ملفات خاصة

 
 
 

خاص "هي" رسالة مهرجان برلين-

فيلم "Disco Boy".. عندما تصبح البداية الجديدة مجرد نهاية!

برلين- أندرو محسن

مهرجان برلين السينمائي الدولي

الدورة الثالثة والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

اعتدنا أن نشاهد مشاكل اللاجئين العرب في الدول الأوروبية، لكن ليس من المعتاد أن نشاهد لاجئين أوروبيين في أوروبا. فيلم "Disco Boy" (راقص الديسكو) إخراج جياكوم أبروتزيسي، وبطولة فرانز روجوفسكي يطرح قضية الهجرة غير الشرعية داخل أوروبا، لكنه لا يتوقف فقط عند هذا الأمر، بل يطرح الفيلم عدة أفكار عن الإنسانية بوجه عام.

بين أوروبا وأوروبا

تدور أحداث في خطين الأول يتابع أليكسي (روجوفسكي) القادم من إحدى دول شرق أوروبا إلى فرنسا، حيث ينضم إلى إحدى القوات العسكرية الخاصة، وهو ما يعرف أليكسي أنه بمثابة ميلاد جديد له، إذ بانتظامه في فرقته سيتمكن من إخراج أوراق فرنسية مما يعني بداية جديدة له

لم تكن رحلة أليكسي إلى فرنسا سهلة على الإطلاق، ومن خلال هذا نشاهد ما يمكن أن يصل إليه حجم التنازلات والخسائر لدى بعض مواطني شرق أوروبا من أجل السفر إلى دولة أكثر ثراءً واستقرارًا مثل فرنسا. لكن عندما يصل إلى فرنسا وينتظم في الفرقة الخاصة، يجد نفسه مضطرًا إلى مواجهة أحد الأسئلة الصعبة، وهو هل عليه الامتثال للأوامر فقط أم يتبع إنسانيته؟

يسافر أليكسي ضمن فرقته لتحرير أسرى فرنسين لدى إحدى الجماعات المسلحة في دولة النيجر، وأثناء ذلك يجد أن بإمكانه إنقاذ بعض أهالي القرية، ولكن الأوامر تقتضي بأن يلتزم فقط بإنقاذ الأسرى الفرنسيين، وهو ما يوقعه في مأزق أخلاقي، ويوقعنا نحن المشاهدين أيضًا معه. من المعروف أن الامتثال للأوامر في المؤسسات العسكرية أمر مقدس، وفي هذه الحالة ربما الإقدام على فعل خارج المتفق عليه قد يهدد العملية بأكلمها، ولكن بالنسبة لألكسي الأمر يختلف.

هذا الشاب لا ينتمي إلى وطن حقيقي، فقد ترك وطنه والآن هو في مرحلة اختبار حتى ينتمي إلى فرنسا، وربما كانت هذه أكثر تفاصيل الشخصية حساسية، إذ نحن نشاهد شخصًا يحاول التشبث بالحياة نفسها، ليس لديه مشكلة أن يخوض التدريبات الشاقة ويقاتل، حتى يصل لاحقًا إلى حياة كريمة، أو من وجهة نظر أخرى، ليس لديه مشكلة في أن يكون الوصول إلى حياة أفضل يتضمن إمكانية التضحية بحياته في المقابل.

بين إفريقيا وأوروبا

في الخط الثاني من الفيلم، نتعرف على بعض من الجماعة المسلحة في النيجر والتي تقاوم الدولة لأنها ترى أنها تعمل في إدارة الموارد وتسمح بتلويث بيئة النيجر لأجل الشركات الأجنبية. على عكس الأفلام الأخرى التي تقدم عادة الشخصيات داخل تلك الجماعات المسلحة إما بشكل جاف تمامًا، في صورة آلات قتل فقط، أو لا تهتم بتقديمها على الإطلاق، في "راقص الديسكو" يقترب المخرج من الشخصيات أكثر، ويستكشف أحلام الشاب جومو، الذي كان يتمنى أن يصبح مع أخته أودوكا راقص ديسكو، في حالة كان وضعه أفضل بعيدًا عن النزاع والقتال.

لا يحاول الفيلم بالطبع تجميل صورة النزاعات المسلحة، ولكنه يحاول أن ينظر بعين أخرى إلى البشر، طارحًا سؤال: ماذا لو كنا في عالم أفضل؟ 

في فصله الأخير، يأخذ الفيلم طابعًا غرائبيًا بعض الشيء، إذ يشاهد أليكسي جومو في خيالاته، ويشاهد أودوكا بالفعل في أحد الأندية الليلية. ربما تكون المصادفة كبيرة بعض الشيء هنا من الناحية النظرية إذ أن أودوكا، من بين كل الأندية الليلية في فرنسا، ترقص في النادي الذي يذهب إليه أليكسي. لكن عندما ننظر إلى البناء الخاص بالفيلم وفكرة تقاطع المصائر التي يحاول تقديمها منذ البداية فسنجد الصدفة ملائمة تمامًا.

