"أدامان"
نيكولا فيليبير: مُقاربةٌ سينمائية مُرهفةٌ للجنون
برلين/ محمد هاشم عبد السلام
تُركّز أفلام الفرنسي نيكولا فيليبير (1951)، غالباً، على
شخصية واحدة، أو موقع مُعيّن، لاستكشافهما بتفصيلٍ دقيق، يحمل في طياته
تعاطفاً وحبّاً وإنسانية. في "على متن أدامان"، الفائز بـ"الدب الذهبي ـ
أفضل فيلم" في الدورة
الـ73 (16 ـ 26 فبراير/شباط 2023) لـ"مهرجان برلين السينمائي"،
لا يبتعد فيليبير كثيراً عن نهجه السابق في مُقاربة مواضيع أفلامه.
رغم تغيّر الزمن، وتعدّد وتنوّع أساليب مُقاربة السينما
الوثائقية، لم يتغيّر أسلوب فيليبير وتناوله. في جديده، المؤلم والمؤثّر
والمشوّق، والحافل بالشخصيات المُتعدّدة والمُتنوّعة، هناك مُقاربة حميمة
ومُرهفة للجنون. مقاربة إنسانية أولاً، أكثر منها عقلية.
"أدامان"
سفينة خشبية، ذات مصاريع وشبابيك ضخمة، ترسو على ضفاف نهر الـ"سين"، في
باريس، منذ عام 2010. السفينة، غير اللافتة للانتباه، مصحّة نفسية عائمة،
يرتادها محتاجون إلى علاج نفسي/عقلي. يأتون إليها ويذهبون طواعية، من دون
أنْ يلاحظهم أحدٌ. أيضاً، يمرّ عليها الباريسيون وزوّار المدينة، من دون
الالتفات إليها، أو إدراك دورها وطبيعتها. إنّها راسية قرب معالم عدّة
لباريس، الزاخرة يومياً ببشر من كافة بقاع الأرض.
روّاد "أدامان"، الذين يُفترض بهم أنّهم بعيدون ومختلفون عن
الآخرين حولهم في المدينة، تُجسّد أمراضهم
ومشاكلهم واضطراباتهم وهواجسهم،
التي يُعاينها الفيلم (109 دقائق)، مدى تعقيد مُعاناة البشر، عامة،
وتركيبهم وهشاشتهم، وكيف أنّهم أناسٌ مثلنا تماماً، بعيوبنا ونواقصنا
وضعفنا. إلا أنّ لهم طرقهم الخاصة والمختلفة في رؤية العالم.
يُقدّم نيكولا فيليبير، المُتخصص في الأفلام الوثائقية، في
فيلمه الـ11 هذا، روّاد المركز على اختلافهم، مستعرضاً مدى الارتياح
والسلام والطمأنينة التي يجلبها المركز لهم، من دون رصد وتصوير الأداء
العام للمؤسسة، وكيفية عملها وإدارتها، ولا التركيز على الأطباء
والمُعالِجين والمُمرّضين. مع ذلك، هناك شعور بقوة وظيفة المركز، وقيمته
وأهميته، عبر ما يقدّم لزوّاره من علاج وتعليم وأنشطة ثقافية مجانية.
فالفيلم لا يُقدّم، في سياقه، معلومات عن الأداء العام للمؤسسة، إدارياً
وطبياً، باستثناء ذكر صعوبات مالية، وأزمات تُهدّد وجودها وأنشطتها.
يُلاحَظ انتفاء الصراخ والبكاء، والجلسات العلاجية
التقليدية، وتناول الأدوية، وكيف أنّ العلاج
يتمّ عبر الفن،
وتسخير أدواته المختلفة، كالرسم والموسيقى تحديداً، الأكثر حضوراً من
الفنون الأخرى. الجميع تقريباً يتفاعلون مع الرسم والغناء، بنشاط وحماسة،
أو فتور وتكاسل. في النهاية، يظهر أنّ هؤلاء الأفراد، رغم إعاقاتهم
الملحوظة، قادرون على إنتاجِ أصيلٍ وحيوي ومُعبِّر. العلاج بالفن ليس
جديداً، لكنْ يبدو أنّه ينجح فعلاً في مساعدة أناس "أدامان"، في التعايش مع
إعاقاتهم ومشاكلهم، ويساعدهم على استغلال وقتهم وطاقاتهم، وتسخير مَلكاتهم
في الإبداع.
تتمثّل الأنشطة الأخرى بالخياطة والطبخ والرقص والأفلام،
ومناقشة الأحداث الجارية. بعد جلسات الفن، يعرضون أعمالهم على بعضهم البعض،
ويناقشون ما يحاولون القيام به، ويخطّطون من خلال نادي الأفلام، المُنعقد
منذ 10 سنوات، لتنظيم مهرجان سينمائي للأفلام الكلاسيكية، وعرض روائع
كثيرة، كأفلام وودي
آلن وفرنسوا
تروفو وفيديريكو فيلّيني وعباس كياروستامي، وغيرهم.
