ملفات خاصة

 
 
 

رائعتان سينمائيتان تثيران الفضول في مهرجان كانّ 76:

إريثه في ذروة فنّه وكوريسماكي يعزف على أوتار الحبّ

كانّ - هوفيك حبشيان

كان السينمائي الدولي

السادس والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

عاد المخرج الإسباني #فيكتور إريثه إلى ال#سينما بعد 32 عاماً من الصمت المطبق، بـ"#اغماض العينين"، عمل كبير انتقل معه مستوى العروض في مهرجان كانّ السينمائي (16 - 27 أيار) إلى سقف آخر، إلى درجة ان كثراً تساءلوا مستغربين لماذا لم تُدرج جوهرة كهذه في المسابقة. لم يحضر إريثه العرض، فقد ألغى رحلته إلى كانّ في اللحظة الأخيرة، واكتفى بإرسال تحفته السينمائية المنتظرة. في البدء، شعرنا بالحزن لغياب المعلّم، لكن في نهاية الساعات الثلاث التي استغرقها الفيلم، فهمنا ما المقصود من هذا الغياب الجسدي: فيلم كهذا، الأفضل له ان يُرسَل لا ان يذهب صاحبه إلى المهرجان ليقدّمه ويشرحه ويضيف كلاماً عليه. "اغماض العينين" يحكي عن نفسه بنفسه، ولا حاجة إلى تعليق. قبل العرض، كانت انتشرت شائعات تدعي ان الفيلم سقطة في مسيرة المعلّم بعد سنوات من الاعتكاف، لكن العرض وضع حداً لكلّ هذا الهذيان. فلا يزال إريثه في القمّة، أعلى من أي فنّان آخر، رغم بلوغه الثالثة والثمانين. أسألوا السينمائيين الذين حضروا العرض. الياباني كوريه إيدا، المشارك في المسابقة، ظلّ يصفّق إلى آخر لحظة.

فيلم سينمائي لم يكتمل تصويره، هو محور "اغماض العينين"، وهذا يعني ان إريثه، المهووس بالفنّ السابع، يحملنا مجدداً إلى السينما، لا بل إلى معبدها، أي الصالة في زمن اندثارها. صاحب "روح خلية النحل" الذي افتتح سينماه بمشهد أطفال يشاهدون فيلماً لفرنكنشتاين في احدى القرى الإسبانية بعد الحرب الأهلية، يدخلنا مجدداً إلى السينما، وكأنه يلفّ لفّة كاملة ليركن في المكان الذي بدأ منه. لكن، ثمة فرق كبير بين السبعينات واليوم. فرق كبير بين ان تنجز فيلماً وأنت تنظر إلى الأمام وان تنجز فيلماً وأنت تنظر إلى الخلف. مع التشديد على ان إريثه ينظر في أكثر من اتجاه.

مخرج يُدعى ميغيل (مانولو سولو) هو صاحب الفيلم غير المكتمل، وها بعد عقدين تأتيه صحافية تحاول اعادة فتح ملف خوليو (خوسيه كورونادو)، الممثّل الرئيسي الذي كان اختفى خلال التصوير، ممّا أدى إلى عدم اكماله. ماذا حلّ بخوليو الذي اختفى تماماً رغم انه لم يتم العثور على جثّته إلى الآن؟ أين ذهب؟ ما هي ظروف اختفائه؟ غموض ما بعده غموض يلف هذه الحكاية. البرنامج التلفزيوني الذي يحاول إثارة القضية يُشعِر ميغيل بالملل والاستغلال، فيتولّى التحقيق بنفسه. يعود إلى ماضيه، ينبش في دفاتره القديمة. انها لحظة اعادة نظر في كلّ شيء بعدما تجاوز منتصف العمر: في الذات والآخرين وفي الرحلة التي قام بها. ماذا فعل في الفرص التي أُعطيت له؟ هذه لحظة تحوّل، جردة حساب، كلّ شيء يعصف في روح ميغيل دفعة واحدة. أما خوليو، فهذه قضية أخرى، أعقد بكثير. انه أنا ميغيل الأخرى. تجرأ على ما لم يتجرأ عليه ميغيل. هل سيجده أم انه مات؟ سؤال وحدها المشاهدة توفّر اجابة عنه.

الفيلم ساحر منذ أول لقطة حتى الذروة السينمائية التي يحملنا اليها إريثه في الخاتمة التي باتت من الكلاسيكيات، منذ عرضه الأول مساء الإثنين الماضي. ثلاث ساعات لا نشعر بحضورها الثقيل على أرواحنا. نحس بالزمن طبعاً، وهذا المطلوب. لأن السينما معادلة محسوسة بين الزمن والفضاء. ولكن نشعره مثلما كنّا نشعره عند أنغلوبولوس الذي يتشارك إريثه معه بعض الأمور. أسلوب إريثه متمهّل، يقظ، شاعري، يبحر عكس التيارات السينمائية كلها، يتعذّر التصنيف. هذا نصّ خلاب عن الذاكرة والفرص الضائعة وهاجس الفنّان الذي يبدأ بـ"ماذا لو؟".

لا يمكن مشاهدة الفيلم من دون التفكير في صاحبه الفنّان نظراً إلى التقاطعات مع شخصه: هذا العملاق الذي اكتفى بثلاثة أفلام طوال أكثر من خمسين عاماً، تفوّه عند الحاجة فقط لا بحثاً عن شهرة. كلّ لقطة في سينماه نابعة من إحساس، وكلّ كلمة نتيجة تجربة حياة. نفكّر في إريثه أيضاً لأن البطل هنا مخرج، يحاول احياء الذاكرة، والفيلم يعج بالاشارات والغمزات والتلميحات إلى "روح خلية النحل". يصعب أيضاً تناول الفيلم من دون ان تخطر في بالنا مسيرة إريثه، وماذا فعل طوال العقود الثلاثة الماضية. لذلك، فإن "اغماض العينين" يلمس أشياء في عمقنا. انها الحياة والسينما، الواقع والخيال، وتداخلهما معاً في إنجاز سينمائي باهر يخطف النفس ويدوس القلب، نابع من صدق عظيم، من إدراك بمرور الزمن وباستحالة عودته. يغلف إريثه فيلمه بمسحة ميلانكوليا، حيث نهاية مرحلة تطل برأسها. يغرقنا إريثه في هذا كله، ونبقى في الأعماق لفترة طويلة، قبل ان يرمي لنا خشبة خلاص، لأنه، كما يقول أحدهم في الفيلم: المعجزات في السينما انتهت منذ دراير.

