ملفات خاصة

 
 
 

مهرجان كانّ 76: موريتّي يرد على اليمين في فيلم مخيّب:

المطبخ الرفيع شعرٌ وثقافة أمام كاميرا الفرنسي الفيتنامي

كانّ - هوفيك حبشيان

كان السينمائي الدولي

السادس والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

يحملنا المخرج الإيطالي #نانّي موريتّي إلى الماضي، في جديده، "#شمس المستقبل"، المعروض داخل مسابقة الدورة السادسة والسبعين ل#مهرجان كانّ ال#سينمائي (16 - 27 أيار)، لكن من خلال تقنية "فيلم داخل فيلم"، وبنرجسية عالية، وخطاب يدير ظهره إلى الواقع، حيث يلعب دور مخرج يحاول تصوير فيلم عن الحزب الشيوعي الإيطالي لحظة انشقاقه عن الاتحاد السوفياتي بعد الانتفاضة المجرية في العام 1956. يغازل موريتّي الشيوعية، واقفاً في وجه الستالينية، في نوع من جواب على سيطرة اليمين المتطرف في بلاده إيطاليا. لكن الفيلم كله بدا قديماً ومفتعلاً، يعيد تدوير كلّ ما صنع أهمية موريتّي منذ بداياته. حتى الملصق هو استحداث (سكوتر كهربائي بدلاً من الدراجة النارية) لـ"مفكرتي العزيزة" الذي صنع شهرته الدولية. هذا كله كان سبب خيبة أمل جديدة من موريتي الذي لم تحلّق أفلامه الأخيرة عالياً في فضاء السينما.

الحكاية بسيطة: جيوفانّي (موريتّي) مخرج على قدر من الشهرة، يحاول تصوير فيلم من إنتاج زوجته (مارغريت بوي) التي يعيش ويعمل معها منذ أربعين عاماً. الفيلم يدور على شيوعيين على علاقة غرامية أحدهما بالآخر، يستضيفان سيركاً في روما خلال انتفاضة المجر، وعليهما أخد موقف أخلاقي وسياسي سريع ممّا يحدث هناك. لكن على جيوفانّي ان يحلّ العديد من المشاكل أيضاً، بعضها شخصي الطابع، كعلاقته بزوجته التي أشرفت على نهايتها، وعلاقة ابنته برجل يكبرها سناً. أما المنتج الفرنسي (ماتيو أمالريك) لفيلمه، فهو مفلس، ما يهدد مصير المشروع ككل. ورغم كلّ هذه المشاكل، يجد جيوفانّي بعض الوقت ليزور موقع تصوير مخرج آخر تنتج زوجته أول أفلامه، ولا يتوانى عن اعطائه بعض الملاحظات، منظّراً حتى في مسألة العنف السينمائي، في واحد من المشاهد التي لم يُوفَّق موريتّي فيها، اذا نظرنا اليها من زاوية الصدقية، مثلما لم يكن موفقاً أيضاً في مشهد اجتماعه بمسؤولين في "نتفليكس" التي "تبث في 190 دولة”.

مع "شمس المستقبل"، أنجز موريتي فيلماً لا يمكن النظر اليه الا كرد فعل صريح ومبالغ فيه على كلّ ما يعيشه من حوله في السياسة والسينما، ويأتي هذا نتيجة رغبته في تسجيل بعض المواقف الضرورية وتذكيرنا بالبديهيات، التي قد لا نختلف معها كثيراً، لكن السينما لا تحب البيانات والخطابات الرنانة، خصوصاً اذا كان الهدف منها إثارة ضحكة صفراء تهكمية، وفي النهاية لا تسرق منّا الا بعض الابتسامات على عجل، على سبيل التهذيب واحترام جهد سينمائي قدير. موريتّي كان أظرف عندما لم يكن يتوقع شيئاً، ولم يكن بهذه المباشرة المزعجة، وبهذا النضال ضد كلّ ما يخالفه. وكان أكثر تماسكاً عندما كان يشك في احتمالات التغيير. اليقين قاتل. اليوم، بات يبث الأمل عبر الاستعانة بفصول من التاريخ. يعطي موريتّي الانطباع بأنه يفتقد الماضي، حيث الحياة كانت أفضل ويجب العودة اليها. خطاب لا يليق بسخريته ويضفي على الفيلم الكثير من الخفّة.

فيلم إسباني خاص جداً، "مخلوق" لإيلينا مارتن، عُرض في قسم "اسبوعا المخرجين". يحاول الفيلم النظر في موضوع الجسد والجنس والرغبات. راديكالي في طرحه ومبتكر في معالجته، اذ يعرّفنا في البداية الى ميلا (كلارا سيغورا)، ثم يعود أدراجه إلى مراحل سابقة من حياتها. فكي نفهم حالتها اليوم، علينا ان نعود إلى الماضي ونفك الشيفرة ونعي مراحل تطوّر الأحداث التي مرت بها، فأوصلتها إلى ما هي عليه. كلّ شيء في الفيلم طازج وروحه مغايرة، حتى لو لم تكن الفكرة جديدة.

مَن يقف خلف الكاميرا سيدة، إيلينا مارتن، وعلى الأرجح يستلهم الفيلم قصّتها أو تجربتها. لم أرد ان أتأكد من المعلومة، لأن هذا لن يغيّر شيئاً في تلقيّ للفيلم ولاعتباري ان القصّة شخصية. فكلّ القصص شخصية. الاسلوب الذي ترى من خلاله هو الذي يجعلها شخصية. فبقدر ما لا تحتاج إلى ان تكتب سيناريو فيلمك كي تكون مؤلفاً، أنت لا تحتاج إلى ان تتحدّث عن نفسك لإنجاز فيلم مستوحى من سيرتك.

