ملفات خاصة

 
 
 

البحث عن الإلهام يؤرق السينمائيين في مهرجان برلين

هوفيك حبشيان

مهرجان برلين السينمائي الدولي

الدورة الثالثة والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

فيلم كوري مغبش الصورة وآخر ألماني يعاني بطله أزمة الكتابة وفرنسي يعلن موت المسرح

أحد التقاليد الخاصة بالنقد السينمائي والذي ينكب عليه مَن يعملون فيه خلال كل دورة جديدة من المهرجانات السينمائية الكبيرة، هو تجميع أفلام وإيجاد هموم وهواجس وتيمات مشتركة لها وبحث عن نقاط تلتقي فيها. ومن خلال التركيز على مواضيع الأفلام، لا فقط على نوعيتها أو أسلوبها، تظهر إلى العلن الاتجاهات الجديدة التي يأخذها السينمائيون في أعمالهم، فتتوضح أكثر فأكثر ما هي الأشياء التي تؤرقهم وتشغلهم وتلهمهم. في هذه الدورة من مهرجان برلين السينمائي (16 – 26 فبراير/ شباط)، فرض موضوع الخيال نفسه، وذلك على الأقل في ثلاثة أفلام من تلك التي شاهدتها، وهذا لا يعني أن هذا الموضوع يقتصر على هذه الأفلام من دون غيرها. المزيد من المشاهدة يعني بالضرورة المزيد من اكتشاف التقاطعات بين الأفلام المعروضة في هذه الدورة والتي يتجاوز عددها الـ300.

في أحدث أفلامه، "في المياه" (المعروض في قسم "لقاءات") الذي أعاده إلى برلين مجدداً، يتعقّب المخرج الكوري الجنوبي هونغ سانغ سو تحركات شاب في العشرينيات من عمره (شين سيخو)، يحاول تجميع أفكاره لتصوير فيلم قصير. برفقة شابة يريد إسناد الدور الرئيسي إليها ورفيق سيلتقط المَشاهد، يخوض سلسلة حوارات ومناقشات حول طبيعة العمل، وذلك على سبيل الاستعداد. المشكلة أن خياله لا يسعفه، فهو فاقد الإلهام تماماً، لديه الرغبة وتنقصه القدرة، الأمر الذي يعذّبه ويفتح جراحه. الفيلم الذي لا تتخطى مدته الساعة من الزمن، يحصر نفسه في إطار هذا الموضوع، لكن سانغ سو يصوّره طولاً وعرضاً، من خلال لقطات طويلة فيها فائض من الكلام. إلا أن مَن يعرف هونغ سانغ سو وطريقة اشتغاله قد يعي أن المخرج يوظّف هذا الشاب كي يروي ذاته أيضاً. اختياره لشاب يطمح إلى اقتفاء أثره ليس سوى لعبة مرايا يرى فيها سانغ سو نفسه. والمفارقة أنه يصوّر مرحلة الاستعدادات التي يخوضها المخرج الشاب، فيما هو نفسه معروف عنه أنه لا يجري أي استعداد البتة، وعمله في الكثير من الأحيان يستند إلى الارتجال، إذ إنه يدوّن الحوارات على ورقة ويعطيها للممثّلين صباح كل يوم. كما أنه اشتهر بتوليه كل مراحل صناعة الفيلم، فهو المخرج والمنتج والكاتب والمونتير ومؤلف الموسيقى، وهذا يعني أنه يعرف عمّا يتكلّم عندما يتحدّث عن السينما.

الصورة المغبشة

يمكن النظر إلى "في المياه" من زوايا عدة، لكن اللافت أن سانغ سو يحاول التفكير في موضوع الخلق الفني والإلهام والوحي، وفي الوقت نفسه لا يأخذ أياً من هذا على محمل الجد. أما جديد الفيلم الذي يثير الاستغراب والامتعاض أيضاً، هو أنه قرر تصويره بصورة مغبشة، أي أنه لم يضبط عدسة الكاميرا كي نرى المشاهد بوضوح. وكالعادة، لا يبرر دوافعه ولا يشرحها، مكتفياً بأجوبة مختصرة. عندما سُئِل عن سبب لجوئه إلى صورة مغبّشة، كان رده: مللت الصورة الواضحة!

فنان آخر يعاني من ظاهرة الصفحة البيضاء هو الروائي الشاب ليون (توماس شوبرت) في "سماء حمراء" للمخرج الألماني المجدد كريستيان بتزولد. الفيلم المشارك في المسابقة الرسمية يصوّر شابين يصلان إلى بيت صيفي في الريف الألماني حيث يأملان الإمعان في الراحة والطمأنينة اللتين تخولهما العمل من دون أن يزعجهما أحد. يطمح ليون إلى إنهاء روايته الثانية ويمتلك وقتاً محدوداً قبل أن يطالعها ناشره. أما صديقه فيليكس (لانغستون أوبيل) فلديه مشروع التقاط صور يريد تجهيزه، لكن هذا موضوع ثانوي، لا ينشغل به الفيلم. الشغل الشاغل لبتزولد هو ليون، الذي يعاني ليجمع أفكاره ويخرج منها بشيء يصلح ليكون أدباً، وهو في الوقت نفسه سيجد نفسه في مواجهة أحداث متلاحقة ومستجدات عاطفية تضعه في حالة نفسية صعبة وملهمة في الحين نفسه، وستكون في الآخر أساسية لنضجه الفكري، وهو نضج سيتيح له كتابة ما كان يأمل في كتابته. يحدث هذا كله وفي خلفية التطورات حرائق ستنشب في الغابة التي يقع فيها البيت، وهي ستحدد مصير الشخصيات التي منها سيستمد إلهامه. على غرار هونغ سانغ سو، لا يأخذ الفيلم كل ما يريه على محمل الجد، بل يتعامل معه كمادة يستلهم منها ليون أحداث روايته.