مخرج آخر عاد مساء الإثنين الماضي إلى مسابقة كانّ بعد 12 عاماً غياباً: الفنلندي آكي كوريسماكي. جديده، "أوراق ميتة"، يعزف على أوتار عوّدنا عليها منذ بداياته. يكفي ان نطرق الباب لندخل إلى عالمه الجاهز، ذي الخطوط الواضحة والأشكال الحادة. عالم يتوقّع من المُشاهد ان ينظر في اتجاهه، مثلما تنتظر الشخصيات عند كوريسماكي السؤال لتأتي بالجواب. يهتم كوريسماكي بمصير رجل وامرأة (جوسي فاتانين وألما بويستي) لا يملك أي منهما مقومات ومعايير تؤهلهما للوقوف أمام الكاميرا، بميله إلى تصوير قاع المجتمع، في بلد تصفه وسائل الإعلام بالأسعد والأكثر رفاهيةً من بين الأمم. لكن كوريسماكي يرى ما لا يراه آخرون. وما يراه سرعان ما يصبح وجهة نظرنا. هذه هي فكرة العدوى في السينما. عدوى من الفيلم إلى المشاهد.

هي تعمل في السوبرماركت وهو في ورشة. ما يجمعهما هو انهما يُصرَفان عن عملهما. هي بسبب انها تناولت سندويشاً من القمامة، وهو لأنه يحتسي الخمر خلال الدوام. لكن المصادفة ستجمعهما في حانة. بقدرة عالية على ضم الآخر إلى قلبه، يصوّر كوريسماكي بزوغ المشاعر بين كائنين يعيشان عزلة قاتلة في مدينة (هلسنكي) يصوّرها المخرج كعادته مقبرة للبهجة. الملل والبحث عن السعادة هاجسان حاضران بقوة في هذا الفيلم الذي يموضع اليوميات المتكررة في اطار عالم يفرض واقعيته مهما كلّف الثمن. فالمذياع في مطبخها لا يتوقّف عن تذكيرنا بغزو روسي يحدث على بُعد كيلومترات من مكان اقامة الشخصيات. فنلندا كوريسماكي مكان غريب جداً، غامضة وباردة، تماماً كسلوك شخصياته التي لا نفهم دائماً ماذا تريد ولماذا تتصرف على هذا النحو. لكن هذا كله جزء من سحر أفلامه. اعتاد كوريسماكي ان يوجّه كاميراه إلى الأماكن الأقل جاذبية وألقاً، علّه يستخرج بعض الجمال منها، لأن "الجمال في عين الناظر"، الشعار الذي يُطبَّق على كوريسماكي.

"أوراق ميتة" أغنية تلفّنا بالحزن كخاتمة شابلنية. وشابلن ليس بعيداً من هنا هو الآخر. استطاعت سينيفيلية كوريسماكي العثور على مكان له تحت الضوء. مثلما وجدت مكاناً لجيم جارموش الذي كان حاضراً وظلّ يصفّق بعد العرض الذي استُقبِل بحفاوة لا شك ان المخرج لن ينساها طوال حياته. أما المشهد الذي أغرق الحضور في الضحك فهو ذاك الذي يرينا مشاهدين يخرجان من صالة سينما شاهدا فيها آخر فيلم لجارموش، فيلتفت أحدهما نحو الآخر ويقول له ان هذا الفيلم يذكّره بأحد أفلام روبير بريسون، فيرد عليه الثاني بأنه يذكّره بغودار.

قد يكون "أوراق ميتة" أجمل أفلام المسابقة إلى الآن، مع التذكير بأننا لم نشاهد كلّ شيء بعد. لا يزال هناك أربعة أيام، لكن مهما يكن، فهو يستحق "السعفة الذهب"، لبصمته التي يمكن التعرف عليها بلمحة بصر. كوريسماكي صاحب مدرسة سينمائية تحاول تذكيرنا أين نحن وفي الحين نفسه يشرع أمامنا بوابة الهروب.

 

####

 

سينما نوري بيلغي جيلان: بورتريه لبلاد من خلال ناسها

هوفيك حبشيان

بعيداً ممّا يُعرض في التلفزيون التركي من أعمال تنقل واقع المجتمع التركي المترجح بين الحداثة والتقاليد، قدّم نوري بيلغي جيلان رؤية استثنائية عن بلاده وناسها. رؤيته الإخراجية التي تستلهم أزمات الفرد، فيها من الفلسفة والتأمل ما يضعه في مرتبة كبار السينمائيين المهمومين بالشرط الإنساني. شخصياته تجد في الهروب متعة واستغاثة. سينماه تنحو إلى جعل الموضوعات تبدو "عالمية"، رغم تأصلها في بيئة تركية بعيدة من كلّ انفتاح على العالم، ورغم انه تركي الولادة والاقامة والمشغل والهمّ. فهو يعرف كيف يجعل كلّ ما يصوّره ذا امتدادات في الأرض التي يموضع فيها كاميراه.

جيلان البالغ من العمر 64 عاماً، خطا خطواته الأولى خلف الكاميرا في أواسط التسعينات، ونال منذ ذلك الوقت "سعفة" #كانّ وجوائز أخرى فيه وفي أماكن أخرى. جديده، "فوق الأعشاب الجافة"، معروض في مسابقة مهرجان كانّ السينمائي 2023.

