ملفات خاصة

 
 
 

"يرقة" اللبناني عن الهجرة القسرية نال "الدب الذهبي" في برلين

الشقيقتان ميشيل ونويل كسرواني انطلقتا من نص لفواز طرابلسي عن صناعة الحرير

هوفيك حبشيان

مهرجان برلين السينمائي الدولي

الدورة الثالثة والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

من بين 16 فيلماً قصيراً عرضت في مهرجان برلين هذا العام (16 - 26 فبراير/ شباط) تجرأت لجنة التحكيم الخاصة بالأفلام القصيرة على منح الفيلم اللبناني "يرقة"، إخراج الشقيقتين اللبنانيتين ميشيل ونويل كسرواني، جائزة "الدب الذهبي"، في واحدة من المفاجآت الكبرى الأشبه بضربة مسرحية، التي أطلقتها الدورة الثالثة والسبعون من التظاهرة السينمائية. هذا الفوز يعيد إلى الأذهان فيلم "موج 98" لإيلي داغر الذي نال "السعفة الذهبية" في مهرجان "كان" في عام 2015، صانعاً حينذاك مفاجأة من العيار الثقيل. إلى اليوم، لم يفز أي بلد عربي، بجائزتين كبيرتين للفيلم القصير داخل مهرجانين كبيرين مثل "كان" و"برلين". لذلك يمكن القول إن السينما اللبنانية الشابة التي تقاوم باللحم الحي خارج جدران الدعم الرسمي، حققت سابقة في هذا المجال. الأفلام التي نافست "يرقة"، بلغ عددها 15 فيلماً كانت عرضت على مشاهدي "برلين" ضمن أربع حصص، كل حصة فيها أربعة أفلام.

من الصعب قول أي شيء عن مستوى الأفلام التي نافست "يرقة"، وعقد أي مقارنة بينه وبين الفيلم الفائز، ذلك أننا لم نطلع على تفاصيل أي منها. فالأفلام القصيرة في المهرجانات الكبيرة أشبه بالخرفان السود، دائماً عرضة للتهميش والنبذ والاستبعاد. ولهذا أسباب كثيرة معظمها عملية، لا عداء للفيلم القصير. لا يوجد صحافي مكلّف بتغطية المهرجان يستطيع أن يضع أفلام المسابقة جانباً ليتناول أفلاماً قصيرة، وهي غالباً أفلام لسينمائيين يضعون أقدامهم للمرة الأولى في حقل الإخراج. لكن فوز فيلم قصير مثل "يرقة" بجائزة كبيرة، يعيد تشكيل الأولويات، ولا بد حينئذ من خروج على النص. 

أعضاء لجنة التحكيم التي أسندت "الدب الذهبي" لميشيل ونويل كسرواني، تألفوا من كل من المونتير الروماني كاتالين كريستوتيو الذي تولى مونتاج معظم أفلام المخرج الروماني الشهير رادو يود (آخرها "مضاجعة فاشلة أو بورنو مجنون" نال "الدب الذهبي" قبل عامين) والفنان البصري الأميركي سكاي هوبينكا والمخرجة الألمانية إيزابيل ستيفر. في الكلمة التي ألقيت خلال تسليم الجائزة، وضح المحكمون أسباب خيارهم هذا بالقول: "من خلال تنظيم دقيق للصورة والصوت، يحول هذا الفيلم الحسي المعقد وسائل اضطهاد المرأة إلى وسائل تحريرها. عندما يصبح الشخص الثالث "أنا"، لا تعود النساء موضع استغلال بل يتحولن رعايا. سوف تتحول ديدان القز إلى عناكب لا تخدم شباكها إنتاج الحرير بل ستخدم بقاءها على قيد الحياة. في الفيلم ثمة صداقة مباشرة ستربط امرأتين، وجسداهما يحملان عواقب الاستعمار". 

هذا أول فيلم سينمائي يحمل توقيع الشقيقتين ميشيل ونويل كسرواني، اللتين سبق أن امتهنتا الموسيقى والتأليف والإخراج. سيرتهما الذاتية المنشورة في الملف الصحافي للفيلم، تضيف أنهما اشتهرتا بفيديوهاتهما التي تنتقد النظام السياسي الفاسد في لبنان. 

الهجرة القسرية

تروي المخرجتان أنهما، بين عامي 2019 و2021، وجدتا نفسيهما وهما تعيشان تدريجاً في فرنسا. كالعديد من أبناء جيلهما، تركتا البلاد تحت ضغوط رهيبة واضطرتا إلى الابتعاد عن منزلهما والانفصال عن أهلهما وبيئتهما. لهذا السبب، قررتا تحويل هذا الكبت إلى فيلم قصير يغوص في تجربة الهجرة القسرية. هكذا ولد "يرقة" الذي تم تأليفه والتقاط مشاهده في فرنسا. من خلال صور متحركة وأخرى ثابتة، عبّرت عن ما لا يمكن التعبير عنه بالكلمات. من خلال عوامل مشتركة كالمرأة والعمل والشتات، يحاول الفيلم ربط الماضي بالحاضر، مركّزاً على التحديات التي واجهت النساء عبر القرون. صحيح أن الفيلم يحمل الكثير من الابتكارات والتجديد على أكثر من مستوى، وفيه روح انقلابية منضبطة وأفكار لماحة، لكن ما كان لكل هذا أن يولد لولا مقال لفواز طرابلسي في عنوان "حب الحرير" وقع بين يدي الشقيقتين، وأضحى مصدر إلهام لهما.

المقال يستعرض العلاقة بين نساء جبل لبنان ومصانع الحرير الغربية في القرن التاسع عشر. في إحدى مقاطع المقال المستفز، يقول طرابلسي: "حوالى عام 462، وفي سياق صناعة الحرير، قال أمير ياباني ما معناه إن الحرارة المعتدلة والمثالية لنمو الشرانق هي في صدر المرأة. حكاية أن تحمل نساء جبل لبنان الشرانق في صدورهن فكرة "مقلقة" بحسب تعبير المخرجتين. هذه الصورة الذهنية، التي أضيفت إليها تفاصيل عن الظروف الصعبة لعمل النساء في مصانع الحرير الأجنبية في المشرق، سمحت للمخرجتين تأليف حكاية عصرية تدور على موضوع الهجرة. يعود الفيلم إلى الخلف من أجل أن يناقش جوانب عصرية حول العلاقة بالهجرة: ظروف عمل، ديناميكيات الجندر، وتأثير الأحداث التاريخية في حياتنا العصرية. 