الفيلم هو الجزء الثاني من ثلاثية عن الحب والابداع، بدأها بتزولد مع فيلمه السابق "أوندين"، ويمكن القول مجدداً إنه لا يمكن تناوله من دون أن نرى الصدى الذي يحدثه في سيرة المخرج الفنية. فالسينمائيون، بالأخص هؤلاء الذين ينتمون إلى سينما المؤلف، كثيراً ما يكشفون عن أفكارهم ويتحدثون عن أنفسهم من خلال الشخصيات. وليون هنا كاتب تعتريه الشكوك، فهو يعلم أن ما كتبه ليس على مستوى طموحاته، ولكن عليه تظاهر العكس وإقناع نفسه بأنه على الطريق الصحيح. يموضع بتزولد فيلمه في أجواء غير مريحة نفسياً، حيث النيران تلتهم الأخضر واليابس، لكن في النهاية، سيتمخض عنها عمل فني. بالنسبة له، هذا هو واقع الخلق الأدبي، ومهما بدت نظرته قاسية ولئيمة، فالكاتب يحتاج إلى أحداث ومآسيَ كي يستلهم منها أعماله. 

عائلة ومسرح دمى

ثالث الأفلام التي تتطرق إلى مسألة الفن والإبداع والإلهام هو "لو غران شاريو" (مسابقة) للمخرج الفرنسي فيليب غاريل الذي يؤكد مرة جديدة أنه معلّم في مجال السينما المينيمالية التي يقدّمها لجمهور من المعجبين بفنه. الفيلم عن عائلة من خمسة أفراد يعملون في مسرح الدمى للأطفال. الأب (أوريليان روكوان) يدير المسرح مع أولاده الثلاثة (لوي وإستير ولينا غاريل)، تحت أنظار الجدة (فرانسين بيرجيه) التي لا تغيب عن أي من العروض. بالنسبة إلى هذه العائلة، المسرح هو الحياة، وهو إرث ثقافي وفني يتناقله أفرادها جيلاً بعد جيل. لكن، هل مَن يضمن استمرار الإرث إلى الأبد؟ هذا هو السؤال الذي يُطرح فور موت الأب، خلال تحريكه العرائس. الموت لحظة مصيرية حاسمة لهذه العائلة، لأنه سيفرقها. فالإبن سيتخلى عن "بزنس" العائلة ليتوجه إلى المسرحيات التقليدية حيث ينال نجاجاً كبيراً. أما الشقيقتان فتفضلان الاتجاه إلى كتابة المسرحيات، لكنهما مجدداً، تعانيان من نقص في الإلهام. أما المسرح، فيبدو أكثر من أي وقت سابق "حكاية من الماضي"، ما عاد يجذب الانتباه أو يسلّي الأطفال في زمن التحولات. لا يمانع الأولاد الثلاثة أن يرثوا مسرح العائلة، وهم مستعدون أن يضحّوا من أجل استمراره، لكن يصعب الاعتماد عليه لتوفير مستلزمات العيش. أما بيتر (داميان مونجان)، صديق العائلة، والشخص الذي تسلّم إدارة المسرح لفترة من الفترات، فيتخلى عن مهامه، كي يخصص وقته للرسم. إلا أن لوحاته لن تُباع، ما يضعه في وضع مادي محرج، يتحول معه إلى فنان معذب ومشرد.

يستعين غاريل في هذا الفيلم بأولاده الثلاثة، لوي ولينا واستير، ويزجهم في فيلم يبدو لوهلة أولى، مشروعاً عائلياً. يكتب غاريل هنا وصيته السينمائية، معبراً على نحو شخصي جداً، هواجسه كفنان يبحث عن مَن يكمّل مسيرته من بعده. وهذه ليست المرة الأولى ينشغل فيها غاريل بموضوع التوريث، ففي فيلمه "ملح الدموع"، يموت الأب فور انتهائه من تعليم ابنه مهنة صناعة المفروشات، وكأنه أراد أن يموت مطمئناً. لكن، بين المفروشات والأفلام فرق كبير يشغل بال غاريل وهو في الرابعة والسبعين من العمر.

 

الـ The Independent  في

24.02.2023

 
 
 
 
 

برلين 73 - "فتى الديسكو": حكاية فاوستية في مجاهل النيجر

هوفيك حبشيان

"فتى الديسكو" (مسابقة) للمخرج الشاب جياكومو ابروتسيزي أحد الأفلام الصادمة والقاسية من تلك التي نافست على "الدببة" في هذه الدورة من #مهرجان برلين السينمائي (16 - 26 شباط). فيلم أنجزه سينمائي لا يزال في مقتبل تجربته، وهذا أول عمل روائي طويل له بعد سلسلة أعمال قصيرة ووثائقية. ابروتسيزي إيطالي درس في فرنسا واشتغل كمصوّر في الشرق الأوسط ومقيم حالياً بين باريس مدريد، ولقاء الثقافات من صلب عمله. أما الفيلم فهو إنتاج فرنسي، فيما بطله من روسيا البيضاء. هذا إن دل على شيء، فعلى الطابع الكوزموبوليتي لأفلام هذه الدورة. يندر العثور على فيلم يحمل جنسية خالصة، معظم ما شاهدناه أعمال مشتركة، ليس على المستوى الانتاجي فحسب، بل روحاً وأماكن وشخصيات.

