هكذا أسدل الستار مساء السبت على دورة أعتبرها الأسوأ على
الإطلاق منذ أن بدأت أتردد على مهرجان برلين السينمائي الدولي. والسبب يرجع
أساسا إلى الاختيارات الضعيفة للمدير الفني للمهرجان، سواء داخل أو خارج
المسابقة.
مهرجان برلين الذي يدللونه بتسميته “البرليناله”، وهو اسم
سخيف لا أجد له معنى أصلا عند غير الألمان، هو مهرجان تجاري، أي مفتوح
للجمهور العام بتذاكر. ولكنه في الوقت نفسه، يريد أن يكون أيضا مهرجانا
نخبويا لصناع السينما والنقاد والموزعين والمنتجين، على غرار مهرجاني كان
وفينيسيا، فهو ينظم أيضا سوقا دولية للأفلام، كما يزعم الاهتمام بسينما
الفن لا السينما التجارية، إلا أن المدير الجديد أعلن أنه يجمع بين كل
الأنواع، ولعل هذا تحديدا السبب في فقدان المهرجان طابعه الفني القديم.
مهرجان برليم يبيع التذاكر للجمهور، ويعتمد في ميزانيته
بنسبة كبيرة على دخل شباك التذاكر، إضافة الى ما صحل عليه من دعم مالي من
الدولة (يغطي 40 في المائة من ميزانيته) كما يغطي الباقي من الجهات الراعية
العديدة. ولكن من الغريب أنه لا يهتم بأهم سينما في العالم، السينما الأكثر
تعددية وتقدما وشعبية أيضا وصاحبة الاتجاهات المتعددة والقدرة الدائمة على
تطوير نفسها، أي السينما الأمريكية. فمحاولة إقصاء السينما الأمريكية، إما
محاولة طفولية لإبراز السينمات الأخرى الهامشية مثل السينما الأسترالية
(التي عرض لها فيلمان ضعيفان في المسابقة، كلاهما لا يصلح لمسابقة جمعية
هواة السينما!!)، أو لأن منتجي أفلام هوليوود للمخرجين والنجوم الكبار
يرفضون عرض أفلامهم في “البرليناله” مفضلين ادخار الجديد منها للعرض في كان
وفينيسيا بسبب موعد إقامة كل منهما. فالأول يعتبر بوابة موسم الصيف للعروض
العالمية، والثاني يعتبر انطلاقة نحو موسم الجوائز وخصوصا الأوسكار.
لكن الأمر لا يقتصر فقط على السينما الأمريكية التي غابت
سوى من خلال نماذج ضعيفة بائسة أثارت غضب واستهجان الجميع، ففيلم الافتتاح
الأمريكي مثلا هو عمل لا يليق بالعرض في مهرجان دولي ناهيك عن مهرجان برلين
الذي أكمل دورته الـ 73، بل وحتى الاختيارات الأخرى في المسابقة التي تعتبر
واجهة المهرجان، هي أفلام ضعيفة بشكل عام، لا تثير الاهتمام بقدر ما تثير
الاستياء.
وأظن أن من بين عوامل فشل المهرجان أولا اختيار إدارة
ثنائية، ما بين مدير فني إيطالي، ومديرة إدارية ألمانية كأنها وضعت رقيبة
عليه، فالمدير الإيطالي كارلو شاتريان (الذي علمت أنه لا يتحدث
الألمانية!)، لا يبدو أنه يتمتع بالمعرفة السينمائية الكافية (العالمية)
ولا بالخبرة التي تؤهله لتولي إدارة هذا المهرجان الكبير، وحتى تاريخه في
إدارة مهرجان لوكارنو تاريخ سيء، فقد انحدر بالمهرجان الى أدنى السلم،
ولابد أنه تأثر بسياسة مهرجان لوكارنو في اختياراته من السينمات الهامشية
وبقايا الأفلام ونقلها الى برلين. فمسابقة لوكارنو معروفة أيضا باهتمامها
بأفلام الدرجة الثانية والسينما الأمريكية المستقلة التي انحدرت وأصبحت
أسوأ كثيرا من أفلام هوليوود. كما أن خبرات شاتريان تنحصر في السينما
الأوروبية فقط وغالبا في المنطقة الإيطالية – السويسرية أيضا. والسنوات
الثلاث الأخيرة تشهد بأنه فشل في الارتفاع بمستوى مهرجان برلين، بل كان
سلفه، ديتر كوسليك، أفضل كثيرا وأكثر حكمة وطموحا ومعرفة بالعالم، وكان
أكثر من تولوا إدارة المهرجان معرفة هو ماركو موللر الذي يتمتع بثقاف
سينمائية عميقة ومعرفة بسينمات العالم غير الأوروبي.