لم نعرفه معلّماً منذ فيلمه الأول، "قصبة" (1997)، بل تهذّبت موهبته ونضج عقله السينمائي فيلماً بعد فيلم، وهو ليس الاّ ابن المهرجانات التي قدّمته إلى الجمهور، وفي مقدّمها مهرجان كانّ الذي حضنه، اذ بدأت قصتهما معاً، ذات أيار من العام 1995، وكان ذلك لمناسبة عرض فيلمه القصير، "كوكون". مذّذاك، عرض أفلاماً هنا وهناك، لكن كانّ ظلّ الحضن الدافئ، ورأيته في آخر دورة كان يشارك فيها وهو يتنقّل من صالة إلى أخرى لمشاهدة أفلام الآخرين، وهذا أمر نادر لسينمائي يعرض فيلماً في المسابقة.

البداية الفعلية مع "ضجر أيار" في العام 1999، الذي ختم به القرن الماضي. سينما تأملية بطيئة الايقاع تشي بولادة سينمائي يروي الإنسان ومكانه داخل الطبيعة. الحكاية عن مخرج يعود إلى وطنه لتصوير فيلم. تاركوفسكي في الأرجاء وسيظل، لكن ما من مرة اعطانا جيلان الاحساس بأنه يستعير منه. هضم التأثيرات، محوّلاً إياها إلى لحظات تفيض بالشعر. الفيلمان التاليان، "بعيد" و"مناخات"، لا يختلفان كثيراً من حيث الاسلوب عن أعماله السابقة. في الأول، نتابع علاقة اشكالية بين مصوّر فوتوغرافي وعاطل عن العمل، أما الثاني فهو عن عيسى وبهار، في اطار بحثهما عن السعادة. 

مع "ثلاثة قرود"، الحائز جائزة الإخراج في كانّ عام 2008، الذي لفّ العالم منذ ذلك الحين، ارتقى جيلان إلى مرتبة أعلى، ولكن ما من مفاجأة، كون أفلامه السابقة كانت تهيئ الأجواء لهذا الصعود. الفيلم عن عائلة تركية تسعى في ان تبقى موحّدة، رافضة الاعتراف بأن ما تعيشه أكاذيب. من الصعب تلخيص دراما إنسانية سوداوية إلى هذا الحدّ، خصوصاً ان الفيلم تجربة تُعاش ولا تُحكى، وهي تُنقل من خلال انفعالات الشخصيات الأربع، سلوكها، نظراتها، وأيضاً من خلال ما يقترحه الشريط الصوتي من مؤثرات طبيعية، كصوت تساقط المطر والرعد والسماء الممتلئة بالغضب. هذا كله يلتقطه جيلان بالقدرة على جعل محنة الشخصية محنتنا ودمعتها دمعتنا وكبريائها كبرياءنا. ناهيك بالغنائية التي تستحوذ على معظم العمل. أسئلة وجودية يعج بها هذا الفيلم الذي يحتفي بالطبيعة والعناصر التي يتألف منها الكون. أسئلة معظمها يأتي نتيجة تراكمات وجراء عدم قدرة الحياة اليومية على الاتيان بأجوبة مقنعة وصريحة.

ما يصوّره جيلان في "ثلاثة قرود" لحظات، من تلك التي نرى الضعيف تتنامى فيه شعور القوّة، والقوي يصير فجأة في ركاب من يستغلّه عاطفياً ومادياً وسياسياً. بالنسبة إلى جيلان، أن يفهم الآخرون يعني أن يفهم ذاته ويتحكم بخياراته.

مع تحفته "حدث ذات مرة في الأناضول" (2011)، ينقلنا جيلان إلى البوادي ولياليها الحالكة، كأحد "ذئاب" الفنّ السابع وخلفا جديرا بتاركوفسكي. انه الفيلم الذي يبرع في جعلنا ندرك فهم جيلان الخاص بالزمن السينمائي، وهو بذلك اقترب كثيراً من الجهابذة الروس، مع انه يتحلّى أيضاً بدقة النظر وبالعين التي يمتاز بهما فنّان مثل كيارستمي. هو الآتي من التصوير، يؤدي الكادر والكيفية التي تُلتقط بها المساحات وانبعاث الضوء وتحريك الأشياء في الظلال والعتمة، دوراً مهماً في تشكيل الاطر البصرية لأعماله التي لم ترض أبداً النزول عن المستوى الذي انطلقت فيه منذ بداية تجربته.

يحمل "حدث ذات مرة في الأناضول" في أول مشاهده التشويق الخاص بالفيلم البوليسي. لكن ما نعتقده اجراء بوليسياً وتحقيقات وحبكة، سيتبين انه حجة لأخذنا عبر طرق الأناضول المتعرجة لإجراء رصد نفسي لشخوص ترتسم من خلالهم ملامح بلاد بأكملها. نصعد في شاحنة جيلان في رحلة يصوّرها بلقطات طويلة ومدروسة لجانب الخطوط التي تسلكها الكاميرا، عاملاً بنمط المعالجة البطيئة التي تثمر منها سينما ذات عمق إنساني.

مع "سبات شتوي" (2014)، تجدد لقاءنا معه في كانّ وانتهى الأمر بفوزه بـ"السعفة". حاول في هذا العمل، اجتياح احدى المناطق الأكثر غموضاً وتعقيداً في الطبيعة البشرية: العقل. هذا فيلم أقل ما يمكن القول فيه انه ليس سهلاً وغير قابل للمساومة. ثلاث ساعات و16 دقيقة من الفلسفة الوجودية الممعنة في سياق الحياة اليومية. انغمار برغمان ليس بعيداً من الأجواء. الفيلم يشبه تلك التجارب التي كان يحلو لبرغمان تسميتها "أفلام الغرف". دعونا لا ننسى ان جيلان قرر انه سيكون مخرجاً بعدما شاهد "الصمت" لبرغمان. صمت بليغ سيرافق أفلامه كلها لسنوات طويلة. لكن جيلان هذه المرة، يترك المشاهد التأملية في أفلامه السابقة (وإن كانت موجودة هنا بين حين وآخر)، ليتوجه إلى سينما كثيرة الكلام، ولكن ليس أيّ كلام.

