ملفات خاصة

 
 
 

اسدال الستار على أسوأ دورات مهرجان برلين السينمائي

أمير العمري- برلين

مهرجان برلين السينمائي الدولي

الدورة الثالثة والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

هكذا أسدل الستار مساء السبت على دورة أعتبرها الأسوأ على الإطلاق منذ أن بدأت أتردد على مهرجان برلين السينمائي الدولي. والسبب يرجع أساسا إلى الاختيارات الضعيفة للمدير الفني للمهرجان، سواء داخل أو خارج المسابقة.

مهرجان برلين الذي يدللونه بتسميته “البرليناله”، وهو اسم سخيف لا أجد له معنى أصلا عند غير الألمان، هو مهرجان تجاري، أي مفتوح للجمهور العام بتذاكر. ولكنه في الوقت نفسه، يريد أن يكون أيضا مهرجانا نخبويا لصناع السينما والنقاد والموزعين والمنتجين، على غرار مهرجاني كان وفينيسيا، فهو ينظم أيضا سوقا دولية للأفلام، كما يزعم الاهتمام بسينما الفن لا السينما التجارية، إلا أن المدير الجديد أعلن أنه يجمع بين كل الأنواع، ولعل هذا تحديدا السبب في فقدان المهرجان طابعه الفني القديم.

مهرجان برليم يبيع التذاكر للجمهور، ويعتمد في ميزانيته بنسبة كبيرة على دخل شباك التذاكر، إضافة الى ما صحل عليه من دعم مالي من الدولة (يغطي 40 في المائة من ميزانيته) كما يغطي الباقي من الجهات الراعية العديدة. ولكن من الغريب أنه لا يهتم بأهم سينما في العالم، السينما الأكثر تعددية وتقدما وشعبية أيضا وصاحبة الاتجاهات المتعددة والقدرة الدائمة على تطوير نفسها، أي السينما الأمريكية. فمحاولة إقصاء السينما الأمريكية، إما محاولة طفولية لإبراز السينمات الأخرى الهامشية مثل السينما الأسترالية (التي عرض لها فيلمان ضعيفان في المسابقة، كلاهما لا يصلح لمسابقة جمعية هواة السينما!!)، أو لأن منتجي أفلام هوليوود للمخرجين والنجوم الكبار يرفضون عرض أفلامهم في “البرليناله” مفضلين ادخار الجديد منها للعرض في كان وفينيسيا بسبب موعد إقامة كل منهما. فالأول يعتبر بوابة موسم الصيف للعروض العالمية، والثاني يعتبر انطلاقة نحو موسم الجوائز وخصوصا الأوسكار.

لكن الأمر لا يقتصر فقط على السينما الأمريكية التي غابت سوى من خلال نماذج ضعيفة بائسة أثارت غضب واستهجان الجميع، ففيلم الافتتاح الأمريكي مثلا هو عمل لا يليق بالعرض في مهرجان دولي ناهيك عن مهرجان برلين الذي أكمل دورته الـ 73، بل وحتى الاختيارات الأخرى في المسابقة التي تعتبر واجهة المهرجان، هي أفلام ضعيفة بشكل عام، لا تثير الاهتمام بقدر ما تثير الاستياء.

وأظن أن من بين عوامل فشل المهرجان أولا اختيار إدارة ثنائية، ما بين مدير فني إيطالي، ومديرة إدارية ألمانية كأنها وضعت رقيبة عليه، فالمدير الإيطالي كارلو شاتريان (الذي علمت أنه لا يتحدث الألمانية!)، لا يبدو أنه يتمتع بالمعرفة السينمائية الكافية (العالمية) ولا بالخبرة التي تؤهله لتولي إدارة هذا المهرجان الكبير، وحتى تاريخه في إدارة مهرجان لوكارنو تاريخ سيء، فقد انحدر بالمهرجان الى أدنى السلم، ولابد أنه تأثر بسياسة مهرجان لوكارنو في اختياراته من السينمات الهامشية وبقايا الأفلام ونقلها الى برلين. فمسابقة لوكارنو معروفة أيضا باهتمامها بأفلام الدرجة الثانية والسينما الأمريكية المستقلة التي انحدرت وأصبحت أسوأ كثيرا من أفلام هوليوود. كما أن خبرات شاتريان تنحصر في السينما الأوروبية فقط وغالبا في المنطقة الإيطالية – السويسرية أيضا. والسنوات الثلاث الأخيرة تشهد بأنه فشل في الارتفاع بمستوى مهرجان برلين، بل كان سلفه، ديتر كوسليك، أفضل كثيرا وأكثر حكمة وطموحا ومعرفة بالعالم، وكان أكثر من تولوا إدارة المهرجان معرفة هو ماركو موللر الذي يتمتع بثقاف سينمائية عميقة ومعرفة بسينمات العالم غير الأوروبي.

وقد عكس تشكيل لجنة التحكيم من البداية تلك النزعة الغريبة السائدة في ألمانيا اليوم عن الاهتمام بالجندرية والمثلية التي لابد أنها فرضت نفسها على اختيارات المدير الفني، وتمثلت في إسناد رئاسة اللجنة التي تمنح جوائز المسابقة الرسمية، الى كريستين ستيوارت (32 سنة)، الممثلة الأمريكية التي لا تمتلك تاريخا يؤهلها أصلا لتولى رئاسة لجنة كهذه. ولكنها “نجمة”، وكانت قد أعلنت على الملأ من سنوات، مثليتها الجنسية، وبالتالي أصبحت تتلاقى مع تلك النزعة المريضة المسيطرة على عقلية جيل من المثقفين في ألمانيا حاليا، وفي أوروبا بشكل عام.

هناك أيضا فكرة المساواة بين الرجل والمرأة في المجال السينمائي التي لا تعني أبدا التضحية بالمستوى لإرضاء النساء من المخرجات أو الممثلات، ولا قبول أفلام ضعيفة لمجرد أنها من إخراج نساء، أو لأن موضوعاتها تدور حول مشاكل “أنثوية”. فمسألة الجندر والجندرية أصبحت تشكل نوعا من الهوس المرضي الذي يتسبب اليوم في هبوط السينما ومستواها. وأصبحت فكرة 50- 50 مدعاة للتفاخر بين مديري المهرجانات، أي تخصيص 50 في المائة من الأفلام المعروضة للمخرجات!

ومن جهة أخرى شاهدنا في الكثير من الأفلام العلاقات الجنسية الشاذة (أو المثلية إن أردت!!)، وهو هوس آخر ربما يجعلنا نرى في المستقبل القريب فرض نسبة محددة لأفلام الشواذ جنسيا في المهرجانات الأوروبية بوجه خاص، في تنازل طبيعي أمام ضغوط اللوبي (الشاذ) المؤثر في صناعة القرار في أعلى مستويات السلطة في ألمانيا وغيرها!

لجنة كريستين ستيوارت منحت جائزة الدب الفضي لفيلم تسجيلي فرنسي (لم أشاهده وفشلت في العثور على ترجمة عربية ذات معنى له) هو On The Adamant أو بالفرنسية Sur l’Adamant لمخرج يدعى نيكولاس فليبير، عن علاج المرضى النفسيين في مستشفى عبارة عن باخرة تسير في نهر السين، وكيف يساعدهم الطاقم الطبي على العودة إلى الحياة مجددا، وهو اختيار يبدو مدفوعا برفض منح الجائزة لأي عمل من الأفلام الروائية، أو تشبها بمنح الفيلم التسجيلي الطويل “عن الجمال والدم المراق” جائزة “الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا، علما بأن المسابقة ضمت فيما تسجيليا آخر، وفيلمين من أفلام التحريك (الرسوم) بينما لم يتجاوز العدد الكلي لأفلام المسابقة 19 فيلما. وهو خلط بين أجناس الأفلام لا أراه مبررا بل ويعكس فقرا وعجزا عن الاتيان بأفلام روائية، وإلا لما كنا نخصص مهرجانات ومسابقات خاصة داخل المهرجانات للأفلام التسجيلية وأفلام التحريك، ولكنه أيضا نزوع مرضي نحو فكرة “المساواة” السخيفة التي تصبح مبررا للفوضى!