البطلة هنا ثلاثينية. اسمها ميلا، إسبانية سمراء ظريفة. علاقتها بجسدها فيها اشكاليات منذ الطفولة. هذا ما يكشفه لنا مشهد سريع وهي على السرير في بيت أهلها تداعب نفسها بعدما اكتشفت مناطقها الحساسة. تمر السنوات، وأثناء ممارسة الجنس مع حبيبها خلال عطلة في كوستا برافا، تتغيّر تصرفاتها فجأةً. تصبح عدائية، محاولةً استحضار تفاصيل تثيرها جنسياً. هذه تفاصيل تفقد معناها، اذ ان الكلام عنها لا يوفي الفيلم حقّه. الفيلم يستحق ان يُشاهَد تحديداً لهذا النمط الحسّي الذي ينطوي عليه ولا يخضع في أي لحظة إلى الاستسهال. لا شيء متوقّعاً هنا، الأشياء تلد من نفسها، وهناك دائماً مفاجأة تنتظرنا خلف الباب.

تقوم المخرجة بالتحدّي الأصعب: اسناد البطولة إلى شخصية رئيسية لا نستظرفها دائماً، خصوصاً في علاقتها مع صديقها الذي ضاع معها وما عاد يعرف كيف يتصرف. في الأخير، هذا فيلم بطولة فتاة مدللة تصفّي حساباتها مع كلّ شيء، وتبحث عمّن تحمّله أسباب محنتها ومشاكلها الجنسية، ويزعجها ألا تجد تلك الشمّاعة بسهولة. ما يصنع جمال الفيلم ليس السيناريو فحسب، بل الصدق الذي ينبع منه. تتعرى المخرجة بالكامل في نمط سينمائي حميمي لا يترك المكان للمخيلة، بل يوظّف ذلك العري الروحي والجسدي للعلاج. هناك مشهد جميل جداً يجمع ميلا بوالدها، محرج للغاية وجميل للغاية. انها محاولة فهم، لكن كلّ كلمة تضيف طبقة جديدة من الغموض لتؤكد ان اللبس واللغط هما من صلب الطبيعة البشرية، وربما علينا ان نترك بعض الأشياء بلا شرح. هذا فيلم عن العلاقات والحبّ والحرية والنضج والطفولة، لكن من وجهة نظر فتاة تبحث عن نفسها وتحاول ان تفهم ذاتها في ظل العائلة والأصدقاء والوعي على الجنس والمشاعر. ولأن رحلة اكتشاف الذات هي أهم رحلة يمكن ان يقوم بها الإنسان، هناك مادة للعديد من الأفلام في فيلم واحد.

لا نعرف إلى الآن كيف سيتعامل رئيس لجنة التحكيم المخرج السويدي روبن أوستلوند مع "شغف دودان بوفان" للفرنسي الفيتنامي تران أن هونغ، وهو واحد من أجمل أفلام المسابقة. فهذا العمل المصوَّر بكلاسيكية يتحدّث عن فنّ الطبخ وروعته، في نمط يقع على مسافة سنوات ضوئية من أسلوب أوستلوند الهدّام الذي جعله يقدّم أثرياء يتقيوؤن طعاماً مشابهاً خلال رحلتهم السياحية في "مثلّث الحزن"، الكوميديا السوداء التي نال عنها "السعفة الذهب" العام الماضي. في أي حال، ثمّة سينمائيون يميلون إلى إسناد جوائز إلى أفلام هي نقيض أفلامهم، وقد يكون أوستلوند منهم. فالفيلم، رغم أنه سيقسم النقّاد، بين محبّ وكاره، مرشّح قوي لإحدى الجوائز، منها جائزة التمثيل الذي يستحقّه بجدارة بونوا ماجيميل.

وماجيميل يلعب دور دودان بوفان، الطبّاخ ومتذوّق الطعام الذي يمضي أيامه في بيته الريفي الجميل وهو يحضر ما لذّ وطاب من مأكولات تنتمي إلى المطبخ الرفيع. برفقة أوجيني (جولييت بينوش) الطبّاخة الماهرة التي تعيش تحت سقفه منذ عقدين، يستسلم لشغفه في إيجاد وصفات جديدة ومناقشتها مع أربع من أصدقائه الدائمين. المطبخ في نظره فنّ وفلسفة وشعر ونمط حياة وثقافة تغذّي الذاكرة وترفع الروح.

في موازاة الكلام عن المأكل والمشرب، ثمّة علاقة غير اعتيادية تربط دودان بإوجيني؛ هي تريد أن تبقى علاقتهما خارج إطار الزواج رغبةً منها في الحفاظ على حريتها واستقلاليتها. هذه العلاقة يصوّرها المخرج كما لو كانت تحضيراً لطبق نادر. يتعامل معها بنعومة شديدة، ويجب القول إن ماجيميل وبينوش خُلقا للدور، فهما ليسا رقيقين فحسب بل أيضاً متذوّقان رفيعان للطبخ.

يصعب التغافل عن نقيض هذا الفيلم الذي أحدث صدمة في كانّ قبل نصف قرن بالتمام، ونعني به "الوليمة الكبرى" لماركو فيريري، الذي يصوّر بورجوازيين يأكلون حد التخمة. فيلم هونغ يبعدنا من كلّ الالتزامات، محرراً إيانا من كلّ القضايا التي تلقي بظلالها على موضوع الأكل في زمننا الحالي، وقد يشكّل في هذا المجال كابوساً لاختصاصيي التغذية، لأنه يحتفل بكلّ ما بات خطراً ومستبعداً عن موائدنا.

