ملفات خاصة

 
 
 

سينما فيصل الياسري الروائية بين الشكل الدرامي والحس التسجيلي

علي الياسري

عن رحيل الفنان

فيصل الياسري

   
 
 
 
 
 
 

لمناسبة عيد السينما العراقية هذا استذكار نُشر على صفحات السينما لجريدة العالم يقف على الاسلوب والطبيعة السينمائية للمعالجة التي قدمها المخرج فيصل الياسري في اهم ثلاثة افلام شكلت رؤيته العامة.

 ______________________________________________

مثل اسفار رحالة عربي قديم تبدو تنقلاته بين ضروب الفن والادب والاعلام. كذلك هو الحال بالنسبة لإقاماته المتعددة انطلاقًا من مرحلة الصبا في المشخاب احدى المدن السحرية في منطقة الفرات الاوسط وصولًا لبغداد المدورة قبل ان يجوب عواصم اوربية وعربية سماتها المشتركة ان اغلبها حواضر مهمة لها ثقلها التراثي والروحي في الماضي والحاضر. هذا الولع بالتراث والتاريخ سيمثل حلقة وصل مهمة بين مراحل حياة الياسري الشخصية والمهنية، ففيها ذروة الخيال ومنها سيستمد الافكار المؤسسة للاسلوب الفني الذي سيحققه لاحقًا. انتقاله من دراسة الطب في فيينا الى ولوج عالم الصورة المتحركة بالتلفزيون ثم السينما اشبه بتصحيح مسار شاب وجد نفسه بمطلع عقد الخمسينات من القرن الماضي واقفا على عتبة الريادة في حقول ستشرع ابوابها امامه في المستقبل مستغلًا فطنته في خوض المغامرة بلحظتها السانحة. هكذا كان حضوره في التلفزيون العربي السوري مندفعًا منه الى اولى خطواته السينمائية فيلم (الرجل 28126) في العام 1968. ضمن اطار الانتاج السوري قدم اكثر من فيلم سماتها الطابع الدرامي الرومانسي بنكهة الكوميديا، مع بعض الافلام الاخرى ذات النمط التسجيلي. عودته للعراق منتصف السبعينات ومحاولته تفعيل الانتاج السينمائي في المؤسسة العامة للسينما والمسرح شهدت تطور من ناحية الكم والنوع والمضمون تضمنت اكثر من فيلم بدءاً من الرأس (1976) ثم فيلمه الابرز النهر (1977) ليليه القناص (1979) وبعده التجربة الرائدة عربيًا في سينما افلام الانيميشن والمتمثلة بفيلم الاميرة والنهر (1982) ثم بابل حبيبتي (1987) الذي وظف فعاليات مهرجان بابل الدولي في خلق بيئة مكانية درامية تنهل من الارث الحضاري والطابع السياحي للمدينة الاثرية لصنع فيلم استعراضي. فيما لا يزال اخر افلامه بغداد حُلم وردي (2013) غير معروض بشكل جماهيري لأسباب ادارية تخص الجهة المنتجة!

في معرض الوقوف على الشكل الفني الذي اتخذته سينما فيصل الياسري سنتناول بتحليل مكثف ثلاثة من افلامه التي صدرت في اوج ذروة الازدهار الانتاجي العراقي منتصف السبعينات وتمثل وجهة نظر مثالية لكشف الخطوط العريضة للمقاربة الروائية والمعالجة السينمائية التي حظيت بها افلام مثل الرأس والنهر والقناص وكيف امتزج الحس الصحفي في استلهام الخبر لوضعه كمقدمة تأسيسية لفعل درامي يمتلئ بالانعطافات التي تتبدى من خلالها طبيعة المرحلة التاريخية وقت الفيلم كحدث يحاول استقصاء الصورة كاملة ويقدمها بمنطق تسجيلي لأن المخرج الياسري يدرك ان اهم اسرار الزمن هو سرعة تحول الراهن الى ماضي يكتسب اهميته التوثيقية بنجاح الراصد في استكمال النظر لكل الجوانب، مبرزًا السلوك الانساني بقيمته الاعتبارية لوجوده الادمي بمعزل عن الصراع واسبابه واعتباراته السياسية او الايديولوجية في مسعى اخلاقي يمثل معايير تعكس جزء من شخصية الانسان الساكن بهذه البقعة من الارض المتأثرة بعوامل التراث الفكري والاجتماعي والحضاري. لا ننسى ان السينما ولدت على يد الاخوين لومير بلحظة تسجيلية صارت وثيقة تاريخية مع مرور الوقت. يعمل المخرج بذات الفكر مع اضفاء رؤيته الشخصية للحدث والوقائع والاشخاص، يوزع عليها نمط ثقافته وعلى لسانها تجري شيء من افكاره وذائقته وهو ما يعطي للعمل بعده الدرامي بعد السماح للخيال بممارسة فعل الاضافة لنقل الخبر الصحفي او الحدث اليومي الى مستواه التعبيري التالي، سنجد هذا جليًا في فيلمي الرأس والقناص فيما يتوارى خلف النهج السردي للحكاية دون ان يختفي كليًا بفيلم النهر.