معظم الأفلام تتداخل فيها الهويات لتقول حال العالم التي نعيش فيها اليوم. تنوع الهويات لا يشمل من هم خلف الكاميرا فحسب، بل يطال أيضاً تفاصيل الحكاية، كحكاية ألكسي (فرانز روغوفسكي)، شخصية الفيلم الأساسية. ألكسي يهاجر من بلاده روسيا البيضاء، لينخرط في الفيلق الأجنبي، وهو فرع من فروع الخدمة العسكرية التابعة للجيش الفرنسي، أعضاؤه مشاة مدربون تدريباً رفيعاً، الا ان الفرق مع الجيش التقليدي هو ان باب الانضمام اليه مفتوح أمام جميع المجندين الأجانب الراغبين في الخدمة ضمن القوات المسلّحة الفرنسية.
هناك الكثير من الحدود في أفلام هذه الدورة، معنوية ورمزية ومادية، وألكسي سيعبر واحدة منها، وصولاً إلى باريس، وهو موعود، مقابل انخراطه في الفيلق، بالجنسية الفرنسية. باختصار: سيصبح مرتزقاً، وسنراه سريعاً يُزج به في حرب ليست حربه، في النيجر، حيث سيحارب فقراء يحاولون التصدّي إلى شركات النفط التي تهدد بقاء قريتهم، ومن هؤلاء جومو (مور ندايه) المقاوم الأفريقي الشرس. الفيلم سيضعهما معاً وجهاً لوجه.

يقول ابروتسيزي ان فيلمه حكاية فاوستية، نسبةً إلى فاوست، شخصية الحكاية الألمانية الشعبية التي تبرم عقداً مع الشيطان مسلمةً اليه روحها. وهذا ما يحدث مع ألكسي، الشاب الطموح الذي لا يمكن تصنيفه شريراً. هو فقط مثل ملايين الناس الذين يحاولون الخروج من حالتهم الاجتماعية التي تحاول اقناعهم انها حتمية ومصير. الا انهم، في النهاية، بدلاً من محاربة مَن حاصرهم في مثل هذه الحالة، يحملون السلاح ويشنّون حرباً، خلف الحدود وبعيداً من مكان اقامتهم، ضد مَن هم في مثل ظروفهم. مع ذلك، ألكسي وجومو لا يتشابهان. ثمة فرق بين مَن يحاول الدفاع عن أرضه ومَن يحاول نيل جواز سفر بثمن باهظ. يحاول الفيلم ان يقرّب المسافات بين الأضداد، ليتبين انهم انعكاس بعضهم لبعض. في الحروب، يقول المخرج، اعتدنا ان نرى الأشياء من وجهة نظر واحدة. نادراً ما نرى الآخر، أي العدو. قرار تناول هذه الحكاية من وجهتَي نظر، قرار سياسي وسردي في المقام الأول. ينجح ابروتسيزي، في أولى تجاربه الاخراجية، ان يطرح وجهة نظر سليمة في اطار فيلم مشغول بحرية وجرأة، ممّا يجعلنا نترقب الخطوة التالية.

 

####

 

برلين 73 - نيكولا فيليبير: الإنسان أولاً!

هوفيك حبشيان

لم يحظَ المخرج الفرنسي نيكولا فيليبير مع فيلمه الجديد، "على قارب الأدامان"، بالاهتمام الذي يستحقّه، خلال عرضه في مسابقة مهرجان برلين السينمائي (16 - 26 شباط)، رغم شهرته في مجال الوثائقي، وأفلامه التي عُرضت على نطاق واسع في عدد كبير من المهرجانات. لم أجد الا عدداً قليلاً من المقالات عنه على الشبكة العنكبوتية، مع ان بعض المواقع المتخصصة، لا تفوّت الفرصة في الكتابة عن أي فيلم مهما كان تافهاً. خلال توجّهي إلى الصالة لمشاهدة الفيلم في العاشرة ليلاً، التقيتُ زميلاً، فوصفني ساخراً بـ"الصحافي الجديّ". في عالمنا الحالي، حيث السرعة في كلّ شيء، تقلّصت المساحة المخصصة لأفلام كهذه، تحاول النظر في عمق الإنسان أو النظر اليه بعمق، بعد تجريده من كلّ الاعتبارات غير الإنسانية. فيليبير استاذ في هذا. على غرار فريدريك وايزمان، ينجز الأفلام بهدف اسكتشاف العالم، لا يذهب إلى موقع التصوير بأفكار نمطية ولا يقارب الشخصيات بمواقف جاهزة. لا يعرف فيليبير أكثر منّا عن شخصياته في اللحظة التي تدور فيها الكاميرا، شخصياته يكتشفها بلحظتها وبـ"أرضها"، لا يسابق ولا يراوغ. من أهم ما فيه انه يعلم انه لا يعلم، ومن هنا يتولّد عنده الفضول. كأن الاطلاع المسبق هو حاسة لديه، اذا حجبها ازدادت حساسية الحاسات الأخرى وأولاها النظر. مع الزمن، تغيّر الوثائقي كثيراً، وهو في الأساس فنّ يتيح لصاحبه ان يصوّر فقط ما لا يزال يجهله. فيليبير يعود بأفلامه إلى أصل الوثائقي.