بلغ جيلان مع الوقت، مرتبة متقدّمة في لغة السينما بحيث يمنحك الأشياء على دفعات. عليك ان تصبر لتنال. وهذا ما كان واضحاً في رائعته "شجرة الإجاص البريّة" (2017) الذي يدنو من الحياة خطوة خطوة، كمَن يستيقظ ليلاً ويحرص على عدم كسر صمتها وتخريب صفائها. في هذا الفيلم، تماهى مع جوهر الحياة نفسها التي تحمل ما تحمله من شقاء وصمود وارادة. هذه التقنية في كشف الروعة على مراحل، تمكّن منها جيلان فيلماً بعد فيلم. 

الفيلم قطعة فنيّة تمتد على ثلاث ساعات وثماني دقائق. ثرثار أحياناً، بصري في أحايين أخرى، لكنه صاحب فضائل كثيرة. انه كمرفأ نشدّ اليه مرساتنا. فيه لحظات تأمل، مدّ وجزر، حوارات لذيذة، هذا كله مهندَس بذكاء شديد كي نتفاعل معه كوحدة كاملة متكاملة. جيلان يحتاج لكلّ ثانية تمر على الشاشة، كلّ لون يستخدمه له دلالاته في اللوحة التي يرسمها. كذلك كلّ طيف وكلّ ضوء وكلّ حركة. خفّة الحوارات الفلسفية والوجدانية على رغم كثرتها، التكوين، الشخصيات التي لا نعرف كيف نجد أنفسنا في أحضانها كونها لا تسعى لا إلى نيل محبتنا ولا تعاطفنا أو تقديرنا… يخلّد جيلان صمت بلاده. يمسح وجهها. يرتقي بوجع أبنائها. هذا فيلم عن جيلان والفنّان المحكوم ببيئته وارثه وتاريخه واستحالة الارتواء من غير هذه البئر.

 

####

 

"احتقار" في مهرجان كانّ 76: فيلم عن النظرة جعل من غودار اسطورة

المصدر: "النهار - كانّ": هوفيك حبشيان

في مناسبة مرور 60 عاماً على عرضه الأول، أقدم "استوديو كانال" بدعم من المركز السينمائي الفرنسي على سحب نسخة جديدة مرمّمة لـ"الاحتقار"، رائعة جان لوك غودار. يُعرض الفيلم في الدورة الحالية من مهرجان كانّ السينمائي (16 - 27 أيار) ضمن فقرة "كلاسيكيات كانّ"، وسيصبح متوافراً للتحميل وفي صالات السينما بدءاً من الرابع عشر من الشهر المقبل. أربعة بلدان ستشهد عروضاً تجارية له: فرنسا، ألمانيا، بريطانيا وأميركا. في هذه المناسبة، صُمِّم ملصق جديد للفيلم تولاه الفنّان البلجيكي لوران دوريو.

عملية الترميم تطلّبت 220 ساعة عمل وتم استخدام النسخة الـ35 ملم لهذا الغرض بعدما استعين بالنسخة كمرجع كان عمل عليه المصوّر راوول كوتار في العام 2002 وهو الذي كان التقط مشاهد الفيلم في العام 1962. النتيجة: تنقيح شامل لكلّ التشوهات التي أحدثها الزمن في الفيلم، سواء على مستوى الاضاءة أو الألوان. أعمال الترميم هذه ستتيح للمشاهدين ان يتفرجوا على "الاحتقار" على النحو الذي كان يجب ان يُشاهَد في الأصل.

"الاحتقار" (1963) ذروة أخرى في الفنّ الغوداري. فيلم عن السينما ومن داخلها. من الصعب إيفاء حقّ هذا الفيلم "الاسطوري"، الذي جاء مراراً في قائمة أفلام النقّاد العشرة المفضّلة العابرة للأزمنة. منذ الجنريك، يضع غودار أسس سينما معارضة، تتجلّى من خلال كلمة أندره بازان في التعليق الصوتي: "السينما تستبدل بنظرتنا عالماً يتطابق مع رغباتنا". الجملة كانت تحية لمعلّمه بازان الذي توفي قبل بضع سنوات من دون ان يرى "الموجة الجديدة". ثلاثة من الكبار يضطلعون بالأدوار الرئيسية: ميشال بيكولي، بريجيت باردو وفريتس لانغ. صُوِّر الفيلم في كابري الإيطالية ويتضمّن مناظر خلابة للبحر انطلاقاً من التلّة التي تقع عليها الفيلا حيث مكان اقامة الشخصيات. مشاهد المداعبات والكلام اللذيذ بين بيكولي وباردو ("أحبّك بتراجيديا" يقول لها)، بالاضافة إلى نزلات الكاميرا وطلعاتها على جسد ب. ب. بعدسة راوول كوتار وعلى موسيقى جورج دولورو التي تلح كاللازمة، دخلت معبد الصورة الحيّة وخلقت مفهوم ادمان نظرة الآخر في السينما المعاصرة.

أما الحكاية فليست أكثر من كونها تروي اللحظات الأخيرة من علاقة بين رجل وامرأة أصبحا على عتبة الانفصال. فكلّ شيء يبدأ مع وصول بول وزوجته كاميّ (بيكولي وباردو) إلى كابري حيث من المتوقع ان يساعد المخرج فريتس لانغ (يلعب ذاته في الفيلم)، لمواصلة عملية كتابة سيناريو فيلم "عوليس" وتصويره في تشينيتشيتا بطلب من منتج أميركي (جاك بالانس). لكن العلاقة ستتأزم بين بول وزوجته، ظنّاً منها أنه يرميها في أحضان المنتج كي يتسلّم المهمّة. في اعتقادها انه ما عاد ينظر اليها ولا يحبّها. وفي حين هو مشغول بالسيناريو، تتكاثر الشكوك وينمو الاحتقار في قلب كاميّ، الأمر الذي لا يفهمه بول فيتحوّل عدم فهمه إلى غضب.

