في إحدى القراءات الممكنة تتمثل حياة الإنسان في سلسلة
ممتدة من محاولات النجاة من تبعات الخطايا. البشر خطاؤون بطبيعتهم، يرتكبون
الهفوات تباعًا كما يتنفسون، كأفراد وكجماعات، ووحده القدر (ومعه القدرة
على التحمل والموائمة ربما) يجعل الأيام تمر دون أن ندفع أثمان خطايانا،
حتى تأتي اللحظة اللي ينفد فيها رصيدنا من التهرب، ليحل أوان المواجهة
المؤجلة مع كل ما سبق، دفعة واحدة. قد يكون هذا مصدر القول المأثور:
المصائب لا تأتي فرادى.
في فيلمه الروائي الطويل الأول "وداعا جوليا"، المتوج
بجائزة الحرية في مسابقة نظرة ما من مهرجان كان، يحاول المخرج السوداني
محمد كُردفاني تقديم رؤيته السينمائية لما شهده وطنه من أخطاء متراكمة،
سياسية واجتماعية وإنسانية، كنسها جيل بعد جيل تحت البساط، محجمًا عن
التدخل لحل الأمور، وملقيًا بالأزمة على عاتق الأجيال التالية، حتى جاء يوم
محتوم ينقسم فيه البلد اثنين، وربما أكثر كما قد تُلمّح به أيامنا التعيسة.
كلنا عنصريون
بالنسبة لمشاهد أوروبي، بل وحتى لقطاع عريض من المصريين
(المؤمنين إجمالًا ولأسباب غير منطقية بأنهم أقرب للقوقازيين منهم
للأفارقة)، تبدو العنصرية بين رجل أسود وآخر فكرة عبثية بعيدة عن المنطق.
لكن كل من يعرف الواقع سيدرك أن التمايز والتفاخر بلون الجلد حماقة بشرية
أصيلة، ترتكبها كل الفئات حتى من هم فريسة محتملة لعنصرية أشد فتكًا. وفي
الحال السودانية، وتحديدًا في الأسابيع السابقة لاستفتاء انفصال الجنوب
التي تدور فيها أحداث الفيلم، بلغ النزاع العنصري قدرًا فريدًا من التعقيد.
سودان "وداعًا جوليا" منقسم كليًا بين عالمي الشمال
والجنوب. الشمال مسلم الديانة، عربي اللغة والثقافة، سيادي النزعة، وحدوي
التوجه، أكثر ثراءً وأمانًا اجتماعيًا، وقبل ذلك كله صاحب بشرة أقل سوادًا
تجعل الزوج يصف الجنوبيين بالعبيد دون أن يشعر بأي تأنيب ضمير أو حتى ينتبه
لهول الوصف. الجنوب في المقابل مسيحي أفريقي متمرد داكن البشرة، يعيش
أبناءه في ظروف بالغة السوء، آملين في أن يتوج نضالهم بتكوين دولة جديدة لا
يشعرون فيها بأنهم مواطنين من الدرجة الثانية.
قد يتعايش مجتمع مع أثر واحد أو اثنين من تلك الفروق، أو
تسير الأمور عبر التغافل عن بعض أشكال التمييز المقترنة بالموائمة، لكن
تراكم كل ما سبق واختلاطه بالفساد السياسي والقهر الاجتماعي الذي فرضه نظام
البشير، جعل البلد يجلس فوق قنبلة موقوتة، تدور حكاية محمد كُردفاني في
الثواني الأخيرة قبل بلوغ عدّادها الصفر.
شكسبير في الخرطوم
لا نقول إن فهم تعقد السياق السابق شرط مبدئي لمشاهدة
"وداعًا جوليا"، وإن كان بالطبع سيساهم في تعميق تجربة المشاهدة لمن يعلم،
لكن قدر كبير من ذكاء الفيلم يكمن في قدرته على تشريح الوضع وتقديمه بصورة
يمكن فهمها حتى لمن لا يعرف شيئًا عن الوضع السوداني، عبر حكاية مكتوبة
ببراعة، شكسبيرية بامتياز، يتسبب فيها خطأ عابر يقع في لحظة انعدام تركيز،
في إطلاق سلسلة من الأحداث التي تُحدد مصير أسرتين للأبد.
قد تكون قصتنا قد اندلعت بسبب الخطأ الذي ارتكبته منى
(إيمان يوسف) عندما صدمت طفلًا بسيارتها ثم هربت من مطاردة والده، لتترك
رعبها يسيطر عليها ويتسبب في قيام زوجها (نزار جمعة) بإطلاق النار على
الأب، لكن المدهش في سيناريو الفيلم هو قدرتنا الضمنية على إدراك حتمية
وقوع ما جرى، فحتى إن لم تفقد منى تركيزها فتصدم الصبي، وحتى إن قررت
الوقوف ومساعدة الأب في إنقاذه، فإن الوضع كان لينفجر في مكان آخر وموقف
آخر، بغض النظر عن التفاصيل.