"قصتنا بدأت قبل قرون، قرون من السواد تغلغلت بأفكارنا وبلون عيوننا وبخصل شعرنا"، تقول أسماء، إحدى الفتاتين اللتين تعملان في واحد من مقاهي ليون، وهي تتأمل أعمالاً فنية في أحد المتاحف بعينين دامعتين، هما عينا كل نساء العالم اللواتي عانين من الظلم، حيناً من الاستعمار وحيناً من التهجير القسري، أو فقط لكونهن نسجن ما لم يكن في مقدورهن على ارتدائه. من الواضح أن الفيلم أراد أن يخلق حالة نسوية، ولكن من دون أن يكون مزعجاً. قد لا نفهم كل شيء من المشاهدة الأولى، وقد يحمل الفيلم في داخله الجنون البريء الذي تتميز به الأعمال الأولى. وطبعاً ثمة لحظات مشتتة هنا وهناك، وبعض الفوضى في تقديم الأفكار أو تجسيد ما نسمعه في التعليق الصوتي، أو بعض الحوارات التي تشرح كثيراً، ولا تترك مكاناً للخيال أو الاستنتاج. لكن على رغم ذلك كله، هناك نوع من الصدق يفرزه الفيلم لقطة بعد لقطة، وهناك رغبة وعفوية في صناعة شيء يحافظ على روح الأمل الخاصة بالنساء. هذا من دون أن ننسى المشاهد الافتتاحية الجميلة التي تمهّد للفيلم الذي سنراه، والتي تذكّر بـ"عمي الأميركي" لألان رينه، إضافة إلى الصورة الجميلة التي شكلها مدير التصوير كريم غريب. 

 

الـ The Independent  في

01.03.2023

 
 
 
 
 

«المرهقون» لليمني عمرو جمال: بلد الأحلام المجهضة وشظف العيش

نسرين سيد أحمد

برلين ـ «القدس العربي»: قبل بدء عرض فيلم «المرهقون» للمخرج اليمني عمرو جمال، الذي شارك في «بانوراما» مهرجان برلين السينمائي، اعتلى المخرج خشبة المسرح وخاطب الجمهور قائلا عن الفيلم، إنه يمنح المشاهد فرصة لرؤية اليمن بعيون يمنية، وأنه يعطينا لمحة عن العيش في بلد قلما نسمع عنه خارج إطار نشرات الأخبار.
اليمن كما نراه في الفيلم، وكما يتضح من عنوانه ذاته، بلد يشق على الناس العيش فيه، بلد مرهق، بل إن كلمة مرهق تخفيف لكم العسر والبؤس الظاهرين في الفيلم. كل ما في الفيلم استعارة عن حال البلد ذاته. الأسرة المحورية في الفيلم، المكونة من أب وأم وثلاثة أطفال، تضطر تحت وطأة ظروف المعيشة في بلد لم يحصل فيه الموظفون على رواتبهم منذ عدة أشهر، لمغادرة مسكنها في عدن لأنها لم تعد تحتمل دفع إيجاره والانتقال للسكن في منزل متداع متهالك، لكن إيجاره أقل. لا توجد محاولات للنهوض أو التمرد على الأوضاع العسيرة، بل إن الاحتجاجات التي نراها في الفيلم على عدم دفع الأجور جاءت هزيلة شارك فيها عدد ضئيل من الأشخاص. وهذا الإجهاد البادي على الجميع والعزوف عن الاحتجاج، لم يأت من جبن أو تخاذل، لكن لليقين أن الاحتجاج لن يغير شيئا. تستسلم الأسرة في الفيلم، كغيرها من الأسر في اليمن، ولا تسعى لتغيير الوضع، بل للتأقلم مع ظروف معيشية أقل ما يقال عنها إنها عسيرة.

الأب والأم في الأسرة محور الأحداث هما إسراء وأحمد (خالد عمران وعبير محمد) وهما بالكاد يستطيعان تحمل نفقات الأبناء الثلاثة، خاصة مع الزيادة الكبيرة في الرسوم المدرسية. ومع صعوبة الحياة تلك، كيف للأسرة أن تتحمل نفقات طفل جديد بعد أن علم الأبوان بوجود حمل جديد. يجد الزوجان نفسيهما أمام خيار واحد لا مفر منه، وهو الإجهاض، في بلد يلفظ أبناءه ويستحيل العيش فيه، لا مفر من الإجهاض، ويصبح الإجهاض كناية عن قتل الآمال والأحلام في بلد لا يرحم، لكن حتى الإجهاض ليس بالأمر اليسير في اليمن، فهو بلد محافظ يحرّم أهله الإجهاض. حتى سكن الزوجين لبعضهما بعضا في هذا البلد أصبح ورطة ومأزقا، فلا قبل للزوجين بتحمل نفقات طفل جديد. يصبح حمل الأم ورطة كبيرة، فحالة الأسرة لا تساعد على مولد طفل جديد، وحالة البلد المتشدد دينيا أيضا تحول دون إجهاض الجنين. حتى إسراء نفسها تشعر بتأنيب ضمير كبير لمجرد تفكيرها في الإجهاض، فهي تسمع فتاوى الشيوخ ورجال الدين التي تحرم الإجهاض وتعتبره معصية كبيرة خصوصا بعد أن تدب الروح في الجنين.