من الأفلام التي أصبحت تفرض “تيمة” معينة تتكرر من عام إلى أخر، فيلم “20 ألف فصيلة من النحل” وهو فيلم اسباني لمخرجة هي اليزابيث أوريسولا، يسير على نهج فيلم اسباني آخر هو “الكاراس” الحاصل على الدب الذهبي في مهرجان برلين العام الماضي، والتيمة أو الموضوع عن تصوير العائلة والريف والأطفال، والأحاديث أو الثرثرة التي لا تتوقف لثانية واحدة، وتصوير تلقائية العلاقة بين الكبار والأطفال، وحياة الناس في الريف (هم هنا من الطبقة الميسورة)، وهو أيضا نوع من الأفلام يستغرق لنحو ساعة في وصف الجو العام السائد بين الأفراد، الشقيقات والأزواج والأجيال.. إلخ، والمشاحنات أو الخلافات التي لا أحد يعرف لها سببا مقنعا أو التي لا تهم أحدا أسبابها أصلا، قبل أن يصل الفيلم إلى لمس موضوعه الذي ينحصر عادة في مشكلة صغيرة يجعل منها صناع الفيلم شيئا كبيرا وأمرا جللا. والموضوع هنا عن طفل ولد ذكرا لكنه يشعر أنه أنثى، ويعاني وتعاني أسرته التي تريده كانت تريده ولدا رغم أنها تبدو منسجمة مع فكرة ارتدائه ملابس فتيات.. وشخصيا لم أشعر بأي تعاطف مع الموضوع أو مع الأسرة، فالمسالة بسيطة للغاية، فإذا كانت الأسرة توافق على أن يصبح “أيتور”، “لوسيا” فما هي المشكلة؟ هناك جراحون يجرون عمليات التحول الجنسي بكل بساطة ونجاح.

مع ذلك يجب الاعتراف بالطبع بالقدرة المدهشة على الأداء من جانب الطفلة الصغيرة “صوفيا أوتيرو” التي أدت الدور بأبعاده النفسية المعقدة والتي منحتها لجنة التحكيم جائزة أفضل ممثلة، وهو ما لا أتفق معه رغم اعترافي ببراعتها، فالجوائز يجب أن تذهب الى الممثلين المحترفين، الذين يتنافسون مع بعضهم البعض، لا الى الأطفال المبتدئين الذين لم يصبحوا ممثلين بعد، ويمكن تطويعهم وتدريبهم على الأداء دون أن يعني هذا أنهم أصبحوا ممثلين، والفضل في نهاية الأمر يعود الى المخرج أو المخرجة التي دربتها وساعدتها على القيام بالدور. وكم من أطفال برعوا في تمثيل أدوار الأطفال في الأفلام وبعد أن كبروا لم يصبحوا شيئا في عالم التمثيل. والاستثناءات قليلة بالطبع!

في مفاجأة مدهشة لم تمنح لجنة كريستين ستيوارت جائزة لأفضل ممثل، تأكيدا على فكرة عدم التفرقة الجندرية بين الذكور والإناث واعتبار أن هناك جائزة واحدة لأحسن “ممثل” actor بعد أن توقفوا عن استخدام كلمة actress لوصف الممثلة (الأنثى).. وهو نوع آخر من التطرف المهووس الذي أصبح يصبغ العالم الذي نعيش فيه حاليا. وعندما صعد المخرج البرتغالي “خواو كانيجو” مخرج فيلم “حياة سيئة” الى المسرح في حفل الختام ليتسلم جائزة الأسد الفضي الخاصة للجنة التحكيم، وجه الشكر الى الممثلة التي قامت ببطولة فيلمه مستخدما كلمةactress  فما كان إلا أن رمقته كريستين ستيورات بنظرة قاسية.

أما جائزة الدب الفضي لأفضل إخراج فذهبت إلى المخرج الألماني “كريستوف بيتزولد” صاحب فيلم “السماء المشتعلة”، وهو فيلم كوميدي عاطفي خفيف مع إشارات بعيدة إلى ما يحدث من تحولات تنذر بالخطر في البيئة. وتقوم بدور البطولة فيه الممثلة الألمانية الشابة الجميلة “بولا بير” التي سبق أن فازت بجائزة أفضل ممثلة قبل خمس سنوات عن دورها في فيلم “أوندين” للمخرج نفسه الذي يبدو أنه أصبح يستعين بها في كل أفلامه بعد أن حلت محل بطلته وصديقته السابقة “نينا هوس” التي كان السبب في شهرتها الممثلة.

حصل المخرج الفرنسي فيليب جاريل على جائزة أفضل إخراج (الدب الفضي) عن فيلمه “المحراث”، الذي قام ببطولته الممثل “لويس جاريل” الذي سبق أن لعب دور جودار في الفيلم السخيف “المهيب” Redoubtable الذي أخرجه ميشيل هازانافثيوس، والطريف أن المخرج فيليب جاريل (لا أعرف ما إذا كانت تربطه صلة قرابة مع الممثل لويس جاريل) عندما صعد لاستلام الجائزة أهداها إلى الراحل جودار!

على أي حال أسعدني كثيرا فوز الفيلم اليمني الروائي الطويل “المرهقون” أول أفلام المخرج عمر جمال، الذي عرض في برنامج بانوراما، بجائزة منظمة العفو الدولية، كما حصل على جائزة الجمهور مناصفة مع فيلم آخر، فهو عمل جيد جدا بل وأعتبره أيضا عملا ثوريا” بمعنى ما، سأكشف عنه تفصيلا في مقال قادم عن هذا الفيلم فقط.

 

موقع "عين على السينما" في

27.02.2023

 
 
 
 
 

عشية انتهاء الـ"برليناله الـ73": فراغ وهدوء يسبقان البحث في أمور الغد

برلين/ نديم جرجوره

مع انتهاء "السوق السينمائية"، المُقامة في الدورة الـ73 (16 ـ 26 فبراير/شباط 2023) لـ"مهرجان برلين السينمائي"، تفرغ أمكنة كثيرة من ضيوفٍ وزوّار ومهتمّين/مهتمّات. صالة "قصر برليناله"، التي تشهد عروضاً صحافية قبل الظهر، واحتفالات السجادة الحمراء بعد الظهر، غير ممتلئةٍ كلّها، على غرار أيامٍ سابقة. نقّاد وصحافيون/صحافيات يغادرون، هم أيضاً، قبل أيامٍ قليلة على انتهاء الدورة الأخيرة هذه.