 

####

 

مايكل دوغلاس الفائز بـ"سعفة" تكريمية في كانّ 76:

الممثّل الذي تجاوز طيف الأب

هوفيك حبشيان

يصعب الحديث عن مايكل دوغلاس، الممثّل والمنتج، من دون ذكر والده كيرك، الفنّان الهوليوودي الكبير الذي عاش أكثر من مئة عام ولعب أدوار سبارتاكوس وفان غوغ والجنرال في "دروب المجد" وغيرها من الأدوار التي بقيت في أذهان المشاهدين. عاش كيرك الحياة على أوسع نطاق، ويُعتبر من رموز العصر الذهب للسينما الأميركية. ظلّ طيف الأب حاضراً بقوة على كتف مايكل، مع ما يترتّب عليه من مسؤوليات ومستوى توقّعات لا يجوز الهبوط تحته. هذا الظلّ الذي عانى منه كثر عرف مايكل كيف يوظّفه لمصلحته، فتخلّص باكراً من عقدة "هذا ابن فلان"، حد ان "السعفة" الفخرية التي لم تُسند يوماً إلى والده نالها مايكل في ليلة افتتاح هذه الدورة من مهرجان كانّ السينمائي (16 - 27 الجاري).

الهدف من اعطاء مايكل دوغلاس (78 عاماً)، صاحب الـ"أوسكارين" وستّ "غولدن غلوب"، هذه "السعفة الفخرية" التي أُعطيت سابقاً لأمثال مانويل دو أوليفيرا وجان بيار ليو وأنييس فاردا وغيرهم، هو، بحسب المهرجان، "رد اعتبار إلى مسيرة فنية بارعة والتزام سينمائي"، علماً ان الرجل كان جاء إلى كانّ للمرة الأولى في العام 1979 ليشارك في عرض "متلازمة الصين" إخراج جيمس بريدجز (الفيلم الذي جمعه بجاك لامون وجاين فوندا)، أما آخر مشاركة له فيه فكان يوم قدّم "خلف الشمعدان" قبل عشر سنين، وبين التاريخين العديد من الأعمال التي كرّسته ممثّلاً يجيد اختيار أدواره.

مايكل دوغلاس الذي يصعب التصديق بأنه بات على مشارف الثمانين، هو أكبر الأولاد الأربعة الذين رزق بهم كيرك، وكانت بداياته في الستينات حين كان لا يزال شاباً يتسكّع في بلاتوهات والده. بداياته الفعلية كممثّل جاءت مع تسلّمه دور المفتّش ستيف كيللر في مسلسل "شوارع سان فرنسيسكو" الذي استمر بين 1972 و1977. باكراً، انخرط دوغلاس في السينما بصفته منتجاً، ولم ينتظر الشهرة، كما فعل الكثير من أبناء الجيل الذي تلاه، ليمر إلى خلف الكاميرا. ففي العام 1975، وفي عز انشغاله بالمسلسل الذي شهره، دعم مخرجاً شاباً يأتي من تشيكيا، ميلوش فورمان، في ثاني تجاربه الإخراجية في أميركا، فكان "طيران فوق عش الوقواق" الذي أنتجه دوغلاس ونال عنه جائزة "أوسكار" أفضل منتج.

حكاية إنتاج الفيلم طويلة، وفي الواقع كيرك هو الذي كان المبادر الأول، اذ كان اشترى حقوق اقتباس الكتاب، الا ان الشخصية الانقلابية في الرواية منعته آنذاك من إيجاد تمويل، وبدلاً من نقله إلى الشاشة، حوّل الكتاب مع بعض التعديلات إلى مسرحية لعب فيها دور ماك مرفي طوال ستّة أشهر.

الا ان الاقبال الجماهيري كان ضعيفاً. وخلال زيارة له إلى تشيكيا، التقى فورمان، وبعد مشاهدة أفلامه صارحه برغبته في ان يسند إليه مهمّة أفلمة الرواية، ووعده بأن يرسل نسخة منها إليه، الا ان النسخة المرسلة صادرها الأمن، فاعتقد كيرك أنه غير مهتم بالمشروع. الا ان هجرة فورمان إلى أميركا بعد ربيع براغ 1968، جعلته يتسلّم المشروع مجدداً، لكن هذه المرة كان مايكل هو الذي تسلّم زمام الأمور. هذا ما قاله مايكل دوغلاس عن فورمان بعد موت الأخير: "كان خسارة فاضحة. رحيله ذكّرني فجأةً كم اننا نشيخ جميعاً. تذكّرتُ عندما كنّا، المنتج سول سانتز وأنا، نجري مقابلات للعثور على مخرج لـ"طيران فوق عش الوقواق"، وكنّا نشعر بالخيبة، لأن أحداً لم يكن يشاركنا أي شيء من أفكاره. ثم جاء فورمان، وفتح السيناريو، وصار يقلّب صفحة تلو صفحة، ويقول لنا ماذا ينوي فعله بها. كنّا متحمّسين جداً".

ويبدو ان كيرك كان جعل هذا الكتاب مرجعاً أخلاقياً له، اذ عندما سأل صحافي مايكل عن النصيحة التي أسداها والده النيه عندما انطلق في مسيرته، كان ردّه: "نصيحته الوحيدة كانت نوعاً ما فلسفة ماك مرفي وهي: إفعل ما في وسعك، حاول إلى أقصى حدّ، ثم تباً! الفكرة هي الآتية: اعط كلّ ما تملكه، توفقتَ أو لا، انتقل إلى شيء آخر".