رغم النهاية الواضحة للعمل والتي لا تتركنا كثيرًا مع الخيالات أو محاولة توقع مصائر الشخصيات، فإنه يزرع الكثير من الأسئلة الأخرى داخلنا، أولها بالتأكيد عن فكرة الهرب ومحاولات البدء من جديد، إذ أن أليكسي الذي حاول أن يخلق لنفسه هوية جديدة، وجد أنه يتعذب حتى يصل إليها، بينما أودوكا التي كانت تحلم فقط بأن تحيا بسلام في وطنها انتقلت لتبدأ في عالم جديد لم ترغب فيه من الأساس، حتى وإن وفر لها هذا العالم بقاء هوايتها الأثيرة، الرقص.

 

مجلة هي السعودية في

23.02.2023

 
 
 
 
 

نسوة سوريات يطلقن صرخة القهر في مهرجان برلين

يتحدين المجتمع الذكوري مسرحياً  داخل الفيلم انطلاقاً من شهادات سيدات معنفات

هوفيك حبشيان

عذابات المرأة السورية، وهي نفسها عذابات المرأة العربية عموماً، تصدرت عروض مهرجان برلين السينمائي (16 – 26 فبراير- شباط) من خلال فيلم وثائقي في عنوان "تحت سماء دمشق" إخراج طلال ديركي وهبة خالد وعلي وجيه. العنوان يذكّر بثاني فيلم روائي طويل سوري صوِّر في دمشق ويعود تاريخ انتاجه إلى العام 1932. ديركي مخرج معروف بفن تسجيل الواقع ولديه أفلام وثائقية أشهرها "العودة إلى حمص" و"عن الآباء والأبناء". أما خالد ووجيه، فهما حديثان في هذا المجال. 

في الصالة الكبيرة لمجمع "كوبيكس" المطل على واحدة من أجمل ساحات برلين وأكثرها حيويةً، "ساحة الألكسندر"، تجمّعت حفنة من المهتمين بالوثائقي وبالقضية النسائية وبسوريا (ليس بالضرورة بهذا الترتيب). معظم المشاهدين من الألمان أو من المشاركين في "البرليناله" الذين يأتون من خارج البلاد، مع عدد قليل جداً من العرب والسوريين، رغم ان برلين أصبحت "عاصمة بديلة" لبعض السوريين المقيمين في أوروبا. العرض الذي شاهدته كان الثالث للفيلم في المهرجان، بعد افتتاحه قبل أيام، مع الذكر بأنه يشارك فيه ضمن قسم "بانوراما".

في "عن الآباء والأبناء"، اختار ديركي "اقتحام" البيئة الحاضنة للسلفية الجهادية وخصوصيتها، وان ينجز فيلماً عنها "من الداخل" بحثاً عن جذور العنف. وللتسلل إليها لم يكن أمامه سوى حلّ واحد: أن يعرّف عن نفسه بصفته مصوّراً صحافياً متحمّساً لتلك الأفكار. هكذا صوّر فيلمه ودخل بيت السلفي أبو أسامة وتعرف إلى أولاده الثمانية. معه، عاش لحظات رعب كثيرة، نرى بعضها في الفيلم. تقنية التستر أو الإختفاء، للتصوير في بلاد يحكمها نظام سياسي متعطش للدم، يستعيدها اليوم في هذا الفيلم. لكن الأساليب مختلفة، لكونه غائباً جسدياً هذه المرة، وله شريكان في الإخراج. فتصوير فيلم كهذا عن بُعد، انطلاقاً من برلين، وهي مكان اقامة طلال ديركي وهبة خالد، شبه مستحيل، رغم أن عدداً من السينمائيين استعانوا بهذا الحل في مشاريع مشكوك في مناقبيتها. ذكاء الفيلم هنا في أنه يحول مسألة عدم قدرة المخرجين على الإنتقال إلى سوريا والتصوير فيها، موضوع من مواضيع الفيلم المتشعبة، ويتم توظيفه لصالحه. كل شيء يحدث أثناء التصوير يُستَثمر فيه، في أسلوب تفاعلي بين الفن والواقع. إلا أن التمسّك بعرض ظروف التصوير كثيراً والتباهي بها، يؤدي إلى صرف النظر عن المضمون، لمصلحة الاهتمام بالشكل وتقنيات السرد. هناك صراع مستمر بين الشكل والمضمون لمعرفة أيهما سيكون بطل "تحت سماء دمشق" في نهاية المطاف.   

