ملفات خاصة

 
 

رحيل

جان لوك غودار:

الابن الرهيب للسينما العالمية

شفيق طبارة

عن رحيل جودار

سحر السينما

   
 
 
 
 
 
 

أمس، لجأ «مجنون» السينما إلى إنهاء طوعي لحياته وفق محامي العائلة. انسحب بهدوء في منزله السويسري بعدما «تعب من الحياة». رائد الموجة الفرنسية الجديدة الذي تمرّد على كلاسيكية السينما، وانخرط في مغامرة تجريبية لم تنفصل يوماً عن الهمّ السياسي والاجتماعي وقضايا عصره، طبع تاريخ الفنّ السابع بصفته مخرّباً، راديكالياً حتى «آخر نفس»

غريبة هي علاقتنا بجان لوك غودار (1930-2022). لم نسأل أنفسنا يوماً كم يبلغ من العمر. لم نتخيل أبداً أنّ هذا الرجل سيموت. على الرغم من أنه لم يغادر منزله في رولّ في سويسرا منذ سنوات، إلا أنّ غودار بدا كأنه «بروسبيرو» الساحر الذي تخيّله شكسبير في «العاصفة» الذي يظهر من حين إلى آخر في أعجوبة جديدة. في فيلمه الأخير «كتاب الصور» (2018)، ودّعنا من دون أن نلاحظ ذلك. في هذا العمل، قدّم مقالاً مصوّراً: تاريخي، سينفيلي، أدبي، موسيقي، فلسفي، فوتوغرافي، اجتماعي، إيديولوجي. صور، مشاهد فيديو، تقارير إخبارية، اقتباسات صحافية، مشاهد من أفلام، مناظر طبيعية، موسيقى كلاسيكية، صوت بدون صورة، وصوت غودار يعلو على كثير مما سبق. احتل صوته مساحة الفيلم والصالة كلها، كأنه يودعنا ويقول في الوقت نفسه «إنني باقٍ هنا»... في هذه الفوضى العارمة الخلّاقة، في الفن والسينما التي لا يمكن تفكيكها عن أي شيء وعن كل شيء.

غودار هو السينما التي أصبحت إنساناً. هو الذي قال إنه عرف الكثير عن السينما، إلى درجة أنّه لم يستطع تعريفها إلا على أنها لغز. لعلّ غودار ليس السينما نفسها، لكنه الإنسان الأقرب إلى تحقيقها. لهذا السبب، إذا كان علينا أن نعرّف جان لوك غودار، فسنقول إنه لغز أيضاً: من عابد للسينما الأميركية الكلاسيكية، إلى صانع أفلام اشتراكي في أواخر الستينيات، ثم صانع أعمال فيديو. العلامة الرئيسة لغودار كمخرج هو التغيير الثوري. هو مدمّر سينمائي يستخدم كل أدوات السينما وأشكالها ومواضيعها، ليعدّلها ويخلق شيئاً جديداً منها. بعد العثور عليها، سيعود ليجد طريقة لعكسها، من دقيقة صمت أو سؤال على الشاشة، إلى عنوان فرعي يتعارض مع الحوار الذي يوضحه. مع غودار كما في السينما، يمكن أن يحدث كل شيء. فهو خالٍ من الروابط، صنع سينما خاصة به، مستعد دائماً لتكييفها، وقادر على الدفاع عن حريته الأسلوبية ووضع بصمته بين مؤسّسي مجلة «دفاتر السينما» و«الموجة الفرنسية الجديدة».

يقرّبنا غودار من سينما الاستكشاف والجمع والتجريب. عمله السينمائي عبارة عن حاوية يمكن إضافة عناصر فلسفية أو فنية أو أي عناصر أخرى إليها، باستخدام عملية التجميع في الموسيقى أو الرواية أو الشعر أو الرسم. بالإضافة إلى ذلك، يصرّ على إعادة صياغة نصوصه ونصوص الآخرين. أقل شيء أهمية للمخرج هو الخط السردي. يفجّره إلى شظايا، إلى فصول، إلى قصة خيالية ناقصة. يفصلها بطرق مدهشة، ويملأها بالاستفياءات أو الاستعارات أو المقارنات التي يمزج فيها تعدد اهتماماته. يبدأ من السينما التقليدية ليغيّرها ويعيد صياغتها. ويطبق الشيء نفسه على الأنواع السينمائية، وفيلم «بيارو المجنون» دليل جيد على ذلك. به ربط المغامرات بالحركة بالدراما بالحبكة البوليسية وجرائم القتل والمشاهد الموسيقية في النهاية. فيلمه يثير المشاعر التي يتطلّع غودار إلى إيقاظها. يستخدم السينما ليس فقط للرواية، لكن أيضاً للتأمل والتفكير والربط والتنوير وتفجير الحواجز. فيلموغرافيا غودار كتبت بشكل مكثف ومتعمق. نحن نتحدث عن مخرج أراد أن يصوّر السينما ونقيضها، كل السينما بما في ذلك السينما الأخرى. نظام أساسي جديد يجمع بين المفكر والمبدع والتحليل والتقنية والفنان والرجل العاطفي المنخرط في صراع سياسي ونضال جمالي وحب للمرأة لا ينتهي. أفلامه مكان لخلق الصورة أثناء بناء الأفكار، مساحة يبرز فيها المونتاج وسيولته وارتباطه وحريته في الاقتباس وترتيب القصص. غودار مصمم على التفكيك وإعادة التأطير أو العودة لرؤية ما لم تتم رؤيته أو تركيبه من دون رؤيته.