أفلام فيليبير ورش عمل، بعضها أقرب إلى الـWork in progress، بمعنى انه يعرف جيداً أين تبدأ التجربة لكنه يجهل كيف وأين تنتهي. سواء صوّر كواليس اذاعة أو تسلل إلى صفوف تلامذة أو وضع كاميراه داخل مستشفى للأمراض العقلية، يهتم فيليبير بالإنسان أولاً. هو قضيته المحورية. لا تغريه اللقطات الجوية ولا تهمّه المؤثرات البصرية. "الكوميديا الإنسانية"، على حدّ تعبيره، هي الشيء الوحيد الذي يستعرضه. ولأن الأسلوب هو الفنّان، لفيليبير بصمة نتعرف إليها من بضع لقطات. لا نحتاج إلى الكثير من الجهد كي نتعرّف إلى فيلم يحمل توقيعه. هذا الأسلوب يتمظهر في أشياء كثيرة، أبرزها النحو الذي يصوّر فيه الشخصيات والمسافة التي يحاورها منها. المسافة في الوثائقي هي كلّ شيء، لهذا نجد في أفلامه هذه الحميمية وهذا الدفء. يختفي فيليبير خلف الموضوع مانعاً نفسه من ان يصبح الموضوع، على نقيض العديد من حاملي الكاميرات الذين يصوّرون أي شيء وبأي طريقة. أما المونتاج فهذه حكاية عنده؛ بسيط ومحرك للكثير من الأحاسيس. عندما التقيته في 2014، أخبرته ان المونتاج يختزل شخصيته ويعبّر عنها. فكان رده: "المونتاج هو المرحلة الابداعية التي أفضّلها في عملية إنجاز الفيلم. في أفلامي الأولى، كنتُ أستعين بمونتيرة، وعندما تعلّمتُ كيفية المونتاج صرتُ أتولاه بنفسي، والآن لشدّة ما يثير فيّ المتعة، لا أريد مشاركته مع أحد. أين نقطع وكيف، هذا شيء يغيّر الكثير من الأشياء في الفيلم الذي ننجزه”.

في "على قارب أدامان"، يبقى فيليبير مخلصاً لعادته ولا يزيح عنها، فيقترب من شخصيات متعددة من دون ان يحوّلها موضوعاً أو مادة. لا يتحوّل الشخص أمام كاميراه موضوعاً يخدم قضية، مهما تكن هذه القضية نبيلة. ففي الحياة، لا توجد مواضيع، لا توجد تصنيفات، الأشياء تختلط في ما بينها وتتزاحم. لعل فيليبير هو الوحيد الذي يحاور مجموعة من الناس المختلفين عن سائر البشر، من دون ان يعلن مسبقاً ممّا يشكون. هؤلاء بالنسبة للعالم مرضى يرتادون قارب "أدامان" الذي يرسو على السين ويفتح أبوابه لهم ليجدوا فيه مكاناً دافئاً يبعث على الطمأنينة والراحة بعيداً من بياض المستشفيات القاسية، ولينخرطوا في بعض النشاطات العلاجية. هذا بالنسبة للعالم، أما بالنسبة لفيليبير، فهم شخصيات رحلته الاستكشافية. والرحلة تورّط تلقائياً ثلاثة أطراف: المخرج والشخصيات والمُشاهد. انه المثلّث الذي لا يمكن صناعة أي فيلم من دونه ومن دون العلاقة التفاعلية التي تنشأ بينهم.

هكذا يرتقي فيليبير بفيلمه الجديد، فيصل إلى مستويات من الإنسانية تجعلنا نعبر في جملة أحاسيس متضاربة. تضحكنا وتثير فضولنا وتبثّ فينا جرعة من التفاؤل، رغم ان ما يتناوله سقمٌ بسقم اذا نظرنا اليه بنظرتنا الضيقة للإنسان. بفيض الإنسانية الذي يملكه، يسعى فيليبير إلى تعديل تلك النظرة. واذا وجدنا أنفسنا على موعد مع التفاؤل، فذلك ليس بسبب الشخصيات، بل لأن هناك مَن ينظر اليها على هذا النحو.

 

النهار اللبنانية في

24.02.2023

 
 
 
 
 

دورة فقيرة فنيًا إلا قليلًا..

سبيلبرج يخشى «الدب الذهبى» أكثر من «الفك المفترس»

طارق الشناوي

الإبداع لا يعرف العمر الزمنى لأنه مرهون بالقدرة على مواصلة الإحساس بالشغف، فى تلك اللحظة يكمن سر هذا الوميض السحرى، المبدع لا يخطط لعمل ما، يسعى لإنجازه فى مرحلة زمنية، محددة، وأغلب من وضعوا خططا فشلوا فى تنفيذها، بين الحين والآخر يستمع الفنان إلى صوت يعيد (برمجته) فكريا لتقديم شىء محدد، ربما لم يخطط له من قبل، ليصبح هو أقرب لأداة تنفيذية، لا تملك سوى الإذعان.

يظل الفنان حتى اللحظة الأخيرة يتنفس أحلامه، يدخل فى سباق لا شعورى مع الأيام التى لن تكفيه لإحالة أفكاره إلى واقع، لا يحسبها بالسنوات ولكن المقياس فقط هو هذا السحر الكامن الذى نطلق عليه الشغف، وعندما تفتقده، تفتقد فى نفس اللحظة الإبداع ـ

تظل هناك عوامل أخرى مساعدة أهمها القدرة على متابعة وهضم مفردات الزمن، وكلما استطعت استقبال كل ما هو جديد تظل متوهجا متمتعا بلياقة فنية ليصبح الزمن مجرد رقم فى جواز السفر يشير فقط إلى تاريخ الميلاد.