بيد ان أفضل فترة عند مايكل دوغلاس التي وصل فيها إلى ذروة فنّه، هي بين منتصف الثمانينات وأواخر التسعينات، قدّم خلالها أفلاما حملت أجواء وأفكار ومناخ تلك الفترة، أفلاما مشغولة بحرفية عالية، ترفيهية لكن تحترم عقل المُشاهد، بعيدة كلّ البُعد عن الطهرانية التي تسيطر على هوليوود حالياً. عند الحديث عن هذه الفترة، تحضرني ثلاثة أفلام: "مغازلة الحجر" لروبرت زيميكيس، فيلم مغامرات من الطراز الرفيع، أضحى مع الوقت من الكلاسيكيات، حيث يضطلع دوغلاس بدور المغامر جاك كولتون إلى جانب كاثلين ترنر، ويجدان نفسيهما داخل عالم مشوّق، بحثاً عن حجر نادر. في "جاذبية قاتلة" لأدريان لاين، المعروف بأفلامه التي تدفع بالإيروسية إلى الأقصى، علاقة جنسية عابرة بين محام متزوج ورب عائلة (دوغلاس) وناشرة عزباء (غلين كلوز) تتحوّل إلى كابوس. دائماً في العش المنزلي، لكن على نحو مغاير تماماً عن فيلم لاين، أنجز الممثّل داني دو فيتو "حرب آل روز"، مسنداً الدور الرئيسي فيه إلى دوغلاس. الفيلم كوميديا سوداء تجمع الثلاثي الذي نجح في "مغازلة الحجر". ويروي النزاع على الممتلكات بين زوجين من البورجوازية الأميركية اثر نشوب خلاف بينهما. فيلم آخر يحمل بصمة الحقبة التسعيناتية: "اللعبة" لديفيد فينتشر، عن رجل أربعيني (دوغلاس) حياته منظّمة على نحو لا يتوقّع حدوث أي مفاجأة فيها، الا ان أخاه سيهدي إليه لعبة مفخخة لا أحد يستطيع إيقافها فور انطلاق مفعولها.

وكيف يمكن ان ننسى "غريزة أساسية" لبول فرهوفن في مطلع التسعينات؟ دوغلاس يلعب فيه دور شرطي يجري تحقيقات عن مقتل نجم موسيقى روك، الا انه يستسلم لاغراء المتهمة الأولى في القضية (شارون ستون). رغم حذف الرقابة بعض المشاهد منه، فالإيرادات التي حققها الفيلم أطلقت موضة الثريللر الإيروسي الذي أصبح شبه غائب عن الشاشات اليوم. الفيلم افتتح مهرجان كانّ، الدورة الخامسة والأربعين، دافعاً بستون إلى النجومية.

سنوات الألفين كانت زمن التغيير في مسيرة دوغلاس. فبعد أعمال حقّقت إيرادات ضخمة في شبّاك التذاكر، عاد إلى أفلام مستقلّة مفتتحاً الألفية الثالثة بأفلام مثل "وندر بويز" لكرتيس هانسون و"ترافيك" لستيفن سادربرغ. في الأول، يؤدي دوغلاس دور غرادي تريب، مدرّس لا يستطيع ان يروي غليل نزواته ككاتب بورجوازي. يصل إلى مرحلة معينة من حياته، فيغويه عدم الاستقرار الاجتماعي ويصبح على شفير "الانحراف". أما الثاني، "ترافيك"، الذي يجمع خافيير (بينيتشيو دل تورو) بروبرت واكفيلد (دوغلاس) بهيلينا (كاثرين زيتا جونز التي ستصبح زوجته في ما بعد)، فبنى من خلاله سادربرغ نوعاً من منصّة، تجعل الشخصيات تلتقي من دون ان تتلاقى فعلاً! عبر مزجه المأزق الجماعي بالمأزق الفردي، والمَشاهد الأكثر جاذبيةً بمشاهد التحقيقات التي تنتمي إلى الفيلم الوثائقي، صنع سادربرغ فيلماً جافاً، مريراً، صارماً، عن المخدرات.

عام 2010، عاد دوغلاس إلى الدور الذي حصل عنه على "أوسكار" أفضل ممثّل: غوردون غيكو. وذلك في تتمّة "وول ستريت" لأوليفر ستون، الفيلم الذي صنع مجده في الثمانينات. يخرج غيكو من السجن، في بداية الفيلم، حيث كان دخله لمدة ثماني سنوات بعد اتهامه بالاحتيال والغش، ليعود مرة أخرى الى نشاطه في بورصة وول ستريت. في مواجهته هذه المرة ابنته التي لم تسأل عنه طوال سنوات سجنه، وأيضاً خطيبها، الشاب اللامع الذي جعل أحد كبار أقطاب البورصة يجني أرباحاً كبيرة قبل أن ينتحر بسبب تعرضه لانتكاسة مالية.

"خلف الشمعدان" (2013) لستيفن سادربرغ هو آخر فيلم حضر به دوغلاس إلى كانّ. ليبراتشي (1919 ــ 1987) واحد من أهم رموز الموسيقى في الولايات المتحدة. كان عازفاً عبقرياً لديه طريقة خاصة جداً في تقديم فنّه إلى الجمهور، أصابعه تضغط على مفاتيح البيانو، ولا يتأخر عن وقف العزف لمحادثة الناس. فيلم يُشاهَد بلا ملل، بيد ان نقطة قوّته هي مايكل دوغلاس الذي قدّم أداء متماسكاً لا يُنسى.