غودار المولود في 3 كانون الأول (ديسمبر) 1930، في باريس، قضى معظم شبابه مثل أي شخص عاش في أوروبا خلال أوائل الأربعينيات من القرن الماضي: الفرار من الحرب. بعد الغزو الألماني للمنطقة الفرنسية، انتقلت عائلته إلى سويسرا، حيث كان لديهم أقارب. نظراً إلى الوضع غير المستقر الذي تمر به القارة، كانت السينما امتيازاً لم تستطع عائلة غودار الاستمتاع به. مع ذلك، لم يمنع الشاب جان لوك من أن يملك مقاربته الأولى للفن السابع. خلال الفترة التي قضاها في مدينة نيون السويسرية، حظي بثروة لأنه وجد من بين قراءاته كتاب «مسوّدة لعلم نفس السينما»

(Esquisse d›une psychologie du cinéma) الذي تحدث فيه الروائي الفرنسي أندريه مارلو عن دور السينما في المجتمع. بعد نهاية الحرب، عاد غودار إلى فرنسا لإنهاء دراسته في «ليسيه بوفون»، حيث كان يحيط نفسه بشخصيات مهمة من المثقفين الفرنسيين. خضع لامتحان التخرج من المدرسة الثانوية من دون جدوى. لذلك عاد إلى سويسرا للعيش مع والدته والتركيز على خطط جديدة لمستقبله. مع توافر وقت فراغ، أصبح مهتماً بالرسم والأنثروبولوجيا والسفر عبر المدن الأوروبية جنباً إلى جنب مع مجموعات من عشاق الفن، أحدهم رولان تولماتشوف، الذي قدمه إلى عالم نوادي السينما، تلك المجتمعات الصغيرة التي انبثقت منها حركة أحدثت ثورة في السينما الفرنسية.

في بداية الخمسينيات، بدأ غودار الانخراط أكثر في السينما بفضل الاهتمام الذي أثاره زملاؤه في «نادي سينما الحيّ اللاتيني» منهم الناقد موريس شيرير، والسينمائيون الجدد كلود شابرول، وفرنسوا تروفو، وجاك ريفيت. على الرغم من أنّه بدأ ناقداً ومؤسساً لمجلة «دفاتر السينما»، إلا أنّ اهتماماته تركزت تدريجاً على عمله خلف الكاميرا. في عام 1954، استوحى من المرحلة التي عمل خلالها كعامل بناء في موقع بناء في سويسرا بعد وفاة والده، وصوّر فيلمه القصير الأول Operation Beton (1958)، وهو عمل وثائقي استكشف فيه روتين العديد من أعمال البناء في أوروبا. في كانون الأول (ديسمبر) عام 1958، أراد تصوير فيلمه الطويل الأول بعدما كتب تقريراً عن أفلام جاك ديمي، وجاك روزير، وآنييس فاردا وأصبح أصدقاء معهم، بعدما كان صديقاً لآلان رينيه. سافر إلى «مهرجان كان» وتحدث مع تروفو وقال له إنّه يريد استخدام القصة التي تعاونا عليها في عام 1956، عن سارق السيارات ميشال بروتيل، وصنع فيلم «آخر نفس» (1960) مع جان بول بلموندو وجان سيبرغ، اللذين عملا بلا نصّ، ولكن برسومات ابتكرها غودار بالتعاون مع تروفو وكلود شابرول. الفيلم الذي عرض للمرة الأولى خلال «مهرجان برلين السينمائي»، يتتبع مفهوم السينما التي تنتمي إليها «الموجة الفرنسية الجديدة» وأظهر فيه غودار مفهوم صناعة الأفلام في سرد بلا روابط، مثبّت على تقنيات وأساليب مختلفة. بعد فيلمه الطويل الأول، قدم 14 فيلماً من بينها: Bande A Part عام 1964، و«بيارو المجنون» (1965)، و«عيش الحياة» (1962)، و«المرأة امرأة» (1961)، و«الجندي الصغير» (1963)، و« الصينية» (1976) عن مجموعة من الشباب الماويين في باريس، وأيضاً فيلم «ألفافيل» حيث تابع تحقيقات الصحافي إيفان جونسون الذي وصل إلى مدينة ألفافيل المستقبلية للتحقيق في مكان وجود البروفسور فوت براون مبتكراً آلة تحكم بالحياة العقلية لسكان المدينة.

مع بداية الثورة الطلابية عام 1968، بدأ غودار باستخدام السينما كتمثيل للثورة التي مثّلها جيله. وكانت أفلام «الموجة الجديدة» قد تنبأت بالثورة ودفعت لها. لم تكن أفلام غودار وأفلام هذه الموجة مبتكرة فحسب، بل رائدة في إحداث يقظة سينمائية واجتماعية وثقافية. إذ تنبأت بحركات الاحتجاج وسعت إلى إشعال الثورات الطلابية. لم يتوقف الأمر هنا، ففي صباح 18 أيار (مايو) 1968 خلال مؤتمر صحافي في «مسرح جان كوكتو»، جاء غودار وفرنسوا تروفو يقودان عدداً كبيراً من ممثلي السينما الفرنسية الجديدة ويطلبان وقف «مهرجان كان». بقية فرنسا كانت تعمّها التظاهرات الطلابية والعمّالية وأعمال الشغب في الشوارع. وفي ساعات مقبلة ستتوقف المصانع والقطارات أيضاً. «المترو والحافلات سوف تتوقف، لذلك فإن استمرار المسابقة أمر مثير للسخرية» قال تروفو. غودار كان أكثر حدة: «نتحدث عن التضامن مع الطلاب والعمال، وأنت تتحدث عن لقطات الكاميرات والمشاهد القريبة، أنتم حثالة». وقال أيضاً إن «القضية ليست استمرار أو عدم استمرار عروض الأفلام، بل أن تظهر السينما تضامنها مع حركة الطلبة، والشيء الوحيد العملي لكي نؤكد ذلك، هو أن تتوقف كل العروض فوراً». كان غودار متجهّماً وغاضباً ليس فقط من المهرجان، لكن من السينما ككل وحتى من نفسه. الجملة التي قالها أيضاً توضح شعوره إزاء الحالة السينمائية التي فشلت في تقديم الحالة الثورية «لا يوجد فيلم واحد يظهر المشاكل التي تعرّض لها العمال والطلبة، ولا فيلم واحد سواء لفورمان أو لي أو لبولانسكي أو لتروفو... لقد فقدنا البوصلة». استمرت المناقشات والمفاوضات لساعات.