قد يتبادر إلى الذهن حين مشاهدة «المرهقون» فيلم آخر هو «4 شهور، 3 أسابيع، ويومان» للمخرج الروماني كرستيان مونجيو، الذي يدور في الحقبة الشيوعية، عن امرأة تسعى للحصول على حق الإجهاض في بلد يجرمه. نرى في فيلم مونجيو الصادم الموجع تردي الأوضاع في بلد تداعت مؤسساته واهترأت بنيته، لكن غابت بصورة كبيرة عن فيلم «المرهقون» صنعة مونجيو، التي جعلت من فيلمه تحفة سينمائية. كما يعيد «المرهقون» إلى الأذهان فيلم «الحدث» للمخرجة الفرنسية من أصل لبناني أودري ديوان، لكن بطلة «الحدث» كانت تسعى للإجهاض لاستكمال دراستها وتحقيق طموحها، بينما في «المرهقون» لا طموح ولا أمل ولا دافع لمواصلة العيش في بلد لا يتحكم فيه الإنسان بمصيره، ويقسو المجتمع فيه على المرأة أشد القسوة. في نهاية المطاف تجد سناء من يعينها على التخلص من حملها، لكن انتهاء الحمل لا يخفف إلا قليلا من ضنك العيش. في بلد محافظ كاليمن، يختار المخرج قضية جريئة وآنية كالإجهاض، لكن طرحها لم يكن بالجرأة المرجوة، فالبطلة لم تكن تسعى للتمرد أو التحرر ولم تناقش قيم المجتمع أو الدين ولم تتجادل مع أي منها. لم يكن مسعاها للسيطرة على جسدها، أو حتى لتقرير مصيرها الخاص، كان كل سعيها للإجهاض للتخلص من عبء مالي يثقل كاهل العائلة.

 

القدس العربي اللندنية في

01.03.2023

 
 
 
 
 

ميشيل ونويل كسرواني لـ «الشرق الأوسط»: «يرقة» لتفهم الآخر

فازتا بجائزة «الدب الذهبي» في مهرجان برلين السينمائي

بيروت: فيفيان حداد

عادة ما نخبئ همومنا في صدورنا فتكون بمثابة «بلاطة» تخنقنا وتضيق أنفاسنا متفادين تقاسمها مع الآخر. فأن نخفف من ثقل أحمالنا كي نشعر بالراحة، هو قرار يراودنا ولكننا نجد صعوبة في تنفيذه.

فيلم «يرقة» لميشيل ونويل كسرواني يضع الأصبع على الجرح، ويدعو إلى توليد الصداقات بدل العداوات وتفهم الآخر. فهذا الرابط السامي في العلاقات بين البشر له انعكاسه الإيجابي على الناس. والعبارة التي يختتم بها الفيلم «الصداقات تقدر أن تنقذ روح» تشكل العنوان العريض له. فالمشاعر الإنسانية تبقى الأجدى في علاقات الناس بين بعضهم. وفيلم «يرقة» الذي حصد جائزة «الدب الذهب» في مهرجان برلين السينمائي وضع معنى الصداقة تحت المجهر، كما ربط بين الماضي والحاضر بطريقة سلسة وانسيابية، وعرج على موضوعات مختلفة بينها الهجرة والوحدة والاندماج في مجتمعات جديدة. فنص الفيلم والحوارات التي تدور فيه تنبع من الصميم. تغيب عنه السطحية والمشاعر التقليدية، فيدخل الأعماق ويبحث فيها.

وفيلم «يرقة» هو الفيلم الأول للأختين كسرواني، وهو فيلم قصير (30 دقيقة). فقد سبق وقدمتا أعمالاً غنائية وموسيقية وشعرية مصورة تخرج عن المألوف بتركيبتها والرسائل التي تحملها.

وتشير ميشيل كاتبة الفيلم وتشاركت مع أختها نويل في إخراجه إلى أن قصته تخرج عن المألوف، وبأنها تأثرت بمقالتين لأكرم فؤاد خاطر وفواز طرابلسي عن صناعة الحرير فشكلتا الانطلاقة لموضوعه. وتتابع لـ«الشرق الأوسط»: «هناك صورة هزتنا يذكرها طرابلسي في مقالته، ودفعتنا لأن نمزج بين الماضي والحاضر. فدمجنا بين ما كانت تعيشه نساء تلك الحقبة وأشياء عشناها في باريس بعد هجرنا لبنان. فولدت هذه القصة التي صورناها بين باريس ومدينة ليون ولبنان».

وتحكي هذه الصورة التي تسببت بفتح شهية الشقيقتين للعمل السينمائي عن حقبة قديمة تدور في عام 462 أيام الإمبراطورية اليابانية. عندما أصدر أحد الأمراء اليابانيين قراراً يقضي بأن تربى حشرة دود القز في صدور النساء. ففي وسطها تكمن الحرارة اللازمة كي تنمو فيها الشرانق.

«من خلال صور مختلفة نستنتج بأنه علينا أن نفهم الماضي كي نستوعب الحاضر»، تقول ميشيل التي ترى أن الأحداث التاريخية تؤثر من دون شك على حاضرنا بشكل تلقائي. وتتابع: «هذا الاستغلال للنساء ليس وليد اليوم، بل يعود إلى عصور قديمة ويتكرر بأشكال مختلفة».

وتحكي قصة الفيلم عن فتاتين سورية ولبنانية: أسماء (مسا زاهر) وسارة (نويل كسرواني) هاجرتا إلى أوروبا منذ وقت قصير. وخلال عملهما في المقهى نفسه تولد بينهما صداقة وطيدة بعد نفور، فتكشف عن أوجاعهما وعن الصدمات التي تخللت حياتهما. ويمر الفيلم على انفجار بيروت تارة، وعلى الحرب السورية تارة أخرى. كما يحاكي الحنين إلى الوطن من خلال تفاصيل بسيطة يستذكرها الثنائي بحماس.

وتوضح ميشيل: «القصة مكتوبة بمفتاحين، أحدهما يحمل دوافع داخلية وأخرى خارجية. ومن بعدها تحل هذه الصداقة الوطيدة بعد ضغوطات مختلفة».