أُسأل دائماً من محبّي سينما شباب: من أين ينبغي البدء في الاطلاع على سينما غودار؟ ربما من "الاحتقار"، مع التشديد على فكرة ان ما من فيلم لغودار يلخّصه أو يعطي فكرة ولو بسيطة عن منجزه. نحن أمام رائعة قاومت الزمن. هناك رمزيات لا يسهل التقاطها من المشاهدة الأولى، ويستغل غودار هذا كله كي يطرح نظرياته في السينما بين الحاضر والماضي، بين سينما الآباء المتمثّلة في صورة المنتج و"الموجة الجديدة" التي تتخذ ملامح باردو. وما بيكولي بقبّعته وسيجاره، الا "غودار ثانٍ"، يلملم ألمه قبل الذهاب إلى الموت.

يمكن النظر إلى "الاحتقار" من زوايا متعددة. لكن الزواية التي تفرض نفسها أكثر من غيرها، هي المستوى الأول من القراءة: تخبّط زوجين في إيطاليا، وهو الشيء الذي يصوّره غودار بأسلوب يجعلنا نعتقد أنه انزلاق إلى الهاوية. وهذا ما سيحدث في النهاية: انزلاق إلى الهاوية، لكن على طريقة غودار.

قد يكون "الاحتقار"، المقتبس بتصرف من رواية لألبرتو مورافيا، أشهر أفلام غودار مع "مخطوف النفس"، وهو أيضاً أضخم إنتاج ناله، نتيجة الاستقبال غير المتوقّع لفيلمه الأول. كان غودار في مطلع الثلاثينات من عمره عندما وقف خلف الكاميرا يدير لانغ وبالانس، بيكولي وباردو. واذا كانت النظرة إلى السينما اختلفت بعد بازان الذي أخذ ينظر في جمالياتها ويطرحها كفنّ نهائي لا كفنّ تابع للفنون الأخرى، فإنها اختلفت أيضاً بعد غودار، على الأقل على مستوى النظر إلى الأشياء. والنظرة ليست كلمة عابرة في الحديث عن "الاحتقار"، بل تشرح المضمون بأكلمه. فما أنجزه غودار، هو فيلم عن النظرة، تلك التي لا يرمق بول بها زوجته، ويصبح بالتالي متّهماً. والخيانة التي تعتقدها تأتي من كونه ما عاد ينظر اليها. في السينما عموماً، و"الاحتقار" بشكل خاص، لا وجود لأي شيء سوى في المجال الذي تتيحه نظرة الآخر. نظرة كافية كي نشعر بأننا أحياء.

 

النهار اللبنانية في

24.05.2023

 
 
 
 
 

تحية الإسباني إريثه إلى السينما تهز المشاعر في "كان"

التركي نوري جيلان يثير الدهشة مع بطله الوجودي الفاشل في الحب

هوفيك حبشيان

لفترة طويلة افتقدت السينما مخرجاً اسمه فيكتور إريثه. جمهور الدورة السادسة والسبعين من مهرجان "كان" السينمائي (16 - 27 مايو / أيار) كانوا محظوظين. فقد تسنى لهم أن يشهدوا على عودة المعلّم الإسباني إلى السينما بعد أكثر من ثلاثة عقود من الغياب. صاحب تحف مثل "روح خلية النحل" و"الجنوب" كان من الأسماء المنتظرة جداً هذا العام، خصوصاً عند شلّة من الهواة الذين يضعونه في مصاف الكبار. الفيلم الذي أعاده إلى الشاشة يأتي في عنوان "إغماض العينين"، وهو عمل يمتد ثلاث ساعات، لكنّ مشاهدته، خلافاً لأفلام أخرى طويلة، متعة خالصة، لكونه يأخذنا في رحلة داخل الذاكرة والسينما والماضي والطبيعة البشرية والمرض والشيخوخة، بقدرة رهيبة في تجديد الخطاب في كلّ لحظة. 

إريثه، البالغ من العمر 83 عاماً، كان من المتوقع ان يأتي إلى "كان"، ليقدم فيلمه المعروض في قسم "كان بروميير" (فقرة حديثة تضم أفلاماً تُعرض خارج المسابقة)، اعتذر عن المجيء، واكتفى بإرسال الفيلم، في بادرة من الممكن أن لا تعجب محبيه. لكنّ مشاهدة العمل تجعلنا نرى قراره صائباً: فماذا يضيف حضوره على الفيلم؟ لا شيء على صعيد الخطاب. فهذا فيلم وصية، تلقّي الجمهور له لا يتطلب حضور المخرج الجسدي. حضوره المعنوي كاف، وهو في كل لقطة. يبقى أن إريثه كان يستحق أن يرى الحب الذي في عيون المشاهدين ليلة عرض الفيلم في "كان". غيابه عن المسابقة، لغز آخر شغل هواة الفيلم الذين استغربوا كيف من الممكن أن يبقى فيلم كهذا خارج السباق على "السعفة"، في حين أن أفلاماً عادية مرشّحة لها.

هذا لا يضع المهرجان في قفص الاتهام، لأن العديد من السينمائيين يفضّلون عرض أعمالهم خارج المسابقة. صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية لمّحت إلى أن عدم حضور إريثه قد يكون سببه اعتراضه على عدم ضم فيلمه إلى المسابقة، لكنها لم تؤكد بل طرحته كاحتمال. في حديث لي مع مديرة أعماله والمسؤولة عن شؤونه الإعلامية، نقلت لي قناعة إريثه بأن الفيلم يتحدّث عن نفسه بنفسه، ولا يحتاج إلى أن يرافقه إلى المهرجان. 

تجربة عميقة ومتعددة

من الصعب شرح الفيلم في كلمات، فهو تجربة وجدانية وحسية ونفسية لا تهدر دقيقة واحدة من ساعاتها الثلاث. يبدأ كتحقيق يجريه مخرج (مانولو سولو) بحثاً عن الممثل الذي كان لعب في فيلمه والذي اختفى فجأةً خلال التصوير، ما حال دون إكماله. لكن التحقيق يتحول إلى بحث في الأعماق. البحث عن هذا الذي كان نجماً في أحد الأيام، يقود بطلنا إلى مناطق جديدة لم يكن يدرك وجودها. هذا البحث يكون أيضاً وقفة مع الذات، ثم اعادة اكتشافها في ضوء التقدم في السن.  