وبعدما انطفأت الأنوار لعرض فيلم «نعناع بارد» لكارلوس ساورا، صعد الثوار إلى المسرح مع مخرج الفيلم والممثلة الرئيسة، وأمسك الجميع بالستار منعاً لعرض الفيلم. وقعت مشاجرات عنيفة جرح فيها غودار وطرح تروفو أرضاً، وأعلن مدير المهرجان وقتها روبير فافر لوبريه عن إلغاء العروض المتبقية لليوم. تدفق المزيد من العاملين في السينما الفرنسية إلى المهرجان، وقرر لوبريه أن يستقيل، طالباً من عمدة المدينة إخلاء قصر المهرجان، لكنه رفض. عندها، قرر لوبريه وقف «مهرجان كان السينمائي». بعد هذه السنوات وخلال حرب فيتنام، أضاف غودار إلى دائرة أصدقائه شخصيات أخرى معروفة بأصواتها الناقدة في الاحتجاجات ضد الاستبداد والحرب في فيتنام. أسّس وقتها مجموعة Dziga Vertov منهم الممثلة جين فوندا، نجمة فيلمه «كل شيء على ما يرام» (1972). خلال هذه الفترة، أخرج مع أصدقائه فيلماً وثائقياً بعنوان «بعيداً عن فيتنام» يظهرون فيه ازدراءهم الجماعي لحرب فيتنام. بعد عام 1980، عاد غودار إلى أفلام أكثر تقليدية الى حدّ ما؛ منها وثائقيات وأفلام قصيرة.

خلال الفترتين، حدد غودار أفلامه من خلال الانطباعات التي يلتقطها بضربات فرشاة سريعة وفضفاضة وغير متصلة عن قرب وتكتسب معنى من مسافة بعيدة. أفلام فيها تناقضات يمكن أن تفاجئنا بإعطاء صور غير حية أو غير جامدة، معنى مختلف اعتماداً على مونتاجه الخاص. أفلامه دائماً كانت فيها تعبيرات أنثوية مليئة بالحساسية والرقة، تماماً كما صور ملهمته آنا كارينا بطريقة رومانسية عاطفية غير مألوفة ومتألقة، وكما صور بريجيت باردو بكامل جمالها الأنثوي في «الاحتقار» (1963). بعد الثورة السينمائية خلال الموجة الجديدة، أصبح غودار ثورياً على طريقته وقرر التقدم في السن جنباً إلى جنب مع عمله. انتهى غضبه وأراد أن يرى عن كثب انعكاساته وطريقة رؤيته للتاريخ والحاضر. كانت سنوات الثمانينيات والتسعينيات سنوات بحثه عن الذات في مناطق أخرى، حتى وصل إلى تلك اللحظة التي يكون فيها المرء كبيراً بما يكفي لمعرفة السينما، إلى درجة أنّه يؤمن بها ويعرف تماماً كيف يسوغها كما يريد. وهكذا، بين التجريبي والوثائقي، شغل سنواته الأخيرة ليعمل في كل شيء بدءاً بالسيلوليد، والانتقال إلى الرقمي، ثم الأبعاد الثلاثة في «وداعاً أيّتها اللغة» (2014)، فجعل لبشرته وصوته المتغير روحاً خاصة بهما، ليترك أثراً يتراكم في ركن من أركان التاريخ، وهو السينما.
فريد بين صانعي الأفلام، مشاكس ومشاغب السينما، وكم اشتقنا لمشاغبين في السينما. كان أيضاً منظّراً وناقداً وفيلسوفاً ومديراً وتجريبياً، راديكالياً وأول صانع أفلام في التاريخ القصير للسينما، يفكر بجدية في ماهية السينما وما تعنيه. لكنه لم يحتفل دوماً بها، كان يستعملها كأنها قد انتهت. كما في الكلمات النهائية لفيلمه Weekend» (1976): نهاية القصة – نهاية السينما». استعمل السينما لتحرير نفسه ونفسها من شاشتها، صنع الأفلام لتدخل الحياة نفسها. بالنسبة إلى غودار، فشلت الثورات، مراراً وتكراراً، كانت الحرب بغيضة، والأديان شوّهت مجتمعاتنا. لكن، لأننا نعيش في خزي رأسمالي، يجب أن نواصل الرهان على الثورة. تلاعب بلغة الأفلام في فيلمه «كتاب الصورة»، وقدم أطروحة تشاؤمية عن الإنسانية ذات محورين رئيسيين، محور ماركس بأن التاريخ يعيد نفسه، ومحور القطار كرمز لعالم لا يتوقف عن الحركة لو توقف، لا يعرف إلى أين يذهب. أفكار وطروحات الفرنسي السويسري (المناهض للصهيونية والمناصر للقضية الفلسطينية بالمناسبة) لا حدود لها. نفترض أنه قال لنا كل شيء ولكن الصفحة الأخيرة من «كتاب الصورة» تشي بالمزيد... لا يمكننا أن ننظر إلى غودار من دون مخاطر، فهو تجاوز حدود شاشته، ومعه بدأ كثيرون منّا في حب السينما، فهو له فضل علينا جميعاً. غودار كان العائلة ويظل كذلك
.

مع بداية الثورة الطلابية، بدأ باستخدام السينما كتمثيل للثورة التي مثّلها جيله

شاهدناه للمرة الأخيرة على الشاشة في فيلم «أراك يوم الجمعة، روبنسون» (2018) للمخرجة الإيرانية ميترا فاراهاني، وكان معه إبراهيم غلستان. في أوائل الثمانينيات، حاول غودار وغلستان الالتقاء من دون جدوى. وقبل سنوات، حاولت ميترا فاراهاني صديقة الاثنين جمعهما، لكن الأمر انتهى بتبادل الرسائل الإلكترونية بين العملاقين كل يوم جمعة. غلستان يرسل بريداً إلى غودار يوم الجمعة، وغودار يرد عليه يوم الجمعة من الأسبوع التالي. والنتيجة وثائقي يظهر عبقرية الاثنين في فيلم مثير للقلق وللتناقض ومحفّز للأفكار. رأينا غودار في بيته، وواضح جداً ما يريد أن يقوله. اليوم غودار لم يمت، ولا السينما التي رثاها دائماً ماتت، فهو جزء منها وهي حية. لذلك غودار سوف يبقى حياً، نستطيع شم رائحة سيجاره ونسمع صوته الخشن. سوف نبحث عنه دائماً في كل فيلم نشاهده، ونعيش أياماً بين رموش آنا كارينا.