تم تصوير الفيلم في نحو ثلاثة أيام، وينقسم نصه إلى اثنين، بحيث تم تركيب الأول في مواقع معينة، ويدور الثاني في الشارع. وتسود هذا الأخير العفوية وينتقل من الأمور السطحية إلى العميقة. فتتحدثان بداية عن الشاورما ورائحة هذا الطبق الشهية، مروراً بمشكلات السكن، وصولاً إلى الأهل، وليحط رحاله في عمق المشكلة، وهي طبيعة مخاوف تعيشانها. وتتبلور هذه المخاوف في صور تنبع من صدمات «تروما» تحاولان نسيانها والتغاضي عنها بطريقة وبأخرى. وتعلق ميشيل: «أعتقد أن الناس الذين عاشوا هذا النوع من الضغوط النفسية، وشعروا بهذا الثقل في صدورهم، يستطيعون قبل غيرهم أن يتلمسوا الرسالة التي يحملها الفيلم. فالفيلم يمكن قراءته على مستويات مختلفة كوننا احترمناها. وقدمنا محتوى بسيطاً وعميقاً في الوقت نفسه».

نويل كسرواني التي تجسد في الفيلم دور سارة تؤكد لـ«الشرق الأوسط» أن الدور فيه قسم كبير من شخصيتها الحقيقية. وبأنها تابعت تمارين مكثفة مع مسا زاهر، كي تولفا القصة بإيقاع يشبه المشاهد. «إنني أتواجد في فرنسا منذ نحو سنتين، وقصة هاتين الفتاتين تشبهني، كما أختي ميشيل والكثير من أصدقائنا. فهي مبنية على واقع عشناه بين لبنان وفرنسا، وجاهدنا كي نصل إلى التوازن المطلوب فيه».

ونفهم من الفيلم أن الهجرة التي يضعها كثيرون نصب أعينهم وكأنها خشبة الخلاص تفرز الغربة. وتعلق ميشيل لـ«الشرق الأوسط»: «يتوقون للعيش في الخارج ولكن داخله مشكلات أخرى. ولذلك علينا أن نفهم الآخر ونصغي إليه ونتقبله وإلا عشنا وحدة قاتلة قد تدفع بكثيرين للعودة إلى نقطة الصفر».

ترجمة الأختين كسرواني أفكارهما بكاميرا مبدعة وتلقائية، تشعر متابع الفيلم بأنه يسترجع شريطاً من حياته. كما جمعتا فيها فنوناً مختلفة طالت النحت. فقدمتا من خلاله صوراً إنسانية، بطريقة تطبع العين وتلمس المشاعر وتحاكي مضمون القصة.

أما الصداقة التي يحكي عنها الفيلم بين الفتاتين (سارة وأسماء) فتحولت إلى حقيقة حتى قبل تصوير الفيلم. وعن رأي نويل بهذه التجربة التمثيلية تقول: «إنها تدفعك إلى التخلي عن كل ما يراودك من أفكار ومشاعر كي تستطيعي الغوص فيها كما يجب. فشخصية سارة تشبهني ولكني لا أملك نفس ردود فعلها في حياتي العادية. كما أن التراكمات الفنية التي اختزناها ميشيل وأنا من أعمالنا الفنية السابقة سهلت مشوارنا السينمائي، فرسمنا بواسطتها هويتنا الفنية من بصرية وسمعية، وعرفنا كيف نقدم محتوى يمكن لأي شخص أن يستوعبه».

وتختم الأختان لـ«الشرق الأوسط»: «لا شك أن الجائزة ستفتح أمامنا آفاقاً واسعة بدأنا نلمسها منذ اليوم. لم نخطط لهذا الفوز، إذ قررنا فقط أن يمثلنا ويشبهنا. وهناك سلسلة جولات سيقوم بها الفيلم ضمن مهرجانات مختلفة على أن يحط بعدها في لبنان».

على موسيقى زيد حمدان ولين أديب، وهما صاحبا فريق «بدوين آند بيرغر»، يندمج مشاهد الفيلم بقصته بتأثر. فاليرقة التي تعد أول طور من نمو البيضة هي ولادة من نوع آخر، اختبرتها الأختان كسرواني على طريقتهما ووضعتاها في قالب سينمائي إنساني من الصعب الإفلات من انعكاساته الإيجابية على مشاهده.

 

الشرق الأوسط في

01.03.2023

 
 
 
 
 

"أدامان" نيكولا فيليبير: مُقاربةٌ سينمائية مُرهفةٌ للجنون

برلين/ محمد هاشم عبد السلام

تُركّز أفلام الفرنسي نيكولا فيليبير (1951)، غالباً، على شخصية واحدة، أو موقع مُعيّن، لاستكشافهما بتفصيلٍ دقيق، يحمل في طياته تعاطفاً وحبّاً وإنسانية. في "على متن أدامان"، الفائز بـ"الدب الذهبي ـ أفضل فيلم" في الدورة الـ73 (16 ـ 26 فبراير/شباط 2023) لـ"مهرجان برلين السينمائي"، لا يبتعد فيليبير كثيراً عن نهجه السابق في مُقاربة مواضيع أفلامه.

رغم تغيّر الزمن، وتعدّد وتنوّع أساليب مُقاربة السينما الوثائقية، لم يتغيّر أسلوب فيليبير وتناوله. في جديده، المؤلم والمؤثّر والمشوّق، والحافل بالشخصيات المُتعدّدة والمُتنوّعة، هناك مُقاربة حميمة ومُرهفة للجنون. مقاربة إنسانية أولاً، أكثر منها عقلية.

"أدامان" سفينة خشبية، ذات مصاريع وشبابيك ضخمة، ترسو على ضفاف نهر الـ"سين"، في باريس، منذ عام 2010. السفينة، غير اللافتة للانتباه، مصحّة نفسية عائمة، يرتادها محتاجون إلى علاج نفسي/عقلي. يأتون إليها ويذهبون طواعية، من دون أنْ يلاحظهم أحدٌ. أيضاً، يمرّ عليها الباريسيون وزوّار المدينة، من دون الالتفات إليها، أو إدراك دورها وطبيعتها. إنّها راسية قرب معالم عدّة لباريس، الزاخرة يومياً ببشر من كافة بقاع الأرض.