 

####

 

مهرجان كانّ 76: موريتّي يرد على اليمين في فيلم مخيّب:

المطبخ الرفيع شعرٌ وثقافة أمام كاميرا الفرنسي الفيتنامي

كانّ - هوفيك حبشيان

يحملنا المخرج الإيطالي #نانّي موريتّي إلى الماضي، في جديده، "#شمس المستقبل"، المعروض داخل مسابقة الدورة السادسة والسبعين ل#مهرجان كانّ ال#سينمائي (16 - 27 أيار)، لكن من خلال تقنية "فيلم داخل فيلم"، وبنرجسية عالية، وخطاب يدير ظهره إلى الواقع، حيث يلعب دور مخرج يحاول تصوير فيلم عن الحزب الشيوعي الإيطالي لحظة انشقاقه عن الاتحاد السوفياتي بعد الانتفاضة المجرية في العام 1956. يغازل موريتّي الشيوعية، واقفاً في وجه الستالينية، في نوع من جواب على سيطرة اليمين المتطرف في بلاده إيطاليا. لكن الفيلم كله بدا قديماً ومفتعلاً، يعيد تدوير كلّ ما صنع أهمية موريتّي منذ بداياته. حتى الملصق هو استحداث (سكوتر كهربائي بدلاً من الدراجة النارية) لـ"مفكرتي العزيزة" الذي صنع شهرته الدولية. هذا كله كان سبب خيبة أمل جديدة من موريتي الذي لم تحلّق أفلامه الأخيرة عالياً في فضاء السينما.

الحكاية بسيطة: جيوفانّي (موريتّي) مخرج على قدر من الشهرة، يحاول تصوير فيلم من إنتاج زوجته (مارغريت بوي) التي يعيش ويعمل معها منذ أربعين عاماً. الفيلم يدور على شيوعيين على علاقة غرامية أحدهما بالآخر، يستضيفان سيركاً في روما خلال انتفاضة المجر، وعليهما أخد موقف أخلاقي وسياسي سريع ممّا يحدث هناك. لكن على جيوفانّي ان يحلّ العديد من المشاكل أيضاً، بعضها شخصي الطابع، كعلاقته بزوجته التي أشرفت على نهايتها، وعلاقة ابنته برجل يكبرها سناً. أما المنتج الفرنسي (ماتيو أمالريك) لفيلمه، فهو مفلس، ما يهدد مصير المشروع ككل. ورغم كلّ هذه المشاكل، يجد جيوفانّي بعض الوقت ليزور موقع تصوير مخرج آخر تنتج زوجته أول أفلامه، ولا يتوانى عن اعطائه بعض الملاحظات، منظّراً حتى في مسألة العنف السينمائي، في واحد من المشاهد التي لم يُوفَّق موريتّي فيها، اذا نظرنا اليها من زاوية الصدقية، مثلما لم يكن موفقاً أيضاً في مشهد اجتماعه بمسؤولين في "نتفليكس" التي "تبث في 190 دولة”.

مع "شمس المستقبل"، أنجز موريتي فيلماً لا يمكن النظر اليه الا كرد فعل صريح ومبالغ فيه على كلّ ما يعيشه من حوله في السياسة والسينما، ويأتي هذا نتيجة رغبته في تسجيل بعض المواقف الضرورية وتذكيرنا بالبديهيات، التي قد لا نختلف معها كثيراً، لكن السينما لا تحب البيانات والخطابات الرنانة، خصوصاً اذا كان الهدف منها إثارة ضحكة صفراء تهكمية، وفي النهاية لا تسرق منّا الا بعض الابتسامات على عجل، على سبيل التهذيب واحترام جهد سينمائي قدير. موريتّي كان أظرف عندما لم يكن يتوقع شيئاً، ولم يكن بهذه المباشرة المزعجة، وبهذا النضال ضد كلّ ما يخالفه. وكان أكثر تماسكاً عندما كان يشك في احتمالات التغيير. اليقين قاتل. اليوم، بات يبث الأمل عبر الاستعانة بفصول من التاريخ. يعطي موريتّي الانطباع بأنه يفتقد الماضي، حيث الحياة كانت أفضل ويجب العودة اليها. خطاب لا يليق بسخريته ويضفي على الفيلم الكثير من الخفّة.

فيلم إسباني خاص جداً، "مخلوق" لإيلينا مارتن، عُرض في قسم "اسبوعا المخرجين". يحاول الفيلم النظر في موضوع الجسد والجنس والرغبات. راديكالي في طرحه ومبتكر في معالجته، اذ يعرّفنا في البداية الى ميلا (كلارا سيغورا)، ثم يعود أدراجه إلى مراحل سابقة من حياتها. فكي نفهم حالتها اليوم، علينا ان نعود إلى الماضي ونفك الشيفرة ونعي مراحل تطوّر الأحداث التي مرت بها، فأوصلتها إلى ما هي عليه. كلّ شيء في الفيلم طازج وروحه مغايرة، حتى لو لم تكن الفكرة جديدة.

مَن يقف خلف الكاميرا سيدة، إيلينا مارتن، وعلى الأرجح يستلهم الفيلم قصّتها أو تجربتها. لم أرد ان أتأكد من المعلومة، لأن هذا لن يغيّر شيئاً في تلقيّ للفيلم ولاعتباري ان القصّة شخصية. فكلّ القصص شخصية. الاسلوب الذي ترى من خلاله هو الذي يجعلها شخصية. فبقدر ما لا تحتاج إلى ان تكتب سيناريو فيلمك كي تكون مؤلفاً، أنت لا تحتاج إلى ان تتحدّث عن نفسك لإنجاز فيلم مستوحى من سيرتك.