 

الأخبار اللبنانية في

14.09.2022

 
 
 
 
 

جان لوك غودار أدخل السينما في حداثتها وترك ثروة بصرية

رائد العقود الستة من تاريخ الفن السابع لا يقارن سوى بنفسه

هوفيك حبشيان

كيف نكتب عن قامة فنية وسينمائية وفكرية مثل جان لوك غودار في رحيله عن 91 عاماً، ومن أين نبدأ في الحديث عنه؟ نحن الذين عشنا حياتنا كلها في زمنه. أعود إلى مشاهدة لقطات من أفلامه عبر "يوتيوب"، لعلها تساعدني في الإمساك بطرف الخيط، أو لربما يلهمني مشهد أو تمدّني جملة بالوحي، فتكر السبحة، لكن ما من عنوان يختزل سيرة هذا العملاق. هناك شعور باليتم يسيطر علينا ونحن نودّعه. غودار هو ستّة عقود من تاريخ السينما، أعظم الذين نظّروا فيها، المعلّم الذي يعرف الجميع شيئاً عنه حتى مَن لم يشاهد فيلماً واحداً له في حياته. هو الأسطورة التي أدخلت السينما في حداثتها، المتحدّث الغامض الذي كان يقول إن هذا الفن أجمل تنصيبة في العالم، الرهيب الذي رحل تاركاً خلفه ثروة بصرية، معرفية، سياسية، نقدية، جمالية.  

كلّ شيء بدأ في الخمسينات. أواخرها تحديداً. كانت السينما الفرنسية، على الرغم من الأسماء الكبيرة التي أسستها ما بين الحربين، من مثل رونوار وغريميون وكلوزو، صنيعة الأدب والاستوديوات. "الموجة الجديدة" التي جاءت بغودار وتروفو وشابرول وريفيت ورومير وكلّ هؤلاء المتمردين على "سينما الآباء"، وُلدت من الحاجة إلى الاعتراض على هذه السينما القائمة وأساليبها. بقية الحكاية تاريخ، يعرفه كلّ مهتم بالسينما جيداً، وفقدنا جزءاً منه أمس مع رحيل غودار، الذي كان، مع جاك روزييه، آخر الأحياء من "الموجة الجديدة". 

من الشارع

جيله يتحدّر من الشارع، لم يكن خريج مدارس السينما. اختبر الحياة بحلوها ومرها قبل أن يجسّدها على الشاشة. كان هؤلاء ملمين بالأدب والشعر والموسيقى بقدر إلمامهم بالسينما. مثقّفون من الدرجة الأولى. أما الأفلام الأميركية، فكانت عشقهم وشغلهم الشاغل، فباتوا من أشد المدافعين عنها في مجلّة "دفاتر السينما"، خصوصاً راوول ولش ونيكولاس راي وهاورد هوكس وألفرد هيتشكوك. غودار كان ابن السينماتيك الفرنسية التي أسسها هنري لانغلوا، هناك اكتشف عالماً لم يحدثه أحد عنه، كما روى، لا المدرسة ولا الأهل. حدثوه عن غوته لكن ليس عن كارل تيودور دراير. يروي أنه هو ورفاقه كانوا يشاهدون أفلاماً صامتة في حقبة السينما الناطقة، وكانوا يحلمون بالأفلام، ويسمعون عن أفلام لم يشاهدوها أبداً. كانوا مثل مسيحيين اهتدوا من دون أن يروا أبداً المسيح أو القديس بولس. غودار اعتنق السينما كديانة. 

في هذا الجو انطلق غودار ورفاقه. شابرول قدّم "سيرج الجميل" (1958). تروفو جاء بـ"حياة المجون" (1959). أما غودار فوصل متأبطاً الفيلم الذي كان سيصنع سمعة "الموجة الفرنسية الجديدة" في أنحاء العالم كافة: "مخطوف النفس" (1960). يقول غودار إن قبل وصولهم، كان "كلّ شيء ممنوعاً، متحجّراً، حِرفياً في أسوأ معاني الكلمة". ويتابع: "فقلنا: كلا، لا ممنوعات. (…) الموجة الجديدة وُلدت أيضاً من روحية التعارض".

مع "مخطوف النفس" (1960) الذي وضع له السيناريو فرنسوا تروفو، دخل غودار الأسطورة وثار على السينما كما كنّا عهدناها قبل ذلك التاريخ. الفيلم لقاء بين طالبة أميركية (جان سيبيرغ) تبيع الصحف في الشان إليزيه لتوفّر كلفة دراستها في السوربون، وشاب "صايع" (جان بول بلموندو) لا هدف له في الحياة. لن يحدث الكثير. غودار من خلف الكاميرا موجود في كلّ لقطة. انها سينما المؤلف بامتياز! الفيلم كان بمثابة قنبلة جمالية وسردية، نسف بها غودار التقاليد السائدة في السينما منذ اختراعها. صحيح أنّ كانت هناك تجارب مثل هذه من قبل، لكن كانت خجولة. لم يسبق لسينمائي أن كان على هذا المستوى من التباهي في خربطة الأوراق، وصناعة سينما حرة مستقلة، لا تخضع لا لقيود الإنتاج ولا لرقابة السلطات ولا لرغبات المُشاهد. القيود الوحيدة هي تلك التي فرضها غودار على نفسه، لأنها كانت تحفزه على العمل. مع هذا الفيلم وغيره من أفلام الموجة الجديدة، خرجت الكاميرا من الاستوديوات للنزول إلى الشارع، حيث القصص الحقيقية لناس نصادفهم كلّ يوم، ولا نعرف شيئاً عنهم، فهم ليسوا أبطالاً على الشاشة. حُمِلت آلة التصوير على الأكف، داهمت تفاصيل اليومي والعادي التي لم يهتم السينمائيون قبله بتصويرها.