روّاد "أدامان"، الذين يُفترض بهم أنّهم بعيدون ومختلفون عن الآخرين حولهم في المدينة، تُجسّد أمراضهم ومشاكلهم واضطراباتهم وهواجسهم، التي يُعاينها الفيلم (109 دقائق)، مدى تعقيد مُعاناة البشر، عامة، وتركيبهم وهشاشتهم، وكيف أنّهم أناسٌ مثلنا تماماً، بعيوبنا ونواقصنا وضعفنا. إلا أنّ لهم طرقهم الخاصة والمختلفة في رؤية العالم.

يُقدّم نيكولا فيليبير، المُتخصص في الأفلام الوثائقية، في فيلمه الـ11 هذا، روّاد المركز على اختلافهم، مستعرضاً مدى الارتياح والسلام والطمأنينة التي يجلبها المركز لهم، من دون رصد وتصوير الأداء العام للمؤسسة، وكيفية عملها وإدارتها، ولا التركيز على الأطباء والمُعالِجين والمُمرّضين. مع ذلك، هناك شعور بقوة وظيفة المركز، وقيمته وأهميته، عبر ما يقدّم لزوّاره من علاج وتعليم وأنشطة ثقافية مجانية. فالفيلم لا يُقدّم، في سياقه، معلومات عن الأداء العام للمؤسسة، إدارياً وطبياً، باستثناء ذكر صعوبات مالية، وأزمات تُهدّد وجودها وأنشطتها.

يُلاحَظ انتفاء الصراخ والبكاء، والجلسات العلاجية التقليدية، وتناول الأدوية، وكيف أنّ العلاج يتمّ عبر الفن، وتسخير أدواته المختلفة، كالرسم والموسيقى تحديداً، الأكثر حضوراً من الفنون الأخرى. الجميع تقريباً يتفاعلون مع الرسم والغناء، بنشاط وحماسة، أو فتور وتكاسل. في النهاية، يظهر أنّ هؤلاء الأفراد، رغم إعاقاتهم الملحوظة، قادرون على إنتاجِ أصيلٍ وحيوي ومُعبِّر. العلاج بالفن ليس جديداً، لكنْ يبدو أنّه ينجح فعلاً في مساعدة أناس "أدامان"، في التعايش مع إعاقاتهم ومشاكلهم، ويساعدهم على استغلال وقتهم وطاقاتهم، وتسخير مَلكاتهم في الإبداع.

تتمثّل الأنشطة الأخرى بالخياطة والطبخ والرقص والأفلام، ومناقشة الأحداث الجارية. بعد جلسات الفن، يعرضون أعمالهم على بعضهم البعض، ويناقشون ما يحاولون القيام به، ويخطّطون من خلال نادي الأفلام، المُنعقد منذ 10 سنوات، لتنظيم مهرجان سينمائي للأفلام الكلاسيكية، وعرض روائع كثيرة، كأفلام وودي آلن وفرنسوا تروفو وفيديريكو فيلّيني وعباس كياروستامي، وغيرهم.

بكاميرا ثابتة، يتنقّل فيليبير بين الشخصيات، لتقديم مقابلات طويلة وصبورة معها. يتابع ما يفعلونه بحيادية، مُتيحاً لكلّ واحد مساحته الكاملة في الحديث الفردي. إيقاع "على متن أدامان" مبنيّ على الإيقاعات الخاصة بالمرضى وحكاياتهم، من دون أي تعليق له أو لفريق عمله، أو إجراء حوارات واستفسارات مباشرة. بتقليدية وثائقية صميمة، من دون لقطات استعراضية وتوظيفٍ لمؤثّرات بصرية وفنّيات ملحوظة، يُقدّم فيليبير أهل "أدامان"، واحداً تلو آخر.

يصعب حصر عدد الشخصيات، التي تزيد ربما عن 15. سيما أنّ فيليبير أدخل، بعد منتصف الفيلم، شخصيات أخرى، غير الموجودة منذ البداية. اختيار الشخصيات يبدو عشوائياً، إذْ لا يتحدّث كلّ من يظهر على متن السفينة. يحترم المخرج هذه الرغبة، ويحافظ بشدّة على تلك الخصوصية، إذْ يصعب تمضية وقت مع أشخاص لا يستطيعون أو لا يرغبون في التواصل، أو يشعرون بانزعاج وضيق من الكاميرا، أو التحدّث عن أنفسهم وقصصهم وتجاربهم.

مع ذلك، هناك شخصيات بمثابة أبطال، تكاد لا تختفي طول الفيلم. هؤلاء يتحدّثون بوضوح شديد عن ضعفهم وعزلتهم الاجتماعية. أحدهم يبدو مُصاباً بالتوحّد، وآخر بالوهم، وثالث بجنون العظمة. لكنْ، هناك اقتراب أكثر من فريدريك، البوهيمي المُسنّ والمُحبط، والمسكون بالفن، قبل أن يشاركنا إحساسه العميق الصادق بالتشابه، أو حتّى التطابق الشكلي بينه وبين الفنان الهولندي فانسنت فان غوغ، وشقيقه ثيو.

تتذكّر امرأة أفريقية حزينة أنّ ابنها وُضع في ملجأ أيتام، عندما بلغ 15 عاماً، وكيف أنّها، عندما تزوره، لا تستطيع التحدّث إليه، وأنّها المسؤولة عما حدث له، رغم أنّ وضعه الآن أفضل. كاثرين، بوهيمية مُسنّة ذات شعر هائش، تتحدّث باستطراد غاضب بعض الشيء عن اقتراح قيادتها فصول تدريب الـ"تاي تشي" وتعليمه. بينما تتجرّأ موريل، الجذّابة والمفعمة بالحيوية والمفتقدة للأهل والأصدقاء، على سؤال فريق العمل خلف الكاميرا عن حيواتهم الخاصة، وتتجاذب معهم حديثاً.