كل ما سبق هو مجرد ملامح عامة، تتجسد فى المخرج الأمريكى الجنسية اليهودى الديانة الذى أصبح واحدًا من أيقونات (الفن السابع) عبر التاريخ، لماذا حظى بتلك المكانة؟ أولا لأنه لم يتوقف عن العطاء، هذا يعنى أنه يجيد قراءة جمهوره الذى يفصله عنه نحو أربعين عاما على اقل تقدير، ملحوظة 80 قى المائة من جمهور السينما دون الثلاثين، وهذا يعنى ضرورة استيعاب كل مفرداتهم.

ثانيا لأنه لايزال على الشاشة شابا متفوقا بقدرته الإبداعية، بالمقارنة بجيل مخرجى الألفية الثالثة، اللغة السينمائية تتغير أبجديتها من حقبة إلى أخرى، والمتلقى أيضا تتغير شفرة التواصل معه، وتلك هى المشكلة التى تواجه أحيانا جيل الكبار عندما يجد أن المسافة بينه والجمهور قد اتسعت، وموجة البث قد تغيرت، وفى العادة لا يعترف بأنه هو المشكلة وليس الناس ولا حتى المسؤول، ولكننا كما تعودنا فى عالمنا العربى نبحث عن أشياء أخرى خارج النص، نلقى عليها تبعات إخفاقنا.

مؤشر التفاعل الجماهيرى أراه هامًا جدا للمبدع وعندما يلتقط الفنان المخضرم تلك التفاصيل يستطيع الجمع بين القيمة الفنية وشباك التذاكر، لم يستسلم أبدا سبيلبرج لمن يرى السينما مجرد تعبير ذاتى عن إحساسه حتى يصل ويواصل، نعم يبدأ الإبداع ذاتيا ولكن هناك على أطراف الدائرة الجمهور.

ويصل المبدع لأقصى محيط الدائرة، سبيبلبرج يتجاوز دائرته الشخصية، رغم أنه فى كل إبداعه ومواقفه ينطلق من جزء حميم بداخله، هو مدافع شرس عن السينما كظاهرة اجتماعية تفرض على المتلقى طقسا محددا، ولهذا يرفض بشراسة.

مشاركة أفلام المنصات فى المهرجانات وجوائز الأوسكار خوفا على السينما كظاهرة اجتماعية طقسية، لا ينفصل عما يجرى من متغيرات فى العالم، رغم أنه يعيش فى النصف الثانى من العقد الثامن من عمره 76 عاما، ولا يزال فى الميدان يقدم أفضل الأفلام التى تثير شهية لجان التحكيم فى المهرجانات، وتدفع الجمهور للتعاطى بإيجابية معها فى دور العرض.

بوجه عام لم تنجح الإدارة الجديدة فى مهرجان برلين لاختيار الأفضل عالميا، هناك أفلام تسللت للمسابقة وتثير التساؤل عن أهمية تواجدها فى هذا المهرجان العريق، وسبب حماس الإدارة الفنية الجديد، وما هى المبررات، على الجانب الآخر نجحت إدارة المهرجان فى منح جائزة الدب الذهبى لتكريم سبيلبرج على إنجازه فى رحلته الممتدة، اختيارا ذكيا فى مكانه وزمانه.

لا يزال مبدعا وقادرا على إثارة الدهشة وآخر أفلامه (آل فيبلمان) الذى يتناول جانبا من حياته مرشح بقوة لـ7 جوائز أوسكار فى هذه الدورة التى تحمل رقم 95، تعلن 12 مارس القادم، أفلامه وصلت إلى رقم 35 فاز ثلاث مرات بالأوسكار، وحظى بـ19 ترشيحا لم يتقيد بنوع محدد من الأفلام قدم (أى تى) واحدا من أكثر الأفلام تحقيقا للإيرادات استمده من طفولته، وهو أيضا صاحب (الفك المفترس).

ولهذا أطلق تلك الدعابة عند حصوله على الجائزة (أخاف من الدب الذهبى أكثر من الفك المفترس) ـ سر البقاء هو الاحتفاظ بالدهشة التى هى أولى مراحل الشغف، وهو ما أراه مواكبا لعدد ممن عرفت من السينمائيين، مثل مخرجنا الراحل ويوسف شاهين وأيضا الصديق العزيز محمد خان كل منهما غادر الحياة وهو يحلم بأكثر من مشروع سينمائى، كانا يتنفسان فقط سينما، وهو لايزال يمارسه بألق وإبداع سبيلبرج.

■ ■ ■

تعلن الثامنة مساء اليوم جوائز تلك الدورة ولا يزال الفيلم الأمريكى الهوية الكورى الهوى (حيوات سابقة) ينتظر الجائزة الأهم (الدب الذهبى) أفضل فيلم، وهو أيضا إخراج امرأة سيلين سونج وأغلب جوائز الأفضل فى السنوات الأخيرة فى هذا المهرجان العريق ذهبت للنساء، ولا أظنها متعمدة، حتى فى وجود النجمة الأمريكية كريستين ستيوارت 35 عاما على قمة لجنة التحكيم فهذا لا يعنى انحيازا مسبقا للنساء ولكن مؤكد الإبداع هو الفيصل.

من الأفلام المرشحة للجوائز الأسترالى (بقاء اللطف)، وأضم أيضا الفيلم الألمانى للمخرجة ذات الجذور الإيرانية إيميلى عاطف، الذى يقدم علاقة تبدو حسية بين فتاة فى التاسعة عشرة من عمرها وكهل فى الأربعين.