مسدس وفتاة

ما عادت الحكايات تقتصر فقط على الأحداث الكبيرة والحبكة الدرامية. "يكفي مسدس وفتاة لصناعة فيلم"، كما قال غودار في تصريح شهير له. أما السيناريو، فهو لم يعد مُنزلاً، بل أحياناً كان يلقي به غودار في القمامة، في حين أشكال الممثّلين بدأت تختلف عن النجوم الذين عرفتهم السينما سابقاً. حتى كيفية تحركهم داخل الكادر خضعت لتغيير. كانت الموجة الجديدة نقلة على كلّ المستويات، الإنتاجية والجمالية والمونتاجية، وعلى صعيد الكتابة الفيلمية خصوصاً. فتحت الطريق للأجيال اللاحقة وحلّت مدرسة وألهمت الجميع من أقصى الشرق إلى هوليوود. وكأن السينما عادت أدراجها بعد أكثر من 60 سنة على ولادتها، لتولد من جديد. كلّ شيء بدا جديداً طازجاً فيه روح العصر وهواجسه، بعيداً من الأدب والاستوديوات.  

مع ذلك، عاد غودار مراراً إلى بداياته، ولأنه يحمل روحاً اعتراضية وعقلاً نقدياً حيال كلّ شيء وأي شيء، بما فيها نفسه وأعماله، فقال إن جيله اعتقد بسذاجة أن "الموجة الجديدة" ستكون بداية، ثورة. ولكن، كان الأمر متأخراً جداً في نظره، اذ كلّ شيء كان قد انتهى. "النهاية وقعت لحظة لم تصوَّر معسكرات الاعتقال. في تلك اللحظة، فوّتت السينما كلياً واجبها. كان هنالك ستة ملايين ضحية، قتلاً أو خنقاً بالغاز، من اليهود في شكل خاص، ولم تكن السينما حاضرة. ومع ذلك، من "الديكتاتور" إلى "قانون اللعبة" كانت تنبأت بكلّ المآسي".

مع "الاحتقار" (1963) بلغ غودار ذروة فنّه وعطائه وألقه. هذا فيلم عن السينما ومن داخل السينما، وقد حلّ مراراً في المراكز الأولى لعدد من الاستفتاءات التي أُجريت مع النقّاد عن أفضل الأفلام على الاطلاق. منذ الجنريك، يستعيد غودار جملة لأحد الذين تتلمذ على أيديهم وهو الناقد أندره بازان: "السينما تستبدل بنظرتنا عالماً يتطابق مع رغباتنا". ميشال بيكولي وبريجيت باردو وفريتس لانغ هم الشخصيات المعذّبة لهذا الفيلم الذي التُقِطت مشاهده في كابري، على نحو أصبحت الجزيرة الإيطالية شخصية من شخصياته التي لا تتجزأ. لا يمكن لأي عاشق سينما أن ينسى المَشاهد الحميمة بين بيكولي وباردو والمداعبات والحوارات التي بينهما، على خلفية موسيقى جورج دولورو. أما الحكاية فهي عن علاقة بين رجل وإمرأة أصبحا على شفير الانفصال. 

أقصى النمط الغوداري

"بيارو المجنون" (1965) ذهب بالنمط الغوداري إلى أقصاه. هنا غودار في واحد من أفضل ما أنتجه في حياته وكان طليعياً في نظرته إلى السينما والعلاقات بين الجنسين. انقسم النقّاد حول الفيلم عندما عُرض في مهرجان البندقية السينمائي، لكنه اليوم محلّ إجماع واعتراف. الفيلم موزاييك مدهش من ألوان وأساليب وحس تجريبي متأصل، يحضر فيه الأدب والشعر والدعابة والموسيقى والفنّ التشيكلي. آنا كارينا وجان بول بلموندو يخطفان القلب. "بيارو المجنون" من نوع الأفلام التي باتت تُعرف اليوم بـ"فيلم الطريق"، يبحث فيه البطلان عن حبّ وحرية على طرق جنوب فرنسا. الشاعر لوي أراغون من الذين دافعوا عن الفيلم، عبر مقال نُشر في مجلّة "الآداب الفرنسية" وعنوانه: "ما هو الفنّ؟ إنه جان لوك غودار”.

بيد أن غودار لم يكتفِ بتكرار ما يجيده وتكريس نمط واحد لصناعة السينما. فراح بعد ثورة أيار 1968، يتمايل مع الرياح، ذاهباً إلى حيث كانت ستحمله. قدّم أفلاماً من وحي اللحظة، فهو من التجريبيين الكبار الذين ما إن يجرّبوا شيئاً حتى يصبح الإنتقال إلى شيء آخر ضرورة. السينما التي أنجزها لاحقاً، صحيح فيها مراحل وفترات وصعود وهبوط ومد وجزر، إلا أنها امتداد للحرية التي بحث عنها دائماً سواء في الفنّ أو العيش، وظل وفياً للروح الثورية التي في داخله والتي لم تنطفأ حتى اللحظة الأخيرة من حياته. هذه الروح التي كانت مصدراً لخلافاته مع بعض من رواد الموجة الجديدة الذين عادوا وأنجزوا أفلاماً كانوا يحاربونها بأقلامهم وكاميراهم في مقتبل تجربتهم. السينما التي أنجزها غودار في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، وفي الفترة التي أصبح فيها ماوياً، سياسية ومتنوعة وطليعية. هناك أيضاً في تلك الفترة أعمال لافتة مثل "انقذ ما استطعت – الحياة" و"شغف" و"الاسم كارمن" و"محقق" و"موجة جديدة".