العنف الشامل

بعيداً من السياسة في مفهومها المباشر، يتطرق الفيلم إلى مكانة المرأة في المجتمع السوري قبل الحرب وخلالها وبعدها، وهي التي دمّرت البلاد. المباني المتداعية والمخترقة بالرصاص والمنهارة التي نراها بكثافة في الفيلم، ليست هي الأشياء الوحيدة التي قضت عليها مأساة استغرقت عقداً من الزمن واستنزفت البلاد. فالإنسان، وخصوصاً الفئات الأضعف في المجتمع، هم أكثر مَن يحتاجون إلى ورشة إعادة بناء. وهذا ما يسعى إليه الفيلم الذي يتسلل إلى يوميات دمشق، فنرى مشاهد وثائقية تلتقط واقعاً يغيب عن نشرات الأخبار والمسلسلات المليئة بالزيف. داخل هذا المجتمع البطريركي نساء قررن البقاء في بلادهن، ويعانين من سوء المعاملة والعنف المنزلي، بحيث أن لا صوت يعلو فوق صوت الرجل. الذكورية المتفشية لا تفرّق على ما يبدو، بين سيدة وأخرى، مهما تكن توجهاتها السياسية وقناعاتها، فكل امرأة تحت سماء دمشق، أسيرة هذه العقلية المتخلفة التي تعطي الرجل سلطات مطلقة وتحرّمها على النساء. هذا ما يرويه الفيلم، مساوياً بين الجميع، مغيباً دور السلطة السياسية ومساهمتها في رعاية هذا النظام الذكوري، إلا إذا اعتبرنا أن مشهد موظّف حكومي في إحدى المصالح الحكومية، وهو يختم رزمة من الأوراق التي ستنام طويلاً على طاولة المحكمة، يفي بالغرض. يجب ألا ننسى أن للسينما هذه القدرة والبلاغة على احتواء عالم كامل في صورة واحدة. في أي حال، يبدو أن الرسالة وصلت إلى ألمانيين كانا خلفي في الصالة… فضحكا! 

تحرش وابتزاز واستغلال جنسي وغيره من حالات القمع، سواء في الحياة الخاصة أو المهنية، من تمظهرات ممارسة سلطة الرجل على المرأة. هذه حرب أخرى تُستخدَم فيها أشد الأسلحة فتكاً ولا أحد يكترث. بيد أن ما يساهم في استمرار هذه الحالة إلى الأبد، هو التستر على هذه الممارسات، بالتواطؤ مع السلطات القضائية والسياسية، والدينية أيضاً (بالرغم ان الفيلم لا يتعرض إلى الأخيرة). نتيجة هذا كله، ينتهي أمر بعض النساء في مستشفى الأمراض العقلية!  

على سبيل التصدي لهذه الحالة ونزولاً عند رغبة أصحاب الفيلم، تتولى مجموعة فتيات (إيليانا، إينانا، فرح، غريس، سهير)، يقال لنا أنهن ممثّلات، إقامة مسرحية موضوعها الأساسي التحرش والانتهاك الجسدي الذي يتعرض له العديد من النساء. هدف المسرحية؟ الدعوة إلى البوح وعدم السكوت وتحدي المحرمات في مجتمع محافظ. ولهذا الغرض، عليهن مقابلة سوريات أخريات والتحدث معهن عن تجربتهن. الشهادات (ترتكز خصوصاً على الطبقات الدنيا في المجتمع)، رغم أن لا جديد فيها ونعرفها جيداً، لكنها تنقل حجم الفاجعة. هذه الشهادات التي ستكون مادة دسمة للمسرحية، تولّد نقاشات بين الفتيات الخمس، وتظهر لنا علاقتهن مع أنفسهن ومع بيئتهن. ورغم أنهن قطعن شوطاً كبيراً في إعادة بناء الذات وتحدي المجتمع، لكن الهشاشة هي أكثر ما تميز خطابهن وسلوكهن.  

ولسخرية القدر إعترضت المشروع مشكلة كبيرة، والمشكلة هذه على صلة مباشرة بالقضية التي يحاول الفيلم كشفها وتفكيكها وعرضها. مشكلة تؤكد أن حتى الدوائر الأكثر تعاطفاً مع قضية المرأة لا تكون دائماً محل ثقة. فكيف من الممكن لفيلم أن يتعاطى مع مشكلة هي منه وفيه؟ نتيجة هذه المشكلة، يسلك الفيلم طريقاً جديدة. يحاول المخرجون الثلاثة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن الضربة قاضية، وهي أكبر من القدرة على استيعابها. ثم نحن أمام فيلم وثائقي في الآخر، وما يحدث أثناء التصوير هو جزء من الواقع.

فور خروج الفتيات من محيطهن السوري إلى لبنان حيث يتم استكمال التصوير، يدخل الفيلم في الغيبوبة. الفتيات خارج سوريا كالأسماك خارج مياهها. ينتهي الفيلم مبكراً، لكنّ هناك إصراراً ومحاولات لإعادة إحياء جسد يحتضر في النصف الساعة الأخير. وهذا مؤسف لأن كل الجزء الذي يأتي قبل اكتشاف المشكلة بديع إلى حد كبير، كتصوير وكلغة سينمائية وكشهادات وكأسلوب وثائقي يقرّب الفيلم من جماليات الروائي.

من الصعب أن نعرف ما نسبة الحقيقة وما نسبة المفبرك في الفيلم. في أي حال، هناك صعوبة في رفع سقف الطموحات السينمائية  في بلد يعيش صراعات مفتوحة على كل المستويات وفي كل الاتجاهات، بعضها صامت وبعضها الآخر محل نقاش دائم. اللافت في جميع الأحوال، ان "تحت سماء دمشق" يبدأ فيلماً عن البوح وينتهي باستحالة البوح. ما لم نسمعه ولم نره، قد يكون أفظع بمراحل من الذي سمعناه وشاهدناه، وفي هذه القدرة على الإيحاء، بعض من أهمية الفيلم. فلكل شيء حدود في بلد مثل سوريا، حيث العاملون في مجال الفن، يعرفون بعضهم بعضاً جيداً، ولا مجال لتسمية الأشياء بمسمياتها الواضحة والصريحة، كم هي حال الممثلة صباح السالم التي تختصر كل شيء بكلمة واحد، كلمة "فساد" التي لا تعني شيئاً في هذا السياق.