المشهد عادي، يتكرّر كلّ دورة، في كلّ مهرجان. "السوق السينمائية" أهمّ، تساهم في إثارة حيويةٍ وغليانٍ في أيام كلّ دورة، في كلّ مهرجان. مهرجاناتٌ تُنظّم سهرات ليلية كلّ يوم، فـ"تُضاء" المدينة بصخب نجوم/نجمات، وعاملين/عاملات في صناعة السينما. مهرجانات أخرى تُنظّم سهرات كتلك، لكنّ وهجها غير مؤثّر وغير لافت للانتباه، عامة. مهرجانات تبدو، اليوم، كأنّها غير معنيّةٍ بهذا الجانب. انتهاء "السوق السينمائية" في الـ"برليناله" (15 ـ 22 فبراير/شباط 2023)، قبل 4 أيام على انتهاء الدورة الأخيرة، بداية فترة أكثر راحةً وهدوءاً، خاصة أنّ صالات مجمّع "سينماكس"، القريبة من القصر، تُنهي بدورها تعاقدها مع المهرجان، فتتوقّف عروض أفلامه، مع نهاية أيام "السوق".

يقول زملاء إنّ دورة هذا العام "أخفّ حضوراً" من ذي قبل، وهذا غير مرتبطٍ بضيوف الـ"برليناله" فقط، بل أيضاً بـ"زحمة" أناسٍ يأتون من كلّ مكان، إلى ساحة بوتسدام ومحيطها، كسيّاح أو كأبناء المدينة. يصعب تفسير هذا. أعلام أوكرانيا مرتفعة على أبنية، بعضها تابع للدولة كما يتردّد، وهذا غير مؤكّد، كـ"التأكّد" من أنّ أعلام أوكرانيا مرتفعةٌ، هنا وهناك، بالتزامن مع الذكرى السنوية الأولى للحرب الروسية عليها (24 فبراير/شباط 2022). ذكرى تدفع نساءً، بعضهنّ مشاركات في لجان تحكيمٍ أساسية، إلى رفع لافتات التضامن مع أوكرانيا، تزامناً مع العرض الافتتاحي الأول لـ"حتى آخر الليل"، للألماني كريستوف هوهخُهويسلار، في يوم الذكرى السنوية الأولى، رغم أن لا علاقة له إطلاقاً بتلك الذكرى، بل فقط لأنّ عرضه الافتتاحي، مساءً، دافعٌ إلى ذلك.

"لوموند"، الصحيفة اليومية الفرنسية (الوحيدة غير الألمانية التي تُباع في مكتبةٍ صغيرة بالقرب من القصر)، تُصدر، في اليوم نفسه للذكرى، عدداً خاصاً. عدم معرفة اللغة الألمانية يحول دون التأكّد من مدى "احتفال" الصحافة الألمانية بتلك الذكرى، وكيفيته، إنْ يكن هناك احتفالٌ في الصحافة الألمانية.

كلّ شيءٍ هادئ، ظاهرياً. في الأيام الأخيرة من الدورة الـ73، يُغادر زملاء المهنة المدينة، وأصدقاء يودّعون أصدقاء، مع أمل لقاءٍ قريب، سيكون مهرجان "كانّ" السينمائي أقرب موعدٍ له، إذْ تُقام دورته الـ76 بين 16 و27 مايو/أيار 2023. لكنّ ارتباكات تحصل، لأنّ إفرازات واقعٍ ممتدّ على جغرافيا القارة العجوز، تحديداً، منذ عامٍ، تؤثّر سلباً على قرار حضور تلك الدورة. الأزمة ضاغطة، وتأثيراتها السلبية واضحةٌ لزملاء المهنة، الذين يُفترض بهم حجز أمكنة إقامة وبطاقات سفر قبل نهاية العام الماضي. بعض أولئك يصطدم بتغييراتٍ، ربما تكون متوقّعة، كأنْ يُلغى حجز استديو أو شقّة صغيرة قبل شهرين ونصف الشهر، تقريباً، ما يعني إمّا استحالة العثور على أمكنةٍ، وإمّا العثور على أمكنةٍ أخرى لكنْ بأسعار باهظة.

الغالبية الساحقة من النقّاد والصحافيين/الصحافيات السينمائيين، التي لا تُدعى إلى مهرجان "كانّ" على نفقته، وإنْ لأيام 3 أو 4، كـ"البرليناله"، غير عارفةٍ "ما العمل؟" إزاء مأزقٍ كهذا. المهرجان أساسيّ في المشهد السينمائي العام. لكنّ ارتباكات عدّة يُصاب بها مؤخّراً، فيحاول الخروج منها بأسرع وقتٍ، وبأخفّ الأضرار. إدارته، في الدورة المقبلة، فارضةٌ على مدعوين/مدعوات رسماً إلزامياً بقيمة 24 يورو، في إطار حملةٍ لحماية البيئة (؟). رسمٌ كهذا يُدفع قبل تقديم طلب الحضور، الذي (الطلب) ربما يُرفض، فيُعاد المبلغ إلى دافعه، كما يُقال.

كلّ هذا سيؤجّل، قليلاً. انتهاء الدورة الأخيرة للـ"برليناله"، أول دورة واقعية بعد أعوام كورونا، دافعٌ إلى تأمّل أهدأ بأفلامٍ، أكثر من التفكير بالمقبل من الأيام والمهرجانات، رغم أهمية تفكير كهذا، في عالمٍ تتبدّل أحواله، بكثرة وسلبية، كلّ لحظة.

 

العربي الجديد اللندنية في

27.02.2023

 
 
 
 
 

3 أفلام تجمع بين الكلاسيكية والعبثية ظُلِمت في برلين

الألمانية الرائدة مارغريت فون تروتا واللبناني النمسوي باتريك شيحا والياباني ماكوتو شينكاي تجاهلتهم لجنة التحكيم

هوفيك حبشيان

مقابل كل فيلم يفوز بجائزة ويذاع صيت صاحبه ويحظى بالاهتمام الدولي، ثمة عشرات الأفلام المهمة التي تبقى في الظل ولا تنال الاهتمام الذي تستحقه. هذا ما يحدث في كل دورة جديدة من المهرجانات السينمائية، والنسخة الثالثة والسبعون من "البرليناله" (16 – 26 فبراير -  شباط) لا يشكّل استثناء في هذا المجال. الأفلام التي وجدت لجان تحكيم مختلف الأقسام أهلاً بالفوز ليست هي الوحيدة الجديرة بما نالته، وما هي الجوائز في النهاية سوى رأي بضعة أشخاص كُلِّفوا بمهمة تمييز بعض الأعمال على حساب أعمال أخرى. 

هذا العام، كان هناك في برلين أكثر من 300 فيلم، وفي المقابل عدد محدود من الجوائز. من "الطبيعي" والحال هذه، أن يغادر الكثير من السينمائيين بخفي حنين، مع العلم أن الجوائز ليست كلّ شيء وليست هي معيار الجودة، ولا ينبغي على الفنان أن ينجز عملاً فنياً وفي باله هدف واحد: الجوائز. مجرد المشاركة بعمل جديد في مهرجانات كبيرة يحضرها الآلاف هو في ذاتها فوز للفيلم وانتصار لرؤية العمل. مع ذلك، يبقى الفنان بطبيعته تواق إلى الجوائز التي يعتبرها البعض اعترافاً بجهده وتكريساً لموهبته من قبل العاملين في مجاله. 

الكبيرة مارغريت فان تروتا

أول الأفلام التي ظُلمت في هذه الدورة ولم يُسند أي جائزة: "إينغبورغ باخمان - رحلة إلى الصحراء" (مسابقة) لمارغريت فون تروتا، المخرجة الألمانية المخضرمة التي باتت في الثمانين من عمرها ولها في سجلها أعمال مهمة أنجزتها منذ السبعينيات. وهي عرفت خصوصاً بالأفلام التي تناولت فيها سير شخصيات بارزة، مثل المناضلة روزا لوكسمبورغ والقديسة هيلدغارد أو الفيلسوفة هنا أرندت أو المخرج إنغمار برغمان. في جديدها، تتطرق إلى بضعة أعوام من سيرة الروائية والشاعرة النمسوية إينغبورغ باخمان (1926 - 1973) التي تقول عنها بأنها كانت "رفيقتها" لسنوات طويلة، بالمعنى المجازي لا الحرفي، إذ إن تروتا لم تقابلها إلا مرة واحدة سريعاً في روما قبل عام من وفاتها.