من المستحيل العودة إلى كلّ هذه الأفلام التي أنجزها غودار طوال حياته المهنية في مقالة، فعددها يقارب المئة، وقد عُرضت 21 منها في "كانّ"، المهرجان الذي توقّف عن المشاركة فيه خلال السنوات الماضية، رغم عرض أفلامه فيه ورغم نيله "السعفة الخاصة" بمبادرة من كايت بلانشيت قبل ثلاث سنوات. ولكن كعادته، كان غودار حاضراً في كلّ مكان غاب عنه، وهو سيبقى حاضراً في غيابه الأبديّ لوقت طويل. في آخر فيلم له، "كتاب الصورة" (2018)، تجاوز غودار نفسه، منتزعاً من المُشاهد صفة المتفرج جاعلاً إياه شاهداً. هكذا كان غودار، ينتزع منك شيئاً ليمدّك بأشياء. في هذه الخاتمة السينمائية التي تليق به وبتاريخه، بدا فوق النقد. تحبّه أو تنبذه لكن ليس ثمة ما يُقال. فلا توجد مرجعية يمكن الإستناد اليها لتقييم "كتاب الصورة"، أو أي من أعماله الأخيرة. من الضروري التشديد على أن غودار لا يُقارن إلا بنفسه. 

في لقاء لي قبل ثلاث سنوات مع مساعده وكاتم أسراره فابريس أرانيو، سألته: "هل يدهمه الإحساس بضيق الوقت، وبأن عليه الإستعجال؟". فكان ردّه: "لا. لا يهوى الإستعجال. حين يدق الموت بابه، سيدق. لن يفعل شيئاً لمنعه. لا يخشى الموت، ولكن يخاف ان يتعذّب كجميعنا".

اليوم، ولأول مرة منذ الثالث من  ديسمبر(كانون الأول) 1930، السينما من دون غودارها. صحيح أنه يصعب تقبّل رحيل فيلسوف الشاشة، فهو كان ينظّر لموت السينما وينجزها في آن واحد، في أجمل مفارقة، لكنّ إرثه المعنوي والفكري غير قابل للتبديد. صدى عبقريته ونقده اللاذع ورؤيته للإنسان والتاريخ والحضارات سيبقى يتردد في كلّ أنحاء العالم وسيبقى ماثلاً في وجدان كلّ سينمائي. وها هو اختيار موعد رحيله انتحار تحت إشراف طبي، في لحظة تواجه فيها السينما أكبر تهديد عرفته في تاريخها، سوى جواب آخر من أجوبته غير المتوقعة. 

 

الـ The Independent  في

14.09.2022

 
 
 
 
 

رحيل مخرج مستفزٍّ وثوري ومشاكس: غودار يصنع "تاريخ السينما"

نديم جرجوره

"أجيال" سينمائية عدّة تُدين لجان ـ لوك غودار بأشياء كثيرة، في صناعة صورة، والتفكير في احتمالاتها، والتأمّل في مكوّناتها وانشغالاتها وتفاصيلها، والتفاصيل مستلّة من وقائع عيشٍ، واختبار لغةٍ، يُراد لها أنْ تمنح الصورة تجديداً في قول وشعور.

رحيله بإرادته (يُنهي حياته طالباً المساعدة على الموت، "ليس لأنه مريضٌ بل لأنّه مُنهكٌ"، بحسب قولٍ لقريبٍ له منشور في "ليبراسيون" الفرنسية) في 13 سبتمبر/ أيلول 2022، قبل أقلّ من 3 أشهر على احتفاله بعيد ميلاده الـ92 (13 ديسمبر/ كانون الأول)، يستدعي قولاً كهذا، إذْ يندر أنْ يكون هناك عاملٌ/عاملة في الفن السابع، في الأعوام الـ65 الفائتة على الأقل، غير معنيّ به، سينمائياً ومفكّراً ومناضلاً، ومكافحاً من أجل كشف غير المرئيّ في الحياة والموت والهوية والعلاقات، كما في لغة الصورة، أو كتابها ("كتاب الصورة"، 2018).

وهذا غير مُتعلّق بمحبّيه أو عشّاق نتاجاته وأقواله وفكره فقط، فهناك من يبتعد عنه، قليلاً أو كثيراً، من دون أن يتنصّل من تأثيرٍ ما يصنعه غودار فيه، إنْ يكن المرء سينمائياً أو سينيفيلياً حقيقياً.

تاريخ السينما

عمره المديد، في الحياة والسينما (أيُمكن، حقّاً، فصل أحدهما عن الآخر في سيرته؟)، لن يحول دون انبثاق حزنٍ وألمٍ وقلقٍ، في نفوس أناسٍ مهمومين بالسينما وعوالمها واشتغالاتها، عند شيوع نبأ رحيله. ناشطون/ناشطات في وسائل التواصل الاجتماعي ينشرون تعليقات مقتضبة عنه، وصُوراً وأقوالاً له، وهم/هنّ ينتمون إلى فئات عمرية، تتيح لها عيش تجربة أنْ يُعاصِر أحدهم/إحداهنّ زمناً، تكون لغودار فيه مساهمات شتّى، تسم هذا الزمن وتُدينه وتُفكّكه وتواجهه، وتُساجله دائماً، من دون تعبٍ أو تردّد أو تبريرٍ لانسحابٍ أمامه، وغودار غير مُنسحبٍ أبداً، لما فيه من توقٍ دائمٍ إلى مشاكسته ومعاندته.