 

الـ The Independent  في

23.02.2023

 
 
 
 
 

برلين 73 - "بقاء اللطف": رولف دو هر تائه في الترجمة!

هوفيك حبشيان

في ال#سينما، كما في المواد الغذائية، هناك الطبيعي والمصنّع. أحياناً، صورة واحدة، دخيلة على مشهد معبّر، تكفي لبث احساس بأننا أمام مشروع غير أصيل، فيه الكثير من التصنّع. هكذا هو جديد المخرج الهولندي الأوسترالي، رولف دو هر، "بقاء اللطف" (هكذا ترجمه بنفسه للعربية كما ظهر في جنريك الفيلم)، المعروض في المسابقة، وهو عمل يتعقّب سيدة سوداء (مواجيمي حسين) احتُجِزت داخل قفص في وسط الصحراء، ثم استطاعت الخروج منه، لتتنقّل من مكان إلى آخر، وإلى أي مكان ستتعقّبها كاميرا المخرج المعجب كثيراً بموضوعه، قبل ان تعود إلى القفص وتقفل على ذاتها، في اشارة إلى ان الحرية أقل أماناً لها من العيش داخل القفص، وفي هذا الخطاب الساذج الأرعن تبسيط مروع لم أرَ مثله في أي من أفلام مهرجان برلين السينمائي (16 - 26 شباط) هذه السنة.

لرولف دو هر أفلام معروفة مثل "بلاد تشارلي"، من بين فيلموغرافيا طويلة تعود بداياتها إلى الثمانينات، وهي أفلام حاولت رد الاعتبار إلى سكان أوستراليا الأصليين. سينماه قاسية، لا تساوم، متطرفة أحياناً، لها موقف واضح ووجهة نظر صريحة من العالم الذي يحيط بها، ولكن هذا كله لا يعني بالضرورة اننا سنتعاطف مع ما نراه أو نشهد عليه. في "بقاء اللطف"، كلّ شيء مفهوم سلفاً ولا مكان لِما هو مغاير. الكلام مكتوب على جبين المرأة السوداء التي تجد نفسها في أرض قاحلة بلا ماء وطعام، وتحت حرارة شمس عالية تجعل الأرض تتشقق من تلقاء نفسها. انها ناجية تحاول الصمود بشتى الطرق، وفور خروجها من القفص تجد نفسها محوطة من كلّ حدب وصوب بمجموعة أشخاص يرتدون أقنعة الغاز. فعلى ما يبدو هناك وباء تفشّى في أنحاء البلاد محدثاً دماراً وخراباً، أما الناس فباتوا يبصقون الدم. لا نعرف الكثير عن السياق الذي تجري فيه الأحداث، فهذا نص أراده مخرجه تجريدياً إلى أبعد حد. صحيح اننا في أوستراليا، لكن هناك سعي دائم لاعطاء كلّ شيء طابعاً كونياً كأن الحالة تتجاوز حدود بلاد معينة. 

اللغة التي تنطق بها الشخصيات لغة غير مفهومة لنا، ولا يمكن اعتبارها لغة، بل مجرد أصوات. هذا يعزز فكرة التجريد التي يسعى اليها الفيلم، للأسف من دون نجاح كبير. الأجواء التي يزجّ بنا فيها دو هر أبوكاليبتية، وكأن كارثة مرّت من هنا، لكن المعلومات قليلة ومحدودة، ما يفتح باب الخيال أمام المُشاهد واسعاً. هناك أجواء شبيهة بأجواء “ماد ماكس” حيث الصحراء هي البطلة، وكلّ شيء يوحي بالتحضّر والتمدّن غائب عن الصورة. هذا كله أفضى إلى واقع شديد العدائية، حيث البقاء للأقوى… الا ان عنوان الفيلم هو "البقاء اللطف”!

وحده المخرج يستطيع ان يفهم فائدة مشروعه هذا الذي يمتد على قرابة ساعتين ويقتصر على التعقّب المتواصل بين ناس يتحاربون ويعامل بعضهم بعضاً بعنف وقسوة بلا نهاية. ماذا يريد رولف دو هر؟ أنا شخصياً، لم يصلني المعنى. تدفّقت الصور بحضورها الطاغي جداً، لكن لم تصب أي منها القلب، إنما بقيت مجرد صور. 

 

النهار اللبنانية في

23.02.2023

 
 
 
 
 

«المرهقون» يمثل السينما العربية.. و«اليمن» يجد لنفسه مكانة على خريطة برلي

نطارق الشناوي

المخرج عمرو جمال وفيلمه (المرهقون) هو عنواننا العربى وسط قليل جدًا من المشاركات المحدودة فى هذه الدورة التى أوشكت على الرحيل.

البداية فى هذا الفيلم (ضربة البداية) هى بمثابة التعاقد الموحى بين المرسِل والمستقبِل، الذى تتأكد حتميته عند مشاهدة الشريط كاملا.. قد يبدو العنوان (المرهقون) لو قارنته بالمعاناة التى يعيشها الإنسان اليمنى وتحملها لنا يوميا وسائل الإعلام تبدو الكلمة لا يتوافق مع ما يجرى حقيقة على الأرض، لأننا تعودنا على مشاهدة الدماء والدمار، يبدو الإرهاق بالمقارنة وكأنه لحظة استرخاء، إلا أن مدلول الإرهاق وصل بنا إلى المنتهى، فهى معاناة تجاوزت مرحلة القدرة على التعايش.