بكاميرا ثابتة، يتنقّل فيليبير بين الشخصيات، لتقديم
مقابلات طويلة وصبورة معها. يتابع ما يفعلونه بحيادية، مُتيحاً لكلّ واحد
مساحته الكاملة في الحديث الفردي. إيقاع "على متن أدامان" مبنيّ على
الإيقاعات الخاصة بالمرضى وحكاياتهم، من دون أي تعليق له أو لفريق عمله، أو
إجراء حوارات واستفسارات مباشرة. بتقليدية وثائقية صميمة، من دون لقطات
استعراضية وتوظيفٍ لمؤثّرات بصرية وفنّيات ملحوظة، يُقدّم فيليبير أهل
"أدامان"، واحداً تلو آخر.
يصعب حصر عدد الشخصيات، التي تزيد ربما عن 15. سيما أنّ
فيليبير أدخل، بعد منتصف الفيلم، شخصيات أخرى، غير الموجودة منذ البداية.
اختيار الشخصيات يبدو عشوائياً، إذْ لا يتحدّث كلّ من يظهر على متن
السفينة. يحترم المخرج هذه الرغبة، ويحافظ بشدّة على تلك الخصوصية، إذْ
يصعب تمضية وقت مع أشخاص لا يستطيعون أو لا يرغبون في التواصل، أو يشعرون
بانزعاج وضيق من الكاميرا، أو التحدّث عن أنفسهم وقصصهم وتجاربهم.
مع ذلك، هناك شخصيات بمثابة أبطال، تكاد لا تختفي طول
الفيلم. هؤلاء يتحدّثون بوضوح شديد عن ضعفهم وعزلتهم الاجتماعية. أحدهم
يبدو مُصاباً بالتوحّد، وآخر بالوهم، وثالث بجنون العظمة. لكنْ، هناك
اقتراب أكثر من فريدريك، البوهيمي المُسنّ والمُحبط، والمسكون بالفن، قبل
أن يشاركنا إحساسه العميق الصادق بالتشابه، أو حتّى التطابق الشكلي بينه
وبين الفنان الهولندي فانسنت
فان غوغ،
وشقيقه ثيو.
تتذكّر امرأة أفريقية حزينة أنّ ابنها وُضع في ملجأ أيتام،
عندما بلغ 15 عاماً، وكيف أنّها، عندما تزوره، لا تستطيع التحدّث إليه،
وأنّها المسؤولة عما حدث له، رغم أنّ وضعه الآن أفضل. كاثرين، بوهيمية
مُسنّة ذات شعر هائش، تتحدّث باستطراد غاضب بعض الشيء عن اقتراح قيادتها
فصول تدريب الـ"تاي تشي" وتعليمه. بينما تتجرّأ موريل، الجذّابة والمفعمة
بالحيوية والمفتقدة للأهل والأصدقاء، على سؤال فريق العمل خلف الكاميرا عن
حيواتهم الخاصة، وتتجاذب معهم حديثاً.
في غرفة أخرى، يتحدّث رجل يعاني صعوبات التعلّم والنطق مع
المدرّسين، خلف الكاميرا، عن رسومات تكشف حبّه الكبير لعائلته. يظهر
لاحقاً، قبل نهاية الفيلم، وهو يساعد في بيع القهوة في المقهى، بتألّق
وسعادة وحيوية. فرنسوا، الذي يفتتح الفيلم بأغنية "روك" فرنسية
من السبعينيات، والذي بدا مُقنعاً وواثقاً ولطيفاً في الغناء، يعترف لاحقاً
أنّه لولا الأدوية القوية لما استطاع تحقيق التوازن والتحدّث في الفيلم.
باختصار، نحن إزاء شخصيات تجبرنا على التفكير في الجنون
وماهيته، وكيف أنّه ليس شيئاً جامداً، بل شديد الاختلاف والتباين، والنسبية
أيضاً. وأنّ أقصى أمنيات هؤلاء تلبية حاجتهم إلى حياة آمنة، والانتباه
إليهم والاهتمام بهم، والاستماع إليهم بكلّ صدق وإخلاص. وقبل كلّ شيء،
إشاعة تواصل حنون ودافئ في عوالمهم.
يندر خروج الكاميرا من السفينة، في "على متن أدامان"،
باستثناء تصوير النوافذ، والجسر الذي ترسو تحته، والمَعبَر المُفضي إليها.
مرة واحدة، يقوم المخرج بجولة سريعة، رفقة بعض روّاد "أدامان"، لزيارة أحد أسواق
الفاكهة والخضار الباريسية.
هناك، يجمعون الفاكهة السليمة، المُلقى بها في صناديق القمامة. يأخذونها
معهم، ويصنعون منها المربى، لبيعها في كافيتيريا السفينة، لتحقيق دخلٍ ما،
كمساهمة في النفقات المادية، وإعانة المؤسّسة.
أشخاص مركز "أدامان"، الإنساني الجميل، ربما نتجنّبهم أو
نخافهم، غريزياً، في الحياة العامة. إلا أننا نتفهّمهم ونُحبّهم جداً في
الفيلم. تفاعلنا معهم، ومع حكاياتهم ومآسيهم، صادق إلى أقصى حدّ. |