أحد أجمل عناوين الرثاء، المنشورة في مواقع إلكترونية لصحفٍ ومجلات غربيّة، يظهر في نصٍّ لديدييه بِرون، في "ليبراسيون" الفرنسية: "موت جان ـ لوك غودار، تاريخ السينما" (13 سبتمبر/ أيلول 2022). هذا لن يكون تفصيلاً عابراً، أو انعكاساً لمرثيّة انفعالية تطلبها لحظة إعلان رحيله. فربط "تاريخ السينما" بموت غودار متأتٍ من صيغةٍ حاضرةٍ في فنّ الصورة، تقول إنّ الرجل فاعلٌ أساسيّ في صناعة هذا الفن، وكتابة تاريخه. بل أكثر من ذلك: أنْ يكون غودار نفسه تاريخاً للسينما، بكل أفعاله ومشاغباته وحيويته، ونظرته إلى اللحظة وما وراءها وما فيها، وبكل انغماسه في أعماق لغةٍ، يُتقن تصويرها أكثر مما يعرف كثيرون/كثيرات كتابتها. لكنْ، "تاريخ السينما"، بكلّ بساطة، فيلمٌ له، ("تاريخ (تواريخ) السينما"، 1988) يتناول أسئلة التاريخ والفن والثقافة والحياة.

في المقابل، تعتمد "لو موند" عنواناً بسيطاً للغاية، في مقالة جاك ماندلبوم: "المخرج جان ـ لوك غودار مات". لكنّ جملةً في بداية المقالة تختزل شعوراً وتفكيراً جماعيين: "لن يذهب وحده. مثل الموت الاستثنائي (لكثيرين/كثيرات)، يجرف معه شيئاً مُقْتَلَعاً من الوعي الجماعي". يُضيف ماندلبوم أنّ أول المُقْتَلَع يتمثّل بـ"خسارة يُسبِّبها أحد أعظم السينمائيين في الأوقات كلّها، مع تلك الصدمات الكهربائية للصُور والأصوات، التي تُعيد أعمالُه تشغيلَها في ذاكرة مُعاصريه، مع سعةٍ دولية، ومجال تأثير لا سابق له، قلّة من المخرجين الفرنسيين متمكّنةٌ من تحقيقه".

"في واجهة الموجة الجديدة، يُثوِّر غودار الفن السابع بأفلامٍ مستفزِّة، تكون غالباً قاسية، لكنّها دائماً رائعة ومُثيرة للمشاعر". بهذا، تُقدِّم Le Temps، الصحيفة اليومية السويسرية، خبر رحيله، صباح إعلان الخبر نفسه. أنطوان دوبلان، كاتب المقالة/ الخبر، يقول التالي: "للفلك غاليله، وللعلم داروين، وللسينما غودار".

كلامٌ كهذا يُلخِّص سيرة رجلٍ، يدخل التاريخ سريعاً، منذ أول فيلمٍ يُنجزه عام 1959، بعنوان A Bout De Souffle: "أصوّر الفيلم مع اعتقادٍ بأنّي أنجز شيئاً محدّداً للغاية. أحقِّق ثريلر، فيلمَ عصابات. عند مشاهدتي إياه للمرّة الأولى، أُدرك أنّي منجزُ شيءٍ مختلف للغاية"، يقول غودار لاحقاً (Debordements، في 5 سبتمبر/أيلول 2012). فيلمٌ كهذا يحفر عميقاً في فردٍ واجتماع ومشاعر وعلاقات، ويعكس جوف خرابٍ وعنف، في انبثاقهما وتجلّياتهما.

اللغة والسينما

اللغة سينمائيةٌ. أبعادها ومكوّناتها وهواجسها منسوجةٌ بأدوات معرفةٍ وإبداع، يصعب الفصل بينها عند مشاهدة نتاجاتٍ له. هذا يظهر أيضاً في تفسيرٍ يختصر حالةَ تشريدٍ لشعبٍ، كي يتمكّن شعبٌ آخر من امتلاك مكانٍ ليس له. تفسير يجمع السينما بالحياة والانتماء والهوية والاجتماع، إذْ يقول جملةً باقيةً إلى الآن كمرجعٍ في تحديد معنى النوع البصري في الإنتاجات السينمائية، وواقع عيشٍ مستمرٍّ، بشكلٍ أو بآخر، إلى الآن. ففي تحليله للتناقض، "المصنوع من الرأي وضدّه، يُصبح هناك رأيان"، إذْ بدلاً من القول إنّ هناك تناقضاً/تعارضاً (بين مسألتين/رأيين)، نقول إنّ هناك رأيَين".

الأهمّ كامنٌ في اللاحق على هذا، بتقديمه المثل التالي: "عام 1948، يمشي اليهود/الإسرائيليون على المياه باتّجاه الأرض الموعودةالفلسطينيون يمشون في المياه نحو الغرق". يُشبِّه هذا بالقول إنّ هناك "صورةً" في مقابل "ضد الصورة". يُكرّر التشبيه أكثر من مرّة، قبل إعلانه أنّ الشعب اليهودي يلتحق بالروائي/الخيال، والشعب الفلسطيني يلتحق بالوثائقي.

هذا غير عابرٍ. هذا جوهر حكايةٍ، تستمرّ تفاصيلها، يومياً، منذ 74 عاماً. الروائيّ، في السينما والأدب، منبثقٌ من خيالٍ، وإنْ يستند، غالباً، إلى وقائع وحقائق. الفلسطينيون أكثر واقعية وحقيقةً، لانضمامهم، في تلك النكبة (واللاحق عليها)، إلى الوثائقي، أي التوثيق، وإنْ يتّخذ الوثائقي من الروائي/الخيال البصري، في أزمنةٍ لاحقة، ما يُعينه على ابتكار صُورٍ سينمائية أجمل وأعمق وأهمّ. تصنيفه هذا نابعٌ من مرارة ما تحتويه صورٌ فوتوغرافية، يتأمّلها غودار في نُطقه تشبيهاً كهذا. أهذه مرارةٌ تلمّ به إزاء واقع؟ هذا غير مهمّ، فالأهمّ كامنٌ في تنبهٍ جليّ إلى المدى العميق للتشابه بين شعبين ونوعين سينمائيين. ورغم أنّ التساوي بين النوعين حاصلٌ سينمائياً، مع اختلافٍ في أشكال الاشتغال وصُوره وجمالياته (والنوعان يصبّان، أخيراً، في فنّ السينما)، ينعدم وجود تساوٍ بين شعبين، يحتل أحدهما بلد الثاني، فيطرده من جغرافيته، محاولاً طرده من تاريخه أيضاً.