البطلة هنا ثلاثينية. اسمها ميلا، إسبانية سمراء ظريفة. علاقتها بجسدها فيها اشكاليات منذ الطفولة. هذا ما يكشفه لنا مشهد سريع وهي على السرير في بيت أهلها تداعب نفسها بعدما اكتشفت مناطقها الحساسة. تمر السنوات، وأثناء ممارسة الجنس مع حبيبها خلال عطلة في كوستا برافا، تتغيّر تصرفاتها فجأةً. تصبح عدائية، محاولةً استحضار تفاصيل تثيرها جنسياً. هذه تفاصيل تفقد معناها، اذ ان الكلام عنها لا يوفي الفيلم حقّه. الفيلم يستحق ان يُشاهَد تحديداً لهذا النمط الحسّي الذي ينطوي عليه ولا يخضع في أي لحظة إلى الاستسهال. لا شيء متوقّعاً هنا، الأشياء تلد من نفسها، وهناك دائماً مفاجأة تنتظرنا خلف الباب.

تقوم المخرجة بالتحدّي الأصعب: اسناد البطولة إلى شخصية رئيسية لا نستظرفها دائماً، خصوصاً في علاقتها مع صديقها الذي ضاع معها وما عاد يعرف كيف يتصرف. في الأخير، هذا فيلم بطولة فتاة مدللة تصفّي حساباتها مع كلّ شيء، وتبحث عمّن تحمّله أسباب محنتها ومشاكلها الجنسية، ويزعجها ألا تجد تلك الشمّاعة بسهولة. ما يصنع جمال الفيلم ليس السيناريو فحسب، بل الصدق الذي ينبع منه. تتعرى المخرجة بالكامل في نمط سينمائي حميمي لا يترك المكان للمخيلة، بل يوظّف ذلك العري الروحي والجسدي للعلاج. هناك مشهد جميل جداً يجمع ميلا بوالدها، محرج للغاية وجميل للغاية. انها محاولة فهم، لكن كلّ كلمة تضيف طبقة جديدة من الغموض لتؤكد ان اللبس واللغط هما من صلب الطبيعة البشرية، وربما علينا ان نترك بعض الأشياء بلا شرح. هذا فيلم عن العلاقات والحبّ والحرية والنضج والطفولة، لكن من وجهة نظر فتاة تبحث عن نفسها وتحاول ان تفهم ذاتها في ظل العائلة والأصدقاء والوعي على الجنس والمشاعر. ولأن رحلة اكتشاف الذات هي أهم رحلة يمكن ان يقوم بها الإنسان، هناك مادة للعديد من الأفلام في فيلم واحد.

لا نعرف إلى الآن كيف سيتعامل رئيس لجنة التحكيم المخرج السويدي روبن أوستلوند مع "شغف دودان بوفان" للفرنسي الفيتنامي تران أن هونغ، وهو واحد من أجمل أفلام المسابقة. فهذا العمل المصوَّر بكلاسيكية يتحدّث عن فنّ الطبخ وروعته، في نمط يقع على مسافة سنوات ضوئية من أسلوب أوستلوند الهدّام الذي جعله يقدّم أثرياء يتقيوؤن طعاماً مشابهاً خلال رحلتهم السياحية في "مثلّث الحزن"، الكوميديا السوداء التي نال عنها "السعفة الذهب" العام الماضي. في أي حال، ثمّة سينمائيون يميلون إلى إسناد جوائز إلى أفلام هي نقيض أفلامهم، وقد يكون أوستلوند منهم. فالفيلم، رغم أنه سيقسم النقّاد، بين محبّ وكاره، مرشّح قوي لإحدى الجوائز، منها جائزة التمثيل الذي يستحقّه بجدارة بونوا ماجيميل.

وماجيميل يلعب دور دودان بوفان، الطبّاخ ومتذوّق الطعام الذي يمضي أيامه في بيته الريفي الجميل وهو يحضر ما لذّ وطاب من مأكولات تنتمي إلى المطبخ الرفيع. برفقة أوجيني (جولييت بينوش) الطبّاخة الماهرة التي تعيش تحت سقفه منذ عقدين، يستسلم لشغفه في إيجاد وصفات جديدة ومناقشتها مع أربع من أصدقائه الدائمين. المطبخ في نظره فنّ وفلسفة وشعر ونمط حياة وثقافة تغذّي الذاكرة وترفع الروح.

في موازاة الكلام عن المأكل والمشرب، ثمّة علاقة غير اعتيادية تربط دودان بإوجيني؛ هي تريد أن تبقى علاقتهما خارج إطار الزواج رغبةً منها في الحفاظ على حريتها واستقلاليتها. هذه العلاقة يصوّرها المخرج كما لو كانت تحضيراً لطبق نادر. يتعامل معها بنعومة شديدة، ويجب القول إن ماجيميل وبينوش خُلقا للدور، فهما ليسا رقيقين فحسب بل أيضاً متذوّقان رفيعان للطبخ.

يصعب التغافل عن نقيض هذا الفيلم الذي أحدث صدمة في كانّ قبل نصف قرن بالتمام، ونعني به "الوليمة الكبرى" لماركو فيريري، الذي يصوّر بورجوازيين يأكلون حد التخمة. فيلم هونغ يبعدنا من كلّ الالتزامات، محرراً إيانا من كلّ القضايا التي تلقي بظلالها على موضوع الأكل في زمننا الحالي، وقد يشكّل في هذا المجال كابوساً لاختصاصيي التغذية، لأنه يحتفل بكلّ ما بات خطراً ومستبعداً عن موائدنا.