وهو واحد ضمن خمسة أفلام تحمل الجنسية الألمانية تسابقت هذا العام، وهو ما يعنى أن 25 فى المائة من أفلام المهرجان داخل المسابقة الرئيسية، تحمل جنسية البلد المضيف، وهو ما يتكرر فى (كان) داخل المسابقة الرسمية، مع الأفلام الفرنسية وأيضا فى (فينسيا) مع الأفلام الإيطالية.

الأحداث تبدأ مع انهيار سور برلين 1989 وإعادة توحيد شطرى ألمانيا، شرقية وغربية، الفيلم اسمه (يوما ما سنقول كل شىء لبعضنا البعض) فتاة لم تكمل العشرين، تعيش حياة موزعة عاطفيًا، بين حبيب رومانسى فى نفس المرحلة العمرية ورجل فى الأربعين، فى علاقة جسدية إلا أنه يدرك أن تلك معادلة مستحيلة تخاصم الزمن، كان يكتب مذكراته وفيها الإجابة عن السؤال، الذى هو عنوان الفيلم (يوما ما سنقول كل شىء) ولهذا بمجرد انتحاره تسارع لمنزله وتحتفظ بالمذكرات التى يقول فيها كل شىء.

وننتظر مساء اليوم إعلان النتائج ولا أستبعد هذا الفيلم الألمانى، فهو الوحيد الذى من الممكن أن يذكر اسمه بين الخمسة أفلام التى تحمل الجنسية الألمانية، عند ختام الدورة الفقيرة فنيا، إلا قليلا!!.

 

المصري اليوم في

24.02.2023

 
 
 
 
 

عن "برليناله" ورمزية المكان: ذاكرة تاريخ وحيوية سينما

برلين/ نديم جرجوره

قبل أزمة كورونا، الضاربة في العالم بدءاً من مطلع عام 2020، يُردّد زملاء المهنة كلاماً يُقارن بين مهرجانين اثنين، مُصنَّفين "فئة أولى": الـ"برليناله" (فبراير/شباط) و"كانّ" (مايو/أيار). مقارنة غير مرتبطةٍ بالتنظيم واختيار الأفلام ولجان التحكيم، وغير معنيّة بجودة المُقدَّم من خدمات وأفلام ونشاطات مرافقة، فقط، بل بـ"مناخ" كلّ واحد منهما، والجغرافيا المحيطة بالمقرّ الأساسي، أي قاعة عروض أفلام المسابقة للنقّاد والصحافيين/ الصحافيات السينمائيين قبل الظهر، والاحتفالات الرسمية مساء ("قصر برليناله"، و"قصر المهرجانات والمؤتمرات" في "كانّ").

قصر وجدار وصُور

مقرّ الـ"برليناله" رمزٌ يتجاوز السينما. ساحة مارلين ديتريش مُقامة في مساحةٍ، تُمثِّل الخطّ الفاصل بين الجانبين الشرقي والغربي لبرلين، زمن الحرب الباردة. اختيار المكان متأتٍ من رغبةٍ في تأكيد الوحدة الألمانية (3 أكتوبر/تشرين الأول 1990)، بعد أعوام الجدار (1961 ـ 1989). الأبنية المحيطة بالقصر تمتلك ميزات العمارة الحديثة. في "ساحة بوتسدام"، القريبة من القصر، بقايا ثابتة من الجدار. في القصر، صالة كبيرة. خطوات قليلة تفصله عن مجمّع "سينماكس"، الذي يُجري إصلاحات جذرية فيه، تُنتج صالات إضافية، لكنّها تُقلِّص عدد المقاعد في كلّ صالة، تُجهَّز (الصالة) بمقاعد "مريحة للغاية"، لكنّها غير ملائمة أبداً لأفلام المهرجانات.

مجمّع تجاري ضخم، ومحلّات ومطاعم ومقاهٍ. وراء مبنى الـ"سينماتيك"، القريب من القصر، مجمّع آخر، لكنّه مُغلق (باستثناء مطعمٍ واحد) لتجديدٍ فيه، يُقال إنّه (التجديد) سيُنتج "ناطحة سحاب" تكون، كالعادة، مُجمّعاً تجارياً. "فندق حياة"، الذي يستضيف نجوم السينما ونجماتها وعاملين/عاملات فيها، يُطلّ على القصر. هذا مُفيدٌ لمن يبغي المشاهدة والمتابعة، وانتظار الضيوف لالتقاط صُوَر، أو لتسجيل كلمة، في طقسٍ، يُفترض به أنْ يكون شتوياً، مع بردٍ قارس، وثلج يُغطّي مساحات عدّة. في هذه الدورة، يكاد يكون الطقس خريفياً، مع أمطار قليلة، وبردٍ محمول. الطقس "الأصلي"، المتغيّر كثيراً في أعوامٍ قليلة ماضية، "يستفيد" منه سابقاً نقّاد وصحافيون/صحافيات سينمائيون عرب، لإعلان رفضهم تلبية الدعوة (بحجّة الصقيع)، ربما لتغطية عدم الحصول على دعوة أصلاً.