قول غودار هذا يُثير تفسيراتٍ، الأبرز بينها براعة ابتكاره تشبيهاتٍ لقول فرقٍ شاسعٍ بين شعبين، ينتمي أحدهما إلى الخيال، لما في نصّه من أساطير وحكايات وتاريخ محمَّل باضطهادٍ وعزلاتٍ (قبل أنْ يتفوّق بعض هذا الشعب اليهودي في الاضطهاد والعزل)؛ ويتمثّل الآخر بالتوثيق، فـ"الوثيقة" ثابتةٌ وحقيقية، والتوثيق لعبة سينمائية لتبيان الثابت والحقيقي.

ثنائيات وتشابهٌ ووقائع

رحيل غودار يُحرِّض على تفسيرٍ لجملةٍ له، مع الإشارة إلى أنّ مضمون قوله هذا واضحٌ من دون تفسير. رحيله يتطلّب كتابة مهنيّة، ينقصها الكثير، لوفرة إنجازاته وأفكاره وهواجسه وتاريخه. يقول إنّ طريقته في صنع الأفلام متشابهةٌ مع ما يفعله "موسيقيان أو 3 من موسيقيي الجاز"، يُضيف: "نمنح أنفسنا موضوعاً، نعزفه، ثم كلّ شيءٍ ينْتظم" ("مقدّمة لتاريخ حقيقي للسينما"، الجزء الأول، منشورات ألباتروس، باريس، الطبعة الأولى، 1980).

هذا وحده كافٍ لتحليلٍ، يستند إلى أفلامه، وإلى ما فيها من نبضٍ وحياةٍ وتحريضٍ دائم على بحثٍ حثيث عمّا فيها من تساؤلات وإشارات. مفاصل كثيرة سيكون شاهداً عليها، ومشاركاً في صنعها، أو صانعها. مثلٌ على ذلك؟ النقد السينمائي وتجربة "دفاتر السينما" (1950 ـ 1959)، الموجة الجديدة (بين نهاية خمسينيات القرن الـ20 ونهاية ستينياته)، "أيار 68"، مفهوم المهرجان السينمائي، معنى الجوائز، لغة الصورة (هذه، وحدها، تحتاج إلى دراساتٍ ونقاشات)، فلسطين/إسرائيل، العرب وعلاقتهم بالصورة (كتاب الصورة)، علاقاته العاطفية، اشتغالاته الفنية والتقنية، الممثل بالنسبة إليه.

رغم هذا كلّه، يندر وجود فيلم روائي يتناول سيرته أو اشتغالاته أو هواجسه، في مقابل لقاءات معه مُصوَّرة. لعلّ الفرنسي ميشال هازانافيسيوس يبقى الوحيد (ربما) الذي يروي شيئاً من تلك السيرة، مقتبساً رواية "بعد عام" (2015)، للفرنسية آن فيازمْسكي، زوجة غودار (1967 ـ 1970)، في Le Redoutable، المعروض للمرة الأولى دولياً في المسابقة الرسمية للدورة الـ70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لمهرجان "كانّ" السينمائي. فيلمٌ يقتطف حكايةً من سيرة رجل (لوي غاريل)، سينمائيّ ومناضل ماويّ، زمن الحركة الطالبية في فرنسا (أيار 68)، وعلاقته بامرأته مؤلّفة الكتاب، والعالم الذي يشهد تبدّلات جذرية في شؤون كثيرة.

فيلمٌ مُثير لاهتمام مشاهدين/مشاهدات، معنيين بغودار، وبتلك الحقبة، وبميله الثقافي/السياسي. ماري ـ نويل تْرانْشان تكتب ("لو فيغارو"، 12 سبتمبر/ أيلول 2017) أنّ هازانافيسيوس يُصوِّر غودار بـ"روح الدعابة"، في "مزيجٍ من السخرية والتعاطف"، مُشيدةً بأداء غاريل. بينما ديفيد فارو ـ في مقالة له تعتمد تحليلاً سياسياً، منشورة في Controverses (13 سبتمبر/ أيلول 2017)، المجلة النقدية الشيوعية ـ يرى أنّ "وراء الأجواء الكوميدية، يُغذّي الفيلم مناخاً من زمن معاداة ـ 68".

كاتبة الرواية، أي زوجته في الأعوام القليلة الأخيرة من ستينيات القرن الـ20، ستكون إحدى أبرز ممثلي/ممثلات "الصينية (La Chinoise)"، الذي يُنجزه غودار عام 1967: تجسيدٌ لأحوالٍ يسارية في فرنسا والعالم، ولقاء يجمع 5 أشخاصٍ، لكلّ واحد منهم التزام فني ومهني مختلف عن الآخر، ونقاشاتٌ تكاد تكون انعكاساً لغليان حاصل حينها، كأنّه إعلانٌ مسبق عن حاجة إلى ثورة وتغيير.

الـ"إشكالية" التي يطرحها هازانافيسيوس تكاد تُشبه شخصية جان ـ لوك غودار، المليئة بإشكالياتٍ جمّة في طروحاتها وأسئلتها. لوي غاريل منسجم في أداءٍ، يبلغ مرتبة باهرة في وضع غودار أمام كاميرا، ترغب في سرد فصلٍ من سيرته؛ وستايسي مارتن بارعةٌ في ارتباكاتها وعشقها ونزقها وقلقها ومتاهاتها، كامرأة (آن فيازمْسكي) مرتبطةٍ بسينمائيّ، لن يكون أقلّ ارتباكاً وعشقاً ونزقاً وقلقاً ومتاهاتٍ منها. فيلمٌ يُصبح شهادةً، تتزاوج فيها، رغم كلّ شيءٍ، جمالية الصورة السينمائية باستعادة لحظةٍ تاريخية من خلال شخصيّة، سيكون لها دورٌ أساسيّ في انقلاباتٍ وتغييراتٍ.

 

العربي الجديد اللندنية في

14.09.2022

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004