مثالية، رغبة إريثه في عدم الإذعان لمتطلبات السوق وإنجاز عمل يشبهه ويطرح تساؤلاته وهواجسه عن الوجود عموماً، من خلال هذا التصادم بين الواقع والخيال. ببساطة مطلقة، يحملنا إلى ينابيع الفن، محاصراً المشاهد بانفعالات تتجه تدريجاً إلى القلب. لا يسلّم الفيلم كل أوراقه منذ اللحظة الأولى، بل خطوة خطوة نمشي إلى حيث الخاتمة العظيمة التي ستبقى في أنطولوجيات السينما، وهي خاتمة تنبع أيضاً من رأي وموقف حيال اندثار صالات السينما. 

يتعامل إريثه مع السينما كسرّ ولغز وسؤال مستمر. فيلمه شخصي للغاية، حسّاس إلى درجة غير معقولة، ولا يمكن التعامل معه إلا استناداً إلى تجربته الخاصة في مجال السينما، مع الأخذ بما صوّره في حياته من أفلام وما بقي في جوارير مكتبه. شخصية المخرج الذي توقّف عن السينما بعد فيلمين، صدى لإريثه نفسه. وإذا قرر يوماً ما الإكتفاء بهذا القدر (4 أفلام في نصف قرن)، فهذا يعني أنه سيكون قد افتتح فيلموغرافيته بمشهد يتفرج فيه الأطفال على فيلم لفرنكنشتاين وينهيها بمشهد مشابه ولكن مع كبار في مرحلة متقدّمة من تجربتهم. وفي كلا المشهدين نرى الدهشة نفسها. 

الدهشة التركية

الدهشة هي أيضاً ما أثاره "فوق الأعشاب الجافة" (مسابقة) للتركي  بيلغي نوري جيلان عند العديد من المشاهدين. ثلاث ساعات من سينما خالصة، ثرثارة ولكن لمّاحة، برفقة ثلاث شخصيات رئيسية يعيشون ويعملون في قرية في الأناضول، الأرض التي لطالما أحبّها جيلان وصوّرها، وهذه المرة تغمرها الثلوج مثلما يغمر الحزن والكآبة قلب سيميت (دينيز سليلوغلو) المدرّس الصعب المراس الذي يبحث عن فرصة له خارج مدرسة القرية النائية التي يدرّس فيها. على غرار فيلمه الماضي، "شجرة الاجاص البرية"، يضعنا جيلان في قلب القلق الوجودي الذي عدّه بعضم اجتراراً لليأس والعدمية. لكن هذا عالمه الذي يجيد تصويره ولا يجيد سواه. طبعاً، يجب أن نتوقّع منه لقطات طويلة وكلاماً كثيراً وإحساساً طاغياً بالزمن. 

تتغير الأشياء في حياة سيميت عندما يتعرف على نوراي (مروى ديزدار)، التي يُعجب بها، لكنّ الأخيرة معجبة أكثر بزميله الذي يتشارك معه شقّته. هذا اللقاء وما ينتج منه، يعمّقان الشرخ بينه وبين نفسه، ويكون بداية تساؤلات يعيشها كسلسلة أزمات، خصوصاً في تعامله مع التلامذة. حادثة أخرى تلعب دوراً في تطور الأحداث وتأخذ الأمور إلى حيث يحاول جيلان أخذنا اليه، للمزيد من الصدمات النفسية: بعض التلميذات، ومن بينهن تلميذة يوليها اهتماماً خاصاً، يتهمن سيميت بتصرفات غير لائقة معهن. الأمر الذي يزج المدرس في المزيد من الوحدة والخيبة. سيميت، هذا البطل المضاد الذي يحوله جيلان شمّاعة، يعاني من إحساس بالدونية نتيجة اعتقاده بأنه يستحق أكثر ممّا هو فيه، الشعور الذي يجعله عدائياً ومتعالياً في تعامله مع الآخرين.

كما الحال مع "اغماض العينين"، هذا فيلم يأخذ وقته ليبني نفسه، وهو يتكوّن نتيجة تراكمات، ولذلك يصعب الحديث عنه بإيجاز، وأي اختزال له في بضعة سطور لا يفيه حقه. يعاين جيلان الطبيعة البشرية، محاولاً التقاط حيز غير مسكتشف منها، موظفاً الطبيعة القاسية التي لا ترحم والمناظر الجافة للنظر في عزلتنا والتباسنا.

فيلم جيلان مزيج من الأحاسيس المتضاربة، خصوصاً في ما يخص البطل ونياته. في رفضه للسهولة، يحملنا إلى لقاء بين القسوة والرقة، مانحاً المشاهد الكثير من الحرية. وهذا كله يضعه مجدداً في دائرة السينمائيين الذين يستحقون "السعفة الذهبية" للدورة الحالية.  

 

####

 

"قتلة زهرة القمر"... تحفة سكورسيزي عن مذابح السكان الأصليين

كان دي كابريو ودي نيرو رائعين لكن ليلي غلادستون غير المعروفة نسبياً هي التي قدمت أداء استثنائياً حقاً

كلاريس لوفري 

يمكن إلى حد بعيد تصنيف فيلم "قتلة زهرة القمر" Killers of the Flower Moon للمخرج مارتن سكورسيزي في الفئة نفسها مع عمليه السابقين "الأصدقاء الطيبون" Goodfellas و"المغادرون" The Departed، وإن كان يتعامل مع نوع من العصابات التي لطالما رفضت أميركا مواجهتها، تلك التي تعمل بشكل منظم لسرقة سكانها الأصليين وسحقهم من أجل الربح المادي.