المخرج الذى شارك أيضا فى كتابة السيناريو مع مازن رفعت يقدم دائمًا سطحًا ناعمًا للأحداث.. أسرة بسيطة تريد أن تمسك بالحياة بأقل القليل منها، بينما كل ما يحيط بها يدفعها إلى الانسحاب التدريجى من الحياة.

الفيلم صار يحمل اسم هذا البلد (اليمن)، ولأول مرة كفيلم روائى طويل، لأن اليمن شارك من قبل بأفلام تسجيلية وقصيرة على ندرتها، استطاع المبدع اليمنى أن يعبر عن نفسه من ثقب إبرة، ولم يكن هذا هو إنجاز المخرج الوحيد، فقد قدم تجارب سابقة، منها (هاملت) على المسرح، فهو صاحب مشروع متكامل وليس مجرد فيلم.

المهرجان الوجه الآخر للكلمة، كمدلول هو الاكتشاف، هذا هو ما يمنحه خصوصية، ومهرجان برلين يحرص على الاكتشاف، كما أنه يضع السينما العربية بل اللغة العربية فى مكانة متميزة، فهى واحدة من سبع لغات تُكتب يوميًا على الشاشة قبل عرض الأفلام (المهرجان يقدم)، تقرؤها فى ثوان ولكنها تعنى لنا الكثير فى زمنٍ جفت فيه منابع الإبداع، وتقلصت مساحات التعبير المتاحة، ظل هناك سينمائى يتنفس، ومهرجانات تبحث أيضا عن الجديد.

اليمن هو صراع عربى ودولى، وجرح نافذ صار كابوسًا يستنفد الطاقات العربية. الكل ينتظر أن تقترن السعادة الحقيقية بهذا البلد الذى صارت السعادة فيه فى الذاكرة الجمعية مرادفة لاسمه، بينما الحقيقة غير ذلك تمامًا، الكل يخشى من الغد، وهناك ضربات هنا وهناك توجه بضراوة لهذا البلد العظيم.

نتوقف أمام الإرادة التى يمتلكها المخرج اليمنى أو العدنى كما يحب (عمرو جمال)، الذى لفت انتباهى إلى أن أغنية (وطنى حبيبى الوطن الأكبر) التى قدمناها مطلع الستينيات كانت تتغنى فى مقطع منها عن اليمن وتحديدا الجنوب، بصوت عبدالحليم وتلحين عبدالوهاب وتأليف أحمد شفيق كامل، (فى فلسطين وجنوبنا الثائر، ح نكملك حرياتك)، المقصود بـ(جنوبنا الثائر) هو عدن التى يعتز المخرج بانتسابه إليها.

الفيلم يمنى القضية واللهجة، إلا أنه أيضا استطاع أن يحصل على تمويل من السودان ومهرجان (البحر الأحمر). المخرج السودانى أمجد أبولعلا صاحب فيلم (ستموت فى العشرين)، والذى تحرر من الإنتاج فقط لنفسه، صار متواجدا بإمكانياته وراء العديد من التجارب المختلفة سواء قدمها سودانيون أو عرب.

شارك أمجد فى الإنتاج ممثلا للجانب السودانى، الفيلم يعنيه فقط البشر فى صراعهم من أجل الحياة، وعين المخرج تلتقط كل هذا الجمال والسحر فى المعمار اليمنى (العدنى)، السينما حتى لو لم تقصد ذلك بالضرورة ومع سبق الإصرار فهى تحافظ على الحياة وتوثقها. اللقطات الطويلة التى تأخذ مساحات مكانية على (الكادر) تتيح للمخرج، رغم صعوبتها، مساحات من الإضافة تمنح أيضا للمشاهد قدرا لا ينكر من تعدد زوايا الرؤية، فأنت تشاهد وتعيش وتتذوق، بل تنفذ حتى رائحة المكان للجمهور.

الإنسان اليمنى لا يريد سوى المقومات الأساسية للحياة هذه تكفيه، والمخرج حدد من البداية الهدف، لن يدخل فى جدل فكرى وصراعات سياسية، لأن قضيته أبعد من كل ذلك، ولأن أيضا السياسة بكل تفاصيلها تعبر عن لحظة آنية، قد تتغير المعادلات على أرض الواقع فى لحظات، ليصبح ما نراه على الشاشة خارج الزمن، ويبقى فقط هذا الإنسان.

المخرج يراهن فقط على الإنسان، لم يشارك المخرج أو بالأحرى يبدد طاقته فى معركة يجد نفسه فى النهاية مثخنًا بالجراح، لأن التداخلات السياسية معقدة جدا، ومصر منذ زمن جمال عبدالناصر صار اليمن بالنسبة لها يشكل مأزقًا، حتى هزيمة 67 نلحقها بتورط جيشنا فى حرب اليمن، عندما استنفد قواه ولم يجد شيئا يواجه به إسرائيل، مدى صحة ودقة المعلومات هنا ليس هو القضية، ولكن كحد أدنى ارتباط ما يجرى فى اليمن بمصر تحديدا، فهو عمقنا العربى عبر التاريخ.