إلا أن كتاباتها ظلت مصدر إلهام لها، وها أنها تخصص اليوم فيلماً عن السنوات الأربع المميزة بحلوها ومرها التي عاشتها مع الكاتب السويسري ماكس فريش (1911 - 1991)، وذلك بعدما التقيا في باريس في أواخر الخمسينيات، فوقع أحدهما في غرام الآخر، وقررت باخمان على أثرها أن تنتقل إلى زيورخ للعيش معه. لكن العلاقة العاطفية ستنتج الكثير من التوتر وشد الحبال والقسوة على مر الأيام، وذلك بسبب غيرة فريش وحبه للامتلاك. بعد السكرة ستأتي الفكرة وستظهر إلى السطح الطباع المختلفة لكلّ منهما: هي إمرأة حرة ومغامرة أما هو فرجل مقيد ومحافظ، يحتاج إلى صمت في البيت طوال الوقت وأي صوت غير صوت آلة الكتابة غير مرحب به. الفيلم سيحملنا أيضاً إلى مصر حيث الصحراء التي تجسّد بالنسبة لباخمان فكرة المغامرة والحرية والخروج من المحيط والقيود. 

كفنانة امتهنت التمثيل والإخراج، ندرك ما يهم فون تروتا في تجربة باخمان وما الجانب الذي وددت التركيز عليه: العلاقة الصعبة التي تنشأ بين كاتبين يتشاركان سقفاً واحداً، وأي نوع علاقة يتولد بينهما مع الوقت، ولماذا الرومانسية تتحول إلى عذابات وعلاقات فيها قوة وسلطة؟ يأتي الفيلم ببعض الإجابات على هذه التساؤلات، وذلك من خلال الدخول في حميمية الشخصيتين المعذبتين وعبر التنقيب في أعماقهما للخروج بواحد من أكثر الأعمال الدرامية التي تحاول دراسة الشخصيات من دون أن تحكم عليها. نعم، هذا ما تفعله فون تروتا، بدقة وجمالية وحوارات لماحة، على رغم أن أسلوبها، بحسب البعض، ينتمي إلى المدرسة القديمة في صناعة الأفلام ولو أنها متقنة. وللأسف، يبدو أن هذه الكلاسيكية التي أصبحت كلمة تحمل في باطنها اتهاماً، ليست على مزاج الكثير من المحكمين في المهرجانات، خصوصاً إذا تعلّق الموضوع بشخصيات بيضاء من زمن آخر، لا تخدم أجندات سياسية أو عرقية أو جندرية ولا يمكن توظيفها للترويج لأيديولوجيا معينة، بالتالي أصبحت خارج الموضة وخارج الاهتمامات الراهنة. أحد النقّاد كتب أن الفيلم يجهد للارتقاء فوق مستوى الدراما القديمة عن المجتمع الرفيع، وهذه قراءة كسولة لفيلم يتناول من خلال علاقة، هاجس البحث عن الحرية التي لا يمكن بلوغها.

"وحش الادغال"

ثاني الأفلام الكبيرة التي ظُلمت في برلين، شارك في قسم "بانوراما". إنه "وحش الأدغال" للمخرج النمسوي من أصل لبناني باتريك شيحا. عمل غاية في الجنون السينمائي عن حكاية تبدأ في عام 1979 وتنتهي في عام 2004، وتدور على فتاة وشاب (أناييس دوموستييه وتوم ميرسييه) يلتقيان في مرقص ليلي. الشاب الذي يُدعى جون مقتنع بأنه ينتظر حدثاً عظيماً سيغير مجرى حياته، وسيتغير كل شيء من حوله بمجرد وقوعه، بالتالي عليه انتظار تلك اللحظة بكامل قواه العقلية والجسدية. فيقنع الفتاة ماي أن تنتظر معه، ومن اللحظة تلك لن يفعلان سوى الانتظار طول 25 عاماً. عليهما انتظار ذلك الحدث مهما كلّف الثمن ومهما طال الزمن ولن نعرف ما هو هذا الشيء الذي سيكرس له شخصان ربع قرن من حياتهما. ستتوالى الفصول وسيتغير كل شيء من حول جون وماي، لكن الانتظار سيبقى سيد الموقف حتى آخر الطريق. الفيلم اقتباس حر لرواية هنري جيمس (1843 - 1916). عبثيته تضعه على لائحة الأعمال الأكثر غرابةً في تاريخ السينما. هناك شيء من سينما ديفيد لينتش الذي ذكره المخرج في لقاء له بعد عرض الفيلم. أما على مستوى الإحساس الذي يبثّه فالفيلم لا نظير له في هذا المجال. هذا الإحساس يضعنا في حالة مربكة خصوصاً في ما يتعلق بعلاقتنا بالزمن والسرد وطبيعة تلقينا للأشياء. فعلى غرار البطلين، نحن في حالة انتظار وترقب شديدين لما سيحدث في المشهد التالي. "وحش الأدغال" هو من الأعمال التي تبقى في داخلك لفترة ما، وذلك سواء أحببتها أو كرهتها، وقد لا تعرف ما الذي لمسه فيك. لا حلّ وسطاً مع هذا العمل الثائر الذي كان أحد أجمل الاكتشافات في برلين، وللأسف لم ينل ما يستحقه من اهتمام وتقدير. 

الياباني شينكاي

ثالث الأفلام "المغدورة" (إذا صح التعبير) في برلين هذا العام هو "سوزوميه" للمخرج الياباني ماكوتو شينكاي. هذا واحد من فيلمين تحريكيين شاركا في المسابقة، لكن لم يرد أي منهما على لائحة الجوائز. هي قصة سوزوميه، ابنة السابعة عشرة، التي تلتقي في أحد الأيام بشاب يبحث عن باب لا يزال صامداً وسط حقل من الأنقاض. هذا الشاب يبدو أن لديه موهبة إيقاف الزلازل قبل حدوثها. فضول سوزوميه وحسها المغامر سيجعلانها تتعقبه، وسيؤدي هذا إلى أن تفتح باباً من دون أن تعلم أن هذا سيحرر كل الكوارث التي كان الباب يخفيها. من تلك اللحظة وصعوداً، ستبدأ مغامرة مدهشة تحملنا إلى أماكن مختلفة من اليابان لاغلاق الأبواب تجنباً لحدوث كوارث. 

أفلام التحريك عملة نادرة في مسابقة برلين، علماً أن "رحلة شيهيرو"، رائعة ميازاكي، كان نال قبل 22 عاماً "الدب الذهبي". بالتأكيد، التحدي الذي كان أمام شينكاي - المخرج المعروف في مجال التحريك - صعباً. فمن الصعب الوصول إلى مستوى ميازاكي، معلم سينما التحريك، مع التذكير أن كثراً يلقبون شينكاي بـ"الميازاكي الجديد". 