في عام 1894 اكتشف النفط في أرض تابعة لشعب أوساج Osage Nation، ولقد ضمنوا ملكية حقوق المواد العضوية وأصبحوا أغنى الناس على وجه الأرض بالمتوسط الفردي، ثم جاءت الذئاب مع مطلع قرن جديد، وخلال فترة عرفت باسم "عهد الإرهاب" Reign of Terror قتل العشرات من شعب أوساج وورثت حصتهم من حقوق النفط للمتآمرين البيض الذين تزوجوا من عائلاتهم.

ويركز "قتلة زهرة القمر" على واحد من هؤلاء الأشخاص وهو إرنست بيركهارت (يجسده ليوناردو دي كابريو) الذي جاء إلى مقاطعة فيرفاكس بولاية أوكلاهوما وتزوج من مولي كايل (ليلي غلادستون) بناء على طلب من عمه ويليام هيل (روبرت دي نيرو).

اعتبر سكورسيزي هذا الفيلم أول فيلم ويسترن يقوم بإخراجه، لكنه يحمل في طياته العناصر الثابتة التقليدية في أعماله، قلب الإنسان المتعفن في صميمه وكيف تولّد السلطة دافع التدمير، وأساطير رعاة البقر والخارجين على القانون وحقيقتهم القذرة.

يدّعي هيل الذي لا يميز بين السلطة والحكمة أن القدر قرر نهاية زمن شعب أوساج، ويقول لـ إرنست "ستجف هذه الثروة. إنهم شعب يمتلك قلباً كبيراً لكنه مريض".

ثم تحدث نقلة مونتاج مفاجئة تحدث اضطراباً في نهاية المشهد، يعود الفضل فيها إلى ثيلما شونميكر القائمة على المونتاج التي تعامل معها سكورسيزي لفترة طويلة وكانت مسؤولة عن كثير من الإثارة في أعماله، تجعلنا نواجه عنف تلك الكلمات.

ونرى أحد رجال أوساج وهو يحتضر متمدداً على الأرض ويختنق بالسم، ولم يكن سكورسيزي أبداً شخصاً يرسم حدوده الأخلاقية بوعي، إنه ببساطة مخرج يروي القصص بقدر من العناية والتعاطف العميقين لدرجة أن وحشية تلك الجرائم تخلف وراءها رائحتها الكريهة.

عندما بدأ سكورسيزي تحويل كتاب ديفيد غران الواقعي الصادر عام 2017 بعنوان "قتلة زهرة القمر: جرائم قتل شعب أوساج وولادة مكتب التحقيقات الفدرالي"، قام هو وكاتب السيناريو إريك روث في البداية بالتركيز على الشخصية الرئيسة التي تحدث عنها غران، توم وايت، عميل مكتب التحقيقات الفيدرالي الذي كلفه جيه إدغار هوفر بحل الجريمة.

لكن سكورسيزي أدرك أن هذا من شأنه صناعة بطل من شخص لا يستحق البطولة، في حين يؤدي جيسي بليمونز شخصية وايت بطريقة رصينة في الفيلم، يبقى تركيز العمل على مولي وإرنست اللذين يقال إنهما أحبا بعضهما بعضاً على رغم كل شيء، وكان يربطهما ذلك النوع من الحب الذي يثير عنصر الخير في إرنست، لكنه يفشل في حماية مولي.

يقدم لنا دي كابريو، الذي امتلأ فمه بأسنان مستعارة متسوسة، رجلاً محباً وضعيفاً وقبيحاً في باطنه، رجلاً يتشنج خده عندما يكذب ويتدهور جسده تحت تأثير الشعور بالذنب أسرع من أي سم. لكن غلادستون هي التي تعد مركز ثقل الفيلم، وقد قدمت واحداً من أكثر الأداءات الاستثنائية الأنثوية في أي من أفلام سكورسيزي.

إنها هادئة ولكنها ليست قديسة، شخصية تجسد المأساة لكن النار مشتعلة في داخلها، والمرة الأولى التي نتعمق فيها في منظور مولي ندفع بقوة تكاد تسلب الأنفاس من رئاتنا، وكانت عيون الرجال والنساء البيض من حولها تطفح بالاشمئزاز، بينما كانت عيناها تعرفان كل شيء عن المستقبل الذي يتسارع لمواجهتها.

وعلى رغم الحضور الثقيل لكن من دي كابريو ودي نيرو فإن "قتلة زهرة القمر" يتمحور في نهاية المطاف حول منظور شعب أوساج الذي عمل أفراد منه على نطاق واسع في إنتاج الفيلم كمستشارين وحرفيين وممثلين (للتوضيح غلادستون نفسها لا تنتمي إلى شعب أوساج لكنها متحدرة من شعبي بلاكفيت ونيميبو الأصليين).

يبدأ الفيلم وينتهي بطقوسهم وقد اقتبست مقدمته من رواية "مزمار لفبراير" A Pipe for February للكاتب تشارلز إتش ريد كورن من شعب أوساج، حتى إن العمل يبدو وكأنه يرسل تحذيراً لأولئك الذين سيحاولون تدمير هذا الشعب.

وفي مشهد محوري تدور أحداثه بين الأراضي الزراعية المحترقة، تقول مولي لـ إرنست "أنت التالي". في إعادة السرد المروعة بهدوئها هذه للتاريخ لن يتوقف تدمير أميركا البيضاء عند حدودها، بل ستلتهم نفسها أيضاً في النهاية.

إخراج: مارتن سكورسيزي.

بطولة: ليوناردو دي كابريو، روبرت دي نيرو، ليلي غلادستون، جيسي بليمونز، تانتو كاردينال، كارا جيد مايرز، جانا كولينز وجيليان ديون.

المدة: 206 دقائق.