«المعاناة اليومية» هذا هو بالضبط ما قدمه عمرو جمال، حتى مشاكسات الأمن وقوات الجيش للمواطن نراها جزءًا من الحياة، وتعمد ألا يضع خطًا فاصلًا بينها وبين ممارسة طقوس الحياة، فهو يمسك بذكاء بالخط الاجتماعى: زوج وزوجة وثلاثة أطفال، ينتظرون الرابع الذى يعنى زيادة فى المعاناة، وعلى كل المستويات، الاجتماعية والاقتصادية، الإجهاض ممنوع قانونًا ومحرم دينيًا، وهذا هو المأزق المباشر الخارجى، إلا أنه لا يشكل سوى إطار فقط لما يريده المخرج بهذا الشريط الذى ينضح صدقًا.

ذلك ليس القضية، توثيق حياة الإنسان هو القضية، ليظل هذا الشريط نابضًا بالحياة التى نسعى لأن يعيشها قريبا أهل اليمن الذى ارتبط بالسعادة، بينما الحقيقة أنه لا يعيشها، بل يموت من أجلها كل يوم!.

تعودت عند مشاهدة الأفلام العربية الاستعانة أحيانا بالترجمة المكتوبة على الشريط المعروض بالإنجليزية حتى لا يفوتنى مدلول بعض الكلمات العربية المغرقة فى عاميتها.. ولكن مع (المرهقون) لم أكن بحاجة إلى قراءة ترجمة. اللهجة اليمنية تصل مباشرة إلى الأذن والقلب والعقل والوجدان!.

tarekelshinnawi@yahoo.com

 

المصري اليوم في

23.02.2023

 
 
 
 
 

«حيوات ماضية» للكورية الأمريكية سيلين سونغ: حب يدوم رغم البعد والسنوات

نسرين سيد أحمد

برلين ـ «القدس العربي» : في فيلمها الأول «حيوات ماضية» المشارك في المسابقة الرسمية في مهرجان برلين السينمائي من 16 إلى 26 فبراير/شباط الجاري، تقدم الكاتبة المسرحية والمخرجة الكورية الأمريكية سيلين سونغ فيلما ذرفنا معه الدموع، ومعه ضحكنا، وعدنا إلى الماضي، إلى الحب الأول. ويعد عرضه الأول في مهرجان صاندانس في الولايات المتحدة، حيث حظي الفيلم بإشادات واسعة، يأتي الفيلم إلى برلين، ليحظى بثناء كبير من النقاد وبحب واسع من الجمهور.

يبدأ الفيلم بثلاثة أشخاص يجلسون معا في حانة، رجل وامرأة يتجاذبان الحديث في ود واضح، بينما جلس الرجل الثالث شبه صامت، ويبدو واجما، أو ربما يشعر بالسأم. لا يمكننا سماع ما يقوله الرجل والمرأة، لكن يمكننا سماع تعليق بعض رواد المطعم، الذين أثار المشهد الثلاثي فضولهم، لمعرفة العلاقة التي تجمع الثلاثة. هذا الفضول المحبب لمعرفة تفاصيل هذه العلاقة ومعرفة هؤلاء الثلاثة هو ما يدوم معنا طوال الفيلم. يقدم هذا المشهد الافتتاحي لفيلم «حيوات ماضية» بداية ذكية تثير اهتمامنا، فنصبح نحن أيضا مثل هؤلاء الناس في الحانة، الذين يريدون معرفة هؤلاء الأشخاص والعلاقة التي تجمعهم، لكن الفيلم لا يقدم مجرد قصة حب ثلاثية الأطراف، بل يأخذنا في رحلة طويلة لفهم العلاقة بين هذين الاثنين الغارقين في الحديث. كما يأخذنا الفيلم في رحلة للبحث في ذواتنا أيضا عن علاقات الحب التي مررنا بها في الماضي، وماذا لو قُدر لها أن تدوم.

إنه فيلم عن الخيارات التي نختارها في الحياة، عن الحب الذي يدوم، رغم انقضاء الأعوام وتغير الأحوال، عن الأقدار والمصائر، إنه فيلم يجعلنا نتساءل ماذا لو بقينا في مسار حياتنا الأول ولم نبدله بمسار جديد، ولماذا نحنّ إلى حياتنا الأولى رغم أننا اخترنا أن نبدلها بالعيش في مكان آخر ومع أشخاص آخرين.