هذا يختلف عن "البيئة الحاضنة" لمهرجان "كانّ". المدينة الساحلية الفرنسية، في أشهرٍ عدّة، عادية للغاية. الشاطئ حكرٌ على أثرياء، وفي مرتفعاتها أفراد غير أثرياء، بعضهم مهاجرون/لاجئون ذوو أصول عربية وأفريقية. الفنادق الفخمة تمتدّ على الشاطئ نفسه، مع مطاعم ومقاهٍ وخمّارات، كما في شوارع فرعية وموازية. "قصر المهرجانات والمؤترات" في "كانّ" أضخم من ذاك الخاص بالـ"برليناله"، إذْ يضمّ صالات عدّة، أكبرها "أوديتوريوم لوي لوميير" (الاحتفالات الرسمية/السجادة الحمراء، عروض الصحافة)، الذي يحتوي على 2309 مقاعد، إلى صالات أصغر، كـ"بازان" و"بونويل" و"دوبوسي". كما أنّه يحتضن السوق السينمائية، وقاعات المؤتمرات الصحافية واللقاءات، وغرفة الصحافة.

الصالة السينمائية في "قصر برليناله" (أو "قصر برلين") تضمّ 1754 مقعداً، وفيها مقرّ للصحافة. يُقال إنّ هناك مخطّطاً لتأهيل القصر، وتوسيعه. يُقال أيضاً إنّ هناك تفكيراً في نقل مقرّ المهرجان السينمائي إلى مكانٍ آخر. لا شيء مؤكّد. "البيئة الحاضنة" لـ"كانّ" أكثر حيوية وغلياناً وحشوداً، والأخيرة (الحشود) لا علاقة لها فقط بالقادمين/القادمات إلى المدينة/المهرجان للمشاهدة والمشاركة. الطقس في مايو/أيار، في مدينة لها شاطئ يمتدّ على البحر الأبيض المتوسّط، يختلف كلّياً عن ذاك الذي يُخيّم على برلين، في أيام مهرجانها. في "كانّ"، كلّ شيءٍ يحدث في شارع أساسيّ، بينما نشاطات عدّة تُقام في أمكنةٍ، بعضها بعيدٌ عن مقرّ الـ"برليناله".

صالات ومسافات

السوق السينمائية في الـ"برليناله" تُقام في مبنى آخر، يبتعد عن "قصر برلين" نحو 10 دقائق سيراً على الأقدام. إلى جانبه، معرضٌ دائمٌ بعنوان "بين البروباغاندا والرعب 1933 ـ 1945"، ملاصقٌ تماماً لحائط ممتدّ على مسافة كيلومتر واحد، باقٍ في مكانه منذ تحطيم "جدار العار" البرليني (9 نوفمبر/تشرين الثاني 1989). صورٌ فوتوغرافية، ونصوص باللغتين الألمانية والإنكليزية لتفسير او توضيح أو معلومة، تعكس حقبةَ القهر والجريمة والعمالة، زمن النازية. بعضُ بقايا الجدار مداخل سابقة إلى غرفٍ وأبنية نازية، شاهدة على أفعالٍ وجرائم واشتغالاتٍ. هذا غير عابرٍ. التفكير الأساسيّ في اختيار أمكنة الـ"برليناله" منبثقٌ، أساساً، من أولوية التذكير الدائم بفصلٍ من التاريخ البائس والقاهِر لألمانيا، بهدف عدم تكرار الجريمة (أو هذا ما توحي به التفاصيل تلك، على الأقلّ). القول بنيّة إدارة الـ"برليناله" نقل مقرّها إلى مكان آخر، إنْ يكن (القول) صحيحاً، يعني قتلاً للذاكرة، وإلغاءً لرمزية المكان، وارتباط المهرجان به. لكنْ، ربما هناك حاجة فعلية إلى التغيير.

الصالات التي تعرض أفلاماً مشاركة في أقسام/برامج أخرى، غير المسابقة الرسمية لـ"كانّ"، غير بعيدة عن "قصر المهرجانات والمؤتمرات". في برلين، هناك صالات يحتاج المهتمّ/المهتمّة إلى وقتٍ ومواصلات لبلوغها. هذا لا علاقة له بالقيم المختلفة، عمارةً وتراثاً ورمزاً، للصالات، ولما تعرضه أيضاً، علماً أنّ بعض الصالات حديثٌ. المقاهي المُقابلة لقصر "كانّ" تُتيح لكثيرين/كثيرات (بعضهم نقّاد وصحافيون/صحافيات) حيّزاً لـ"تلصّص" مشروع على أناسٍ، يأتون إلى المدينة في أيام مهرجانها، لأسبابٍ، بعضها سينمائي، وبعضها الآخر غايات مختلفة. في برلين، يصعب العثور على مشهدٍ كهذا: مقاهٍ تُقابل القصر (وجود بعضها غير متشابه مع ذاك المنفلش على الـ"كوت دازور")، وتمنح روّادها فرصة التمتّع بذاك الـ"تلصّص" المشروع.

هذا كلّه مرتبطٌ بـ"المناخ" العام. اختيار مكانٍ برليني، يحمل اسم مارلين ديتريش، غير متشابهٍ مع ذاك الحاصل في "كانّ". التاريخ والذاكرة في الـ"برليناله" غير موجودين في "كانّ". برلين مدينةٌ مفتوحة على السياحة والثقافة والسهر والحياة والفنون والاقتصاد والعيش، بينما تكتفي "كانّ" بيخوتٍ باهظة الثمن في مرفئها، وبمهرجانها السينمائي الأشهر، المتساوي إلى حدّ كبير مع شهرة مهرجانها التلفزيوني. التاريخ والذاكرة في "كانّ" محصوران بتاريخ مهرجان وذاكرته، وحياة أثرياء وسِيَرهم. برلين مختلفة تماماً. بقايا الجدار، وخطّ ممتدّ في أنحاء المدينة، يقولان للجميع إنّ "جدار العار"، غير الباقي مادياً، حاضرٌ بثقل تاريخه وذاكرته.