"سوزوميه" يضمن استعراضاً بصرياً ضخماً لكل مَن يرغب في قضاء ساعتين داخل الصالة وينسى كل هموم الأرض ولكن يتذكر بعضها. فالفيلم يملك هذه القدرة على شدنا وتحريرنا في آن معاً. ما سيعيشه المشاهد هو رحلة برية وبحرية وجوية إلى أقاصي الخيال والمتعة البصرية. لا نصدّق في بعض اللحظات أن هذا كله مجرد رسوم وليس عالماً حقيقياً. ثم أن النص غني بالمواضيع ويعرف جيداً كيف يمزج بينها، وكيف يخرج بوحدة كاملة متكاملة لا تعطي الإحساس بالحشو. يجمع السيناريو لحظات عاطفية بكوميديا رومنسية بـ"فيلم طريق" بـ"سينما الكوارث"، من دون أن يقطع علاقتها العضوية بالمناطق اليابانية التي تقع خارج الصورة النمطية التي ارتسمت في الأذهان لتلك البلاد المتطورة حيث للميثولوجيات مكانة كبيرة في ثقافتها. 

 

الـ The Independent  في

27.02.2023

 
 
 
 
 

المخرج الفائز يسخر قائلا: «هل أنتم مجانين حتى تمنحونى الدب الذهبى»؟

طارق الشناوي

نظر المخرج الفرنسى نيكولا فيليبر الحائز على (الدب الذهبى) إلى لجنة التحكيم التي ترأسها النجمة الأمريكية كريستين ستيوارت قائلا: (هل أنتم مجانين؟).

كنت من القلائل الذين شاهدوا الفيلم، تمت (برمجته) للعرض في اليوم الأخير، وأشرت، أمس، في تلك المساحة إلى أنه أكثر فيلم في (المسابقة الدولية) الفقيرة فنيا، قد حظى بتصفيق الجمهور، وأقيمت ندوة في قصر المهرجان مباشرة بعد العرض، لم يتوقف خلالها الجمهور عن الإشادة بالعمل الفنى، ولكن قطعا هذا لا يكفى لمنح الفيلم جائزة، خاصة أنها ليست جائزة الجمهور، لكنها تعبر عن معايير فنية تخضع لها لجنة التحكيم.

كان هو الفيلم الوثائقى الوحيد مع 16 فيلما روائيا وفيلمى تحريك، الأول صينى (أرت كوليج 1994) والثانى يابانى (سوموزى)، الفيلم الصينى يجبرك من فرط رداءته، أن تسأل على أي أساس تم اختياره للمشاركة في المسابقة الرسمية، بينما اليابانى من فرط حلاوته، يدفعك للتساؤل لماذا لم يحظ ولا حتى بجائزة لجنة التحكيم لتفرده كبناء فنى؟.

ويبقى السؤال الذي كثيرا ما يتردد عن مشروعية لجنة التحكيم في المقارنة بين نوعيات مختلفة من الأعمال الفنية، روائى وتسجيلى وتحريك، علينا بداية أن نبعد التحليل المباشر الذي تردد أن لجنة التحكيم تريد تغيير بوصلة الجوائز من الروائى للتسجيلى، فانحازت للأخير، لأنها أولا ليست المرة الأولى التي ينال فيها فيلم تسجيلى هذا التتويج في المهرجانات الكبرى، ثانيا مهرجان برلين قبل نحو خمس سنوات فعلها مع الفيلم التسجيلى (النار) الذي تناول الهجرة غير الشرعية، وكان يحمل تعاطفا مع هؤلاء الذين يواجهون الموت في سعيهم للوصول إلى عالم أفضل.

المقارنة مع اختلاف النوع صعبة هذه حقيقة، لو أنك بصدد مثلا اختيار الأفضل بين لاعب كرة قدم ولاعب كرة سلة ولاعب كرة يد، المشترك هو فقط الكرة، لكن التكنيك قطعا مختلف بين الألعاب الثلاثة، هذا عن اللعب، لكن في الفن تكتشف أن المرجعية الجمالية واحدة وفى النهاية، وكما يردد الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب (لا شىء يقف أمام الأجمل)، واللجنة اختارت الأجمل، برغم أن في الأفلام المعروضة أعمالا أخرى لم تحظ بجوائز، وكانت في تقييم النقاد هي الأفضل، بل (البون) شاسع بينها، والتالى لها في التقييم مثل (حيوات سابقة)، وهو فيلم كورى الهوى أمريكى الهوية، الإنتاج أمريكى، وهذا ما يمنح الفيلم الجنسية، بينما المخرجة سيلينج سونج جذورها من كوريا الجنوبية واللغة في جزء كبير منها كورية، وأيضا الأحداث تنتقل بين سيول ونيويورك، الفيلم ملىء بالتفاصيل الإبداعية في التكوين والتقطيع والانتقال الزمنى (الزجزاجى) بين أكثر من حقبة، لكن في النهاية لم تكن تلك هي قناعة لجنة التحكيم، ويأتى بعد ذلك الفيلم الأسترالى (بقاء اللطف)، قيمة هذا الفيلم تكمن في أنه يتيح للمتلقى الكثير من النوافذ في قراءة الصورة والموقف الدرامى، كما أنك في لحظة تراه موغلا في الزمن القديم، وفى أخرى تجده يرنو للمستقبل، يطرح كل الاحتمالات للقراءة، المخرج رولف دى هير كتب أيضا السيناريو، كان حريصا على تقديم هذا العالم الغرائبى، بما يملكه من سحر خاص.

وجاءت باقى أهم الجوائز، وعلى رأسها (الجائزة الكبرى) وهو فيلم (حريق) للمخرج الألمانى كريستيان بتزولد، يلتقط الفيلم هؤلاء الذين يعيشون في الحياة لكنهم يشعروك وكأنهم معزولون عن الدنيا لديهم عالمهم الخاص، عبر عنها المخرج بالحريق الذي يشتعل في الغابات المحيطة بالمنزل بينما البطل مشغول بكتابة رواية.

أما جائزة لجنة التحكيم فهى للفيلم البرتغالى (الدب الفضى) (حياة سيئة)، كما أن أفضل مخرج الفرنسى فيليب جاريل (العربة الكبيرة) أفضل أداء صوفيا اوتيو وهى طفلة على أعتاب المراهقة عن الفيلم الإسبانى (20 ألف نوع من النحل)، ونلاحظ أن المهرجان يعتبرها جائزة مطلقة في الأداء ولا يضع خطا فاصلا بين المرأة والرجل وبدأ تطبيق هذا القرار من العام الماضى وحظيت بالجائزة أيضا امرأة. وهو ما تكرر أيضا في جائزة الممثلة المساعدة تيا ايهر ـ الفيلم الألمانى (حتى آخر الليل) والسيناريو أيضا للألمانية انجيلا شاناليج وأيضا المساهمة الفنية للإيطالية ايلين لوفار. السينما العربية لم تشارك في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة، لكن من لبنان فاز الشقيقان ميشيل ومانويل كسروانى بجائزة الدب الفضى لأفضل فيلم قصير، وفاز الفيلم اليمنى (المرهقون) للمخرج عمرو جمال جائزة امنيستى الدولية لحقوق الإنسان وجائزة الجمهور الثانية في قسم (البانوراما).