في غرفة أخرى، يتحدّث رجل يعاني صعوبات التعلّم والنطق مع المدرّسين، خلف الكاميرا، عن رسومات تكشف حبّه الكبير لعائلته. يظهر لاحقاً، قبل نهاية الفيلم، وهو يساعد في بيع القهوة في المقهى، بتألّق وسعادة وحيوية. فرنسوا، الذي يفتتح الفيلم بأغنية "روك" فرنسية من السبعينيات، والذي بدا مُقنعاً وواثقاً ولطيفاً في الغناء، يعترف لاحقاً أنّه لولا الأدوية القوية لما استطاع تحقيق التوازن والتحدّث في الفيلم.

باختصار، نحن إزاء شخصيات تجبرنا على التفكير في الجنون وماهيته، وكيف أنّه ليس شيئاً جامداً، بل شديد الاختلاف والتباين، والنسبية أيضاً. وأنّ أقصى أمنيات هؤلاء تلبية حاجتهم إلى حياة آمنة، والانتباه إليهم والاهتمام بهم، والاستماع إليهم بكلّ صدق وإخلاص. وقبل كلّ شيء، إشاعة تواصل حنون ودافئ في عوالمهم.

يندر خروج الكاميرا من السفينة، في "على متن أدامان"، باستثناء تصوير النوافذ، والجسر الذي ترسو تحته، والمَعبَر المُفضي إليها. مرة واحدة، يقوم المخرج بجولة سريعة، رفقة بعض روّاد "أدامان"، لزيارة أحد أسواق الفاكهة والخضار الباريسية. هناك، يجمعون الفاكهة السليمة، المُلقى بها في صناديق القمامة. يأخذونها معهم، ويصنعون منها المربى، لبيعها في كافيتيريا السفينة، لتحقيق دخلٍ ما، كمساهمة في النفقات المادية، وإعانة المؤسّسة.

أشخاص مركز "أدامان"، الإنساني الجميل، ربما نتجنّبهم أو نخافهم، غريزياً، في الحياة العامة. إلا أننا نتفهّمهم ونُحبّهم جداً في الفيلم. تفاعلنا معهم، ومع حكاياتهم ومآسيهم، صادق إلى أقصى حدّ.

 

العربي الجديد اللندنية في

03.03.2023

 
 
 
 
 

"تحت سماء دمشق": توثيق سينمائي بلغة مبسّطة

نديم جرجوره

5 شابات يُقرّرن كتابة مسرحية عن العنف المُمارَس ضد نساء سوريات، وتقديمها أمام جمهورٍ يُفترض به أنْ يهتمّ بموضوع كهذا. الكتابة تحتاج إلى معطيات وحكايات. العنف ذكوريّ، وحضوره في الاجتماع العربي قديمٌ، والحاضر يُزيده حدّة وتسلّطاً. الحكايات مروية على ألسنة مُعنَّفاتٍ، وبعض المرويّ يختلط بدموعٍ وقهرٍ، وبشيءٍ من تحدٍّ وحزم. نساء يعملن في مصنعٍ، وأخريات يُدخلهنّ أبٌ أو زوج أو أخ أو عمّ إلى مشفى الاضطرابات النفسية (وجوه بعض هؤلاء مخفيّ أمام الكاميرا). هناك أيضاً "جمعية إشارتي" للصُم ـ البُكم، وبعض صباياها معرّضات، هنّ أيضاً، لتحرّشٍ واغتصاب.

المرويّ يُشبه حكايات كثيرة في مدنٍ وبلدات عربية. "تحت سماء دمشق" (2023، 88 دقيقة)، المعروض في "بانوراما الأفلام الوثائقية" في الدورة الـ73 (16 ـ 26 فبراير/شباط 2023) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)"، يجمع تلك الحكايات في نسقٍ مبسّط وواضح ومباشر، مُدخلاً في السياق بعض الذاتيّ، الذي تبوح به هبة خالد، كاتبة الفيلم ومخرجته إلى جانب طلال ديركي وعلي وجيه، وفاتحاً أفقاً أوسع في معاينة الحكاية الأصلية (العنف الذكوري ضد المرأة، لفظياً ومادياً)، إذْ يحدث "شيءٌ" ما لشابتين من الشابات الـ5، سيكون إفادةً سينمائية، رغم ضررٍ واقعيّ.

في لحظةٍ كهذه، يحدث تحوّلٌ في المسار الدرامي/السرديّ للنصّ والاشتغال البصريّين. "انسحاب" إليانا (سعد) في ذروة تحضير النصّ المسرحي سيطرح تساؤلات، بل "إشارات استفهام" كثيرة، كما تقول الراوية، قبل معرفتها (الراوية) السبب الفعلي للانسحاب. هذا يؤدّي إلى فصلٍ آخر مختلف، والاختلاف معقودٌ على البنية السينمائية/الدرامية/الفنية لـ"تحت سماء دمشق"، أي على كيفية مقاربة الحكاية الأصلية (العنف الذكوري)، من دون قطعٍ وتبديل، فالحاصل لاحقاً استكمالٌ لتلك الحكاية، وتفعيلٌ (لعلّه غير مقصود، فالحاصل لاحقاً ناشئ من الاشتغال على تحقيق الفيلم/المسرحية) لها.

تفاصيل عدّة تُروى وتُصوَّر، ولبعضها جمالية بصرية تُكمِل النصّ، وتشارك في بنائه الفني. إنانا (راشد) ستواجِه والديها، رفقة شقيقها، في مسائل ذاتية/شخصية وعامّة. الحرب السورية قائمةٌ (إنّها سببٌ أساسي لعدم تمكّن خالد وديركي من إنجاز الفيلم في دمشق، والاكتفاء بالاشتغال عليه من برلين، بينما علي وجيه مُقيم في المدينة)، وهذا كافٍ لنقاشٍ، فيه حدّة وانفعال (إنانا)، عن الثورة والحرب والسلطة/النظام. أمّا الذاتي/الشخصيّ، فحاصلٌ لاحقاً، لأنّ إنانا تختار خروجاً لها من المنزل/العائلة. لقطات مختلفة تشي بمعانٍ، تدعم المرويّ في الحكايات المؤلمة: انطفاء أضواء المصنع، بعد انتهاء امرأة من سرد حكايتها؛ لقطة عامة لمقبرةٍ؛ الدجاج و"نَتْفُه". هذه نماذج ترتبط بالمسائل المطروحة، كتفسيرٍ بصري لها، أو كدلائل فنية مُتقنة الصُنعة للحكاية الأصلية.