تغييرات

هذا لا علاقة له بأفلامٍ ولقاءات ومسائل سينمائية بحتة"مهرجان برلين السينمائي" مرآة تعكس جديداً، وتجديداً أيضاً، غالباً. تفشّي كورونا، لحظة انعقاد دورته الـ70 (20 فبراير/شباط ـ 1 مارس/آذار 2020)، مُربكٌ له، وللمهرجانات الأخرى. دورة 2023 تُتيح فرصة مشاهدة جديد وتجديدي، لكنّها تفتقد حيوية السابق على كورونا. أفلامٌ عدّة مُثيرة للاهتمام والتفكير والنقاش، لكنّ "جواهر" السينما و"تُحفها" غير واضحةٍ، أو غير حاضرة.

هذا يستدعي نقاشاً، يُفترض به ألاّ يُحصَر في أزمات كورونا والاقتصاد والحرب الروسية على أوكرنيا، فقط. كلامٌ، يتردّد في منتصف الدورة الـ73 للـ"برليناله"، يُشير إلى أنّ انتقاداً يوجَّه إلى "كبار" المهرجان، يتعلّق بالثنائي مارييت ريسنّبيك وكارلو شاتريان، مديرا الـ"برليناله" منذ عام الوباء: "هناك فشلٌ حاصلٌ، لا علاقة للوباء به". أيكون هذا صحيحاً؟ يصعب التأكّد، فالثرثرة ميزة مهرجانات سينمائية.

لكنّ المهرجان أفلامٌ أيضاً، بل أوّلاً. مسابقة رسمية، وبرامج/مسابقات، واستعادات وتكريمات. كثرة الأفلام المختارة تحول دون تمكّنٍ من الاختيار. نقّاد وصحافيون/صحافيات سينمائيون يُفضّلون المسابقة الرسمية، وبعضهم يُشاهد أفلاماً في تلك البرامج/المسابقات، لما فيها، غالباً، من نتاجات ربما تكون جديرة بالمشاهدة والنقاش والمتابعة.

3 أفلام مُشاركة في المسابقة الرسمية للـ"برليناله 73" تمتلك مشتركاتٍ مرتبطة بالتصوير، والاشتغال الدرامي على العلاقات بين الأجيال، خاصة عند النساء، والإيقاع الهادئ، الحامل كمّاً هائلاً من الارتباكات والانزلاقات الخطرة في جحيم الكآبة والقهر، والأسئلة المعلّقة، والإجابات المؤجّلة دائماً. مشتركات تتمثّل في انهيار المرأة، وبحثها عن هوية جنسية وإبداع فني، وسعيها إلى تطهّر أو خلاصٍ (التناقض كبير بينهما). حضور المياه طاغٍ فيها: سباحة في بحرٍ أو مسبحٍ، أمطار، اغتسال.

المرأة أساسية، إنْ تكن مراهِقة أو شابّة أو أربعينية، أو أقرب إلى البدايات الأولى للشيخوخة. الرجل حاضرٌ في غيابه عن المشهد، وظهوره فيه نادرٌ، لكنّ تأثيراته (معظمها سلبيّ بالنسبة إلى بعض أولئك النساء) تعكس مدى سطوته. المرأة تعاني خيبة وانكساراً وقسوة ضغطٍ، تدفعها إلى مواجهة تحدّياتٍ ومخاوف؛ والرجل، بحضوره الأقلّ من حضورها (مراهقٌ أو شابٌ، غالباً)، يتوه في أزقّة ضيّقة في روحٍ قلقة، ويصطدم بلحظاتٍ تدفعه إلى خيارات، لعلّها (أو لعلّ بعضها على الأقلّ) غير متوقّعة أو غير مقصودة.

"20 ألف نوع من النحل"، للإسبانية إسْتِباليث أورِّسولا سولاغُرِن، أقلّها قدرة على سرد الحكاية، في أقلّ وقتٍ ممكن. هذا يعني أنّ في الفيلم ثرثرة، يُفترض شطبها من المعادلة السينمائية بين الشكل والمضمون. "موسيقى"، للألمانية أنْغِيلا شانْإليغ، يُدخل ما يُشبه الأسطورة بلحظةٍ راهنة، ليروي سِير أفرادٍ مُصابين بلعنة، غير ناجين منها، أو ربما تكون النجاة منها وهماً. "بالكاد يعيش" (ترجمة حرفية للعنوان البرتغالي الأصلي Mal Viver، أو "حياة سيئة"، كترجمةٍ للعنوان الإنكليزي الدولي Bad Living)، لجوان كانيزو، أجملها، سينمائياً ودرامياً وجمالياً.

أفلامٌ أخرى تغوص في أهوال النفس البشرية، بلغةٍ بصرية جاذبة وممتعة. "ليمبو"، للأسترالي أيفان سنّ، أقساها. حيّز مكانيّ يجمع بين كهوفٍ ومتاهات، وأفراد غارقون في الغبار واللعنات والماضي الثقيل. "حريق"، للألماني كريستيان بَتْزولد، قاس وعنيف، من دون مباشرة. في "ليمبو"، محقّق، يتعاطى الهيرويين، يُكلَّف بإعادة فتح ملف شابة مختفية منذ 20 عاماً. التحقيق يكشف عوالم غارقة في البؤس والغضب والعنف والأكاذيب والنبذ والفقدان والتفكّك. في "حريق"، كاتبٌ يعجز عن تأليف رواية ثانية، فيغوص في محيطٍ له مليءٍ بما يدفعه إلى ولادة جديدة.

 

العربي الجديد اللندنية في

24.02.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004