ويبقى الحديث عن هذا المهرجان في عدة نقاط، أهمها هو غلبة العناصر النسائية في الجوائز خاصة في السنوات العشر الأخيرة، هل هي مقصودة؟ إذا كانت الإجابة ليست مقصودة، لماذا إذن برلين فقط هو الذي يحقق هذه النسبة نحو 6 في المائة جوائز نسائية، لدى تفسير واحد، وهو أن التوجه العام للمرأة ليس لأن النساء يشكلن نسبة معتبرة في لجان التحكيم بمختلف أنواعها وأطيافها، لكن لأننا لو فرضنا التساوى بين فيلمين، واحد لرجل، والثانى توقيع امرأة، أعتقد أن القاعدة غير المعلنة هي أن تمنح الجائزة للمرأة، وفى كل الأحوال تلك قضية ساخنة وشائكة لا تكفيها تلك السطور، وتبقى قضية أخرى وهى غياب الفيلم المصرى عن المهرجانات الكبرى، ظنى أننا نعانى من تعسف الرقابة، وخوفها المرضى من الاقتراب من كل شىء، خاصة أن من يقود الدفة حاليا في الرقابة يميل بطبيعة تكوينه إلى التشكيك المسبق في أي شىء، لاعتقاده أنه بذلك يريح ويستريح، وظنى أيضا أن هذا هو العائق الأساسى، وليس كما يعتقد البعض العامل الاقتصادى، الذي لا أنكر قطعا تأثيره السلبى على صناعة السينما، إلا أنه يأتى ثانيا بعد (فوبيا) الرقابة.

وإذا استمر الحال على هذا النحو فلن نجد حتى أفلاما نشارك بها في التنافس داخل المهرجانات التي تقام على أرض المحروسة مثل (القاهرة) و(الجونة) و(أسوان) و(الإسكندرية) و(الأقصر)، وتلك لو تعلمون هي (أم المشاكل)!!.

 

المصري اليوم في

27.02.2023

 
 
 
 
 

أفلام برليناله القصيرة.. امتزاج الجنسيات والثقافات

أحمد شوقي

"برليناله شورتس" هو برنامج الأفلام القصيرة المتنوع لمهرجان برلينالة. شاهد المدون أحمد شوقي "برليناله شورت 5" ، وهو عبارة عن مجموعة من أربعة أفلام تختلف اختلافًا كبيرًا من حيث الشكل والمحتوى وبلد الإنتاج ، لكن كل فيلم مثير للإعجاب بطريقته الخاصة.

خلال سنوات ماضية كانت قاعات "كوبيكس" في ألكسندربلاتز موقعًا فرعيًا بالنسبة للصحفيين في برليناله، يذهب إليها من فاته فيلم في عرضه الصحفي أو من أراد تجربة المشاهدة مع الجمهور. لكن منذ أن أغلقت قاعات "سيني ستار" أبوابها واقتصرت العروض في منطقة بوتسدامربلاتز على المسابقة الدولية ومسابقة لقاءات والاختيارات الخاصة، ارتفعت قيمة كوبيكس بشدة، فصار الجميع يقصدها بشكل شبه يومي لمشاهدة اختيارات البانوراما ومسابقة الأفلام القصيرة.

من بين ما شاهدته هناك برنامج الأفلام القصيرة الخامس، والذي ضم أربعة أفلام متباينة تمامًا في الشكل والمضمون ودولة الإنتاج، مع ميل كبير للتنوع الثقافي داخل الفيلم الواحد، الأمر الذي يمكن ملاحظته على أغلب اختيارات مسابقة الأفلام القصيرة بشكل عام.

في أمريكا اللاتينية وأفريقيا

"الانتظار" فيلم يجمع جهود فنان التحريك الألماني فولكر شليشت بأستاذة الأحياء الأمريكية كارين ليبس، لإثارة قضية انقراض فصائل متعددة من الضفادع في أمريكا اللاتينية، فيما يشبه المقال البصري الذي يُسهم فيه التحريك المدهش في إبراز قيمة الموضوع، عبر إيصال الرابط الشعوري بين الرواية (ليبس) وبين الضفادع إلى المشاهدين بشكل حميمي.

الفيلم الثاني بعنوان "امرأة في ماكويني"، من إنتاج ألماني للمخرجتين الروسيتين داريا بيلوفا وفاليري ألوسكينا. الأحداث تدور في كينيا التي خاضت المخرجتان فيها ورشة عمل أسفرت عن الفيلم، الذي يتابع حياة نزيلة في أحد السجون الكينية ومحاولة زوجها أن يزورها، والتي تبوء بالفشل فيستعيض عنها بحل آخر ليروي ما يريد أن يقوله للزوجة.

مخرج سينمائي عربي وشعب أسترالي أصلي

أما الفيلم هولندي الإنتاج "عودة" فيحمل العنصر العربي الوحيد في هذه المجموعة من الأفلام، فيلم قصير جدًا من سبع دقائق إخراج السوري المقيم في هولندا يزن ربيع. يحاول ربيع التخلص من تبعات ما عاشه في مسقط رأسه وأدى لهروبه إلى أوروبا، ليُعبر عبر مزج عدة أنواع من اللقطات عن كابوس متكرر اكتشف أنه ليس الوحيد الذي يعاني منه، وإنما كثير ممن اضطروا للهرب من بلادهم.

آخر الأفلام "مغموس في السواد" هو أطولها (25 دقيقة)، وثائقي من إخراج الأستراليان ماتيو ثرون وديريك لينش، والأخير هو الشخصية الرئيسية في الحكاية، عابر جنسيًا من سكان وانكونتجاجارا الأصليين، يعود إلى مسقط رأسه ليتلقى علاجًا روحيًا تقليديًا.

أي أننا في أربعة أفلام لا يكاد مجموع زمن عرضها يتجاوز الساعة، شهدنا اجتماع وتفاعل ثقافات من العالم كله تقريبًا، من شرق أوروبا لغربها، ومن أمريكا اللاتينية لأفريقيا لسكان أستراليا الأصليين. الأمر الذي يبرز قيمة حدث مثل برليناله كنقطة لقاء وتفاعل ثقافي حيوية يدرك قيمتها كل من نال فرصة حضورها.

 

معهد جوته الألماني/ القاهرة في

27.02.2023

 
 
 
 
 

هل نمثل أنفسنا أم نمثل الشخصية الدرامية؟

طارق الشناوي

لا أعتقد أن هناك لجنة تحكيم تريد أن تسرق الكاميرا من فعاليات المهرجان، لكنها فقط تحاول أن تعبر عن نفسها لتحقيق إرادة أعضائها، إلا أن ما حدث في مهرجان برلين (73)، أن نتائج اللجنة التي أعلنت مساء السبت الماضى، كانت هي الأكثر إثارة للجدل كما أنها في نفس الوقت فتحت بابا للتأمل للعديد من القضايا السينمائية تحديدا والإبداعية عموما والتى يراها البعض محسومة مسبقا، إلا أنها واقعيا لاتزال قيد التداول.

دأبنا على الاعتقاد أن لجنة التحكيم تعبر عن رئيسها وهكذا وجدت النجمة الأمريكية كريستين ستيوارت 32 عاما تتلقى اتهاما بتوجيه دفة الجوائز، طبقا لمعاييرها، من واقع خبرتى أن هناك عاملين مؤثرين في الوصول للنتيجة النهائية، قدرة عضو اللجنة وليس فقط الرئيس على فرض وجهة نظره وهى قطعا تخضع لعوامل خاصة لا يتمتع بها كل البشر، قطعا مكانة رئيس اللجنة تسمح له بمساحة أكبر في الدفاع عن رأيه، لكن لا يشكل هذا بالضرورة القدرة على الحسم، كما أن تخصص عضو اللجنة في مجال ما: تمثيل، إخراج، تصوير يمنحه أيضا مساحة أكبر في تفنيد أسباب التفوق من واقع خبرته العملية، من المؤكد أن هناك تداخلا وتفاعلا في العمل الفنى بين الممثل وتوجيه المخرج، لكن تظل هناك لمحات خاصة للفنان المؤدى، حالة من التحليق، مثل المطرب الذي يؤدى لحنا ليس من إبداعه، إلا أنه بقدر ما يتعمق في تفاصيله يضيف أيضا إليه. سوف تلمح في جوائز الممثلين طفلة ومتحولا جنسيا فازا بجائزتى التمثيل، هل رئيسة لجنة التحكيم كان لها دور؟، غالبا هذه المرة نعم، فلا أحد من المفترض أن يعلن ما الذي تم تحديدا في كواليس اللجان.