"الرأس"

باكورة افلامه العراقية وأول فيلم عراقي يتم تصويره بتقنية السينماسكوب، تشكل على اساس خبر سرقة رأس الملك سنطروق من المتحف بمدينة الموصل مطلع السبعينات. يلتقط المخرج هذا الحدث ويجعله اساس لسيناريو سيحاول تتبع عملية استعادة الرأس الاثري بمطاردة لسارقيه بين بغداد والموصل ودمشق وبيروت. تمتلك كاميرا الياسري قدرة الامساك بلحظات الحياة وتفاصيل جلبتها اليومية وفعل الحركة الدائب، وما يبدو عاديًا سيتحول مع الاعوام الى صورة بطعم اثيري يحمل عبق نوستالجيا للاماكن وللاشخاص وللحقبة. عملية اشبه بكيمياء تفاعلية بين عين المشاهد والبيئة التي ترصدها افلامه المتنقلة بين الفعل الدرامي والنفس التسجيلي بنكهة المسح السوسيولوجي لدنيا ستبدو خلال بضعة عقود كأنها عالم اخر. ومنذ افتتاح الفيلم بتلك الصيغة الوثائقية كمقدمة لتمهيد الحكاية الى لقطات التجوال في المدن يسمح المخرج لسينماه بالاتساع في هوامشها التسجيلية دون الاغراق فيها وتحييد النص الدرامي، وهو ما يخلق توازن بين المسار السردي والمقصد التوثيقي للحدث.

"النهر"

الطبيعة وتأثيرها ونمط العيش والعلاقات الاجتماعية والصراع اليومي للحياة بشقيه الشخصي والعام وبقوالبه المتعددة المظاهر بين التأثير الاقتصادي والسياسي مرورا بسطوة الجهل والدجل وتراجع التنوير كلها ستكون محاور بارزة في فيلمه المميز "النهر" الذي سيمثل ذروة فنية لسينما الياسري خصوصا من الناحية البصرية مع ادارة القدير نهاد علي للتصوير حيث سيترجم الكثير من افكار المخرج عن الانسان والحياة الى كثافة بشرية تكوينية يتصدر فيها هاجس الوجود الجسدي وفعله التعبيري وطريقة توزيع الشخوص ضمن الكادر طبيعة الصورة السينمائية. السيناريو مستلهم عن رواية النهر والرماد للروائي العراقي محمد شاكر السبع. يتكرس في قصة السبع الصراع الطبقي بين الطبقة العاملة المسحوقة وبين التحالف الثلاثي الازلي لغطرسة رأس المال وانتهازية السلطة ودجل تجار الدين. كما يمثل النهر فعل التغيير ومصدر العطاء الدائم والقدرة على تحويل الاشخاص والنفوس بين انكسار وانتصار طالما توفرت الرغبة بالتغيير نحو الافضل. رغم الشكل الدرامي الاكثر وضوحًا بهيمنته على تفاصيل الفيلم لكن النفس التسجيلي يبقى اثيرًا عند المخرج خصوصا وهو المولع بالتصوير الخارجي حيث تمثل غالبية مشاهد افلامه مدار هذا البحث صورة جلية للهاجس الوثائقي الذي يسكن رؤية الياسري بلقطات الاماكن والطبيعة والعيش اليومي وكل مفردات مواصفات الحقبة سواء كمعمار او تفاصيل نمط الحياة.

"القناص"

ان السينما فعل فني خلاق للتعبير عن الانسان والزمن، هذا المبدأ اساسي للدخول الى عوالم فيصل الياسري الروائية حيث يتجلى بوضوح في فيلم "القناص" الذي جاء على خلفية خبر عن وقائع الحرب الاهلية اللبنانية في نشرة الاخبار بالاذاعة، يتحدث عن يوم هادئ لا يوجد فيه سوى ضحية واحدة بالعاصمة بيروت والتي تحولت الى روتين يتعامل معه الناس بلا مبالاة دون ان يتطلعوا لجوهر ما يجري من اغتيال لروح المدينة وناسها واجوائها الفريدة. قصة الفيلم تتابع يوم في حياة قناص انجرف نحو السادية في القتل وصار يحاول جدال المقربين منه بإيجاد المبررات المرتكزة على الواقع المشوه الذي فرضته طبيعة الحرب وكيف ان ذلك يمثل صراع وجود يقتضي افناء الاخر. حكاية الفيلم تتردد على وقع قصيدة نزار قباني يا ست الدنيا يا بيروت بعد ان اضاف اليها مقطع جديد كتبه خصيصًا للفيلم في ظهوره السينمائي الاول والاخير حيث ستتحول الى اغنية رائعة في نهاية الفيلم يؤديها الموسيقار طالب القره غولي الذي وضع الموسيقى التصويرية ايضا. تتنوع طبيعة الصورة في الفيلم بين النفس التسجيلي المُفتتح للفيلم بالتقارير الاخبارية التي تتناقلها وكالات الانباء مع لقطات تُحاكي ألية الكاميرا الفوتوغرافية تؤطر الدمار والقتل وينتهي بالاخبار تُذاع على الراديو وبين الشكل الروائي والتنامي السردي للحدث والشخصيات لتخلق هارموني بصري يسعى لجذب انتباه المشاهد الى ما وراء الوقائع المأساوية التي تعيشها المدينة لدرجة غدت فيها اخبار الموت المجاني اليومي واقع متكرر يُقابل ببلادة تمحوه فورًا من مشاعر الناس ووجدانها. ان هذا الفقدان للضمير المتيقظ والذي كان دافع المخرج الياسري لصناعة فيلمه سيغدو للاسف صفة متوالية تدور على الاحداث العربية ومدنها الثكلى وسقوط الانسان في متاهات القتل والاستلاب المتعدد الاوجه. يبدو الفيلم كنبوءة استشرفت مستقبلًا قاتم للمنطقة، تحاصر فيه البشر دوامات الازمات الطاحنة.

في معظم اعمال المخرج فيصل الياسري السينمائية يتراءى الماضي بعين الحاضر كتجربة عيش معاصرة وحكمة متوارثة تكتسب اهميتها مع توالي خطوب وافعال الزمن لخلق اسس علاقات انسانية تحاول ترميم الذات الادمية على امل خلق غدٍ افضل.

 

الـ FaceBook في

27.10.2022

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004