 

####

 

مايكل دوغلاس الفائز بـ"سعفة" تكريمية في كانّ 76:

الممثّل الذي تجاوز طيف الأب

هوفيك حبشيان

يصعب الحديث عن مايكل دوغلاس، الممثّل والمنتج، من دون ذكر والده كيرك، الفنّان الهوليوودي الكبير الذي عاش أكثر من مئة عام ولعب أدوار سبارتاكوس وفان غوغ والجنرال في "دروب المجد" وغيرها من الأدوار التي بقيت في أذهان المشاهدين. عاش كيرك الحياة على أوسع نطاق، ويُعتبر من رموز العصر الذهب للسينما الأميركية. ظلّ طيف الأب حاضراً بقوة على كتف مايكل، مع ما يترتّب عليه من مسؤوليات ومستوى توقّعات لا يجوز الهبوط تحته. هذا الظلّ الذي عانى منه كثر عرف مايكل كيف يوظّفه لمصلحته، فتخلّص باكراً من عقدة "هذا ابن فلان"، حد ان "السعفة" الفخرية التي لم تُسند يوماً إلى والده نالها مايكل في ليلة افتتاح هذه الدورة من مهرجان كانّ السينمائي (16 - 27 الجاري).

الهدف من اعطاء مايكل دوغلاس (78 عاماً)، صاحب الـ"أوسكارين" وستّ "غولدن غلوب"، هذه "السعفة الفخرية" التي أُعطيت سابقاً لأمثال مانويل دو أوليفيرا وجان بيار ليو وأنييس فاردا وغيرهم، هو، بحسب المهرجان، "رد اعتبار إلى مسيرة فنية بارعة والتزام سينمائي"، علماً ان الرجل كان جاء إلى كانّ للمرة الأولى في العام 1979 ليشارك في عرض "متلازمة الصين" إخراج جيمس بريدجز (الفيلم الذي جمعه بجاك لامون وجاين فوندا)، أما آخر مشاركة له فيه فكان يوم قدّم "خلف الشمعدان" قبل عشر سنين، وبين التاريخين العديد من الأعمال التي كرّسته ممثّلاً يجيد اختيار أدواره.

مايكل دوغلاس الذي يصعب التصديق بأنه بات على مشارف الثمانين، هو أكبر الأولاد الأربعة الذين رزق بهم كيرك، وكانت بداياته في الستينات حين كان لا يزال شاباً يتسكّع في بلاتوهات والده. بداياته الفعلية كممثّل جاءت مع تسلّمه دور المفتّش ستيف كيللر في مسلسل "شوارع سان فرنسيسكو" الذي استمر بين 1972 و1977. باكراً، انخرط دوغلاس في السينما بصفته منتجاً، ولم ينتظر الشهرة، كما فعل الكثير من أبناء الجيل الذي تلاه، ليمر إلى خلف الكاميرا. ففي العام 1975، وفي عز انشغاله بالمسلسل الذي شهره، دعم مخرجاً شاباً يأتي من تشيكيا، ميلوش فورمان، في ثاني تجاربه الإخراجية في أميركا، فكان "طيران فوق عش الوقواق" الذي أنتجه دوغلاس ونال عنه جائزة "أوسكار" أفضل منتج.

حكاية إنتاج الفيلم طويلة، وفي الواقع كيرك هو الذي كان المبادر الأول، اذ كان اشترى حقوق اقتباس الكتاب، الا ان الشخصية الانقلابية في الرواية منعته آنذاك من إيجاد تمويل، وبدلاً من نقله إلى الشاشة، حوّل الكتاب مع بعض التعديلات إلى مسرحية لعب فيها دور ماك مرفي طوال ستّة أشهر.

الا ان الاقبال الجماهيري كان ضعيفاً. وخلال زيارة له إلى تشيكيا، التقى فورمان، وبعد مشاهدة أفلامه صارحه برغبته في ان يسند إليه مهمّة أفلمة الرواية، ووعده بأن يرسل نسخة منها إليه، الا ان النسخة المرسلة صادرها الأمن، فاعتقد كيرك أنه غير مهتم بالمشروع. الا ان هجرة فورمان إلى أميركا بعد ربيع براغ 1968، جعلته يتسلّم المشروع مجدداً، لكن هذه المرة كان مايكل هو الذي تسلّم زمام الأمور. هذا ما قاله مايكل دوغلاس عن فورمان بعد موت الأخير: "كان خسارة فاضحة. رحيله ذكّرني فجأةً كم اننا نشيخ جميعاً. تذكّرتُ عندما كنّا، المنتج سول سانتز وأنا، نجري مقابلات للعثور على مخرج لـ"طيران فوق عش الوقواق"، وكنّا نشعر بالخيبة، لأن أحداً لم يكن يشاركنا أي شيء من أفكاره. ثم جاء فورمان، وفتح السيناريو، وصار يقلّب صفحة تلو صفحة، ويقول لنا ماذا ينوي فعله بها. كنّا متحمّسين جداً".

ويبدو ان كيرك كان جعل هذا الكتاب مرجعاً أخلاقياً له، اذ عندما سأل صحافي مايكل عن النصيحة التي أسداها والده النيه عندما انطلق في مسيرته، كان ردّه: "نصيحته الوحيدة كانت نوعاً ما فلسفة ماك مرفي وهي: إفعل ما في وسعك، حاول إلى أقصى حدّ، ثم تباً! الفكرة هي الآتية: اعط كلّ ما تملكه، توفقتَ أو لا، انتقل إلى شيء آخر".