عندما قررت منى الفرار تاركةً طفلًا مصابًا نعلم يقينًا
إنها تتعاطف معه فهي تفعل ذلك بدافع شعور عام بالذعر يسيطر عليها وعلى
عالمها، ولمّا يطاردها الأب فهو لا يحاول فقط إيقاف من أصابت ابنه وإنما
يقوم برد فعل ثائر على كل ما عاشه من ظلم وتمييز، وحين يتسرع الزوج فيرديه
قتيلًا فهو لا يبالغ فقط في الدفاع عن النفس، لكنه يعبر عن ميراث عقود من
العنصرية والكراهية المبطنة والخوف المرضي من الآخر.
المؤلم في حكاية "وداعًا جوليا" إذن ليس في كونها أخطاءً
وقعت في لحظة هلع فأدخلت أبطالنا مأساة متكاملة الأركان، وإنما في وعينا
بأن هذه الأخطاء منطقية جدًا، لم يكن من الوارد تفاديها وحماية الشخصيات من
تبعاتها، وأن كارثة هذا العالم ليس في وجود أشخاص أشرار، وإنما في وجود
أشخاص طيبين يضطرون للتصرف بشكل شرير.
أعقد العلاقات
الشعور بالذنب يحكم علاقة منى بجوليا (سيران رياك)، الزوجة
الجنوبية التي تجد نفسها وحيدة وابنها في مواجهة العالم دون أن تدرك حقيقة
ما جرى، ليبني كُردفاني واحدة من أعقد العلاقات الدرامية في السينما
العربية المعاصرة: صداقة وحميمية تحيط بهما الريبة والحذر، ويظللهما يقين
ضاغط بأن الجميع يعيش حلًا مؤقتًا يستحيل دوامه، مجرد استكمال لسياسة تأجيل
الكارثة عدة أيام إضافية.
ما يمنح تلك العلاقة فرادتها ليس فقط مُنطلقها المرتبط
بالحبكة، وإنما ما يكشفه توالي الأحداث من تعقيد إضافي يتعلق بالماضي
والحاضر، فمُنى التي تؤمن أنها على أقصى اليسار الاجتماعي مقارنة بزوجها
تكتشف عنصرية خافتة داخلها ربما لم تنتبه أبدًا لوجودها، والحياة في حيز
مكاني واحد توطد علاقات ملغومة بين المرأتين والطفل والزوج، بشر نحب
تفاعلهم البشري وتقاربهم التدريجي، لكننا على طريقة هيتشكوك نعلم أن هذا
التقارب مجرد تمهيد لساحة المعركة المرتقبة.
بين حتمية المواجهة وأملنا الواهي في معجزة تمنعها تنضج
الحكاية على مهل، ليستفيد محمد كُردفاني للحد الأقصى بالنطاق الواسع لموهبة
بطلتيه اللتين تمثلان للمرة الأولى فتتألقان بشكل ملحوظ، وبقدرات المصوّر
بيير دو فيليه في رسم مرثية بصرية ودرامية لأوهام الوطن الواحد والتعايش
المشترك، وكل المصطلحات جميلة الصياغة التي يكشف الواقع كل يوم قدر خواءها.
الرهاب والشعرية
وبينما تقوم دراما "وداعًا جوليا" على فكرة رهابية بالأساس،
الخوف فيها منبعه اضطرار البشر على أن يعيشوا في مكان واحد ويواجهوا بعضهم
البعض كل صباح وهم يحملون خطايا الماضي، يحوّل الفيلم منزل منى نموذجًا
مصغرًا (ميكروكوزم) للسودان بأكمله، جاعلًا مصير حكاية منى وجوليا يرتبط
جبريًا بمصير البلاد، وهو اختيار يُهدد العمل في كل لحظة بسطحية الشخصيات
الرمزية، لكنه يفلت ببراعة من الفخ في كل مرة، محققًا ذلك المزيج الفريد
الذي يجعلنا نتوقع للفيلم مستقبلًا كبيرًا مع الجوائز والمهرجانات: يُعلّم
مشاهديه الكثير عن السودان، دون أن يتحوّل أبدًا محاضرة نظرية أو ينسى أن
كل شيء بالأساس يرتبط بالحكاية وأبطالها.
وإذا كان منتج الفيلم أمجد أبو العلا قد منحنا قبل أعوام
تحفة بعنوان "ستموت في العشرين"، ذات طبيعة تتناول العالم من مدخل شعري
تأملي، فإن محمد كُردفاني يحاول في "وداعًا جوليا" مطاردة الشعر في الحياة
اليومية، في تكرار الأفعال وما تحمله من دلالات، وكيف يمكن لكل تصرف بسيط
أو لفتة جسدية أن تكون وجهًا لنار محتدمة من المشاعر والأفكار والصراعات
المكتومة، وهو ما يجعل مشاهدة جوليا ومنى فعلًا يشبه ممارسة حياتنا: ممتع
ومؤلم معًا. |