أبنية مهدّمة تظهر أكثر من مرّة أمام الكاميرا (رائد صنديد)، من دون أنْ تُحاصَر بالقول إنّ الحرب في سورية تهدم وتقتل فقط. الأبنية غير المتداعية، رغم الدمار الهائل فيها، تعكس خراباً حاصلاً في نفوس نساء وأرواحهنّ، جرّاء عنف يتمثّل بالضرب والتحرّش الجنسي والإساءات المتكرّرة، والحرمان من أبناء وبنات، وتعنيفهم أيضاً. لكنّ نفوساً وأرواحاً كهذه غير متداعية، رغم حجم العنف وآثاره القاتلة، ما يؤكّد، بصرياً على الأقلّ، التحدّي والحزم اللذين "تتمتّع" بهما نساء معنّفات. خراب الأبنية/المدن في سورية مرآة تعكس خراب نساءٍ يعشن أهوال الحرب نفسها، وآلام حربٍ أخرى (العنف الذكوري، التحرّش الجنسي، الاستغلال الجسدي والمعنوي)، لن تكون أخفّ حدّة منها. للمقبرة صوتٌ أيضاً، وإنْ يكن صامتاً. فالحرب السورية تفتح قبوراً كثيرة، والحرب الأخرى تودي، أحياناً، بحياة نساءٍ مُعنّفات.

يُتيح "تحت سماء دمشق" تفسيرات مختلفة، تنبثق من الحكاية الأصلية، وتتكامل معها. التوثيق (جمع الحكايات من نسائها أنفسهنّ، أو من بعضهنّ على الأقلّ) ينفلش على مساحة الصورة السينمائية في مقاربة عمقٍ بشريّ في آلامه وتمزّقاته ومخاوفه وتحدّياته. تحويل المرويّ إلى نصّ مسرحيّ تمرينٌ على إدخال فنٍّ (المسرح) في آخر (الفيلم الوثائقي). هذان الاشتغالان الفنّيان (المسرحية والوثائقيّ) يمتلكان رفاهية الابتكار/الخيال، وإنْ تكن المادة السردية واقعية/حقيقية.

لن تكون هناك إعادة تمثيل/إعمال الخيال في وثائقيّ الثلاثي خالد وديركي ووجيه، كما يحصل أحياناً في أفلامٍ وثائقية، بعضها يستعين بالتحريك (إعمال الخيال) في اشتغالاته الفنية والجمالية والتوثيقية. فالمرويّ يُعيد تصوير وقائع، كما تعيشها نساء معنّفات يظهرن في الفيلم، والتمثيل المسرحي مُختَزل للغاية، فالوقائع تلك تتفوّق على كلّ تمثيلٍ، لقدرتها الفائقة على "تمثيل" نفسها، من دون حاجة إلى أداء أو ابتكار/خيال.

انكشاف الحاصل مع الشابتين يترافق وخروج الشابات جميعهنّ من دمشق إلى لبنان. هناك حاجة إلى مساحةٍ أهدأ لفهم الحاصل نفسه. النساء المعنّفات في دمشق يُصبحن أولئك الشابات في لبنان، اللواتي (الشابات) سيروين حكاياتهنّ، التي "ربما" تكون امتداداً لحكايات نساء دمشق. انقلاب السرد، إنْ يصحّ وصف التبدّل انقلاباً، يُستفاد منه، سينمائياً وسردياً وجمالياً، بأنْ يُكمل المخرجون الـ3 توثيقهم الألم والقهر والتسلّط الذكوري والتحدّي النسائي، عبر حكايات الشابات وانفعالاتهنّ ومواقفهنّ وقلقهنّ ونظراتهنّ وأحاسيسهنّ وتفكيرهنّ.

"تحت سماء دمشق" قابلٌ لمزيدٍ من نقاشٍ، غير متوقّف عند حكايته الأصلية فقط، لامتلاكه بساطة وابتعاداً عن أي فذلكة بصرية (وهذا مهمّ سينمائياً)، ولاحتوائه على حكاياتٍ يجب توثيق مثيلاتها أكثر فأكثر. حكايات تبدأ مع ألم الممثلة صباح السالم، المعرّضة لعنفٍ ذكوري يؤدّي بها إلى السجن 15 عاماً، والفيلم ينتهي بها ومعها أيضاً، جالسةً أمام المرآة كأنّها تواجه نفسها وماضيها.

 

العربي الجديد اللندنية في

08.03.2023

 
 
 
 
 

فيلم «تحت سماء دمشق»:

سوريات يسلطن الضوء على واقع المرأة في بلادهن

نسرين سيد أحمد

برلين ـ «القدس العربي»: وجه جميل رغم ما خطته السنين والآلام من إجهاد وحزن باد. إنه وجه امرأة سورية، كانت في ريعان شبابها ممثلة، لكنها لم تخضع لرغبة مسؤول متنفذ، فكال لها العذاب وألقاها في السجن سنوات طوال. امرأة تشكو بحرقة من زوج لا يعمل ولا ينفق، ويستولي على الأجر الضئيل الذي تحصل عليه.