بيد ان أفضل فترة عند مايكل دوغلاس التي وصل فيها إلى ذروة فنّه، هي بين منتصف الثمانينات وأواخر التسعينات، قدّم خلالها أفلاما حملت أجواء وأفكار ومناخ تلك الفترة، أفلاما مشغولة بحرفية عالية، ترفيهية لكن تحترم عقل المُشاهد، بعيدة كلّ البُعد عن الطهرانية التي تسيطر على هوليوود حالياً. عند الحديث عن هذه الفترة، تحضرني ثلاثة أفلام: "مغازلة الحجر" لروبرت زيميكيس، فيلم مغامرات من الطراز الرفيع، أضحى مع الوقت من الكلاسيكيات، حيث يضطلع دوغلاس بدور المغامر جاك كولتون إلى جانب كاثلين ترنر، ويجدان نفسيهما داخل عالم مشوّق، بحثاً عن حجر نادر. في "جاذبية قاتلة" لأدريان لاين، المعروف بأفلامه التي تدفع بالإيروسية إلى الأقصى، علاقة جنسية عابرة بين محام متزوج ورب عائلة (دوغلاس) وناشرة عزباء (غلين كلوز) تتحوّل إلى كابوس. دائماً في العش المنزلي، لكن على نحو مغاير تماماً عن فيلم لاين، أنجز الممثّل داني دو فيتو "حرب آل روز"، مسنداً الدور الرئيسي فيه إلى دوغلاس. الفيلم كوميديا سوداء تجمع الثلاثي الذي نجح في "مغازلة الحجر". ويروي النزاع على الممتلكات بين زوجين من البورجوازية الأميركية اثر نشوب خلاف بينهما. فيلم آخر يحمل بصمة الحقبة التسعيناتية: "اللعبة" لديفيد فينتشر، عن رجل أربعيني (دوغلاس) حياته منظّمة على نحو لا يتوقّع حدوث أي مفاجأة فيها، الا ان أخاه سيهدي إليه لعبة مفخخة لا أحد يستطيع إيقافها فور انطلاق مفعولها.

وكيف يمكن ان ننسى "غريزة أساسية" لبول فرهوفن في مطلع التسعينات؟ دوغلاس يلعب فيه دور شرطي يجري تحقيقات عن مقتل نجم موسيقى روك، الا انه يستسلم لاغراء المتهمة الأولى في القضية (شارون ستون). رغم حذف الرقابة بعض المشاهد منه، فالإيرادات التي حققها الفيلم أطلقت موضة الثريللر الإيروسي الذي أصبح شبه غائب عن الشاشات اليوم. الفيلم افتتح مهرجان كانّ، الدورة الخامسة والأربعين، دافعاً بستون إلى النجومية.

سنوات الألفين كانت زمن التغيير في مسيرة دوغلاس. فبعد أعمال حقّقت إيرادات ضخمة في شبّاك التذاكر، عاد إلى أفلام مستقلّة مفتتحاً الألفية الثالثة بأفلام مثل "وندر بويز" لكرتيس هانسون و"ترافيك" لستيفن سادربرغ. في الأول، يؤدي دوغلاس دور غرادي تريب، مدرّس لا يستطيع ان يروي غليل نزواته ككاتب بورجوازي. يصل إلى مرحلة معينة من حياته، فيغويه عدم الاستقرار الاجتماعي ويصبح على شفير "الانحراف". أما الثاني، "ترافيك"، الذي يجمع خافيير (بينيتشيو دل تورو) بروبرت واكفيلد (دوغلاس) بهيلينا (كاثرين زيتا جونز التي ستصبح زوجته في ما بعد)، فبنى من خلاله سادربرغ نوعاً من منصّة، تجعل الشخصيات تلتقي من دون ان تتلاقى فعلاً! عبر مزجه المأزق الجماعي بالمأزق الفردي، والمَشاهد الأكثر جاذبيةً بمشاهد التحقيقات التي تنتمي إلى الفيلم الوثائقي، صنع سادربرغ فيلماً جافاً، مريراً، صارماً، عن المخدرات.

عام 2010، عاد دوغلاس إلى الدور الذي حصل عنه على "أوسكار" أفضل ممثّل: غوردون غيكو. وذلك في تتمّة "وول ستريت" لأوليفر ستون، الفيلم الذي صنع مجده في الثمانينات. يخرج غيكو من السجن، في بداية الفيلم، حيث كان دخله لمدة ثماني سنوات بعد اتهامه بالاحتيال والغش، ليعود مرة أخرى الى نشاطه في بورصة وول ستريت. في مواجهته هذه المرة ابنته التي لم تسأل عنه طوال سنوات سجنه، وأيضاً خطيبها، الشاب اللامع الذي جعل أحد كبار أقطاب البورصة يجني أرباحاً كبيرة قبل أن ينتحر بسبب تعرضه لانتكاسة مالية.

"خلف الشمعدان" (2013) لستيفن سادربرغ هو آخر فيلم حضر به دوغلاس إلى كانّ. ليبراتشي (1919 ــ 1987) واحد من أهم رموز الموسيقى في الولايات المتحدة. كان عازفاً عبقرياً لديه طريقة خاصة جداً في تقديم فنّه إلى الجمهور، أصابعه تضغط على مفاتيح البيانو، ولا يتأخر عن وقف العزف لمحادثة الناس. فيلم يُشاهَد بلا ملل، بيد ان نقطة قوّته هي مايكل دوغلاس الذي قدّم أداء متماسكاً لا يُنسى.

 

النهار اللبنانية في

27.05.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004