سيصدر فيلم "قتلة زهرة القمر" في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل في بعض الصالات السينمائية المختارة في الولايات المتحدة قبل طرحه عالمياً عبر منصة "آبل تي في+"

مراسلة ثقافية @clarisselou 

© The Independent

 

####

 

السينما مغرمة بتاريخ الملكية لكن ليس كما جرى

أظهرت أفلام "كان" أن الهوس بقصص الملوك غالباً ما تشوبه روايات يمكن وصفها بـ"أنصاف الحقائق"

أ ف ب 

أظهر مهرجان "كان" هذه السنة أن الفن السابع لا يزال يولي أهمية كبيرة للقصص المتعلقة بالملكية، من بلاط قصر فرساي إلى سلالة تيودور، خصوصاً في ما يخص وجوهها النسائية، ولكن غالباً على حساب الحقيقة التاريخية.

فالمهرجان افتتح في الـ16 من مايو (أيار) الجاري بفيلم "جان دو باري" (Jeanne du Barry) للمخرجة الفرنسية مايوين ومن بطولة النجم الأميركي جوني ديب في دور الملك لويس الـ15، فيما أقفل الأسبوع الأول من العروض على "فايربراند" (Firebrand) من بطولة جود لو مجسداً شخصية المستبد هنري الثامن.

ولاحظت المؤرخة وكاتبة السيناريو البريطانية أليكس فون تونزيلمان أن قصة هنري الثامن رويت مرات عدة وبطرق مختلفة، لكن الناس يبقون فضوليين، لذا يواصل المخرجون إنجاز أفلام عن هذا الملك.

سلطة الروح الإنسانية

أما المخرج البرازيلي من أصل جزائري كريم عينوز الذي أقر بأنه لم يكن يعرف شيئاً عن سلالة تيودور قبل الشروع في "فايربراند"، فجازف بالانغماس في قصة الزوجة السادسة لهنري الثامن.

وقال عينوز إن "أسطورة العائلة المالكة الإنجليزية شائعة جداً إلى درجة أن الجميع يعرفها".

ورأى المتخصص في شؤون الملكية ستيفان برن أن المخرجين ينجذبون غالباً إلى ما توفره هذه القصص من عناصر روائية "عن نساء ورجال عشقوا وتعذبوا وكانوا تجسيداً للإنسانية في السلطة".

لكن هذا الهوس بقصص الملوك والمحيطين بهم غالباً ما تشوبه روايات ربما لا تتسم بالدقة التاريخية ويصح وصفها بأنصاف الحقائق.

ففي "جان دو باري" تتزوج محظية لويس الـ15 بالملك، بينما هي تزوجت في الواقع شقيقه غيوم، وهو ما أوضحت المخرجة مايوين أنها فعلته "عن قصد" توخياً لعدم إضافة شخصية جديدة.

وإذا كان أداء جود لو أحد أبرز عناصر تألق "فايربراند"، فإن نهاية الفيلم التي تتناول ظروف وفاة هنري الثامن أحدثت صدمة لدى النقاد.

ولاحظت مجلة "فرايتي" أن "هذا المشهد خيال خالص وإعادة كتابة لإرث كاثرين بار (أليسيا فيكاندر) لا يولي اعتباراً للوقائع".

أما صحيفة "ذا غارديان"، فرأت هي الأخرى أن الفيلم "يخترع صداقة بين كاثرين والداعية البروتستانتية الهرطقية آن أسكو"، وعلقت بأنه "تاريخ مزيف".

لكن أكثر ما هو مهين في نظر الصحيفة البريطانية هو التأكيد في الفيلم على أن "لا الرجال ولا الحروب طبعت" عهد ابنة هنري الثامن إليزابيث الأولى مع أنها واجهت الأسطول الإسباني الذي لا يقهر.

وتكثر في الأفلام التاريخية الأمثلة على الخروج عن الرواية المعتمدة.

ففي فيلم "ماري أنطوانيت" الذي كتبته صوفيا كوبولا، "قيل إن كونتيسة لا بروفانس على وشك أن تضع، علماً أن المسكينة كانت لتفرح كثيراً بأن ترزق طفلاً لكنها لم تنجب قط، بل إن شقيقتها كونتيسة أرتوا هي التي أنجبت"، بحسب ستيفان برن.

تاريخ أكثر حداثة

وروى مقدم برنامج "أسرار التاريخ (Les Secrets d"Histoire) "بالتلفزيون الفرنسي، "عندما طرحت السؤال على صوفيا كوبولا، أجابتني أن منطقة لا بروفانس تحظى بإعجاب الأميركيين، في حين أن الأمر لا ينطبق على منطقة أرتوا".

ومع أنه رأى أن هذه التشويهات تؤدي إلى "نوع من اللاصدقية"، اعتبر أن أي فيلم عن الملكية "يمكن أن يولد اهتماماً بالتاريخ".

وأكدت المؤرخة وكاتبة السيناريو البريطانية أليكس فون تونزيلمان أن "المؤرخين يبدون قلقاً بالغاً في شأن عدم الدقة، لكن عندما بدأ عرض مسلسل ’تيودور‘ لمايكل هيرست، ارتفعت مبيعات الكتب عن هذه السلالة".

وشددت على أن "عمل المخرج هو صنع أفضل فيلم ممكن، في حين أن وظيفة المؤرخ هي البحث عن الحقيقة".

وما هو مؤكد هو أن هذه الأفلام التاريخية الطابع غالباً ما تكون مشبعة بالحداثة.

وقالت أليكس فون تونزيلمان "كثيرة الأفلام الروائية التاريخية التي برزت في الآونة الأخيرة تتمحور على نساء هن شخصياتها الرئيسة"، من ماري أنطوانيت إلى كوبولا إلى جان دو باري، مروراً بفيلم لمايوين "ذي داتشس" و"ذا فايفوريت" و"ماري ستيورات"، ملكة إسكتلندا.

وأضافت "نرى فيها كثيراً من الجوانب التي تتعلق بالنسوية أو المثلية أو مناهضة العنصرية، وهو ما يعكس هوساً حالياً".

وقال ستيفان برن "لقد كتبت النساء التاريخ، ولكن نادراً ما يحظين بالتقدير المناسب. إذا أعطيناهن مكانتهن من خلال السينما، فهذا ليس سيئاً".

 

الـ The Independent  في

24.05.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004