طفلة تفوز بالجائزة، صوفيا أوتورو، لأداء الدور الرئيسى عن الفيلم الإسبانى (20 ألف نوع من النحل)، والممثلة الألمانية ثيا ايرو أفضل دور مساعد (حتى آخر الليل). طفلة تؤدى دور طفلة، ومتحولة تلعب دور متحولة هل تشعر أن هذا منطقى جدا ولا يوجد وجه للاستغراب أو حتى للتساؤل عن كيفية حصولهما على الجائزة، فهما لم يفعلا شيئا سوى تقديم جانب من حياتهما؟.

أنا أختلف معك تماما، أثيرت قضية مماثلة، في بداية المهرجان،عندما اعترضت ممثلة يهودية على منح دور يهودى لممثل غير يهودى على اعتبار أنه- أقصد اليهودى- هو فقط القادر على أداء دوره، وقالت هل من الممكن أن يلعب دور أسود ممثل أشقر أو العكس؟، سر الاعتراض هو أن الممثلة هيلين ميرين الحاصلة على الأوسكار، تؤدى دور جولدا وهى لا تدين باليهودية.

إجابتى هي أن الواقع عامل مؤثر، لكن فن الأداء هو الذي يملك الحسم، وقناعة الجمهور تنحاز للقدرة على الأداء، حتى لون الممثل، ليس هو الفيصل، يجوز تغيير اللون والملامح لو كان المكياج مضبوطا، حكى يوسف شاهين أنه عند عرض (باب الحديد) في برلين 1958 اعتقد الجمهور أن لديه إعاقة حقيقية في قدمه، وعندما شاهدوه تعجبوا كيف كان مقنعا في أداء دور (قناوى) الذي كانوا يسخرون منه بسبب تلك الإعاقة، لدينا أحمد زكى أشهر من أدى شخصيات واقعية متعددة ومتباينة، وهو لا يشبه أيا منها: طه حسين في (الأيام) وعبدالناصر في (ناصر 56) والسادات في (أيام السادات) وعبدالحليم حافظ (حليم)، وكان لديه طموح أن يؤدى عددا من الشخصيات التاريخية الأخرى أحمد فؤاد نجم (الفاجومى) والمشير عبدالحكيم عامر وأنور وجدى وغيرهم، فهل هو يشبه واحدا منهم؟.

توجد قصة أو طرفة متداولة ولا أدرى مدى صحتها التاريخية، تؤكد أن شارلى شابلن دخل في مسابقة لتقليد شارلى شابلن وحصل على المركز الثانى.

المطرب والملحن سعد عبدالوهاب أقيمت مسابقة بين جمهور الإذاعة في الخمسينيات بعد أن قدم إحدى أغنيات عمه الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب بصوته واستمع الناس إلى الصوتين كل منهما أدى نفس المقطع، و40 في المائة فقط هم الذين عرفوا الإجابة الصحيحة، أغلبهم اعتقدوا أن صوت سعد هو لعبدالوهاب. يظل الفيصل في القدرة على الأداء الطفلة صوفيا أوتورو طبعا مع توجيه المخرجة الإسبانية استيباليز اوريسولا، كذلك المتحولة ثيا غيزر مع المخرج الألمانى كريستوف هوشهاوزلر، قدما دورين مقنعين كفن أداء، وليس لأنهما تعبران عن نفسيهما.

ليست المرة الأولى التي أشاهد طفلا أو فنانا يقف لأول مرة على الشاشة ويحصد الجائزة، التعامل مع الطفل هو الأصعب قطعا، كيف تحافظ على تلقائيته، إنها طفلة تؤدى دور طفل، لكنها تستشعر أنها أنثى، فهل صوفيا تؤدى دور صوفيا، المعاناة في الحياة التي تعانيها الشخصية الدرامية لم تعشها واقعيا، وهنا يبرز دور المخرج، هناك الذاكرة الإبداعية وهو ما يمكن توصيفه بالمخزون الاستراتيجى التي يحتفظ به الممثل شعوريا ولا شعوريا. كان رشدى أباظة كما روى لى نور الشريف لديه كراس يضع داخله لزمات صوتية حركية من الشخصيات التي يلتقيها، وعلم من رشدى أنه قد يستعيدها بين الحين والآخر، أمام الكاميرا، وهو بالمناسبة ما فعله نور في بعض الشخصيات التي يؤديها مثل دوره الشهير في فيلم (العار)، تلك اللزمة بحركة الرقبة اقتنصها من شخصية التقاها في الحياة.

هنا نتحدث عن تعمد التقمص، بينما عادة ما يحدث لا شعوريا، الممثل يكتشف أن بداخله نوعا من التداخل بين الشخصية على الورق وما اختزنه في الذاكرة، تفصيله من هنا وأخرى من هناك.

المتحولة الألمانية تعيش قطعا العديد من التفاصيل وفكرة السماح المطلق بتغيير المسار الجنسى في أوروبا التي يعتقدها البعض، واقعيا غير حقيقية، ودور المخرج ألا يجعل المتحول يعبر عن معاناته الذاتية ولكن يعبر عن الشخصية الدرامية. ويبدو مع الطفل دور أكبر وهو أن يحافظ على تلقائيته، هناك فارق بين طفل وآخر، وهذا هو ما فتح الباب أمام فاتن حمامة في فيلم (يوم سعيد) وكانت في نفس المرحلة العمرية الثامنة مثل صوفيا، وزاد المخرج محمد كريم عدد مشاهدها وأكملت بعدها المسيرة وصارت (سيدة الشاشة)، أحيانا نجاح الطفل الطاغى يحول دون استمراره لأن الناس ترفض أن تراه بعد أن تجاوز تلك المرحلة مثل ماكولاى كالكين بطل (وحدى في المنزل) وبعيدا حتى عن وقوعه في براثن الإدمان فإن الناس تشبثت به فقط طفلا وهو ما حدث عندنا مع الطفلة فيروز، وتبقى حكاية ثالثة وهى الممثل الذي يضع جزءا من شخصيته في نسيج كل أدواره مثل عادل إمام وهى حالة تستحق مقالا خاصا، بعيدا عن رحلتنا مع (برلين)، وكل عام وأنتم طيبون!!.

 

المصري اليوم في

28.02.2023

 
 
 
 
 

"سوزومي" و"كلية الفنون 1994".. وجهان لفيلم التحريك

أحمد شوقي

افلام التحريك هو نوع شعبي بشكل متزايد. يراجع أحمد شوقي اثنتين من المشاركات الواعدة لهذا العام في برلينالة ، ويتساءل عما إذا كانت هذه الأفلام ترقى إلى مستوى الصخب.