تلك هي قصص بعض النساء الذين يسلط عليهن الضوء المخرجان طلال ديركي وهبة خالد في فيلمهما الوثائقي «تحت سماء دمشق» الذي شارك في بانوراما مهرجان برلين السينمائي في دورته الثالثة والسبعين. بخلاف العديد من الأفلام في الأعوام الماضية، التي تناولت الحرب في سوريا، وما خلفته من دمار معنوي ومادي، محور «تحت سماء دمشق» هو المرأة في سوريا وما تواجهه من ظلم وقهر وتعنت وتحرش. في أحد مشاهد الفيلم تسعى شابة سورية لتقديم شكوى رسمية في رجل تحرّش بها، وبينما يحاول البعض إثناءها عن الشكوى، نرى إصرارها على شكواها، تنتقل الشكوى من موظف لآخر، وفيما تتراكم عليها الأختام الرسمية والتوقيعات، على الرغم من يقينها الداخلي إن كل هذه التوقيعات والأختام ليست سوى إجراءات روتينية لن تمكنها من الحصول على حقوقها، أو حتى في الحصول على ترضية معنوية. لكن تصوير فيلم عن الواقع المعاش للمرأة السورية، الذي يتماهي في واقع الحال مع واقع المرأة في مختلف البلاد العربية، لم يكن بالأمر اليسير، خاصة أن مخرجي الفيلم، طلال ديركي وهبة خالد، يعيشان في المهجر، أو فلنقل المنفى، في ألمانيا ولا يتسنى لهما الذهاب إلى سوريا لأسباب أمنية وسياسية.

وعلى غرار أفلام الإيراني جعفر بناهي، الذي طالما استثمر قرار منعه من مزاولة الإخراج في بلاده لصالح إنجاز أفلام ذات تأثير كبير، وكان أحدثها فيلم «لا دببة» الذي حصل على الجائزة الخاصة للجنة التحكيم في مهرجان فينيسا عام 2022، يستثمر ديركي وهبة عدم تمكنهما من الوجود على أرض الواقع في سوريا لصالح فيلمهما، ولصالح تسليط الضوء على المرأة السورية ومحنتها. يجد ديركي وهبة حلا لعدم تمكنهما من الوجود على أرض الواقع في سوريا بالاستعانة بعدد من الشابات السوريات، وهن إينانا وإليانيا وغريس وسهير وفرح، نعرف أنهن ممثلات وفنانات يطمحن لتقديم عمل مسرحي يعتمد على تصوير شهادات النساء عما يتعرضن له من عنف وتحرش وابتزاز وتنكيل. إنه عمل مسرحي للبوح ولتقديم شهادات ولفضح المسكوت عنه، وليكن بمثابة تجربة علاجية للنساء من آلام تعرضهن للقهر والبطش. تستأجر الشابات القائمات على العرض المسرحي منزلا يصلح لإقامتهن ولإقامة عروض المسرحية. هن فتيات تمكن من نيل بعض الحرية، وبعض المتنفس في مجتمع لا يزال يرسم حدودا ضيقة للغاية للمرأة، ورغم تجاوزهن للكثير من أوجه العنف والاضطهاد الذي تشهده المرأة، إلا أن شهادات النساء اللاتي يجمعنها لمسرحيتهن تلمس وترا حساسا داخلهن.
الفيلم إذن مسرحية في داخل فيلم، يتضافر فيه العملان لسرد واقع المرأة السورية، في العديد من مشاهد الفيلم نرى الدمار الذي حل في دمشق في الحرب، نرى مساحات شاسعة من المباني المدمرة الخربة المقفرة، وكأن هذا الخراب يعكس ما يحيق بنفوس النساء جراء ما يتعرضن له.. نرى مباني مهدمة دمرتها القذائف والمدافع، ونساء منهكات نفسيا. مدينة في حاجة إلى إعادة إعمار، ونساء يروين آلامهن علهن يجدن في البوح بعض المتنفس. نرى نساء في مصحة للأمراض النفسية والعقلية، لأن أجسادهن ونفسياتهن لم تقو على مواجهة مواجعهن. لا يتناول الفيلم الحرب أو السياسة بشكل صريح، لكن النظام الذكوري الديكتاتوري الباطش الذي أدخل البلاد في تلك الحرب المهلكة هو ذاته الذي بطش بهؤلاء النساء واستباح حقوقهن ودمّر حياتهن. ثمة تواز وتماه بين واقع البلاد وواقع النساء.

يطلعنا الفيلم في صورة مقدمة مكتوبة أنه وسط موجات النزوح التي تسببت فيها الحرب، كانت الحلقة الأضعف هي النساء، وبقيت الكثيرات منهن بمفردهن في البلاد بعد فقد الأزواج والأهل. بقين لإعالة الأبناء، وليحاولن أن يجمعن شتات عالمهن الذي دمرته الحروب، لكن شجاعتهن وقوتهن لم تكن حائلا يقيهن بطش الرجال والتعنيف والتنكيل.

نظن لوهلة أن الشابات اللاتي أوكل إليهن إنجاز المسرحية، صاحبات حظ أوفر من غيرهن، وأنهن تمكن من نيل حقوقهن والتحرر من قيود المجتمع، لكن الواقع يصدمنا دون هوادة وعلى حين غرة. يواجه الفيلم والمسرحية تحديا حقيقيا يوضح المجتمع الذكوري الذي تعيش فيه الفتيات واجتماع التحرش مع تسلط الرجل وسطوته. تتغيب إحدى الممثلات الشابات عن المسرحية، إذ فجأة وبعد محاولات مستميتة للاتصال بها، تعلن أنها ستتخلى عن العمل في المسرحية. نكتشف لاحقا أنها تعرضت لملاحقة مسعورة وتحرش من أحد المسؤولين عن الإنتاج في الفيلم، وهو أحد الذين ينوبون عن مخرجي الفيلم في سوريا، نظرا لوجودهما خارج البلاد. نرى أن الفتيات اللاتي أخذن على عاتقهن أن يساعدن النساء على البوح والتعافي يواجهن أيضا التحرش، وإنه في أوساط المتحدثين عن حقوق المرأة نجد رجالا يتحرشون بالمرأة.

تجد الفتيات ومخرجا الفيلم أنه لا سبيل لإتمام الفيلم إلا بخروج الفتيات من سوريا، حيث يسافرن إلى لبنان للتعافي من آثار التحرش ولاستكمال مسيرة الفيلم. يبدو كما لو أن الفيلم ينذرنا بأنه في مجتمعات ذكورية سلطوية مثل مجتمعاتنا لا ملاذ للمرأة إلا المغادرة.

 

القدس العربي اللندنية في

09.03.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004