وقد عكس تشكيل لجنة التحكيم من البداية تلك النزعة الغريبة
السائدة في ألمانيا اليوم عن الاهتمام بالجندرية والمثلية التي لابد أنها
فرضت نفسها على اختيارات المدير الفني، وتمثلت في إسناد رئاسة اللجنة التي
تمنح جوائز المسابقة الرسمية، الى كريستين ستيوارت (32 سنة)، الممثلة
الأمريكية التي لا تمتلك تاريخا يؤهلها أصلا لتولى رئاسة لجنة كهذه. ولكنها
“نجمة”، وكانت قد أعلنت على الملأ من سنوات، مثليتها الجنسية، وبالتالي
أصبحت تتلاقى مع تلك النزعة المريضة المسيطرة على عقلية جيل من المثقفين في
ألمانيا حاليا، وفي أوروبا بشكل عام.
هناك أيضا فكرة المساواة بين الرجل والمرأة في المجال
السينمائي التي لا تعني أبدا التضحية بالمستوى لإرضاء النساء من المخرجات
أو الممثلات، ولا قبول أفلام ضعيفة لمجرد أنها من إخراج نساء، أو لأن
موضوعاتها تدور حول مشاكل “أنثوية”. فمسألة الجندر والجندرية أصبحت تشكل
نوعا من الهوس المرضي الذي يتسبب اليوم في هبوط السينما ومستواها. وأصبحت
فكرة 50- 50 مدعاة للتفاخر بين مديري المهرجانات، أي تخصيص 50 في المائة من
الأفلام المعروضة للمخرجات!
ومن جهة أخرى شاهدنا في الكثير من الأفلام العلاقات الجنسية
الشاذة (أو المثلية إن أردت!!)، وهو هوس آخر ربما يجعلنا نرى في المستقبل
القريب فرض نسبة محددة لأفلام الشواذ جنسيا في المهرجانات الأوروبية بوجه
خاص، في تنازل طبيعي أمام ضغوط اللوبي (الشاذ) المؤثر في صناعة القرار في
أعلى مستويات السلطة في ألمانيا وغيرها!
لجنة كريستين ستيوارت منحت جائزة الدب الفضي لفيلم تسجيلي
فرنسي (لم أشاهده وفشلت في العثور على ترجمة عربية ذات معنى له) هو On
The Adamant أو
بالفرنسية Sur
l’Adamant لمخرج
يدعى نيكولاس فليبير، عن علاج المرضى النفسيين في مستشفى عبارة عن باخرة
تسير في نهر السين، وكيف يساعدهم الطاقم الطبي على العودة إلى الحياة
مجددا، وهو اختيار يبدو مدفوعا برفض منح الجائزة لأي عمل من الأفلام
الروائية، أو تشبها بمنح الفيلم التسجيلي الطويل “عن الجمال والدم المراق”
جائزة “الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا، علما بأن المسابقة ضمت فيما
تسجيليا آخر، وفيلمين من أفلام التحريك (الرسوم) بينما لم يتجاوز العدد
الكلي لأفلام المسابقة 19 فيلما. وهو خلط بين أجناس الأفلام لا أراه مبررا
بل ويعكس فقرا وعجزا عن الاتيان بأفلام روائية، وإلا لما كنا نخصص مهرجانات
ومسابقات خاصة داخل المهرجانات للأفلام التسجيلية وأفلام التحريك، ولكنه
أيضا نزوع مرضي نحو فكرة “المساواة” السخيفة التي تصبح مبررا للفوضى!
من الأفلام التي أصبحت تفرض “تيمة” معينة تتكرر من عام إلى
أخر، فيلم “20 ألف فصيلة من النحل” وهو فيلم اسباني لمخرجة هي اليزابيث
أوريسولا، يسير على نهج فيلم اسباني آخر هو “الكاراس” الحاصل على الدب
الذهبي في مهرجان برلين العام الماضي، والتيمة أو الموضوع عن تصوير العائلة
والريف والأطفال، والأحاديث أو الثرثرة التي لا تتوقف لثانية واحدة، وتصوير
تلقائية العلاقة بين الكبار والأطفال، وحياة الناس في الريف (هم هنا من
الطبقة الميسورة)، وهو أيضا نوع من الأفلام يستغرق لنحو ساعة في وصف الجو
العام السائد بين الأفراد، الشقيقات والأزواج والأجيال.. إلخ، والمشاحنات
أو الخلافات التي لا أحد يعرف لها سببا مقنعا أو التي لا تهم أحدا أسبابها
أصلا، قبل أن يصل الفيلم إلى لمس موضوعه الذي ينحصر عادة في مشكلة صغيرة
يجعل منها صناع الفيلم شيئا كبيرا وأمرا جللا. والموضوع هنا عن طفل ولد
ذكرا لكنه يشعر أنه أنثى، ويعاني وتعاني أسرته التي تريده كانت تريده ولدا
رغم أنها تبدو منسجمة مع فكرة ارتدائه ملابس فتيات.. وشخصيا لم أشعر بأي
تعاطف مع الموضوع أو مع الأسرة، فالمسالة بسيطة للغاية، فإذا كانت الأسرة
توافق على أن يصبح “أيتور”، “لوسيا” فما هي المشكلة؟ هناك جراحون يجرون
عمليات التحول الجنسي بكل بساطة ونجاح.