شهدت عدة دورات سابقة من برليناله عرض أفلام تحريك في المسابقة الدولية، لعل أبرزها دورة 2002 التي توّج فيها فيلم "أرواح هائمة" للمخرج الياباني الأسطوري هياو ميازاكي بجائزة الدب الذهبي. لكن برليناله 73 شهد حدثًا فريدًا من نوعه وهو اختيار فيلمي تحريك للتنافس في المسابقة الدولية. الاختيار الذي لا يكشف فقط عن رغبة المهرجان في تنويع الأشكال وكسر نمطية الاختيارات، وإنما يؤكد بالأساس إعجابي مبرمجي المهرجان بالفيلمين؛ فإذا كان اختيار فيلم تحريك لمسابقة مهرجان بحجم برلين اختيار غير شائع، فإن اختيار فيلمين دفعة واحدة هو بالتأكيد أمر شجاع.

لكن الحقيقة، وبعد مشاهدة الفيلمين، يبدو اختيار "سوزومي" للمخرج الياباني ماكوتو شينكاي مبررًا كليًا، بينما لا نجد نفس الثقة في برمجة "كلية الفنون 1994" فيلم الصيني ليو جيان ضمن أفلام المسابقة.

الخيال ينتصر

"سوزومي" يمتلك كل الأسباب التي يمكن أن نقع بسببها في حب فيلم تحريك: القصة الشيّقة التي تجمع بين الخيال الواسع الذي يستفيد من أدوات الوسيط وبين ملامسة هموم البشر في العالم المعاصر، الحرفة المُحكمة في الرسوم والتحريك، والقدرة المستمرة على إثارة الدهشة على مدار زمن الفيلم.

الحكاية عن فتاة في بداية المراهقة، يتسبب إعجابها بشاب أن تفتح باب غريب في أحد الأماكن المهجورة، لتكتشف أنها أطلقت لعنة تدفعها لخوض رحلة عبر مدن اليابان لإغلاق أبواب مماثلة وحماية البلاد من خطر الزلازل. التيمة الرئيسية هنا هي القدرة على التعامل مع الحوادث المفجعة في حياة الإنسان، لكن تزامن عرض الفيلم مع الكارثة الإنسانية التي شهدتها سوريا وتركيا منحت "سوزومي" أثرًا أعمق وتفاعلًا مع اللحظة الراهنة يستحقه صانع الفيلم.

عدم الاستفادة من الوسيط

على النقيض جاء "كلية الفنون 1994"، الذي يبدو اختيار التحريك فيه اختيارًا عرضيًا لا يرتبط عضويًا بشكل الفيلم أو مضمونه. حكاية عن مجموعة من الشباب الذين يدرسون الفنون في مطلع تسعينات القرن العشرين في الصين، فيدخلون عدة خلافات تتعلق بتوجهاتهم الفنية وفهمهم لواقعهم المتغير بسرعة تزامنًا مع انفتاح الصين على العالم.

عالم القصة واقعي تمامًا يمكن أن يُجسد في فيلم روائي باستخدام ممثلين، والمخرج لا يستفيد من وسيط التحريك في أغلب الأوقات، بل تأتي أغلب مشاهد الفيلم المؤثرة في صورة حوار طويل بين شخصيتين يتم التعبير عنه بصريًا بأقدر عدد ممكن من الصور وأقل قدر ممكن من التحريك. هو بالطبع اختيار المخرج الفني وله مطلق الحرية فيه، لكن من حقنا أيضًا إعلان أن الفيلم لم يستفد إطلاقًا من قرار راديكالي مثل سرد الحكاية عبر التحريك.

 

####

 

"سماء حمراء" دراما كوميدية غير معتادة من كرستيان بيتزولد

أحمد شوقي

فاز فيلم "سماء حمراء"، الدراما الكوميدية للمخرج الألماني كريستيان بيتزولد ، بجائزة الدب الفضي الكبرى  للجنة التحكيم في الدورة الثالثة والسبعين من برليناله. تابع المدون أحمد شوقي مسيرة بيتزولد خلال العقد الماضي ليقدم نظرة ثاقبة للجزء الثاني من ثلاثية الفيلم حول العناصر الطبيعية.

من أمتع التجارب التي قد يعيشها ناقد سينمائي أو محب للسينما هي متابعة مسيرة مخرج موهوب عملًا بعد الآخر، ومشاهدة قدرة الفنان على التطور والاختيار وتشكيل فيلموغرافيا خاصة تحمل أسلوبه وأفكاره. هذا بالضبط شعوري حيال تجربة المخرج الألماني كرستيان بيتزولد، الذي يمكن اعتبار السنوات العشر الأخيرة هي سنوات بلوغه ذروة النجاح السينمائي، وهي نفس السنوات التي سعدت فيها بحضور برليناله بانتظام، ومشاهدة أفلام بيتزولد أولًا بأول، فهو أكبر مخرج معاصر مُخلص للمهرجان، يختار أن تُعرض أفلامه للمرة الأولى عالميًا دومًا في برلين.

"سماء حمراء" هو فيلم بيتزولد الجديد ، وهو الجزء الثاني من ثلاثية عن عناصر الطبيعة بدأها بفيلم "أوندينه" الفائز بجائزة أحسن ممثلة في برليناله 2020، والذي كان الماء عنصرًا رئيسيًا في حكايته، بينما تُمثل النار العنصر الجوهري في "مشتعل" كما يوضح العنوان، ومن المتوقع أن يكون الفيلم المقبل حكاية متعلقة بالتراب.

نوع بعيد عن التوقعات

على غير المتوقع في أفلام المخرج، يمتلك "سماء حمراء" حسًا كوميديًا واضحًا خاصة في نصفه الأول، الذي نتابع فيه رحلة إلى منزل في الغابات يقطعها كاتب يحاول إنهاء مسودة روايته الثانية بصحبة صديقه طالب الفنون الذي يريد إنجاز بورتوفوليو بصري للجامعة. يكتشف البطلان أنهما مضطران لقضاء الرحلة في منزل واحد مع امرأة شابة (باولا بير ملهمة بيتزولد الأحدث)، بينما تندلع حرائق غابات في المنطقة لا يلتفت لها الأبطال كثيرًا.

مركز الفيلم هو شخصية الكاتب ليون (توماس شوبيرت)، الذي سرعان ما نكتشف قدر أنانيته وعجزه عن تفهم مواقف الآخرين. طفل كبير يأخذ مواقفًا غاضبةً أغلبها بلا داعٍ، ويرفض التفاعل مع من حوله في بيئة يمكن لأي عاقل أي يرى قدرتها على مساعدته فنيًا وإنسانيًا، حتى لو كانت المساعدة هي تمكينه من أن يُنقّي أفكاره ويتخلص من مخاوفه التي أدت به إلى السدة الإبداعية.

بين الظاهر والباطن

وبينما يعيش صديق البطل والمرأة ساكنة البيت وحارس الشاطئ الذي يكمل المجموعة حالة تفاعل صحي، يرفض ليون الانضمام لهم، مدفوعًا بنزقٍ طفولي ومخاوف كاتب عاجز عن الإبداع، يخفيها بنبرة من الغطرسة والعدائية تجاه من حوله، دون أن يدرك أن القدر يُخبئ للجميع مفاجآت ستُجبره في النهاية أن يغير من نفسه.

أبرز ما في "سماء حمراء" هو قدرة المخرج على تفهم تعقيد شخصياته على رأسها ليون، الذي نكاد نلمس التناقض بين هشاشته الداخلية وعنفه الخارجي، بالتوازي مع شاعرية العلاقات المجاورة له وتطورها المأساوي، ليمنحنا الفيلم في النهاية رؤية خاصة لعملية الإبداع وسط "نار" الآخرين والحياة المعاصرة المشتعلة، مجازيًا وأحيانًا حرفيًا.

 

معهد جوته الألماني/ القاهرة في

28.02.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004