بعد هذا اللقاء الافتتاحي في الحانة، يعود الفيلم بنا نحو ربع قرن، إلى سول في كوريا، حيث تتأهب الصبية نورا، التي كان اسمها آنذاك نا يونغ، مع والديها للهجرة إلى كندا ومنها للولايات المتحدة. هي صبية ذكية يهمها تفوقها الدراسي، نراها حزينة لأنها فقدت مرتبتها الأولى في الصف لصديقها الصدوق هاي سونغ، الذي تعجب به ويعجب بها، رغم إعجابها الفتي بهاي سونغ، إلا أن طموحها الأول هو أن تصبح كاتبة بارزة، وأن تحصل على جائزة نوبل في الأدب. قبل سفرها لكندا، تلتقي نورا مع هاي سونغ في نزهة للوداع، وتحدث والدتها إنها تأمل ذات يوم في الزواج منه، لكنها أيضا تطمح لتحقيق الذات والتفوق الأدبي والدراسي في الولايات المتحدة. تمر الأعوام وينقضي 12 عاما، نرى نا يونغ، التي اختارت لنفسها اسم نورا بعد الهجرة، وقد انتقلت إلى نيويورك لدراسة التأليف المسرحي. يدفع الفضول نورا، التي تلعب دورها باقتدار كبير غريتا لي، أن تبحث في وسائل التواصل الاجتماعي عن حبيب وصديق الصبا هاي سونغ، لتجده هو أيضا يبحث عنها. ويبدأ الاثنان في التواصل عن طريق الإنترنت، وسرعان ما يعود الدفء والحب والعفوية والفهم إلى علاقتهما، التي تتواصل على مدار اليوم. يصبح هاي سونغ هو الشخص الوحيد، بخلاف والدتها، الذي تتحدث معه نورا بلغتها الكورية، بعد أن صارت الإنكليزية هي اللغة التي تتحدث وتدرس وتكتب بها أعمالها الأدبية. تجد نورا نفسها منجرفة إلى الماضي، إلى كوريا وإلى هاي سونغ، لكنها تريد أن تحيا في الواقع، في نيويورك حيث تود أن تترك بصمتها الأدبية، وأن تصبح كاتبة مسرحية يشار لها بالبنان. وتقرر للمرة الثانية أن تعيش للمستقبل، وأن تبتعد عن حب الصبا.

يمر 12 عاما آخر، حيث تلتقي نورا في محل لإقامة الكتاب والأدباء في مونتوك في نيويورك بكاتب شاب آخر هو آرثر. تتزوج نورا آرثر، لكن صلتها التي ظلت مقطوعة على مدى أعوام بهاي سونغ تتجدد عندما يقرر السفر من كوريا إلى نيويورك في عطلة، الهدف منها أن يلقاها. وحين يتجدد اللقاء، تتجدد كل المشاعر السابقة، ويعود الحنين وتعود الضحكات التي تبدأ خجولة لتتحول إلى ضحكات مليئة بالبهجة. يعود الاثنان إلى حب الصبا كما لو لم يمر 24 عاما، وكما لو لم تتبدل المصائر والبلدان.

تأبى سونغ أن يتحول فيلمها إلى قصة متوقعة عن قصة حب ثلاثية الأطراف، وتأبى أن تحوله إلى مسار الغيرة والهجر والتنافس بين رجلين على حب امرأة. إن ما تريده سونغ لفيلمها هو أن يكون فيلما عن خياراتنا في الحياة، وعن حيواتنا السابقة، وعن التأمل في مصائرنا، وعن بقاء الحب رغم مرور الأعوام.

يتمثل جزء كبير من ذكاء الفيلم ورهافته في عدم إقصائه لآرثر، زوج نورا. يبدو تركيز الفيلم على نورا وحبيب طفولتها وصباها، لكننا نجد أن آرثر هو الأكثر فهما وتفهما لهذه الصداقة وهذا الحب الذي يعود من الماضي. نجد آرثر يعلم أنه رفيق درب نورا في الحاضر، لكن لها تاريخا في بلادها الأم كوريا. يدرك أنه مع حبه لها لا يستطيع أن يقطع صلتها بحياتها الماضية، وبذكرياتها وبلغتها الأصلية، التي ما زال عقلها الباطن يتحدثها، عندما تهمهم كلمات وهي تحلم أثناء نومها. يدرك آرث وندرك نحن أيضا أننا مزيج من حاضرنا وماضينا، وأن حيواتنا السابقة هي ما يشكل وجداننا ووعينا الحالي.

 

القدس العربي اللندنية في

23.02.2023

 
 
 
 
 

«20 ألف نوع من النحل»: رحلة صبية متحولة لفهم الذات

نسرين سيد أحمد

برلين ـ «القدس العربي»: في فيلم «20 ألف نوع من النحل» المشارك في المسابقة الرسمية في مهرجان برلين السينمائي في دورته الثالثة والسبعين (16 إلى 26 فبراير/شباط الجاري) تقدم المخرجة وكاتبة السيناريو الإسبانية إستيباليز أورسولا سولاغورين فيلما مرهفا رقيقا وجريئا في طرحه في آن واحد. تطرح المخرجة في فيلمها محاولة طفل في الثامنة لفهم ذاته وهويته، فقد ولد في جسد صبي، لكنه يشعر في أعماقه بأنه لا ينتمي لعالم الصبية.

على مدى صيف إسباني حار في إقليم الباسك يسعى الصبي أياتور ذو الثمانية أعوام، الذي لا يحب اسمه، الذي ينتمي لعالم الرجال، ولا يشعر بأن تركيب جسده كجسم صبي يتماهى مع روحه وشخصيته، لفهم ذاته ووجوده ويسعى لمعرفة جنسه، هو لا يشعر بأنه صبي ولا يحب ألعاب الصبية، ويشعر بأنه أقرب إلى الفتيات. يحاول الصبي أن يجد لنفسه مكانا يرضيه في هذا العالم الواسع، الذي يضيق بمن مثله ممن خلقوا في جسد لا يشعرون بالانتماء إليه.