مع ذلك يجب الاعتراف بالطبع بالقدرة المدهشة على الأداء من
جانب الطفلة الصغيرة “صوفيا أوتيرو” التي أدت الدور بأبعاده النفسية
المعقدة والتي منحتها لجنة التحكيم جائزة أفضل ممثلة، وهو ما لا أتفق معه
رغم اعترافي ببراعتها، فالجوائز يجب أن تذهب الى الممثلين المحترفين، الذين
يتنافسون مع بعضهم البعض، لا الى الأطفال المبتدئين الذين لم يصبحوا ممثلين
بعد، ويمكن تطويعهم وتدريبهم على الأداء دون أن يعني هذا أنهم أصبحوا
ممثلين، والفضل في نهاية الأمر يعود الى المخرج أو المخرجة التي دربتها
وساعدتها على القيام بالدور. وكم من أطفال برعوا في تمثيل أدوار الأطفال في
الأفلام وبعد أن كبروا لم يصبحوا شيئا في عالم التمثيل. والاستثناءات قليلة
بالطبع!
في مفاجأة مدهشة لم تمنح لجنة كريستين ستيوارت جائزة لأفضل
ممثل، تأكيدا على فكرة عدم التفرقة الجندرية بين الذكور والإناث واعتبار أن
هناك جائزة واحدة لأحسن “ممثل” actor بعد
أن توقفوا عن استخدام كلمة actress لوصف
الممثلة (الأنثى).. وهو نوع آخر من التطرف المهووس الذي أصبح يصبغ العالم
الذي نعيش فيه حاليا. وعندما صعد المخرج البرتغالي “خواو كانيجو” مخرج فيلم
“حياة سيئة” الى المسرح في حفل الختام ليتسلم جائزة الأسد الفضي الخاصة
للجنة التحكيم، وجه الشكر الى الممثلة التي قامت ببطولة فيلمه مستخدما كلمةactress فما
كان إلا أن رمقته كريستين ستيورات بنظرة قاسية.
أما جائزة الدب الفضي لأفضل إخراج فذهبت إلى المخرج
الألماني “كريستوف بيتزولد” صاحب فيلم “السماء المشتعلة”، وهو فيلم كوميدي
عاطفي خفيف مع إشارات بعيدة إلى ما يحدث من تحولات تنذر بالخطر في البيئة.
وتقوم بدور البطولة فيه الممثلة الألمانية الشابة الجميلة “بولا بير” التي
سبق أن فازت بجائزة أفضل ممثلة قبل خمس سنوات عن دورها في فيلم “أوندين”
للمخرج نفسه الذي يبدو أنه أصبح يستعين بها في كل أفلامه بعد أن حلت محل
بطلته وصديقته السابقة “نينا هوس” التي كان السبب في شهرتها الممثلة.
حصل المخرج الفرنسي فيليب جاريل على جائزة أفضل إخراج (الدب
الفضي) عن فيلمه “المحراث”، الذي قام ببطولته الممثل “لويس جاريل” الذي سبق
أن لعب دور جودار في الفيلم السخيف “المهيب” Redoubtable الذي
أخرجه ميشيل هازانافثيوس، والطريف أن المخرج فيليب جاريل (لا أعرف ما إذا
كانت تربطه صلة قرابة مع الممثل لويس جاريل) عندما صعد لاستلام الجائزة
أهداها إلى الراحل جودار!
على أي حال أسعدني كثيرا فوز الفيلم اليمني الروائي الطويل
“المرهقون” أول أفلام المخرج عمر جمال، الذي عرض في برنامج بانوراما،
بجائزة منظمة العفو الدولية، كما حصل على جائزة الجمهور مناصفة مع فيلم
آخر، فهو عمل جيد جدا بل وأعتبره أيضا عملا ثوريا” بمعنى ما، سأكشف عنه
تفصيلا في مقال قادم عن هذا الفيلم فقط. |