغامضة.

 شخصيات ماليك دائمًا في حالة من الشرود، تائهون داخل أنفسهم وداخل العالم. هذه أصداء فلسفة هايدجر في سينما ماليك، وهايدجر – أحد ملهمي ماليك – طالما تحدث عن أن وجود الانسان في العالم موسوم بالغرابة، بشعور الإنسان أنه ليس في بيته، بل غريب.

نشاهد جاك/ شون بين رجلًا تعيسًا، رغم نجاحه الوظيفي، في اللقطات القليلة التي تظهر زوجته، لا يوجد بينهما أي تواصل، نراه ضائعًا في كادرات باردة وشاسعة، مطوقًا ببنايات عملاقة، هي أبعد ما يكون عن الطبيعة التي نشأ في قلبها. استخدم العدسات الواسعة هنا، واللقطات القريبة يؤطر هذه العزلة حتى داخل محيطه الحميمي، داخل بيته.

تحت وطأة الذكريات الملحة، يدرك جاك وجودًا آخر، شيئًا أقرب إلى فردوس مفقود، يستعيد علاقته بأمه التي تجسد طريق النعمة الإلهية، وعلاقته المتوترة بوالده الأقرب لتجسيد طريق الطبيعية. في مشهد النهاية المدهش، حيث يلتقي الجميع علي شاطئ الأبد، تهمس الأم وهي مغمورة بالضوء: لقد منحتك إياه، منحتك ابني.

بعد هذا التتابع نشاهد جاك يبتسم للمرة الأولى. ينهي ماليك فيلمه بنغمة القبول، قبول الفقد والموت، غموض العالم، وغموض الرب.

10. Shoplifters

كنت أفضل الترجمة الحرفية لعنوان الفيلم باليابانية، وهو عائلة من سارقي المتاجر، بدل الاكتفاء فقط بسارقي المتاجر في ترجمته الإنجليزية، فالسؤال الرئيسي في فيلم المخرج الياباني كوري إيدا هيروكازو المُتوَّج بسعفة كان عام 2018 هو سؤال عن معنى العائلة، وهو سؤال ليس بغريب على سينما كوري إيدا الذي تُمثِّل الدراما العائلية موضوعه الأثير، طبيعة العلاقات داخلها والديناميات النفسية التي تحكمها.

في «سارقو المتاجر» لدينا عائلة غير بيولوجية تقيم في سكن شديد التواضع ويعيشون على سرقة المتاجر، ودخول ضئيلة من وظائف غير دائمة، لكن هناك حسًّا إنسانيًّا بالتعاطف والقرابة الحقيقية يسود داخل هذه العائلة التي تُخفي الكثير من الأسرار التي ستنكشف تباعًا قرب نهاية الفيلم.

كوري إيدا شديد التعاطف مع أبطاله، لا يُحاكمهم، لكنه فقط يتساءل عن أخلاقية بعض الأعمال التي تتجاوز الصواب القانوني ويضع تجريمها في موضع شك.

في الربع الأخير من الفيلم، وحين تنفلت الأسرار المخفية، يُحوِّل أسئلته إلى استجواب رسمي. هنا تظهر الدولة للمرة الأولى في الفيلم. فيلم كوري إيدا يحمل وعيًا اجتماعيًّا حادًّا، في أحد المشاهد يتحدث الزوج والزوجة عن الطفلة المُنضمّة حديثًا إلى عائلتهم، تقول الزوجة: “إذا كانت أمك تتمنى لو أنها لم تُنجبك، فستعيش عادة كما نعيش الآن».

يبدو كوري إيدا الآن كما لو كان وريث المعلم الياباني ياسوجيرو أوزو، الذي كانت العائلة أيضًا موضوعه الأثير، هناك تأثر واضح بأوزو في لقطات التاتامي (لقطات مأخوذة من زاوية منخفضة كما لوكانت الكاميرا تجلس على الأرض إلى جوار الشخصيات) وسكونية الكاميرا ودقة التكوينات.

حين يهمس الطفل في النهاية: «أبي»، وهو يستقل الباص مُبتعدًا عن ذلك الرجل الذي لا تربطه به أي علاقة بيولوجية، هنا يتردد بداخلنا سؤال كوري إيدا: ما العائلة؟

فيلم كوري إيدا هو احتفاء بجمال اليومي وعذوبة العادي. فيلم واقعي، سينتمنتالي وشاعري.

 

موقع "إضاءات" في

03.06.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004