تقدم سولاغورين فيلما ثاقبا في رقة وعذوبة، فيلما يسبر أغوار وعي طفل في بدايات تكوينه، لكن يختلف عن أقرانه. إنه فيلم يذكرنا بفيلم «فتاة» للوكاس دونت أو بفيلم «توم بوي» لسيلين سياما. الفيلم عن أسرة إسبانية تسافر في عطلة إلى بلدة ذويها في ريف إقليم الباسك ومزارعه ومناحله، التي تمنح الفيلم اسمه. ولا نظن من الوهلة الأولى أن عدم رضا أياتور عن اسمه، الذي لا نفهمه في بادئ الأمر، سيكون هو المنفذ الذي سيناقش الفيلم من خلاله قضيته الرئيسية. يذهب أياتور مع خالة والدته، لوريديس، إلى حقل تنتشر فيه خلايا النحل وينتج فيه العسل. تشرح له قريبته الطيبة أن النحل أنواع، وأن لكل منها دور ووظيفة في الخلية، ما يزيد حيرة الصبي، فهو يود أن يفهم نوعه هو ووظيفته ودوره. ذات نوبة غضب يسأل الصبي أمه «كيف تعرفين من أنت ولا أعرف من أنا». تحاول الأم المتفهمة المدركة لاختلاف ابنها أن تجيب، لكن الإجابة ليست بهذه السهولة. تحاول الأم أن تدلل الصبي باسم «كوكو» بدلا من اسمه، لكن هذا الاسم المخفف، الذي لا هوية جنسية له، لم يعد يرضي أياتور أيضا. في نزهة مع الجدة يجد العديد من أهل القرية يدللونه قائلين «يا لكِ من فتاة جميلة» فهو بشعره الطويل المنسدل وملامحه الرقيقة يشبه الفتيات الصغيرات. هو يتوق لأن يكون فتاة صغيرة، لكنه ولد في جسد يحول دون ذلك.

يدور جزء من عالم الفيلم في عالم الفن التشكيلي والنحت، فالأم نحاتة وصانعة تماثيل واعدة، وكان والدها أيضا مثالا ونحاتا. تصحب الأم أياتور في جولة في ورشتها للنحت، فينبهر الصبي بهذه القدرة على التشكيل وإنتاج عمل فني جميل من العدم، ويتساءل لماذا لم يولد هو كاملا رائعا يعرف هويته، فالتماثيل في الورشة إما لفتيات أو لرجال، لكن أين ما يمثله هو، فحتى عالم الفن والخيال لا يضم من يشبهه. تتفهم الأم معضلة ابنها وحيرته، وتحاول إقناعه بأنه لا يوجد اختلاف بين الفتيات والأولاد، وأن عليه أن يكون ذاته دون الاكتراث برأي الآخرين الذين قد يضايقونه أحيانا لرهافته الجسدية الظاهرة، أو لاختياره في الألوان والملابس، لكن كل ذلك التفتح والتفهم من قبل الأم لم يعد يرضي أياتور ولم يعد يجيب على أسئلته ولم يعد يتواءم مع فهمه المتنامي لذاته، ولأنه فتاة وليس صبيا.

يوضح الفيلم أن معضلة أياتور لفهم ذاته ليست المعضلة الوحيدة، والدته آن، في مفترق طريق في مسيرتها الفنية، ورحلتها إلى قريتها في إقليم الباسك هي رحلة أيضا لفهم ذاتها كامرأة وأم وفنانة مبدعة. وتتزامن أزمتها مع أزمة أياتور، الذي يقرر أن يكون فتاة تدعى لوثيا، كتلك القديسة التي تتبارك بها القرية، والتي وهبت نفسها لمساعدة من يحتاج العون. تجد لوثيا، التي أصبحت تعرف اسمها وذاتها بهذا الاسم ونبذت اسم أياتور، داعما وصديقا وملاذا في خالة والدتها لورديس، التي تتفهم حين يتكلم الصبي عن نفسه بضمير المؤنث، والتي تشجعه أن يرتدي من الثياب مع يتماشى مع تصوره لذاته وليس مع ما يرغب الآخرون.

تنجز سولاغورين فيلما مرهفا بليغا في تأثيره، ولعل أحد أهم العناصر التي مكنت المخرجة من تحقيق رؤيتها هي الصبية صوفيا أوتيرو، التي لعبت الدور الرئيسي في الفيلم، والتي كانت كل خلجة من خلجاتها تنطق بحيرة أياتور وغضبه وعزمه في نهاية المطاف على أن يختار لذاته أن يكون لوثيا. تكسب أوتيرو، ببراءتها وحيوتها وضجرها أحيانا وسعيها للفهم، تعاطفنا وحبنا. نرى عزمها ومشاعرها بالسعادة عن التعبير عن الذات حين ترتدي ثوب فتاة للمرة الأولى. لا افتعال أو تصنع في أداء أوتيرو، ولا افتعال أو تصنع في تناول سولاغرين للأحداث.

 

القدس العربي اللندنية في

24.02.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004